اعاني من العزلة ويغمرني حزن جارف عندما أتأمل وضعي الراهن في عالم الإبداع ، المثقفون اليابانيون لم يبدعوا نظريتهم الثقافية لأنهم يفكرون من خلال أوروبا وأمريكا، أعارض بشدة تصدير الثقافة اليابانية إلى العالم واليكم أسباب موقفي:
عندما أعلنت لجنة الأكاديمية الملكية السويدية فوز الروائي الياباني كينزابورو أوى بجائزة نوبل في الأدب للعام 1994م ، لم يكن ذلك مفأجاة لكثيرين على مستوى العالم كلا، فالكاتب الكبير معروف في العديد من الدوائر العالمية ، لا بفضل إبداعه الروائي فحسب ، وانما كذلك بحكم نشاطه الكبير في ميدان حقوق الانسان ورفض سباق التسلح النووي العالمي، ولم يكن سرا أن اسمه مدرج منذ سنوات في القائمة القصيرة للمرشحين بالجائزة ، وقد نوقشت احتمالات فوزه بها مرات عديدة ، ونشر جانب من هذه المناقشات في أكثر من دورية واحدة ، أبرزها مجلة "ورلد لتر تشر توداي".
هكذا فإنه خلافا لما أشارت اليه الصحف وأجهزة الإعلام العربية ، في حينه ، لم يكن فوز أوى مفاجأة لأحد، وكل ما هنالك انه لم يكن لدى البعض من المعلومات عن أوى ما يتوافق مع ما درجت عليه الدوائر العالمية من اهتمام كبير بالفائز بهذه الجائزة بصفة خاصة .
وفي عالمنا العربي، كان من حسن الحظ حقا أن القارىء العربي وجد لديه ، وبلغته الأم ، عملين للكاتب الياباني الكبير، هما "مسألة شخصية" التي ترجمها الشاعر وديع سعادة وصدرت عن مؤسسة الابحاث العربية في إطار سلسلة "ذاكرة الشعوب " في العام 1987، ومجلد "علمنا أن نتجاوز جنوننا" من ترجمة كاتب هذه المقدمة واصدار دار الآداب البيروتية في العام 1988، والذي يضم أربع روايات قصيرة ، هي على التوالى : "علمنا أن نتجاوز جنوننا" و" يوم يكفكف دمعي بنفسه " و"الجزاء" و" أجوى المسخ السماوي".
ورغم وجود مقدمة مطولة عن كينزابورو أوى تتصدر "علمنا أن نتجاوز جنوننا"، فان القارىء العربي، في اعتقادي، يظل بحاجة لمعرفة المزيد عن كينزابورو أوي، وعن المؤثرات في أدبه، وأبعاد عالمه الروائي، خاصة وأن هذا العالم لا يفتقر إلى التركيب ، إن لم نقل التعقيد، ومن هنا تأتى أهمية هذه المقابلة التي أجريت مع أوى خلال زيارته لهاواي مؤخرا، والتي ظل خلالها محتفظا بروحه المعنوية العالية ، على الرغم من أن ابنه الذي ولد باعاقة ذهنية دائمة كان مايزال في غمار جهوده الشاقة لتحقيق التواصل العملي الأول مع العالم ، عبر اصدار اسطوا نته الأولى التي تضم أعمالا موسيقية كلاسيكية كما كان أوى حزينا وفي حالة تأثر شديد، عقب تعرض زوج شقيقة زوجته ، المخرج الذائع الميت جوزو ايتامي للطعن بخنجر حاد من أحد اعضاء العصابات اليابانية الشبيهة بالمافيا، والمعروفة تقليديا باسم «الياكوزا» ردا عي هجوم ايتامي على هذه العصابات وسخر يته منها في أحد افلامه .
وقد رد أوى على الاسئلة خلال المقابلة التي نشرت في مجلة "مانوا" الصادرة عن جامعة هاواي تحت عنوان "اسطورة قرية كينزابورو أوى" باللغة الانجليزية بلكنة يابانية ، ولكن بتواصل يحمل روح أوى المرحة .
ولم يكن محاور أوى في هذا اللقاء شخصا واحدا، وانما ثلاثة محاورين ، هم على التوالى ستيف برادبوري، رئيس التحرير المشارك لمجلات : ليتراري فستودي، وناراتيف ، وكالتشر، وقد عرف في الدوائر المعنية بالآداب الشرقية بمقاله المطول الشهير بعنوان "الاختراق الأمريكي للطاوية الفلسفية " الذي نشر في العام 1991 في مجلة " "ترانسليشن ايست أند وست".
أما المحاور الثاني لأوى، في هذا اللقاء، فهو جويل كون ، الذي كتب العديد من المقالات عن الأدب الياباني، وترجم جانبا من ابداعاته ، كما قام بمصاحبة العديد من الشعراء اليابانيين بالعزف على الجيتار خلال إلقاء قصائدهم في هونولولو، وقد لفت أنظار الدوائر المعنية بالآداب الشرقية بترجمته لقصة يابانية تعود إلى القرن الثامن عشر، تدور حول بوذيساتفا – وهي شخصية تعد في الأدبيات البوذية أحد تجليات بوذا – تقوم بتأجير أذر عتها الألف ، خلال إحدى فترات الركود الاقتصادي.
والمحاور الثالث لأوى، في هذا اللقاء، ليس إلا روب ويلسون عضو جمعيتي "باوندري" و"بامبوريدج " للصحافة ، والكاتب المساهم بصورة منتظمة في "إيست -وست فيلم جورنال" وقد لفت الأنظار اليه بانجازاته في العدد الخاص الذي أشرف على اصداره تحت عنوان "آسيا-المحيط الهادى كفضاء للانتاج الثقافي " الصادر عن "باوندري تو" وكذلك بكتابه الصادر عن جامعة ديوك تحت عنوان "إعادة تصور الساحل الامريكي المطل على المحيط الهادي: الثقافة المحلية ، الهوية الوطنية والفضاء عبر القومي".
ولمجرد إعادة التذكير بالحقائق الأساسية المتعلقة بكينزابورو أوى لمن يطالع هذا الحوار دونما معرفة مسبقة بجانب من المعلومات الضرورية عنه لكي نتمكن من فهم ومتابعة ما يطرحه هنا، نشير إلى أن الروائي الياباني الكبير ولد في العام 1935 في قرية أرسى، في مقاطعة إيهايمي، بجزيرة شيكوتو اليابانية الواقعة في غربي اليابان ، على أرض تحكمها الأعراف الريفية التقليدية ، وفي تجمع قروي يتميز بالمحبة العميقة بين أبنائه ، وكذلك بشىء من غرابة الاطوار، وهما العنصران اللذان سيشكلان أرضا خصبة لانطلاق خيال أوى.
