البداهة ونقيضها وحوار الأمكنة
في هذا السياق ، أي سياق إشكالية ، أو إشكاليات الحوار والتواصل في الوطن العربي في صعيده الثقافي.
هذا العنوان البديهي والمعقد في الوقت إياه ، بديهي،لأن البداهة بمكان أن يكون هناك سياق ولادة طبيعية ورحمية لهذا الحوار وهذا التواصل. ولسنا بحاجة إلى التذكير بجامع اللحمة وقوامها بين بلدان الوطن العربي، بحواضره وبواديه ، محيطه وخليجه..
وهي لحمة لا تأتي الأحداث وتقلبات التاريخ وفواجعه ونكباته إلا لتزيدها تأكيدا وبداهة وقوة آصرة ، مهما شطلت الأطروحة الكسيحة في تصوير عكس ذلك.. ومهما تبدت الصورة غائمة وملتبسة وبكماء، من فرط ما انهال عليها من غبار الايديولوجيا والخلافات بنوازعها واستقطاباتها المختلفة.
لكن هذه الآ صرة الرحمية التي تمتد بداهتها في الولادة والمصير وفي عمق اللفة والوجدان لا تلبث أن تخترقها سهام الاشكاليات المختلفة وتطوح بها في مهب السؤال المقلق والعاصف.
فنظرة ولو سريعة الى المشهد الثقافي الراهن ـ دعك من السياسي – بعناصره واتجاهاته وأجناسه لأدبية والفكرية لابد أن تغرق في هذه الاشكاليات لمتراكمة والمدوخة..
الثاني إلى عنصرين أساسيين ، أحدهما تقني، إداري، ، الثاني فكري، إبداعي، سجالي.. والعنصر الثاني بشتى فضاءاته ومناحيه. يذهب بنا الى توليد أسئلة لا حصر لها، تبدأ من نقاش المواقف والآراء أمام الكثير من لقضايا التي تندرج في سيرورة التاريخ الاجتماعي.الفكري في الوطن العربي وخاصة الأحداث المفصلية لجسيمة التي طرحت بقيم الأمة وثوابتها التي تشكل لمصير المشترك للمجتمعات والأفراد..
ولا تنتهي – أي الأسئلة – في السجال حول لاتجاهات الابداعية وأنماطها وأماكنها ورؤاها..
وإذا كان بين هاتين الاشكاليتين تداخل واضح لا مناص منه ، فإن هذا التداخل لا يصل حد التلابس التماهي إلا في حقل الأفكار والفنون وآفاقها ورؤاها..
إذا كان المشال الساطع للاشكالية الأولى هو سير لتاريخ العربي منذ بداية القرن عل الأقل ، مرورا بما اصطلح على تسميته بـ "عصر النهضة " هذا المشروع لذي لم يلامس أثره بحسم التحولات الفعلية للتاريخ.الواقع وظل ، غالبا، في إطار النخب المثقفة والمستنيرة ،
حتى الأربعينات والستينات وصولا إلى برهتنا الواهنة..
هذا المسار المترجرج والملي ء بالولادات القيصرية والتشوهات والمليء بالطنين الفارغ للخطابات اللاتاريخية واللاعقلانية أنتج هذه التجليات الفاجعة ، التي تصل حد التراجيديا وفق دلالات التسمية الاغريقية ، التي تسم أشد أنواع الماسي فتكا وتدنيسا وصراعا قدريا عاتيا قذفت بالمثقفين العرب إلى هاوية خلافات لا حصر لها..
لا شك أن الخلافات تكون ، معين إثراء لأطراف السجال وصراع الأفكار وهو ما نحن بأشد الحاجة اليه ، لكنها تكف عن أن تكون كذلك حين تتحول وجهة الخطاب الى خصومات وحروب تفلي وتحجب تحت مواقدها الأخطار الحقيقية وتستفحل..
