ماجدلوينا شول
ترجمة: صبا قاسم *
تبحث ماجدلينا شول عن السِّمات الأبُّولونية والديونيسية في فن سلفادور دالي.
“حتى في ما يتعلق بمسألة الشوارب كنت أرمي من خلالها إلى التفوق على نيتشه..! فشاربي لن يكون مُحبطاً، أو مُرعباً أو متخماً بالضبابية وسوداوية موسيقى فاغنر، كلا!… سيكون شاربي رفيعاً كخيط إمبريالي يفوق المنطق، مصوباً نحو السماء، مثل التصوف العمودي، مثل النقابات العمودية الإسبانية.” (دالي: مذكّرات عبقري، ١٩٦٣، ص: ١٧).
نعم.. إنها الطريقة الإسبانيّة التي أوقِّع بها تحت مواضيع سخريتي الجنونيّة! بالدم، الطريقة التي أرادها نيتشه! (مذكّرات عبقري، ص: ٤٠).
دونما شكَّ، كان فريديريك نيتشه واحداً من أكثر الفلاسفة إثارة للجدل، وتأثيراً في القرنين التاسع عشر والعشرين. ومن بين أعماله الكثيرة، عمله الأول، “ولادة التراجيديا” عام ١٨٧٢، (Die Geburt der Tragedie، 1872)، الذي استأثر على اهتمامٍ خاصٍّ من قبل نُقَّاد الفن، لأن الفيلسوف الألماني، قدم مفهوم أن القوتين المتعارضتين، الأبولونية، والديونيسية هما مصدر إلهامٍ لكل إبداع فني. يمثل الفرز الذي اقترحه نيتشه هنا محاولة لتفسير العالم بطريقتين، ويشير أيضاً إلى وجود مفهومين مختلفين للحقيقة والأخلاق: المطلق والنسبي.
قام الكثير من الكتاب والفلاسفة، والفنانين بقراءة كتب نيتشه، والتعليق عليها. على وجه الخصوص، كان الرسام الكاتالوني السِّريالي سلفادور دالي على اطِّلاعٍ واسع على أبرز أعمال نيتشه. من خلال قراءة كتاب “مذكّرات عبقري” لدالي، يمكننا أن نلاحظ أنه كان يعرف محتويات كتاب “ولادة التراجيديا” بشكل جيد. تُظهر حقيقة رجوع دالي بشكل متكرر إلى فلسفة نيتشه بشكل عام وإلى تصوره هو للفن بشكلٍ خاص، أن أفكار نيتشه كانت مصدر إلهام كبير للفنان. وأود في مقالتي هذه أن أسبر غور هذا التّأثير.
روحا نيتشه الفنية في الفن
يُربط التطور المستمر للفنِّ بثنائيّة الأبولونية والديونيسية مع نفس الطريقة التي يعتمد فيها التكاثر على وجود الجنسين الذكر والأنثى. “ولادة التراجيديا”، ص 14.
الإله أپولو
وفقا لنيتشه في كتابه “ولادة التراجيديا” فإن الفن هو نتاج النزاع بين عنصرين رئيسيّين في حقل الثقافة: الديونيسي والأبولوني. واستمد هذان المصطلحان من أسماء اثنين من آلهة اليونان. وتجدر الإشارة، إلى أنّه وفقاً للتقليد اليوناني، لم يكن يُعتبر أپولو وديونيسيوس عدوين، أو أنهما قوّتان متعارضتان! إلّا أنَّ نيتشه لاحظ وجود طبيعة متضادة بينهما، وهذه نظرة واعية، لأن هذين الإلهين يجسدان نمطي شخصيَّتين متعاكستين. كان أپولو إله الشعر، والفن، والموسيقى والطب، والضوء والقداسة، وبشكل عام، التناغم والانسجام. وكان يعتبر رمزاً للجمال المطلق، والتعفُّف، والتقدم، والتوازن، والسلام، والعقلانية، والتفكير المنطقي، والاعتدال، وحُسنِ التَّصرُّف، وفقا لقواعد محدَّدة. ويتم التعبير عن الطريقة الأپولونية بشكل جيد من خلال حِكَمٍ نبوءات معبد دلفي: “أطعْ القوانين”؛ “فكِّر كإنسان فانٍ”؛ “تحكَّم بنفسك”؛ “اكبح جماح غضبك”؛ “التزام بقواعد الانضباط”؛ “تحكّم بالعين”، “اسْعَ وراء التّناغم والانسجام”. بالمقابل، كان ديونيسوس إله الطبيعة الجامحة، ورب قوى الخصوبة والذكورية، ورمزا لنمطِ الحياة الماجنة، والخمر، والنشوة الدينية، والعبثية، والعواطف، والشهوة، والحيوية، والغرائز، واللاعقلانية. بالنسبة لنيشته فإن ديونيسوس يمثل القوة التي تهب الحياة الديناميَّة والتي تحطم كل الحواجز والقيود التي وضعها القانون، وتهدم كل التناغم والانسجام.