وقد درس أوى الأدب الفرنسي في جامعة طوكيو، بعد الحرب العالمية الثانية ، وخلال مرحلة الدراسة نظم قصائد "الواكا" وكتب المسرحيات والقصص القصيرة ، ليلقى الضوء على الحياة في مسقط رأسه ، وليبرر ويفسر هذا الطابع الشديد الخصوصية ، الذي تتميز به هذه المنطقة، ولو لنفسه في المقام الاول ، ودارت أطروحة تخرجه عن التصوير في روايات جان بول سارتر.
وفي العام 1958 وخلال درا سته الجامعية كذلك ، فاز بجائزة أكوناجاوا، المخصصة لألمع الكتاب الشبان في اليابان ، عن روايته القصيرة "الطريدة "، وانطلق مشواره الادبي، وسط صيحات نقدية تؤكد أنه أهم كاتب يظهر في اليابان منذ يوكيوميشيما.
وفي العام 1964 عقب ميشيما نفسه على رواية أوى "مسألة شخصية " بقوله : "لقد وصل كينزابورو أوى الى ذروة جديدة في رواية ما بعد الحرب العالمية الثانية في اليابان . وهذا الحكم يفرض نفسه الآن بمزيد من القوة ، بعد ثلاثين عاما من اطلاقه ".
وفي كتاب صدر مؤخرا بعنوان "بعيدا عن موقع الوسط " يطرح الباحث الأمريكي، ذو الأصل الياباني، ساساو سيوشى، الذي ينظر الى أوى كما لركان ديوجين الأخير الذي يرفع مصباحه عاليا وسط مراكز تسوق اليابان المصممة وفق العمارة سابعد الحداثية في جينزا بقلب طوكيو – يطرح هذا التقويم لإبداع أوى.. "إن تعليم أوى الشامخ ، وذاكر ته المخيفة ، وأفكاره المركبة، وخياله الذي لا يعرف القيود، وارادته السياسية الصلبة ، وتواضعه الذي يرفض التمييز بالسلب بين من يلتقونه ، والذي تمازجه ثقته المطلقة بنفسه ، كل ذلك يجعله أقوى شخصية في العالم الأدبي لليابان في الوقت الراهن".
وقد تتابعت رواياته التي حصدت العديد من الجوائز بانتظام ، ومن أبرز هذه الروايات "اقطفوا الزهور، اقتلوا الاطفال " (1958) و" عصرنا " (1959)، و" الصرخات " (1963)، و" مسألة شخصية " ( 1964). اما العمل الذي اثار اهتماما دوليا بأدب أوى فهو "الصرخة الصامتة " والذي اشادت به اللجنة الملكية السويدية في بيانها عن منحه جائزة نوبل لأوى وكذلك أشادت بروا يته "رهان العصر" (1979). أما عمله الموسوم "النساء يصفين لأشجار المطر" (1982) فهو يدور في جانب منه في هونولولو وعلى وجه التحديد في مصحة للأمراض العقلية وهناك كذلك "انهضوا يا شباب العصر الجديد" (1983) و" عضة فرس النهر" (1985)، و" الحكاية العجيبة " ل . أ. م والغابة " (1986) و" رسائل لسنوات الحنين الى الوطن " (1987) و"ا لحياة – الأقارب " (1989) و" حياة هادئة " ( 1990) ورواية من روايات الخيال العلمي بعنوان "علاج البرج " ( 1991). أما آخر عمل عكف عليه أوى فهو ثلاثيته "الشجرة الخضراء الملتهبة ". وكان ان قد أصدر مجلدين منها بالفعل لدى إعلان فوزه بجائزة نوبل هما "عندما هزم المخلص " (1993) و" التذبذب ". وما تزال الرواية الأخيرة في الثلاثية رهن الإصدار.
غير أن أعمال كينزابورو أوى لم تقتصر على الاصدارات الابداعية وحدها، وانما كانت له مساهمات متميزة في مجالات أخرى ، فقد أصدر كتابا في الجغرافيا السياسية ، كانت له اصداء بارزة ، هو "مذكرات هيروشيما" (1965) وفيه لا يتجلى اهتمام أوى بالطاقة النووية وقدرتها الرهيبة فحسب ، وإنما يبرز كذلك ملامح اهتمامه الاستحواذي بالمعاناة والعذاب اللذين تعرض لهما أبناء هيروشيما نتيجة لالقاء القنبلة الذرية الأمريكية على مدينتهم ، وهو موضوع ينثر اصداءا لشكل المشوه على امتداد جانب كبير من عالم أوى الروائي، وهناك أيضا كتاب "مذكرات أوكيناوا " (1970) الذي يكشف التزام أوى على امتداد عمره، وفي مواجهة ضارية مع القوى الامبراطورية، بالحفاظ على الهامشي، على الريفي، على المعوق، المشوه، المختلف، والمغاير، أو كما يعبر ما سوسيوشى في كتابه الشهير على ما هو بعيد عن موقع الوسط.
وكما تشير هذه الموضوعات ، فإنه على الرغم من تأثر أوى العميق بالفلسفة الوجودية ، وتحليقات خياله على نحو ما نرى في "مسألة شخصية " على سبيل المثال ، إلى الترديات الجنسية المروعة على حافة الهوة الوجودية ، فان أعمال أوى تظل ضاربة الجذور بقوة في مشكلات الرؤية الاخلاقية والحركة السياسية .
أخيرا، وقبل أن أدع القارىء مع هذا الحوار الفريد ، يهمني أن أشير في نهاية هذه المقدمة ، التي أمل أن طولها النسبي لم يشر ضيق القارىء العربي ولا شعوره بالضجر، إلى نقطتين محددتين :
* لقد كان أوى، رغم حبه الشديد لبلاده وتأكيده أنه لا يكتب إلا وعينه على القارىء الياباني وحده ، هو الذي أكد في مقال شهير له على ما أسماه بـ "حق القطيعة مع اليابان " وهو حق يرى أنه من خلاله وحده يجترع التواصل مع الانسان الياباني البسيط ، وبمعنى ما مع الإنسان في كل مكان . إنه يرفض اليابان الأخرى، يابان الامبراطور، يابان ثقافة المركز ، يابان قولبة الإنسان في اطار نشاط المؤسسات العملاقة وتقزيم الشر، من خلال تغريبهم ، وسلب إبداعهم الإنساني؟ وذلك لحساب تحقق يابان أكفر إنسانية وصدقا مع النفس ومع الاخوين ، كما يأمل الكاتب الياباني الفائز بجائزة نوبل .
