زهيدة درويش جبور
«لمَ الشعراء في زمن الأزمة»؟ سؤال طرحه الشاعر الألماني هولدرلين في القرن التاسع عشر، ويعود ليطرح نفسه بإلحاح في اللحظة الراهنة حيث تعيش البشرية تحولات وأزمات كبرى. ولعله من الممكن الإجابة عليه باستعادة لما كتبه فيليب جاكوتيه سنة 1950، بعد سنوات قليلة من انتهاء الحرب العالمية الثانية، في تقديمه لكتاب صديقه الشاعر غوستاف رو: «إن انحطاط العالم اليوم كما تكشف عنه بشكل مريع الحروب ومعسكرات التعذيب والصحافة، لن يتمكن من زعزعة إيماننا. إننا لا نزال نؤمن رغم كل مشاعر القلق أن الحياة الوحيدة التي تستحق أن تُعاش هي تلك التي نسعى فيها إلى تحويل الأقل نقاءً إلى الأكثر نقاءً، والأقل ديمومة إلى الأكثر ديمومة، والشر إلى خير، بمعنى آخر هي تلك التي نسعى فيها لا إلى زيادة ما لدينا من قوة وممتلكات، بل إلى تحقيق شعورنا بالامتلاء. الاشتغال بالشعر ليس له هدف آخر».
حقيقة الشعر، إذن، هي أنه سعي لتحقيق إنسانية الإنسان ومحاولة لملء الهوة بينه وبين العالم. لكنها مجرد محاولة غير مضمونة النتائج نظرًا لهشاشة القول الشعري وعجزه أمام الموت والزمن. لذلك نجد أن معظم شعراء الحداثة لا يترددون في جعل قضية الشعر ماهيته وغايته، موضوع القصيدة التي تتحدث عندئذ عن نفسها. وقد تصدى جاكوتيه لهذه المسألة في معظم أعماله النثرية كما في دواوينه الشعرية التي تكشف عن تجربة إبداعية يحركها التوق إلى اكتشاف منابع الجمال، وتتطور بالتوازي مع تجربة وجدانية مسكونة بهاجس الموت، ملوّنة بشيء من الحزن المكتوم. فهو ليس من الشعراء الذين يؤمنون بأن الكتابة الشعرية تقتضي إقصاء للذات عن القصيدة وأن الموهبة تقتصر على القدرة على امتلاك ناصية اللغة وعلى التلاعب بالعلاقة بين الألفاظ والمعاني لابتداع الجديد، ذلك أن المرتكز الأساسي لمغامرته الشعرية هو الصدق والإخلاص للذات في بحثها عن الحقيقة1. وهذه الأخيرة ليست منظومة فكرية ولا معتقدًا ولا هي حالة شعورية معينة، بل تتجلى في «نزاهة العلاقة المتجددة دائمًا مع ما يظهر أمامنا وما يفلت منا»2، على حد تعبير الناقد الفرنسي جان ستاروبنسكي. الحقيقة الشعرية ليست قائمة خارج الذات، ولا هي في داخلها، بل تولد من تفاعل متجدد بين الداخل والخارج. لذلك لا يعني الإخلاص للذات التعبير عن طبيعة موجودة سلفًا بل الإعلان عن البحث عن حقيقة خفية في الذات وفي العالم وداخل الكلمات. هذا ما يشير إليه جاكوتيه بطريقة غير مباشرة حين يسأل: «ما الذي نقصده بالداخل؟ أين ينتهي الخارج وأين يبدأ الداخل؟ الصفحة البيضاء تنتمي للخارج، لكن الكلمات المكتوبة عليها؟»3. فهو شاعر لا يغيب عن قوله لكن حضوره في القصيدة يبقى خافتًا حتى ليكاد يكون غير مرئي. لا يخلو شعره من عذوبة الغنائية، لكنها غنائية حيية. وإذا تتبعنا تطور الكتابة الشعرية عنده تبين لنا أنه مقترن بامّحاء الذات وأن طابع السيرة الذاتية يغيب تدريجيًا مفسحًا المجال لإقامة علاقة مع المحسوسات ومع العناصر: الأرض، الفضاء، الهواء، الضوء… ولعل هذا المحو هو سر الشفافية التي تشكل الخاصية الأساسية لشعره: «التعلق بالذات يزيد الحياة ضبابية»4، «المحو هو طريقتي لكي أشعّ» 5. ليست الشفافية هنا مرادفًا للسهولة بل للمصداقية التي تجعل الشعر هو الحياة نفسها، فالقصيدة الحقيقية هي التي تستطيع أن تمّحي لصالح ما تقوله أو ما تسمّيه، هي التي تُسقط «كل الشاشات الزائفة التي تنعكس عليها صورة العالم، لكي توصلنا إلى قلب النهار، وتضعنا في مواجهة الحواجز الأخيرة، والمشاكسة الأخيرة أو الأولى التي لا تزال تختلط بالنور الأكثر توهجًا»6، كما يشرح ستاروبنسكي بلغة شاعرية بامتياز. لكن الشفافية المطلقة مستحيلة لأن ما تكشف عنه الكلمات ليس إلا انعكاسًا أو ظلًا لما ليس بالإمكان الوصول إليه، أو الإمساك به. فالشعر لا يمكن أن يكون مجرد زجاج نرى العالم من خلاله، بل هو دخول في عتمة الأشياء، نافذة تطل على عالم يستنبطه الفن إذ يعرّيه من قشرته، كما رأى مالارميه في قصيدته الشهيرة «نوافذ».