أشار نيتشه إلى أنه من خلال اتباع التيار الأبولوني يخضع الفنَّان لمبادئ فنيةٍ مسلم بها عموماً، وهذا يعني أنه هو أو هي ينشدان تبيان الجمال والتميّز من خلال النظم القياسية للثقافة، وبهذه الطريقة، يسعى الفنان إلى أن يجمّل أو يصبغ صفة الكمال على الواقع. لم يكن نيتشه يشك في أن الفنان إذا اختار مثل هذا الموقف الملتزم، فإنه يبتعد عن الطبيعة الحقيقية، بل حتى يتعارض مع الواقع: وأنَّ وجهة النظر الأبولونية ليست فقط ضد الطبيعة، إنما هي ضد الحياة بجميع تجلِّياتها. وفقاً لنيتشه: تكون حالة مستمرة من التوازن، والاعتدال، والبساطة، والنظام، رؤية خيالية وهمية للعالم. ففي رأيه لا تسيطر أبدا مبادئ التناغم والانسجام، والنظام، والتماثل التام مع الطبيعة، التي دائما ما تكون في حالةٍ فوضوية، ومتغيرة. وتأتي الرغبة بالتناغم المستمر من العجز ومن الخوف من واقع الحياة.
يرتبط مفهوم نيتشه للفن بشكل وثيق بفلسفته حول الحياة. وغالبا ما كان يؤكد أن الحياة البشريَّة، هي الخير الأسمى. إنها من ناحية أخرى حقيقة بيولوجية، لأن الإنسان كائن ماديّ. والحياة الروحية هي مجرد فرع من الحياة الجسدية، والروحانية المحررة من الجسد ليست سوى ملاذ آمن للضعفاء. فالضعفاء بحاجةٍ إلى القوانين لأنهم ليسوا أقوياء بما فيه الكفاية لعيش الحياة بطولها وعرضها.
من ناحية أخرى، لاحظ نيتشه أن العقل البشري غير قادر على استيعاب حقيقة واقع دائمِ التَّغيّر، لأنَّ الواقع ليس نظاما. لذلك يحاول الإنسان أن يفرض إطار عمل على أرض الواقع من أجل التنظيم، وإطلاق أحكام عامة، والتبسيط، وكبح جماح الطبيعة. تُنتج هذه الإجراءات صورة للواقع الذي يَسهُل التحكُّم به، لكنه إلى حد ما مشوَّه.
وفقاَ لذلك.. اعتقد نيتشه أن الفنان يجب عليه أن لا يخاف من تحطيم نظام المنظم. بدلا من ذلك، على الفنان أن يتجاوز القيود والخطط الأخلاقية، وعليه تجنب الرغبة في الهروب إلى المثل العليا، وأن يسلم نفسه إلى قوة وديناميِّة الحياة. يؤكد نيتشه مراراً وتكراراً أن الجوهر الحقيقي للحياة يخلو من القواعد والقيود، وهذه هي الحقيقة الأولى والمطلقة للوجود، (بدلاً من الرب، أو الأخلاق، على سبيل المثال). وهكذا يبدو الموقف الديونيسي متّسقاً مع مفهوم نيتشه حول الطبيعة. إنّ أساس الفقه الديونيسي “هو أن العالم فوق التعريف أو التقييد”. فالساجدون لديونيسوس السكارى يتحدون مع طاقة التدفق المضطرب للحياة. والفنان الذي يتبع المسار الديونيسي، الذي يتميز بإبداع لا متناهٍ، لن يخاف من مهاجمة الأخلاق أو العادات الثقافية، وسوف يتبع صوته/ها بدلاً من ذلك، واندفاعاته، التي قد تتعارض مع الأعراف، والقوانين والقواعد السائدة. إن الفن الديونيسي على نحو خاص، إيجابي، ومهيمن، وغير عقلاني ومليء بالتوترات الداخلية. إنه يؤكد قيمة الدوافع الطبيعية المليئة بالشوائب لأنها لا تنظر بسذاجة إلى العالم من خلال نظارات وردية اللون. بدلاً من ذلك، إنها تقبل شكل الحياة كما هو، وتوافق على الالتزام بالقَدر الغيبي. إن الشعور بعظمة الحياة، وبهجتها هي أيضا أشياء نموذجية، وتلبي الحاجة لتكون متصالحة مع زوال وهشاشة الحياة البشرية، واعتباطية المحن والمصائب. يمكننا القول إن الفن ذا الطبيعة الديونيسية يتحدث بلسان الحياة. وكناقد لأعمال بيكاسو على موقع (Kunstpedia.com)، يصوغها بوضوح، الديونيسية “تمثل الحقيقة الناصعة في قلب الوجود”، “عاصفة تدمر كل الأقطاب والتضاد وتجعل الانسجام الكائن منذ الأزل في قلب الوجود الدنيوي جلياً”.