يتساءل العربي الأن ، بعد أن أوشك قرن انكساره الحديث على الانفراط:
بأي إنجاز حضاري معاصر سيدخل القرن الحادي والعشرين الذي نقف على عتبته وجها لوجه ؟
وليس من جواب ولا تلويحة شبحية لجواب وسط مناخات تشكل لوحة باهظة لحروب الطوائف واقتتالاتها المجانية ؟ وسط هذا اللهاث الكوني في سياق السيطرة على ما تبقى من مقدرة العالم الذي يشكل العرب العصب المركزي من ثرواته وحياته..
ويتساءل المثقف العربي أحيانا أمام هذا الوضع ، إن كنا ما نزال منشدين كما ينشد القط لخانقه ، نحو الفكرة الخلد ونية (نسبة الى ابن خلدون ) في انهيار العصبيات والممالك وصعودها، وفق هذا القانون الموضوعي الصارم الذي وضعه الفيلسوف العربي منذ ستة قرون ؟
لا نستطرد في مفازة الوضع العربي التي لا حد لها.. أشير إلى الجدل الثقافي العربي في أفق الصراع والحوار في حقل الاتجاهات الأدبية والفنية التي تتوزع في الأمكنة العربية المتعددة..
هذا المنحى يشكل ملامحه الخاصة رغم أنه يفض ويتداخل بالضرورة مع الأفق الآخر الذي أشرت ، فالاتجاهات الأدبية وأنماط التعبير التي بدأت تسود الساحة الثقافية العربية منذ العقد الثالث لهذا القرن ، كانت دائما مخترقة بالصراعات الأيديولوجية والاجتماعية ، نشاهد ذلك في الساحة المصرية بشكل مبكر واللبنانية في فترة لاحقة كمثال الصراع الذي كان قائما بين منبرين شكلا محور سجال هاما على صعيد الشعرية العربية ، أقصد مجلتي "شعر" و "الآداب " وعلى المنوال نفسه في بقية حواضر الثقافة العربية ، يعطي فكرة حيوية دالة على ذلك..
جدل الاشكال وتطورها، دائما يخضعه الفرقاء الى منطلقات تنظيرية ، تاريخية وفكرية ، تتعلق بهوية اللغة وقيمها الثابتة المقدسة ، وتلك المتحركة المتطورة باستمرار، مما يطرح بالضرورة قيم الأمة وتراثها في إلحاح الجدل ومتطلباته.
يستمر السجال ويتخذ أشكالا متفاوتة من علو النبرة وخفرتها ويذدفع أحيانا إلى نوع من أنواع حدة الخطاب وعنفه ، وهو في كل الأحوال دليل حياة الثقافة ، أي ثقافة ، شرط الا يسقط في فخاخ المؤامرات ورغبة تحطيم الآخر والغائه.. وهي مظاهر نشاهدها بكثرة في أوساط الثقافة العربية الواهنة ، وكأنما الذات المثقفة والمهزومة أمام تاريخ بالغ القسوة لا تجد متنفسا وتعويضا إلا في تدمير نفسها وشبيهها..
إذ كانت أشكال التعبير واتجاهاته وإيقاعاته المختلفة تثري بعضها عبر الرغبة الصادقة في الحوار والكشف عن منابع الحقيقة الابداعية ، وكذلك الأمكنة العربية التي ينتج فيها هذا الابداع وهذه الثقافة التي تشكل معمارا متعدد القسمات والخصوصيات ، ومن هذه الرؤية لا معنى للتعالي الزائف الذي يبديه البعض تجاه الآخر تحت مبررات لا تخدم إلا أغراض التعصب والرؤية الضيقة ، فالثقافة العربية بهذا المعنى نهر ذو روافد مختلفة.
وبطبيعة الحال يظل هناك الأقوى والأسبق في هذه الروافد بسبب عوامل كثيرة. لكن وحدة الابداع المشترك هي دليلنا المني، في هذا الليل المعربي المحتدم بالأشباح والهرام واكلة لحوم المبشر..