هذا العالم المغاير هو ما نقع عليه في قصائد جاكوتيه التي تنتمي ظاهريًا لفن الوصف فيما هي في واقع الأمر ابتكار للمشهد الذي تلتقطه العين والذي يتحول تحت ريشة الشاعر الرسام إلى ساحة لتفاعل خلّاق بين الخارج والداخل. قد يكفي استعراض عناوين الأجزاء الخمسة التي تتألف منها مجموعته الشعرية «نسمات» لندرك العلاقة الوثيقة بين ركني التجربة: الذات والعالم الطبيعي: «نهاية الخريف»، «عصافير وأزهار وثمار»، «حقل تشرين»، «عالم»، «أمنيات». أما الأبيات الافتتاحية التي تشكل عناوين معظم القصائد فتتوزع على ثلاثة حقول دلالية: الذات، المشهد الطبيعي، اللغة الشعرية: «أيها العمر الفتي أحرقك»، «أمشي في حرم حديقة الخريف»، «هناك حيث تنتهي الأرض»، «حيث لا أحد يمكنه الإقامة أو الدخول»، «صور هاربة»، «يا رفيقة الغامض»، «يصعب عليّ أن أتخلى عن الصور»، «عالم يولد من جرح».
سنحاول في هذه المقالة أن نكشف بداية عن ملامح الذات كما تتجلى في القصائد من خلال تفاعلها مع المشهد الخارجي، وأن نرصد من ثمّ التحولات التي تُدخلها الرؤيا الشعرية على المشهد ليكتسب بُعدًا رمزيًا يحيلنا إلى طبيعة المغامرة الإبداعية وإلى ماهية الشعر، وهوية الشاعر ودوره.
في سمات الذات وملامح التجربة الوجدانية
يبدو جاكوتيه في دواوينه الشعرية كما في أعماله النثرية مسكونًا بهاجس الموت. في كتابه النثري «البذار» يعلن «ليس سوى الموت يتكلم في داخلي وبلساني. كل شعر هو صوت يُمنح للموت»7، وفي ديوانه «الجاهل»8 تحمل القصيدة الختامية الطويلة عنوان «كتاب الأموات»، وفي ديوان «أناشيد تنبع من القاع» يبدو الموت عصيًا على الكلمات: «هو ما ليس له شكل، ولا وجه، ولا اسم»/ ما لا يمكن تدجينه في الصور/ ولا إخضاعه لقوانين الكلمات» 9، فيما يسيطر على ديوان «نسمات» 10 شعور بالحزن لا يطفو على سطح القصيدة بل ينبث بلطف في المفردات والصور: «الجبل يطعم نبعين من دموع» (ص. 110) «في الهواء الذي يبيض شيئًا فشيئًا/ دمعة لا تزال تلمع/ أو لهب خافت في كأس/ عندما من ثُبات الجبال/ يصعد ضباب مذهّب» (ص. 99) «بذار من دموع/ على وجه تغيرت ملامحه/ فصل السواقي الفائضة الوضّاء/ حزن يحفر في الأرض/ فيما العمر ينظر للثلج يغادر الجبال» (ص. 96). ثمة علاقة وثيقة بين الأنا والفضاء المكاني وعناصره فيتشابك الداخل والخارج ويتداخل البوح والوصف. يراقب الشاعر استفاقة الطبيعة من نومها لحظة الفجر حيث تذهِّب الشمس بأشعتها الضباب الصاعد من الوادي، لكنه إذ ينظر بعينه الداخلية