* في مواجهة نزوع الكثير من كتاب العالم الثالث إلى الخروج من جهودهم ، والانسلاخ من هذا العالم الذي ينتمون اليه ، والرحيل بالروح وبالفكر وبالجسد أيضا إلى الغرب ، وبالتحديد إلى اوروبا، فإن أوى كان هو الذي شدد على انتماء اليابان ، رغم تقدمها الكبير، الى العالم الثالث ، وكتب في مقال يؤكد فيا على قوى الهامش ، قوى الروح والطبيعة والميثولوجيا المحلية في مواجهة الهيمنة من الداخل والخارج ، يعرف مهمته ، باعتباره كاتبا يابانيا، بقوله : " إن مهمة الكاتب في اليابان هي أن يكتب كلماته واحدة إثر الأخرى، وفي ذهنه فكرة محددة عن إعادة الترتيب الشاملة للصيقة التوحيدية الثقافية في بلاده وفي غيرها من دول العالم " .
وفي عصر تسوده اهتمامات عالمية ، يعمد القوس تحت ظلاله الى التخلى ، ويتعمد الدولي في تضاعينه اللجوء الى البطش ، وتتبنى الثقافة المحلية صيغة توحيدية ثقافية قوامها الربح المادي فان قيمة كينزابورو أوى الحقيقية تكمن في انه يرفع الصوت عاليا دفاعا عن الهامشي ، عن البعيد عن موقع الوسط ، عن قوى الروح غير التقليدية الباحثة في لهفة عن تعبير عنها يتكافأ مع طاقاتها الهائلة المحزونة ، سواء أعان هذا الهامشي في شيكوكو أو هيروشيما أو كوريا الجنوبية أو أوكيناوا أو الصين أو النفس أو الأركان القصية من عالمنا العربي الغارقة في التراب والتعاسة والرعب .
الآن ، نبدأ في قراءة الحوار:
* ستيف برادبوري: أود أن أطرح عليك سؤالين ، من وحي كتاب ما ساد سيوشى الصادر مؤخرا بعنوان "بعيدا عن موقع الوسط ". فقد جعلك سيوشى على نحو ما بطل الصورة التي رسمها للأدب الياباني الحديث ، وهو يذهب الى القول بأنك واحد من قلة محدودة من الكتاب الجادين مازالت موجودة في اليابان ، وتحظي بحماس واسع النطاق من الجمهور، ومن الامور التي يقولها انه منذ حوالي العام 1970 شهدت اليابان انتصار الثقافة السلعية والقومية القائمة على صرح المؤسسة ، وفي خلال ذلك الوقت فان الكتابات النقدية الجادة قد تهاوت على الطريق بشكل حقيقي، وحل محلها نوع من الممارسة الأدبية يكاد يتطابق مع النزعة الاستهلاكية ، بل انه يدرج قائمة بالكتاب الذين تنتقدهم بدورك بشدة ، مثل هاروكي مور اكابي وآخرين، واتساءل عما إذا كنت تشارك ميوشى رؤيته القاتمة ، فيما يتعلق بالكتابات اليابانية المعاصرة، حيث أنا يخيل الي بعد الحديث معك أنك تبدو متفائلا إلى حد ما.
-كينزابورو أوى: إنني أجد دراسة سيوشى حافلة با لمعلومات إلى حد بعيد، ولكن إذا شئنا الحديث بصراحة ، فإنه لا يكاد يمكن القول عنى اليوم بأنني أحظى بحماس واسع النطاق من الجمهور. وعلى امتداد السنوات العشر الأخيرة قمت باصدار ما متوسطه كتاب واحد سنويا، وقد بيع من كل كتاب منها ما يتراوح بين ستين ألف نسخة . ومائة ألف نسخة ولكن قبل عشرين عاما كان يباع من كتبي مائة ألف نسخة على الأقل في الطبعة ذات الغلاف السميك وحدها على الدوام ، حتى في حالة الكتب التي تضم مجموعات من مقالاتي. وقد شهد كل عام انخفاضا في المبيعات . وقبل عشر سنوات كانت تباع من الطبعة ذات الغلاف الورقي من كتاب جديد لى ملايين النسخ ، أما الآن فان عدد النسخ ذات الأغلفة الورقية التي يمكنني توقع بيعها أصبح صغيرا للغاية ، أي تقريبا في حدود عدد نسخ الأغلفة السميكة ، في معظم الحالات . ولكن المؤلفين الشبان ، مثل رديو موراكامي وهاروكي موراكامي ويوشيموتو بانانا يبيعون كتبهم بشكل جيد وخاصة في حالة الطبعات ذات الغلاف الورقي، ولا يمكن مقارنتي بهم . مازال لي بعض القراء، ولكن المستقبل الآن مظلم للغاية (قال العبارة الأخيرة ضاحكا).
هناك العديد من الكتاب الجادين في اليابان ، مثل يوشيكتتشي فوردي، ويوكو توشيحا، وماكونو أوكا، وتايكو كونو، وغيرهم . وأعتقد أن عدد قرائهم يدور حول العشرين ألفا، أو حتى أقل من ذلك.
* ستيف برادبوري: من الأمور المثيرة للاهتمام التي طرحها سيوشى إنه حتى على الرغم من انك تشكل صوتا ناقدا بارزا، إلا أن شهرتك ذاتها قد دفعت باتجاه جعلك معزولا. وهو يحاجج بأنه كما في حالة معظم الأصوات التي ترتفع بالنقد في اليابان فإن صوتك عزله التوقير والاجلال اللذان تحظى بهما، وكنتيجة لذلك فإن الناس يترددون كثيرا في الدخول في أي نقاش معك . وعلى أكثر من نحو فإن جوهر كتابه هو القول بأنه ليست هناك كتابه جدلية معارضة في اليابان اليوم . هل توافق على وجهة النظر هذه ؟
– كينزابوروأوى: (ضاحكأ) أعتقد أن سيوشى كان شديد الكرم معي. نعم ، إنني مؤلف معزول، وبصقة خاصة على الساحة الأدبية ، وانني لأشعر بالعزلة الشديدة ، ولكن سيوشى بالغ في اضفاء الطابع المثالي على موقفي، ولست استطيع دعم وجهة نظره بقوة ، فعلى سبيل المثال ليس بمقدوري العثور على أحد ينشر كتبي باستثناء دار شينتشوشا.
* ستيف براد بوري: كانت اليابان شديدة العدوانية في غمار المنافسة على تصدير التكنولوجيا، كالسيارات ، وأجهزة الفيديو وما إلى ذلك . هل تعتقد أنه سيأتي وقت تحاول فيه اليابان تصدير ثقافتها بالعدوانية ذاتها؟ وبتعبير آخر هل تعتقد أن الثقافة اليابانية ستصبح ذات يوم ثقافة عالمية وليست يابانية فقط ؟.