ويصعب عل شخص مثلي ، لم يرتبط بوحدة الثقافة العربية وخصائصها ومناخاتها المتعددة عبر الاجترار الشعاري والمدعائي وإنما عبر تجربة حية وعلاقة معيش ، يصعب أن أسمع كلاما حول التقليل أو التعظيم من كتابة أو كتاب ليس لأسباب تتعلق بمقاييس المتقييم والنقد وإنما لانتمائهم لهذا البلد أو ذاك ، وهي نغمة تخترق موقفا ثقافيا يقي بوضوح ضيق الأفق والنزعات المرضية المختلفة المصادر والمشارب..
أشير أيضا الى مستوى الحوار والجدل حول الوضع الثقافي العماني، هذا البلد الذي يشكل تراثه الضارب وتاريخه جزءا أساسيا من كتابتنا الجديدة والواهنة ، وبعد الخصوصية العمانية في تقاطعها وامتدادها مع الثقافة العربية الشاملة.
في هذا السياق ، كانت المساهمة المشتركة من قبل كتاب ، هاجسهم الأساسي الابداع والعطاء الصادق ني خلق نوع من تقاليد الحوار والاختلاف على أرضية تتأسس باستمرار – وليس المظهرية وحشد الأقنعة -والطموح نحو الرؤية التعددية المنفتحة على الذات و"ألآخر" فكان هناك الجدل المشترك لأكثر من نمط تعبير ورؤية في الطريق إلى التبلور والوضوح ، ورغم أرتفاع وتيرة الحوار والخلاف أحيانا بين كتاب عمانيين أو مع اخوة من بلدان عربية أخرى،ظل توخي الاحترام المتبادل وإثراء الحقل الثقافي وإخصابه هو بيت القصيد بالنسبة لنا.
وفي رأيي أن الكتابة العمانية الحديثة اذا لم تفرز نقادها ومؤرخيها الحقيقيين والفاعلين ،وهو ما نشهد بداياته الجدية ، من قلب المشهد الثقافي والأكاديمي، ستنفل ليست ناقصة النقد والتوثيق فحسب ، وإنما نهب لكل جاهل ومتطفل من كل حدب وصوب.. وتطل مختبرا لنقاش سطحي تمليه المناسبة العابرة وعشوائية التصورات الثقافية وفقرها المدقع من قبل أناس ينطبق عليهم المثل السائر (فاقد الشيء لا يعطيه ).
هذه الفئة التي لا تملك أبسط الأدوات المعرفية ولا تملك أبسط مكانة ولغة حوار، نواها منذ سنوات ، في بلدان الخليج العربي تصول وتجول في المحافل والمنابر لتقييم أعمال غير مؤهلة لتقييمها سلبا أو ايجابا، والأمثلة كثيرة عل ذلك ، حين تتطلب الضرورة الدخول ني التفاصيل والحيثيات..
سيكون إصرارنا على قطع الصلات مع هذه الفئة وممارسة السمو والترفع على فراغها اللفظي والمعرفي ، لا يقابله إلا إصرارنا على مد هذه الصلات واحترامها والاستفادة منها في تجربتنا العمانية ، مع كتاب وأسماء، عمانيا وعربيا، تتوخى الحقيقة والجدل المثمر عبر آفاقهم المعروفة بالجدية وتجاربهم التي تميم أرض إنتاجهم وإبداعهم سواء في الاختلاف أو الاتفاق في الايجاب والسلب.
بقي، أنني لم أشر الى عنصر آخر ذكرته بداية هذه العجالة ، أي العنصر الإداري، التقني وهو ما يتعلق في جانب منه بالمطبوعات العربية وتوزيعها وما يحيط بذلك من مشاكل مختلفة تمتد من بيروقراطية الرقابة حتى ضعف جهات التوزيع في غياب أي مشروع عربي شامل لذلك. وهي مسألة وإن كانت ملموسة من الجميع ، فدقة الحديث عنها تناط بخبراء هذا المجال وشؤونه وشجونه..
سيف الرحبي