لا يرى سوى دمعة تضيء في العين كما تتلألأ الخمرة في كأس الساهر يقلقه الخوف من المجهول الآتي. وإذا كان ذوبان الثلوج عن الجبال وما يتسبب به من ارتفاع منسوب مياه الأنهر والسواقي يبشّر بقرب الربيع، فإن رؤيا الشاعر الحزين تقلب منطق الأشياء وتنسج صلات بين الدموع على الوجه، وفيضان المياه التي عوض أن تروي الأرض «تحفر» فيها كما يحفر جرح في القلب. يكتسب المشهد معنى رمزيًا لا يستنفده الوصف ويصبح الخارج نفسه لغة الحالة الوجدانية الناجمة عن وعي عميق لهشاشة الوجود الإنساني الذي يبقى أسير لعبة الزمن: «لا شيء لطرد القلق عن «الروح التائهة»، «غير الواثقة من أنها تدوم» (ص. 95)، كل شيء مهدّد ومعرض للزوال «حقيقة، لا حقيقة/ تتلاشى كدخان» (ص. 98). يتسلل الموت إلى جسد القصيدة مصطحبًا موكبًا من الصور المعتمة التي تنجح في تحويل الربيع إلى خريف والحيوية إلى كآبة والحركة إلى سكون. في «العشب الذي يبقى بعد رحيل الشتاء» لا يرى الشاعر سوى «الأثر الباقي لموتٍ بالكاد يُرى» (ص. 97)، وفي سقوف القرميد حيث تعشّش العصافير إلا «قبورًا زرقًا» (ص. 97)، فيما حقول الزهر الربيعي لا تبدو له سوى «قبرٍ للنحل» (ص. 101). كأن مشهد الطبيعة وهي تولد من جديد يعمّق لديه الإحساس بمحدودية وجوده وبالعمر الذي ينقص مع توالي الفصول: «أيها العمر الفتي، أحرقك/ مع هذا الخشب الذي كان أخضر/ وأبدّدك في الدخان الأنقى» (ص. 101). لكن ما تجدر الإشارة إليه هو أنه على الرغم من الوعي الحزين، تخلو اللغة الشعرية من السوداوية والتشاؤم وتنأى عن التفجع والشكوى، فنسمع في القصيدة صوت الشجن ونبرة الألم الخفِر، إذ تتشابك فيها الصور والمفردات بعضها مشرق وبعضها على العكس ملوّن بالظلمة: «فالروح الخائفة التائهة» هي نفسها التي «تغني بالصوت الأكثر نقاءً» (ص. 95)، و»قبور القرميد الأزرق» تتجاور على الصفحة مع تحليق العصافير (ص. 97)، والدموع على الوجه تشعّ بالنور (ص. 96). ذلك أن الألم عنده كما عند ريلكيه ونوفاليس هو الألم المخِصب، هو الجمرة التي تحرق وتضيء في الوقت نفسه، هو «الدمعة التي تصير لهبًا» (ص. 111) هو الخميرة المباركة في عجين عالم الشهادة الذي يشفّ حينئذ ليفسح المجال للعالم الغائب يتجلى في القصيدة- «البيت المعلق/ على ميزان الفجر/ بين الجمرة الموعودة/ وهذه اللؤلؤة الضائعة» (ص. 99). هو الألم الصادر عن وعي للمسافة بين الحقيقة وظلها، بين الجوهر والعرض، بين النهائي واللانهائي والتي يسعى الشاعر جاهدًا إلى اجتيازها.