– كينزابورو أوى: لقد ساعدت ، مؤخرا، بالاشتراك مع عدد من المثقفين الفرنسيين واليابانيين، في مشروع لترجمة بعض القصص اليابانية الى الفرنسية . وقد تمكنا من العثور على مترجمين جيدين للغاية وعلى من يتولى رعاية المشروع ، بل وأقنعنا دار جاليمار بنشر الترجمات ، وفي غضون ذلك قال أحدهم إنه يتحتم علينا أن نقوم بتصدير ثقا فتنا، ولكن هذا شىء أعارضه تمام المعارضة ، وذلك لسبب محدد، فنحن باعتبارنا كتابا ليس
بمقدورنا تصدير ثقافتنا، على نحو ما تقوم الصناعة اليابانية بتصدير أجهزة التليفزيون ، فالنجاح التكنولوجي ليس ضمانا للانجاز الثقافي ، وبمقدور بلاد تحظى بقدر محدود من تكنولوجيا الكمبيوتر أن تبدع أدبا عظيما، وقد قامت بذلك بالفعل ، ولست أعتقد أن كولومبيا قد انتجت أجهزة الكمبيوتر، ولكن ليس باستطاعتنا إنكار عظمة ما يبدعه كتابها. وكذلك في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ، لم تكن روسيا مصدرا لأي تكنولوجيا مهمة ، ولكنها كانت مصدرا للكثير من الكتابات العظيمة . فالتكنولوجيا مسألة أخرى مختلفة عن مسألة الثقافة . والكتاب المتجهون الى الوسط ، على نحو ما كان يوكيوميشيما، يريدون في بعض الأحيان أن يتطابقوا مع اليابان المؤسسة . وحتى كربو ابي، فيما أعتقد، حاول أن يخلق هذا التطابق أو التوحد بين نفسه وبين مؤسسة "سابيو"!. ولكنني أعتقد أنه إذا كانت هناك مثل هذه الحركة في اليابان لتصدير ثقافتنا من خلال دعم مؤسسات عملاقة مثل سابيو أو سوني. فانني سأقوم بكل ما في وسعي لخلق حركة مناهضة للتصدير (ضحك ) وإنني أعتقد أنه يتحتم علينا ان نفصل تكنولوجيتنا عن ثقافتنا. وقد اكتشفت تدريجيا أن هناك العديد من المترجمين والمثقفين في أمريكا الذين أنجزوا بعض الترجمات العظيمة حقا عن الأدب الياباني، مثل ترجمة أعمال يوكو تسوشيما، ويوشيكيتيشي فو روى. وأعتقد ان أعمال هذين الكاتبين تباع منها ألوف النسخ في فرنسا. ولدى هؤلاء المترجمين الشبان حس قوي للغاية بأساليبهم ، وهم مجددون على صعيد الأسلوب ، وخاصة المترجمة الشابة لأعمال يوشيكيتشي فوروى، إنها شابة في مقتبل العمر، ولكن ترجمتها للعسل الموسوم " يوكو " كانت ترجمة رائعة .
وعلى أي حال ، ففي الولايات المتحدة تشهد الجهود الشاملة لترجمة الأدب الياباني تزايدا، ولذلك فنحن لا نكترث كثيرا بالبرامج الرسمية الكبيرة لترجمة الثقافة اليابانية وفي اليابان أقوم بالاشراف على مطبوعة "هيروميسو" "هرمس " مع أصدقاء لى ، هم المهندس المعماري أراتا اليسوزاكي، والفيلسوف يوجيرو ناكا مورا، والشاعر ماكوتو أوكا، ومؤرخ علم الجمال ماسانورى أواياجي، وآخرين . وعلى امتداد عشرين عما كانت لنا مجموعة دراسية وقد بدأنا ونحن في صدر الاربعينيات من أعمارنا، وخلال ذلك الوقت اصبح ايسوزاكي مشهورا على مستوى العالم ، ولم يعد بعضنا يواصل النشاط في إطار هذه المجموعة ، وأحسب أننا لسنا على القدر الكافي من الدأب (ضحك). وإنني لآمل في توسيع نطاق الكون الثقافي باليابان. ولكنني لا أتوقع أن بامكاننا القيام بأي تغيرات حادة .
أما عن أعمالي الموجودة رهن الترجمة ، فهناك مترجم أمريكي يعمل عل ترجمة ما أعتقد انه واحد من أفضل أعمالي ، وهو عملي الموسوم "انهضوا يا شباب العصر الجديد!" وقد عكف على ترجمته طوال ثماني سنوات ! (ضحك) وفي كل عام يبعث لي برسالة يعتذر فيها عن عدم الانتهاء من الترجمة ، ويقول شيئا من هذا القبيل : " لن تصدق هذا، ولكن أخت زوجتي أصبحت لديها ميول انتحارية " (ضحك) ويبدو أن كل شي ء يحدث له ، وهكذا لم يترجم كتابي بعد. وتلك مشكلة كبيرة بالنسبة لي وفي كل مرة أزور الولايات المتحدة أبحث عنه في المكتبات دون جدوى. وتلك تعاسة شخصية ، ولكن بهذه الطريقة يظهر الأدب الياباني في الغرب ، أي تدريجيا، كتابا إثر الآخر. ولابد لي من القول بأنني اجد المثقفين في الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا مثيرين للاهتمام الى حد بعيد ووجهات نظرهم تتسم بالشجاعة . وهكذا فانني اعتقد ان الأمل قائم ، واحلم بانه في يوم من الأيام سيكون الأدب الياباني أدبا عالميا. ولكنني عندما مضيت الى هايتي، التقيت بالعديد من المثقفين من الكاريبي، وحصلت على الكثير من الكتب منهم ، وهى مواد رائعة ، وهى كتب مجهولة في اليابان، فنحن – اليابانيين – لدينا عالم ثقافي بالغ المحدودية . ونحن لا نعرف الكثير من المؤلفين من الدول الأخرى، ونحن بحاجة إلى خلق مناخ يفضى بشكل أكبر الى ترجمة الأدب الكوري، وأدب الحركات السرية الآسيوية ، الذي لا نعرف عنه الكثير، ويتحتم علينا أن نوجد علاقة وثيقة مع ثقافات العالم الثالث الأخرى.