من المؤكد أن نيتشه فهم الحياة بشكل حيوي. وأعرب عن اعتقاده أن الشخص يجب ألا يعرف فقط كيف ينجو بحياته، وإنما أيضا عليه أن يعرف كيف يتطوّر في الحياة. وأيد مبدأ الإثبات بالحجة، من خلال كسر مقاومة العالم، وإدراك نمو قوة الفرد الذاتية. بالنسبة إليه ينبغي على المرء أن يقبل الواقع كما هو في اللحظة الراهنة، ويقوم بمعايشتها بأفضل ما هو قادر عليه. فلم يكن لديه أيضاً أي شك بأن الفن بإمكانه أن يؤثر على مصير الناس. بإمكانه أن يصقلهم، وأن يكون علاجا أو فترة راحة من مضايقات الحياة، وبإمكانه أن يساعد الإنسان ليتصالح مع مسرحية الوجود الإنساني، ومع مصير الإنسان ذاته. فمن خلال ممارسة الفنِّ يمكننا تغيير العالم، أو المشاركة في عملية إعادة خلقه. وبهذا المعنى، يمكن للفن أن يكون له تأثير واضح على كل من حياتنا وتاريخ العالم على حدٍّ سواء.
وهذا ممكن في الواقع أما في الطريقة الديونسية أو الأبولونية.. أن تختار المسار الأبولوني يعني أن ترغب بخلق العالم المثالي، بأشكال مثالية وجمالٍ تقليديٍّ. أن تختار المسار الديونسي يعني أن تؤكد انتصار الحياة كما هي، من خلال الاعتراف والقبول بالحياة ككل، بما فيها أهوالها وجميع جوانبها المظلمة. على الرغم من أن نيتشه قيَّم بشكلٍ خاص الموقف الديونيسي، إذ رأى فيه مصدر كل شيء قوي وخلاّق، إلا أنّه ادَّعى أن أسمى إنتاج للمجتمع يتمثل في العبقري المبدع الذي يدمج على نحو خارق بين القيم الديونيسية والأبولونية. لذلك على الرغم من أن الروح الديونيسية والروح الأبولونية تبدوان في موقع التَّضاد لبعضمها البعض، فإن تعاونهما ممكن. على سبيل المثال، لاحظ أن الإغريق أحبُّوا الجمال وأعجبوا بكمال الشكل، إلا أنه يكمن في هذا الحبِّ تيّار طافح عديم الشكل من الغرائز والنَّزوات والرغبة أيضاً. وفقا لنيتشه تم اقتران المذهبين الأبولوني والديونيسي بذلك النموذج الأصلي للفن الرائع، المأساة الأثينيّة، من هنا جاء عنوان كتابه الأول.
بالنسبة لنيتشه، الفنان العبقري، والاستثنائي، سيكون الشخص الذي يترفّع فوق الرّداءة من خلال اتباع مواطن القوة في الحياة، بالإضافة إلى الاستفادة من أفكار التَّناغم والجمال. ولن يخاف العباقرة من تحطيم القوالب النمطية القائمة، ولن يخافوا أن يكونوا خطراً على الثقافة القائمة. مع أخذ هذا في عين الاعتبار. يمكننا أن نتساءل: هل ارتقى سلفادور دالي، هذا الفنان من فيجيريس، إلى مستوى تحدي العبقرية؟
دالي العبقرية النيتشوية؟
“رافقني ديونيسيوس النيتشوي في كل مكان مثل ممرِّضة تلازم المريض” (مذكرات عبقري، ص: 21). “منذ ديونيسيوس الاريوباغي، لم يغرق أحد في الغرب، لا ليوناردو دافشني، ولا باراسيلسوس، ولا غوته ولا نيشته، في اتحاده مع الكون أكثر من دالي. أن تمنح الإنسان انخراطا في عملية الإبداع، أن تنعش الحياة الاجتماعية والكونية ـذاك هو دور الفنان” (جورج ماتيو.. من رسالة أعيد نشرها في “مذكرات عبقري”، ص: 171).