في جدلية الرؤية-الرؤيا وفي الميتاشعرية
«إن النشاط الشعري كله منذور للسعي إلى تحقيق المصالحة بين المحدود واللامحدود، الواضح والغامض، النفحة والشكل (…) يمكن أن يولد الجمال عندما يصبح المحدود واللامحدود مرئيين في الوقت نفسه، أي عندما نرى الأشكال وندرك في الوقت نفسه أنها لا تقول كل شيء، وأنها لا تُختصر في ذاتها، وأنها تترك حصة فيها لما لا يدرك»11. بهذه العبارات يحاول جاكوتيه أن يحدد طبيعة التجربة الإبداعية لكن كيف يتجلى ذلك في لغة القصائد، كيف نتلمس في القول الشعري ما ليس يقوله بل يوحي به، كيف نقرأ الغياب في الحضور، ما هي العلاقة بين ما تراه العين وما لا يُعرف إلا بالحدس، بين محدودية الأسماء ولا محدودية المسميات، بين المرئي والمتواري، بين الحقيقة وظلها؟ لعلنا نجد الإجابة على ذلك في القصائد نفسها التي تزخر بالمشاهد الطبيعية والتي تنتمي في الظاهر لفن الوصف وتتسم أحيانا بالطابع الرعوي إلا أنها في واقع الحال تختزن بعدًا رمزيًا يشرّع الوصف على التأمل في عملية الكتابة وفي القول الشعري، فندخل في لعبة مرايا تتعدد فيها الأشكال كما الظلال. يطرب الشاعر الذي يتأمل في لوحة رعوية لصوت الرعاة الطيبين وهم يطلقون أناشيدهم : «آه! مرة جديدة أغنية الحب البريء/ تعلو من قلب الحقول،/ ينشدها الرعاة الطيبون» إلا أن المشهد يأخذه إلى عالم آخر حيث المعشوق هو جمال متعالٍ ممتنع «فالعنقود الطازج يلتمع في الأقاصي، أعلى من كوكب فينوس»، والروح العطشى لا يمكنها «أن تشرب من الكأس المملوءة باللهاث» (ص.115). في قصيدة طويلة بعنوان «ثمار» ترتسم عدة مشاهد تنبض بالحركة والضوء والصوت فتصبح لوحات طبيعية تضج بالحياة، من جهة، وتنضوي من جهة أخرى، على دلالات رمزية غنية لتصبح خطاباً في الميتاشعرية. يتأمل الشاعر مشهد الصيف في البساتين حيث الثمار الناضجة تتدلى على أغصان الشجر: «في غرف البساتين/ فوانيس معلّقة/ تلوّنها سرعة الوقت/ مصابيح يشعلها الوقت/ نورها عطر/ نتنشق تحت كل غصن/ رائحة العَجَلة التي تلسع كالسوط»، (ص. 119). لكن خلف المشهد المرئي يكمن المعنى الغائب الذي يشكّل، وتلك مفارقة، العنصر الأساس في اللوحة بكاملها: هو النور-العطر (العطر هو سر الوردة) الهارب والذي يرمز للحقيقة الشعرية التي تومض كالشهاب قبل أن تختفي تاركةً وراءها شعورًا بالفقد الموجع. وإذ يتنزه الشاعر في كرم عنب عناقيده الحمر كالجمر تتلألأ بين الدوالي ينتابه عطش للخمرة اللذيذة والتي ليست بمعناها المجازي سوى نشوة الكلمات حين تبتكر المعاني : «أسير في حديقة من الجمر الندي/ يختبىء في بيتٍ من ورق/ وفي فمي فحم يشتعل» (ص. 109). في موضعٍ آخر يصبح الندى رمزًا للحقيقة الشعرية التي تلمع في عتمة الأشياء كما الندى على العشب وسط الضباب: «هي بين العشب لقىً/ حبات لؤلؤ زهري، يزيد لمعانها/ كلما صار الضباب أقرب/ هي قلادات يثقل وزنها/ كلما خفّت الملابس التي بها تتزين» (ص. 119). سرّ القول الشعري أنه تعرية للمحسوسات كي تشفّ عن الجوهر القائم فيها: «هو ليس موقدًا مشتعلًا/ ولا مصباحا معلّقًا على الأغصان/ هو النهار على القشرة/ الحب المبثوث/ ربما النور الإلهي/الذي يمنحه الفأس قوة» (ص. 106). تختصر هذه الأبيات بلغتها المجازية الفعل الشعري برمته: تعرية للمحسوسات وتحرير للمعاني التي تختزنها، ورفع للحجب، استعدادًا لمعانقة العالم والالتحام به بل الذوبان فيه. فالمعاني ليست قائمة خارج العالم ولا هي بادية فيه بشكل واضح، بل تلتحف بالعتمة وتقبع في الظلال، وهي ليست متاحة على السطح، بل تتبدى حين تسقط القشرة وحين يشذّب فأس الحطاب أغصان الشجر فتفسح للنور مجالًا ليبدد ظلام الغابة. عندئذ تسقط الحواجز التي تفصل الكائن عن الكون، فيدخل في طقس الحب والوحدة ويعيش احساسًا بالنشوة والامتلاء يعرفه الصوفي لحظة التجلي: «عين الشاعر نبع يفيض/ لكن أين منبعه؟