* ستيف برادبوري: في "هوية اليابان المزدوجة ": ورطة كاتب .. وهى ورقة ساهمت بها في مؤتمر تحدى ثقافة العالم الثالث في جامعة ديوك في العام 1986 ذهبت إلى القول بأن هوية اليابان المزدوجة قوامها ان اليابان دولة من دول العالم الثالث تخلت عن وضعيتها العالم ثالثية، وأن علاقتها بالعالم الثالث ، وبخاصة جاراتها الآسيوية هي في حالة يرثى لها حقا. هل لاحظت أي تغير في احساس اليابان بالهوية خلال السنوات التي انقضت منذ مؤتمر جامعة ديوك ؟
-كينزابورو أوى: بوسعي الاجابة بنعم ولا كليهما. لا، بمعنى أن من يسمون بالمثقفين اليابانيين لا يتغيرون أبدأ، فهم على الدوام يفكرون من خلال أوروبا وأمريكا، وهكذا فإنهم لا يقيمون صرح نظرية خاصة بهم أبدأ. ولست أدري السر في ذلك حقا. وإنني ليساورني على الدوام شعور بأنه يتعين علي تغيير منظوري كلية ، ولكنني حتى الآن لم أنجح في ذلك . وأعتقد أن أمامي عشر سنوات حتى موتي، ككاتب (ضحك ) وبالتالي فلدي شعور بالتعجل في إنجاز الأهداف التي تحدثت عنها في المؤتمر: "اختفاء الطابع النسبي" على هيمنة الامبراطور على اليابان من خلال تصوير الاقاليم الهامشية في البلاد عبر "الواقعية الغرائبية ".
هناك عدد من المثقفين اليابانيين الشبان ، الذين لم يتسع نطاق شهرتهم للغاية ، ولا يقوم أي منهم بالتدريس في الجامعات الكبرى، وهم يحاولون التعاون مع المثقفين والناشطين من الدول الآسيوية . وعلى سبيل المشال فقد أنجزوا كتابا عن "الايانفو" أو "المسريات " (آلاف النساء الكوريات والفتيات اللواتي كان يتم خطفهن بانتظام واستخدامهن كعاهرات من قبل العسكريين اليابانيين خلال الحرب العالمية الثانية ) يضم مساهمات من المثقفات الكوريات المتصديات لقيادة الحركة النسائية في بلادهن . وهم يؤلفون كذلك كتابا عن الاستغلال الياباني لمزارع الموز، وبالتدريج ومن خلال حركة على مستوى القاعدة تتصف بالشمول فانهم يخلقون مناخا جديدا للحرية الأكاديمية . وقد التقيت في لوس انجلوس بالعديد من المثقفين والطلاب الأمريكيين الذين تواصلوا مع هذا الجيل الياباني من المثقفين الشبان . وقبل عشر سنوات ، ولدى حواري مع خريجي الجامعات الامريكيين كانوا يتحدثون على الدوام عن المثقفين العظام مثل ساساو مار وياما وسابورو موريفاجا أما الآن فإنني ألاحظ أنهم يتحدثون عن هؤلاء المثقفين الشبان ، بل ان بعض هؤلاء الامريكيين يمضون إلى اليابان ويقيمون في المدن الصغيرة ، حيث يعملون كناشطين في مجال الاتصال بهؤلاء المثقفين الشبان ، وانني لشديد التأثر بنشاطهم .
جويل كون : لدق سؤال آخر فيما يتعلق بما ساو سيوشى، فهو قد قارن ما يعرف في اليابان بـ "شوسيتسو" بالرواية الغربية منذ بعض الوقت ووجد لكل منهما خصائص بالفة الاختلاف . فهل تجد أن هذه الخصائص مختلفة بدورك فيما يتعلق بالقراءة والتأليف (يلاحظ أن الشوسيتسو قد وصفها أوى على النحو التالي : "في اليابان هناك تقليد ياباني يعرف باسم "واتا كوشى- شوسيتسو" أو رواية الأنا التي تأثرت بالرواية الغربية . ونحن نكتب عن أنفسنا، عن كيف ننهض من نومنا، ونتناول طعام إفطارنا وما الى ذلك ، وهذا هو الواتا كوشى -شوسيتسو).
– كينزابورو أوى: نعم ، اعتقد أن سيوشى قد أصاب كبد الحقيقة . وعندما نقارن نوعية الشوسيتسو التي يتحدث ميوشمى عنها، وعندما ننظر اليها من خلال معايير النقد الدولي أو الأوروبي، فانها لا يمكن أن تصمد للنقد العالمي، فهي لا تضم عناصر الرواية المحقة . ولست أظن أن الشوسيتسو هي نوعية الخطاب الروائي الذي يحتمل نقدا ثقيل العيار، وذلك لاعتبار محدد هو أنها لم يتم إخضاعها لنقد نظري متواصل في اليابان . وهناك اعتبار آخر هوانها لم تتلق أي مداخلة نقدية قوية على الصعيد الدولي .
جويل كون : أعتقد أن سيوشى من شأنه أن يذهب الى القول بأننا إذا نحينا جانبا الاهتمامات التقويمية ، فان الشوسيتسو تنتمي الى نظام يختلف تمام الاختلاف عن ذلك الذي تنتمي اليه الرواية وبالتالي سيكون من المستحيل ، بل ومن العبثي، ان نعقد مقارنة بينهما، بغض النظر عن أيهما قد تكون أفضل من الأخرى. ومن الجلى أنه بين أعمال الشوسيتسو فإن هناك أعمالا من نوعيات متباينة ، ولكن النظر اليها من منظور نقدي يقوم على أساس فن الرواية الغربي سيثير عن طواعية ألوانا شتى من سوء الفهم .
– كينزابورو أوى: اتفق معك في ذلك ، فعلى سبيل المثال هناك من يقولون إن "حكاية جينجي" هي أول رواية في العالم . وأظن أن هذا القول غير دقيق . وقد يكون من الممكن القول إن "الكوميديا الالهية " لدانتي هي أول رواية عظيمة ومتكاملة وحقيقية من العالم ، ولكن القول إن "حكاية جينجي" هي أول رواية في العالم هو خطأ. ان هناك خلافات من حيث المفهوم بين "حكاية جينجي" وبين الرواية الأوروبية . وما يعترض عليه سيوشى هو أن الشوسيتسو اليابانية يتم تقويمها وفقأ لمعايير تبتعد عن الصرامة والتدقيق بصفة خاصة . وبمقدوري أن اتعاطف مع هذا. ان ما نحاول القيام به هو خلق فن روائي يمكن أن يطلق على ابداعاته وصف الروايات حتى إذا كانت تقاس بمعايير الروايات في اوروبا وأمريكا وآسيا وافريقيا.. الخ . واعتقد اليوم أن هناك أعدادا كبيرة من الشوسيتسو التي يمكن توصف بأنها روايات بالمعني الدولي للكلمة.
جويل كون : مثلا ؟
كينزابورو أوى: أعمال شوهي أوكا، وفي ذلك الصدد أعمالي أيضا "ضحك " وأعتقد أن بمقدورك القول إن ذلك ينطبق أيضا على أعمال ناتسومي سوسيكي.