في عالم الفلسفة كان نيتشه يعتبر متمردا، وانتهى به الأمر بشكل مأساوي إلى مجنون. وبالمثل، في عالم الفن، كان يُنظر إلى سلفادور دالي على أنه فنان إشكالي وغريب الأطوار. يشير دالي بشكل متكرر إلى أعمال نيتشه في كتابه “مذكرات عبقري”. ما من شك أن كل قارئ سيتكوّن لديه الانطباع بأن الفنان الكاتالوني دالي كان مفتوناً بفلسفة نيتشه وبشخصيته. حتى أنه ربّى شاربه ليُظهر مدى علاقته بالفيلسوف الألماني. (انظر الاقتباس في بداية هذه المقالة).
في مذكراته، يؤكد دالي أن كتاب نيتشه “هكذا تكلم زرادشت” (1881) قاده نحو الإلحاد، ورفض الفضائل المسيحية، وأسهم بتطوير غريزته اللااجتماعية وفقدان الشعور بالأسرة. على ما يبدو، بالنسبة لدالي، مثلت السنوات الأربع التي سبقت إبعاده عن أسرته حالة من “التخريب الروحي”: “بالنسبة إلي كانت تلك السنوات حقاً نيتشوية” (ص 18). كان إعجاب دالي بالفلسفة النيتشوية كبيراً لدرجة انه أطلق على نفسه اسم “نيتشه اللاعقلاني” (ص23). ومن الجدير بالذكر أن عنوان مذكراته يوحي، أن الفنّان لا يطمح إلى أن يكون عبقرياً فحسب وفقاً لتعريف الفيلسوف الألماني، وإنما شعر أنه كان في الواقع ذاته: “في يوم من الأيام، سوف يضطر الناس للاهتمام بأعمالي” (ص 43)، أو “يصبح عقلي طبيعياً مرة أخرى رغم أنني لا أزال عبقرياً” (ص 186).
من ناحية ثانية، فإنه من الصعب التّحديد بدقة ما أراد دالي من التلميح والادّعاء بارتباطه بنيتشه. هل هو حقاً مختص بفلسفة نيتشه؟ أو بمعنىً أصح.. هل تصرّف الفنّان بطريقة غير طبيعية لأنه أراد الإثارة والشهرة الشعبية الواسعة؟ هل جعل من نفسه مجنوناً وغريب الأطوار فقط لأسباب مالية، بدلا من توافق فلسفي كان يقف وراء هذا النبض الديونيسي الفطري؟
بغض النظر عن كيفية الإجابة عن هذه الأسئلة، فعلى ما يبدو أنّ أفكار وآراء نيتشه تنسجم تماما مع الأفكار (السريالية)، والحركة الفنية التي انتمى إليها الفنان (الإسباني) وأحبها كثيراً. واحدة من الأفكار الرئيسية للسريالية هي التعبير البصري للتصورات الداخلية. حيث يحاول فنانو هذا النمط، خلق صور تُخلّ بالمعنى المنطقي للواقع. لأنّهم ألغوا الحدود ما بين الوعي، والحلم، والخيال، أو (الهلوسة)، فإن رؤاهم غالباً ما تكون غريبة، وتبتعد بشكل كامل عن العقلانية.