/ من أبعد من الأبعد/ ومن أعمق من الأعمق/ أعتقد أنني شربت العالم الآخر» (ص. 113). لكنها لحظات هاربة تخصب الخيال وتغسل الصدأ عن العين لتولد الرؤى «شعلات لا تفتأ تغيّر مكانها/ حتى نكاد لا نراها حين تمر» (ص. 135)، وتتجسد في «صور تمر أسرع/ من مرور الهواء» (ص. 127). فالرؤيا التي تضيء هنيهةً لا تلبث أن تعود إلى منبعها في الظلمة، كأنها بين جلاء وخفاء تقلّد حركة مروحة تبعث الهواء في الكلمات «ما هذا الذي ينغلق ثم ينفتح/ باعثاً هذه النسمة المترددة» (ص.127). بل إن نورها نفسه يبقى مختلطًا بالظلمة لأن الوضوح سمة الحقائق النهائية، فيما الحقيقة الشعرية تبقى في حيز الاحتمال مفتوحة على اللانهائي واللامحدود. لذلك سمة الشعر الأساسية أنه لغة الغموض المضيء، أو لغة النور المتدثّر بالعتمة. يعبّر جاكوتيه عن ذلك بالصور المجازية: « علامة أحملها/ حنيني إلى الليل/ حتى ولو اجتزته/ بمنجل من حليب» (ص. 141)، «الماعز في مراعي العشب/ حليب يراق» (ص. 132)، «لاشيء سوى نظرات متوقدة/ تتلاقى/ شحارير وحمائم بيضاء» (ص. 134). وإذا كانت الزهرة رمز الحقيقة الشعرية فهي «ليست إلا بعضًا من ليل/ يتظاهر بأنه يقترب/… كل لون، كل حياة/ تولد حيث يتوقف النظر/ ليس هذا العالم سوى النقطة الأعلى/ لحريق لا يُرى» (ص. 108).
يتضح مما تقدم أن الكتابة الشعرية عند جاكوتيه تتأسس على رؤيا فلسفية متأثرة بالمدرسة الأفلاطونية تكسبها بعدًا روحانيًا وصوفيًا مميّزًا. فالمغامرة الشعرية حضور كثيف في العالم واختبار له، ومحاولة كشف عن المحتجب فيه، في آنٍ معاً؛ وهي تقتضي بالتالي أن يخوض الشاعر غمار تجربة تقوده إلى عدم الاكتفاء بظاهر الأشياء ليتقصى العمق، وتحمله على الدخول في المتاهة دون بوصلة ما خلا بصيرته وحدسه بالحقيقة المتوارية:«كي تدخل العتمة/ خذ هذه المرآة حيث ينطفىء/ حريق جليدي:/ وإذ تبلغ قلب الليل/ لن ترى فيه ملتمعًا/ إلا عماد 12 نعاج» (ص. 100). المغامرة الشعرية سفر في سرّ الكائن يتخلى فيها الشاعر عن المعرفة اليقينية وعن الركون إلى الأجوبة المعلّبة، ليجعل من الجهل الأداة الأثمن لمعرفة الحقيقة. يلزمه أن يدخل مناخ القلق وأن يمارس الكتابة فعل تزهد وتعرية للذات كشرط أساسي لتحقيق الشعور بالامتلاء، ولاختبار الموت-الولادة: «يا رفيقة الشاعر الغامض/ استمعي لما يصغي إليه رماده/ كي يسلم نفسه للنار: / المياه الغزيرة تهبط/ لتلامس العشب والصخر/ والعصافير الأوائل تمجد / النهار الأطول على الدوام/ النور الأقرب على الدوام» (ص.104). عندئذ يخرج العالم من جموده، يتحرك، ويمتلىء بالحياة: «في الوقت العاصف من النهار/…/ هذه المناجل تحصد القش/ كل شيء يصرخ فجأة أعلى/ مما يمكن أن يبلغه السمع» (ص. 117) هكذا تنطق الكائنات بلغتها وتتحرر اللغة ويصير الاسم والمسمّى واحدًا، ويكون الشعر عندئذ «ابتكارًا للأشياء من خلال قولها، ويقترب من الصلاة من دون أن يتماهى معها» 13. فالشاعر «نوتي الليل» (ص. 111)، يهبط في الظلمة ويغمض عينيه على النهار حتى لا يضلّ: «الخطوة الأولى للنهار/ تقطع ما يصله الليل» (ص. 124)؛ يتطلع باتجاه الأبعد ويرمي نظرته كسهم صياد أعمى قد يخطىء وقد يصيب لكنه لا يكفّ عن المحاولة. غايته الكشف عن «ما لا يفنى» (ص. 150)، عن نموذج متسامٍ للجمال يحدس به ويتقصاه صعودًا نحو الأبعد، في»الجبال المعلّقة»، وهبوطًا نحو الأعمق في «الوادي الضيّق»، يصيبه الدوار حين يهبط، ويشعر بالاختناق حين يعلو: «يلزمني القلب فجأةً/ كمن اختطف إلى الأعالي» (ص. 125)، ولكنه محكوم بالفشل،لأن ما يصبو إليه عالم مرصود «حيث لا أحد يمكنه الإقامة أو الدخول» (ص. 126)، ولأن ما يتبدى له لحظة التجلي ليس الحقيقة بل سرابها: «عالم مولود من جرح/ يظهر ليكون دخاناً/ مع ذلك، المصباح مضاء/ على قراءة لا تنتهي» (ص. 151). ألم يقل بورجيس «العالم وجد لكي يٌقرأ»؟. والقراءة عند جاكوتيه تكون بالحدس كما بالحواس، بالبصيرة كما بالبصر وتفترض حضور الذات الكثيف في عالم المحسوسات لأنه مليء بالعجائبي شرط أن يخترق سماكته النظر. لا يولد الشعر في الصومعة بل في قلب العالم من تجربة حياتية ووجدانية تعمّق وعي الشاعر لذاته وللوجود من حوله في آنٍ معًا وتخصب خياله الخلّاق: «لست أنا من يكتب كما يفعل كاتب يجلس على طاولته، بل حياتي هي التي تكتب، هي أحداث حياتي التي تكتب نيابة عني. لم أقل لنفسي ولا في أية لحظة: «يجب أن أكتب بهذه الطريقة» هي التجربة التي تغيّر الأشياء. وإذ تجعلها أكثر نقاءً، فهذا سيكون حسنًا. ولكن ذلك لم يكن مقصودًا على الأرجح» 14. يعيش الشاعر إذن في الهُنا الذي يبقى مفتوحًا على الهناك، كما عند جورج شحادة، ويتوق إلى الهُناك الذي يصير مرعبًا متى انقطعت صلته بالهُنا: «ما زلنا نسكن عالمًا آخر/ ربما المابين» (ص. 145)، «نتقدم رويدًا رويدًا، كبائع جوال/ من فجر لآخر» (ص. 149). هم الشعراء الذين يتقنون تنقية العالم من أدرانه كما تنقي الأشجار الهواء: «من العالم المشوّش السميك/ من بقايا العظام ومن البذور/ يقتلعون أنفسهم بأناة/ كي يخترقهم الهواء/ أكثر كل عام» (ص. 138)، تارةً ينقّضون على الطريدة «كطائر كاسر» (ص. 114) أو كفرس جامح (ص. 122)، وطورًا يتخففون من عبء الوجود المادي ليطلقوا أحلامهم كالعصافير في فضاء الحرية: «لم أعد أريد أن أحطّ/ أريد أن أطير بسرعة الوقت/ وأن أظن للحظة/ أنني ثابت في انتظاري» (ص. 116). الشعر إذن كما يعيشه جاكوتيه حالة تأهب وانتظار وتوتر وقلق ولكنها حالة يخالطها الشعور بالنشوة حين يتوهج المعنى وتكشف الأشياء عن سرها في الكلمات التي تبدو كأنها تولد من جديد في لغة لا تفتأ تتجاوز نفسها كلما ازداد شك الشاعر في قدرة القول على الكشف عن ما لا يقال.
خاتمة
أخيرًا لا بدّ من الإشارة إلى أن جاكوتيه في شعره كما في كتاباته النثرية يقف مشدوهًا أمام لغز الوجود يحدس به في الطبيعة وداخل ذاته وإذ يعلن عجزه عن إدراكه يوقن في الوقت نفسه أن السعي وراءه هو ما يعطي للحياة معنى. وهو بذلك يلاقي ريلكيه وهولدرلين اللذين كان له الفضل في ترجمة أعمالهما إلى الفرنسية. فكانت الترجمة بالنسبة له مساحة للقاء ثري ولتفاعل خلاق. ولعل جاكوتيه هو من الشعراء القلائل الذين مارسوا الترجمة والنقد بالتوازي مع كتابة الشعر فاستحق أن تنشر أعماله الكاملة في حياته ضمن مجموعة لا بلياد التي تضم أعمال الخالدين.