جويل كون : فيما يتعلق بالأعمال الروائية الحديثة الاصدار، :كرت اسماء بعض الروائيين الذين يقدمون أعما لأ جيدة مثل ميناكو أوبا، ويوشيكتشي فوروى. ماذا عن هيساشى إينوى، ياسوتاكا تسو تسوى؟.
– كينزابورو أوى: أعتقد أنهما كاتبان جيدان . وهما، بالمناسبة ، من أصدقائي، وقد ظهرا خارجين مما يمكنك وضعه بالرواية الخفيفة أو الرائجة ، وهى نوع من الثقافة الأدبية الشعبية . ولكن ما يميزهما يتمثل في الحقيقة القائلة بأنهما حاولا إبداع أعمال يمكن الاعتراف بها كروايات على الصعيد العالمي، وقد قاما بهذا اعتمادا على امكانياتهما الخاصة . وهما يحاولان ابداع شىء باستخدام مناهجهما وأساليبهما الفنية وخبرتهما الخاصة . وقد كتب هيساشى إينوى عملا ينتمى الى المثبوسيتسو بعنوان "أهالي كيريكري". وباستخدام اللهجة اليابانية الشمالية الشرقية ابدع عالما قائما بذاته نوعا من الرواية الطوباوية . ومن ناحية أخرى فان ياسوتاكا تسوتسوى لجأ الى الاسلوب الفني المبالغ فيه المستخدم في السينما الكوميدية ، كوميديا الصفع والركلات ، وذلك في محاولة لكتابة رواية مغرقة في مفارقتها للطابع الياباني، ترفض المشاعر اليابانية التقليدية والقيم الاجتماعية . واعتقد أنه قد نجح الى حد معين ، واعتقد انهما كليهما قد نجحا الى حد معين .
جويل كون : أود أن أسألك عن الشخصيات العورا،، التي غالبا ما تظهر في رواياتك …
– كينزابورو أوى: آه ، نعم ، تلك إحدى عاداتي المحددة . ولست :فهمها أنا نفسي ،
فلدى هذا الدافع القوي للكتابة عن شخصيات لا يمكنها إلا أن ترى بعين واحدة ، ما أفترض أنه دافع ما بعد حداثي لكتابة النفس باعتبارها راوية وبطلا معا، وقد بدأ الأمر بروايتي القصيرة "أجوى المسخ السماوى" والتي يولد فيهبا طفل مصابا باعاقة في الرأس ، ثم هنالك البطل في "الصرخة الصامتة ". وقد أصدرت مؤخرا مجموعة من القصص القصيرة بعنوان "عندما كنت صغيرا للغاية ".. وهى قصص بها جميعها أبطال يعكسون جوانب من سيرتي الذاتية لهم مشكلات بصرية مماثلة . والشىء الغريب هو أنني استطيع الرؤية بعيني كلتيهما. ورغم ذلك ولسبب من الأسباب فإنني، فيما يبدو، قد عقدت العزم على جعل الشخصيات العوراء جزءا مهما من كتاباتي، جزءا مهما من أسلوبي الفني، ولست أفهم الأمر بصورة حقيقية ، وفي الحقيقة فإنني أشعر بما يغريني بسؤالك عن هذا الأمر. ما رأيك ؟
جويل كون : طيب في رواية "أجوى المسخ السماوي" هناك نوع من الرؤية المزدوجة ، فبعد جرح عين الراوية وفقد" للابصار باحدى عينيه ، يبدأ في رؤية أشياء عديدة محتجبة عن عيون الناس "العاديين " الذين لكل منهم عينان، والمفارقة التقليدية هي أن الأعمى كلية هو عادة الذي يبدأ في "رؤية " ما تعجز الرؤية العادية عن ابصاره، ولكن "عادتك " هذه المتعلقة بالعين الواحدة الرؤية المزدوجة تبدو كشىء آخر وذلك هو السبب في انني رغبت في سؤالك عنها.
– كينزابورو أوى: طيب ، هذه العادة التثبيتية المتعلقة بفقدان النظر في إحدى العينين هي شىء وجد لدى منذ وقت بعيد، منذ الطفولة ، انها شىء متعلق بأعتاب الشعور أو بما هو دون الوعي، أظن أنك يمكنك أن تصفه بهذا.
جويل كون : هل هي مرتبطة بتجربة خاصة ، بشىء يمكنك أن تدعوه بأنه "مسألة شخصية "؟
-كينزابورو أوى: ربما تكون هنا لمسة من التجربة الخاصة ، ولكنني لا أريدها أن تبدو كما لو أن كتابتي عل النحو الذي أقوم به تعود الى شىء حدث لي . وحتى لو كان نظري حادا فإنني لا أعتقد أن هؤلاء الأبطال العور كانوا سيختفون . وعلى أي حال فإن عيني ليست بهذا القدر من السوء. وفي الحقيقة فإن مسألة الرؤية هذه هي بالنسبة لي مسألة ميتافيزيقية . وربما بامكانك القول بأنها رمز لكيفية الكتابة . وهذه المسألة ماثلة هنالك على الدوام ، ولكن تلك هي المرة الأولى التي يطرح أحد فيها السؤال عن بصددها.
جويل كون : حقا؟
كينزابوروأوى: نعم ، فلم يحدث قط أن أثار أحد الباحثين في الأدب الذين يطرحون علي أسئلة عن أعمالي تلك المسألة . ومن العجيب أنك طرحت هذه المسألة اليوم ، فقد كنت لتوي أفكر في تلك القصة الواردة في مجموعتي بعنوان "عندما كنت صغيرا للغاية " والتي وصفت فيها عملية فقدان النظر في إحدى العينين .
