تعرفت إلى الدكتور كمال الصليبي في الجامعة الأمريكية في بيروت من خلال مادة «تاريخ لبنان».
بعد 1958 كنا مشوشين ومتحمسين ومتشوقين كطلاب للتعرف «على هذا اللبنان». كانت القراءة على يديه ممتعة ومفيدة، إذ كان نجماً، أكاديمياً صاعداً وواعداً في زمن الستينات الجميل من القرن الماضي.
منذ ذلك الحين، توطدت صداقتي مع الدكتور صليبي وأصبحت من المدعويين إلى بيته في شارع السادات مقابل كركون حبيش، كما تولعت بلبنان، الكيان والهوية والمجتمع، لأتابع وأتعمق. وكان الدكتور صليبي خير موجّه ومرشد.
بعد الانتهاء من شروط الماجستير وتقديم الامتحان الشفهي، انتقلت إلى البحث عن موضوع للأطروحة واقترح الصليبي الكتابة عن أفكار ميشال شيحا بمعرفتي باللغة الفرنسية واهتماماتي اللبنانية.
إلا أنه بعد شهر من بدء العطلة الصيفية التحقت بجريدة «النهار» كمحررة. انخرط في المجال الصحفي وتناسيت موضوع الأطروحة، رغم إلحاح الصليبي على ضرورة كتابتها والانتهاء منها. وكرئيس لدائرة التاريخ في الجامعة كان يطلب مني تقديم استرحامات بحجة العمل لتجود وتمود لي الدائرة فرصاً حتى لا أخسر حقوقي بالشهادة.
في 1969، ذهبت إلى أمريكا وقضيت سنة كاملة ضمن برنامج Fullbnight Exchange Programe. بعد عودتي أصرّ الصليبي مع أهلي على وجوب كتابة الأطروحة ونيل الماجستير. مصرين على ضرورة الانقطاع التام لعدة شهور عن أي نشاط صحفي. عدى إلى الجامعة وقضيت سبعة شهور أكتب وأعمل تحت اشرافه حتى انهيتها في 1971، خلال الثورة الطلابية. ولولا رعايته ومساعدته لما كان تيسر هذا الأمر. خلال هذه السنة. فاتحني الدكتور صليبي بنشر الأطروحة ووعدته بالعمل على تنفيذها في أقرب فرصة.
والفضل الثاني الذي خصني به الصليبي هو رعايته لي خلال تغطياتي الصحفية وزياراتي المتعددة إلى الأردن والعراق. فتح أمامي وأمام العديدين غيري أبواب المعهد الملكي للشؤون الدينية حيث تعرفت إلى العديد من الباحثين والباحثات الشباب والشخصيات الأردنية والفلسطينية.
والملفت أن الصليبي في عمّان نقل أجواء لبنان. وحول المعهد الملكي للشؤون الدينية إلى خلية نحل ومركز أبحاث تستقطب أعداداً من الأكاديمين والباحثين والطلاب الشباب. تماماً كما كان يفعل في الجامعة الأمريكية في بيروت لمساعدتهم في انتقاء تخصصاتهم وتوجيههم في أبحاثهم وإعداد وتدريب البعض منهم لتسلم مسؤوليات في الديوان والإدارة والديبلوماسية.
والصليبي أينما كان، ينطلق من ركائز ثلاث مهدت حياته الأكاديمية والشخصية. فهو ابن رأس بيروت بامتياز وابن الجامعة الأميركية بامتياز وابن لبنان بامتياز عاش وتعلم في بيئة رأس بيروت في ظلال الجامعة الأميركية العامل المؤثر في نسيج عقلية خاصة وطريقة حياة فريدة ونمط تفكير يكرس العيش المشترك والتعددية الثقافية والحضارية وتفهم الآخر.
رأس بيروت كانت للصليبي النموذج والموديل الصالح للعيش في هذا الشرق. وعندما انتقل إلى الأردن، انتقلت معه أجواء رأس بيروت المشابهة عبر عشرات ومئات الخريجين والخريجات من الجامعة الأميركية الذين توافدوا للسلام عليه وتجديد ما انقطع بينهما خلال سنوات الحرب.
المتكلمون قبلي أعطوا الصليبي حقه في كتابة التاريخ والأبحاث والتأليف. إنما أنا سأكتفي بالكلام عن كمال الإنسان والمعلم.
كما الصليبي بمثل حلقة في مسلسل تقليد انفردت فيه دائرة التاريخ في الجامعة الأميركية في بيروت، عندما كانت محط أنظار مميزة في كلية الآداب والعلوم. كانت العيون تشخص وتتطلع إلى كبار الأساتذة وجهابذة اللغة من أقران الدكتور صليبي وزملائه مثل الدكاترة نبيه فارس وقسطنطين زريق وزين نور الدين زين ونقولا زيادة. كانت دائرة التاريخ في عصر الجامعة الذهبي في سنين ما قبل الحرب قمة علمية مرموقة. تماماً كما كانت رأس بيروت ولبنان في قمة المجد والسحر. صحيح أن صليبي هو الأصغر سناً بين هؤلاء العمالقة الذين تركوا إرثاً عظيماً ورحلوا عن عمور متقدمة. استطاع الصليبي أن يتمثل بهم ويمشي على خطاهم وربما يبرزهم بعطائه الوفير الذي يربو على عشرين كتاباً تتناول تاريخ لبنان والمنطقة العربية.
أهم صفة كان يتحلى بها هؤلاء الكبار هي المحبة والعطاء، من يعطي من فكره وروحه أهم بكثير وارفع ممن يعطي من جيبه، جميعهم أجمعوا مهفهم وطلابهم ويسعدون للتواصل ولقاء من دروسهم. كمال كان يجد سعادة في التواصل مع الناس والإجابة على أسئلة السائلية، أنعم الله عليه بنعمة الغفران والترفع عن الصغائر والابتعاد عن النميمة. كان عفيف النفس ومنضبط اللسان ومتعاطفاً. يتمتع بالقناعة وببساطة العيش في أجواء مريحة زاهية تزينها الأزهار والمزروعات الخضراء التي تكسو بكونه.
جلسته كانت تتأرجح بين الجد والهذل. عنده روح النكتة الحاضرة والرواية المختصرة والمعبرة. يصح القول فيه أنه كان عالماً Savant بامتياز وإنساني كبير Humanist الذي ربى أجيال يعلم التاريخ ويروي حكاياته مع تفاصيله الصغيرة ومعلوماته الدقيقة. كما كان يستمتع بالعزف على الأرغق وسماع الموسيقى والتأمل في رسوم المناظر الخلابة وحضور المسرحيات وقراءة الروايات.
باختصار كمال صليبي رجل نبيل سنفتقده، وسيفتقده لبنان والعرب لأنه عمل على بناء جسر التلاقي والتفاهم عبر الحوار الهادئ والكلمة المسؤولة.