من خلال رؤية لوحات دالي، ومنحوتاته، يمكننا أن نلاحظ أننا نتقاسم التجارب الفكرية للفنّان، حيث تتعارض أعماله الغريبة بشكل واضح مع الواقعية، وهي زاخرةٌ مليئة بمناظر طبيعية تكتنفها تشوهات تشبه الأحلام. وهناك موضوعات مثيرة جنسيا، وحتى شهوانية. وغالبا ما نجد أيضا في أعماله تمجيداً شيطانيا: انتحار، وتشوّه، وقبح. وهناك مواضيع الثورة، والوحشية، والعنف، والقسوة، والشذوذ الجنسي، والتخريب. ليس هناك من شك أن فن سلفادور دالي ينحرف عن الفكرة الكلاسيكية للجمال. في هذا المعنى، يمكننا القول إن دالي ابتعد عن الفن الأكاديمي، والذي عادة ما يضرب جذوره في المعسكر الأبولوني، إذ إنه يشير إلى توق الإنسان للنظام والعقلانية، وإلى العربدة الديونيسية. كما كتب دالي، “كان ذلك درساً عظيماً درّسته اليونان القديمة، الدرس الذي أعتقد أنّ أول من كشف عنه هو فريدريش نيتشه. لأنه إذا كان صحيحا أن الروح الأبولونية في اليونان وصلت إلى أعلى مستوى عالميٍّ لها، فإن ما هو أكثر صحة أن الروح الديونيسية تجاوزت كل الحدود وكل أشكال الانتهاك” (ص: 102) بالتأكيد كان دالي سيّد السريالية، ومن أنصار المواقف الديونيسية: “قبل أن تصبح حياتي كما هي عليه الآن، مثالاً للزّهد والفضيلة، أردت أن أتمسك بسرياليتي الوهمية، كمارقٍ منحرف، ولو كان فقط لثلاث دقائق أخرى، مثل النائم الذي يناضل من أجل استبقاء اللحظات الأخيرة من حلم ديونيسي” (ص:.21).
طوّر دالي طريقته الفريدة في إدراك العالم، التي وصفها بأنها “الثَّورة النقديّة الموسومة بجنون العظمة”. وهذه، على حد زعمه، كانت وسيلة تلقائية لخلق معرفة لا عقلانية مرتكزة على تداعي تأويلي لظواهر هذيانية. علاوة على ذلك.. تشير طريقته صراحة إلى كل من الأفكار الرئيسية للسريالية، وإلى مفهوم نيتشه للفن الديونيسي. من ناحية ثانية، وعلى الرّغم من إعجاب دالي الواضح بأفكار نيتشه، لا يمكن للمرء أن يفترض أنه قَبِل دون تمحيص بكلّ فكر الفيلسوف الألماني. على سبيل المثال… لم يكن يعجبه أن مفاهيم نيتشه كانت ملوثة بـ “اللّاعقلانية الرومانسية”: “أنا، العقلاني المهووس، كنت الشخص الوحيد الذي عرف ما أراد، ولم أكن أريد أن أخضع إلى اللاعقلانية لذاتها النرجسيّة والسلبية التي مارسها الآخرون؛ وددت أن أفعل العكس، وددتُ أن أناضل لأجل إخضاع اللاعقلاني. في تلك الأثناء كان أصدقائي ليسمحوا لأنفسهم أن تقهرهم اللاعقلانية، كانوا ليستسلموا مثل آخرين كثر، وبما يشمل نيتشه أيضاً، إلى ذاك الضّعف الرومانسي” (ص:.19). وتجدر الإشارة إلى أنَّ دالي ربّى شاربه ليكون مشابها لنيتشه، لكن وبسبب رغبته بأن يكون مختلفاً عنه، ربى شاربه بشكل مختلف. “يبقى الشيء المهم أن شاربي الذي يعاند شارب نيتشه لا يزال مصوبا نحو السماء مثل أبراج كاتدرائية بورجوس” ( ص:.43).
كان (دالي) مقتنعاً بأن ضعف أفكار نيتشه كان مرتبطاً بمرضه العقلي. كما بدا الفنان قلقاً حيال شكه ببعض الاعتلال العقلي. وكما نعلم، فإن الخط الفاصل بين المرض العقلي والإبداع الفني، رفيع جدا. ويمكننا أن نلاحظ أن دالي كان يعرف ذلك جيدا، لكنه، كما أشار في مذكراته بأنَّ نيتشه “كان ضعيف الجسم، أي أنه واهن بما فيه الكفاية ليصاب بالجنون، في حين أنه من الضروري في هذا العالم، أن لا يصاب بالجنون.. فالاختلاف الوحيد بين مجنون وبيني هو أنني لست مجنوناً!” (ص:.17.
من خلال فنه أظهر دالي أن فوضى ديونيسيوس وتوتراته، يمكن دائما أن تغزو تعقل ونظام أبولو، إذ بإمكان التباين دائماً أن يفسد الجمال، وأنَّ الفهم العقلاني للعاطفة لا يمكن أن تفسده الشهوة الغريزيّة، أو حتّى الجنون. وبهذه الطريقة، يجسد دالي اعتقاد نيتشه أن أعلى إنجاز للفن موجود في توليفة، أو على الأقل لقاء، بين عناصره الديونيسية والأبولونية.