روب ويلسون : أريد أن أعود الى مسألة التكنولوجيا والثقافة تلك ، أو العلاقة بين الاقتصاد والثقافة . فاليابان لها حضور قوي للغاية في المحيط الهادى من حيث الثقافة السلعية اليابانية والاستثمار في مجال العقارات . وانني لأتساءل عما اذا كان لليا بان اهتمام أوسع مطاقا بثقافات المحيط الهادى، أو بهذا المحيط بوصفه إقليما متميزا عما عداه ؟
– كينزابورو أوى: في الماضي، لم يكن اليابانيون يتطلعون الى المحيط الهادى إلا من منظور واحد، وهو المفهوم القائل بأن بمقدورهم تنظيمه لباقي الثقافات الموجودة فيه . وقد كان ذلك حلما مجنونا، وهو مجال الرخاء المشترك لمنطقة شرقي آسيا الكبرى. ومنذ ذلك الحين لم يتراء مثل هذا الحلم لليا بانيين . ولكن الحكومة منهمكة اليوم في العديد من الأنشطة التي يزعم أنها أنشطة ثقافية والتي لا علاقة لها حقا بالثقافة ، فهم يريدون ارسال لاعبي الجولف اليابانيين او الفتيات اليابانيات الى هاواي، ولكنهم لا يريدون القيام بأي شىء عن الثقافة المحقة، ولو أنهم أرادوا القيام بما له علاقة بالثقافة المحقة فان بمقدورهم اقامة تجمع ثقافي حقيقي هنا. واعتقد أن باستطاعتهم إنشاء مركز مسرحي مهم للغاية لانتاج المسرحيات اليابانية والكورية والصينية ، ولكنهم لم يقوموا بذلك . واعتقد ان منظريهم الاقتصاديين يفتقرون الى أي منظور ثقافي حقيقي. ولكن الدارسين اليابانيين الشبان الذين يجيئون الى هاواي، أو يذهبون الى لوس أنجلوس للدراسة يتعين عليهم خلق مجال جديد للتفاعل ، وقد لاحظت أن الطلاب الآسيويين عل جانب كبير من النشاط في الولايات المتحدة ، وبصفة خاصة في لوس انجلوس، فهم يرغبون في معرفة كل شىء عن علاقتنا بالثقافات الآسيوية الأخرى، ولكنني أخشى أن الطلاب اليابانيين لا يدانون في نشاطهم الطلاب القادمين من الصين أو هونج كونج أو تايوان . وآمل أن الطلاب اليابانيين سوف يكتشفون بعض المنظورات الجديدة من زملائهم الآسيويين، لانه ليست هناك أي حساسية تتعلق بالآسيويين في اليابان .
روب ويلسون : تعود آخر مرة زرت فيها هاواي إلى العام 1978، وذلك لحضور مؤتمر عن الأعراف الثقافية وتحولات انتقال الثقافة . ومن هذا المؤتمر انطلقت استجابتك الروائية بعنوان "شجرة المطر البارعة " وكذلك مقال نشر فيما بعد بعنوان "المركز والهامش ". وتبدو القصة نوعا هن الاستجابة المفعمة بالهلوسة على اجمالي مسألة التواصل بين الثقافات ، لأن هناك الكثير من عمليات سوء إدراك المفاهيم من جانب المتحدث الياباني الذي يخلط على سبيل المثال بين الشخصيات الهندية والشخصيات فهم النساء الهنديات من خلال النظر إلى نهودهن ، وما إلى ذلك كلة . وهكذا فإنني أتساءل عما إذا كان بمقدورك التعقيب على القصة من حيث ارتباطها بتجربتك هنا والنقاط التي كنت تحاول طرحها، وكذلك إيضاح ما إذا كان المقال نتاجا لتجربتك في هاواي على الاطلاق ، وكون هاواي بأسرها هامشية للثقافة الوطنية والساحة الدولية .
– كينزابورو أوى: ليست الثقافة ، في جامعة هاواي، هامشية ولا حدية ، وعندما أزور الجامعات الاخري، فانني أزور المكتبات ، واجد دائما كتبا من إصدار مطبعة جامعة هاواي. من هو المؤلف الذي أوصى كورت فونجيت بقراءة أعماله ؟.
روب ويلسون : آه ، نعم ، إنه ايان ماكميلان الذي كتب "المسخ الفخور".
– كينزابوروأوى: ليس باستطاعتي القول إنني أجد الثقافة هامشية هنا. فقد قابلت العديد من المؤلفين الرائعين هنا، مثل ماكسين هونج كينجستون وآخرين من الامتداد القاري، ومن ثم فلدي شعور متوهج الحيوية بالثقافة الكوزموبوليتانية هنا. ولكنني عندما أكون في اليابان احلم على الدوام بأماكن تتسم فيها الثقافة الهامشية بالقوة البالغة ، وذلك مرده إلى أنني ولدت في قرية صغيرة للغاية في اليابان هي مكان هامشي تماما . انها مكان شهد منذ مائه وخمسين عاما العديد من عمليات التمرد من قبل الفلاحين الفقراء، وكذلك العديد من الحوادث الغريبة . لقد أبدعوا ثقافتهم الشعبية الخاصة . لقد ولدت هناك ، ومضيت الى طوكيو، ولكنني واصلت الحلم بأماكن هامشية مثل قريتي، وفي وقت لاحق ذهبت إلى مكسيكوسيتي، حيث بقيت لمدة ستة أشهر، وكذلك ذهبت إلى استراليا.
وعندما كنت في الخارج، حاولت على الدوام الذهاب الى تلك الاماكن التي يمكن ان توجد فيها لاثقافات الهاشمية. وعندما جئت الى هاواي في أواخر السبعينيات ، بذلت على الدوام جهدا لمناقشة الثقافات الهامشية ، وأذكر بصفة خاصة الحوارات مع البرت ويفت من ساموا الغربية ، ومع وولى سونيكا من نيجيريا، وقد كرست ندرتنا لباحث الدراسات الانسانية العظيم أنا ندا كوهارا سوامي. وأعتقد أن ابنه ، أو حفيده ، هو الذي جاء من نيويورك وألقى محاضرة هنا، لم يأت فيها على ذكر كوماراسوامى ولكن الغضب استبد به لعثوره على كل هاته الفتيات اليابانيات راقدات على الرمال في ويكيكي (ضحك ). ومن كل تلك المناقشات خرجت بتحفيزي للتفكير في معنى الثقافة الهامشية ، ثم لعامين أو ثلاثة أعو ام اعتدت القاء محاضرات حول أعمال البرت وينت ، وانني لاجد أن المزيج الذي قدمه من المسيحية والميثوجرافيا البولينيزية المفرقة في طابعها التقليدي مثيرة للاهتمام تماما.
وفي وقت لاحق ، وفي عملي الموسوم "شجرة المطر البارعة " رسمت صورة لألن جينسبرج وغيره من أعضاء المؤتمر، وبصقة خاصة شاعر وكاتب مسرحي من بومباي، وهو رجل لطيف وغير عادي. ولكن من سوء الحظ ان الدراما التي يكتبها قصيرة للغاية ، وموجزة على نحو عجيب . وعندما اقمنا حفلا في غرفتي دعونا بعض الطلاب الهنود، وقد قرأوا ثلاثا من مسرحياته . وبالمناسبة فانه كاتب مسرحي يهودي. وفي البداية لم ننتبه كثيرا، ولذلك فاتنا العمل الدرامي الأول بكامله ، كنا نشرب قدحا من القهوة ، ولدى انتهائنا منه كان العمل الدرامي قد انتهى بالفعل (ضحك).
روب ويلسون : لم أسمع عن أي شىء هندي أنه قصير.
كينزابورو أوى: نعم ، عمل هندي . يهودي قصير. ولكنني اعتمدت على مناخ الحفل وذكريات محدودة من جانب عدد من المشاركين في المؤتمر وخلقت هذا العالم الجديد. وفي النصف الأول من عملي الموسوم "شجرة المطر البارعة " نجد كل شىء هناك بالطريقة التقليدية المتبعة في ددالواتا كوشى – شوسيتسو" ثم فجأة وبصورة فائقة للطبيعة تبدأ أشياء غريبة وغر عادية في الحدوث ، وتنتقل استمرارية "الواتا كوشى" أو "الأنا" التي تروى القصة . ولعلك تعرف كيف ينتقل الوعي ويغير أدواته ، ولديه ميل إلى التحرك في صورة نوبات وبدايات مفاجئة ؟ إنني استخدم دائما مثل هذه الحيل المستمدة من "الواتا كوشى – شوسيتسو" لاعطاء القارىء فكرة عن حركة الوعى.
روب ويلسون : لقد لاحظت أن "شجرة المطر البارعة " قد تأثرت على نحو عميق بعمل ويفت الموسوم "بوليولي " والذي توشك الشخصيات فيه دوما على السقوط متراجعة الى نوع من الظلام الأولى . ويربط ويفت الظلام بالميثولوجيا السامرية الاصلية والاولية ، بينما كل تلك الميثولوجيات الاخري الاكثر سطحية فرضت فرضا وهى توشك على التهاوى.
كينزابورو أوى : نعم ، عملي مماثل تماما.
روب ويلسون : ثم بعد ذلك المؤتمر الذي عقد في هاواي في العام 1978، حدث انتشار للكتابة في هاواي. وسمى الهامشي بـ "المحلي " بمعنى المحلي الذي تم ليه أو تغييره في غمار العلاقة بالقومي كنوع من الأساس الثقافي المميز الذي ينبغي ان يؤكد لفته الخاصة ونوعية اعرافه الخاصة . كيف ترى العلاقة اليابانية بهاواي والمحيط الهادى كاقليم مميز ثقافيا.
– كينزابورو أوى: يعتبر أبناء اوكيناوا الذين هاجروا الى هاواي عاملا محوريا في علاقتنا بالمحيط الهادي. وهذا أمر يستبد بي الشفف لمعرفة المزيد عنه . وهناك دراسات يابانية عديدة عن أبناء اوكيناوا المقيمين في هاواي. فعلى سبيل المشال ، وفي العام 1981 صدرت دراسة بعنوان "أوكيناون اوتشيناتسو" أو "ابناء اوكيناوا المقيمون في هاواي". كذلك فان الكثير من مثقفي أوكيناوا يحضرون الى هاواي الآن لجمع مواد ومعلومات متعلقة بأبناء أوكيناوا المقيمين في هاواي. وأتوقع أنه ستظهر ذات يوم بعض الدراسات المثيرة للاهتمام للغاية كنتيجة لهذا الجهد. وفي اليابان ينظر المؤرخون على الدوام الى الثقافة اليابانية بحسبانها ثقافة شديدة السكون ذات هيكل رأسي للغاية ، وهكذا فان هناك اهتماما محدودا للغاية بالتنوع الأفقي. ولكنني أعتقد أن الباحثين قد بداوا الآن يقدمون دراسات عن الثقافة اليابانية البحرية والمرتبطة بصيد السمك قد تبدأ في تغيير النحو الذي ينظر به الى التاريخ الياباني وعلينا ان ننظر الى انفسنا، اليابان اقصد، على الصعيد التاريخي كجزء لا يتجزأ من المحيط الهادي. ولم يكتب أحد بعد مثل هذه الدراسة ، ولكنني آمل أنا تدريجيا سيكتب تاريخ لليابان مع كتابة ثقافة المحيط الهادي. وفي هذا التاريخ ستحتل اوكيناوا مكانة بارزة .
روب ويلسون : هل هناك أي قضايا لم نطرحها تود أن تناقشها؟
– كينزابورو أوى: هذه هي المرة الأولى التي اتحدث فيها عن هذا، ولكنني أشعر بانني كمؤلف اقف في غمار ازمة هي الاكثر اهمية . فعندما بدأت الكتابة لأول مرة قمت بذلك بدون أي منهاجية او مادة يعتد بأهميتها. ولكنني واصلت الكتابة على امتدادا حوالي ثلاثين عاما، اكتشفت خلالها الكثير من النظرية الادبية ، من قبيل ما كتبه ميخائيل باختين ، وجاستون بشلار، وما سو سيوشى، وادوارد سعيد و فراريك جيسون . وخضت غمار تجربة العديد من المشكلات السياسية ، وبالطبع ، ولد لي طفل يعاني من مشكلة خطيرة في المخ ، واصلت الكتابة عنه على امتداد الأعوام ، وعندما وصلت الى فهم مشكلة الهامشي والمركز، خلقت أسطورة قريتي في شيكوكو، وأوكيناوا، ومكسيكوسيتي، وحاولت تفصيل القول في نظريتي الخاصة عن الأدب والتأليف . ولكنني اكتشفت تدريجيا أنني أكتب على الدوام من منظور المتكلم المفرد، وقد قمت بذلك على امتداد ما يزيد على ثلاثين عاما. والان تواجهني مسألة أساسية للغاية حول كتاباتي، فالكتابة على الدوام من منظور المتكلم تشبه الوقوف أمام حافة هوة ، ولذلك يتعين علي أن أغير بصورة حادة طريقتي في الكتابة ، ولدي الكثير من مادة الكتابة ومخزون من الصور واللغة التشخيصية ، ولكنني لم أتمكن من كتابة رواية بضمير المتكلم لمدة ثلاث 0سنوات . واذا تمكنت من تجاوز هذا الانقطاع فانني اعتقد انه بوسعي ان اصبح الكاتب الذي يتصوره ، سيوشى في اهابي. ولكنني الآن اعاني من الانقطاع ، وانني اشعر بهذا الحزن الغامر ككاتب . وفي كل يوم أنهض في وقت مبكر للغاية ، في الساعة الثانية او الثالثة بعد انتصاف الليل ، وأفكر في مشكلة كتابة رواية .
روب ويلسون : إنني على يقين من أنك ستتغلب على هذه المشكلة ، وستتجاوز بنفسك ابداعك السابق ، ونحن نتطلع إلى هذا الابتكار الجديد، ونشكرك على مد جسور هذا الحوار بين شيكوكو وطوكيو وهونولولو والعالم بأسره .
– كينزابورو أوى: لعلك تعلم أن القائمين باجراء الحوارات من اليابانيين لم يطرحوا علي قط هذه الأنواع من الاسئلة .
كامل يوسف حسين : مترجم وباحث في الادب الياباني.