معمّر بن علي التوبي
كاتب وباحث عماني
التجربة الإيمانية التي أحاول عرضها بشكل مختصر في هذا المقال أراها أقرب ما تكون محاولة تأملية تعكس رؤيتي الخاصة عن الإيمان مبنية وفق معرفة نسبية سابقة وتأملات حائرة، محاولًا في الوقت نفسه الابتعاد -قدر الإمكان- عن النزعة الذاتية التي تدفعنا أحيانًا كثيرة إلى دائرة التحيز المعرفي الممزوج بمستودعات المعرفة السابقة التي لا تدع مجالًا للشك في أننا نتجه اتجاهًا دغمائيًا صِرفًا يُؤسسُ لفردانية تحاول أن تشذّ بأفكارها عن الفرضيات والنظريات الإنسانية السابقة والمتاحة (الأكثر رواجًا)؛ لنجد أنفسنا في تيهٍ معرفي ينقلنا إلى مستويات وعي متباينة لا يمكن أن نخرجَ منها إلا بطريقة البحث عن ماهية المعرفة وجوهرها المطلق، وهنا أقرب ما يمكن أن نصف فيه تجربتنا أنّها وسيلة بدايتها التجرد المعرفي عبر تطبيق الشك المعرفي حتى بلوغ درجة الإيمان المطلق معرفيًا وروحيًا، وهي رحلة من النسبية إلى المطلق.
أبدأ بمحاولتي في فهم معنى الإيمان فهمًا يتوافق مع المنطلقات العقلية التي تتساير مع مستوى الوعي الإنساني كون أنّ بعضنا يرى الإيمان بمفهومه الشمولي المتعلق برؤيتنا ووعينا بالأشياء والأفكار بما فيها الظواهر المعرفية المتعددة، ولكننا في مآلنا الحالي فإنّ تجربتنا الإيمانية نحصرها فيما يتعلق بالجانب الديني كون أنّ الإيمان أكثر ما يرتبط وجوده بقضية الدين الذي هو نتيجة حتمية تَستَفِيضُ تفاصيلها وممارساتها (شعائرها) بعد مرحلة إيمانية أقرب ما يمكن أن نصفها بالشعورية في وهلتها الأولى واليقينية في مراحلها العليا؛ فلا ممارسة تعبدية تتسع ويُقبل بها دون الضرورة الإيمانية التي تسبق التطبيق. نجد أنّ معنى الإيمان هو بداية الشعور الداخلي المستند إلى الحواس الباطنية مثل الحب والنقص والجوع وغيرها من الحواس الباطنية1 الذي يقتضي وجوده وجود العقل الواعي الباحث عن معنى ماهيته؛ لتبدأ بعدها ترجمة عقلية لهذا الشعور تتمثل في البحث المضني العميق عن معنى كل شيء يؤسس لهذا العقل الباحث تأقلمًا وتقبلًا في بلوغ مرحلة الوحدانية التي ترى أنّ كلّ شيء متصل -في أصله- بالمطلق الواحد، وهذا المطلق الواحد لا بُدَّ أن يكون متجردًا من جميع الأسباب والتأثيرات الفيزيائية. نصل هنا إلى فكرة مفادها أن الإيمان لا يُحّدُ وجوده وجوهره المطلق بحدود العقل النسبية؛ حينها لا يمكن أن نقيس حقيقة الإيمان بناءً مطلقًا على معايير نظرية المعرفة سواء العقلانية أو التجريبية؛ فالبديهيات لا تحتاج إلى برهان ليبرهن وجودها؛ فالخالق يُدرك عقلًا وعلمًا من خلال خلقه، ويُدرك بداهة من خلال مسلَّمات مثل مبادئ السبيبة والجزء ينتمي إلى الكل، ولكن هذه الأدوات المعرفية يمكن أن ترشدنا إلى تفسير الإيمان.
حين نحاول أن نستخرج هذا الشعور الداخلي الذي نعرفه بالإيمان؛ فالبداية تكون في البحث عن سبل الاتصال والتناغم العميق وهذا ما يمكن أن نطلق عليه التجربة الإيمانية التي لا يمكن أن تُحصر في وسيلة أو طريقة واحدة؛ فمن خلال التجربة الإنسانية في الإيمان نجد أنّ الوسائل متعددة ومتباينة وأهمها الطرق التي حددها الدين مثل الصلاة والذكر ونراها تارة في التجارب أو الطرق مثل الطرق الصوفية التي ترى ضرورة حدوث السلوك العملي للإيمان دون الاكتفاء بالتأمل العقلي، وكذلك في التجارب الفردانية التي تعود إلى تجربة ذاتية -وإن لم نعلم تفاصيلها الدقيقة- وعادة هذه التجارب الذاتية تعتمد اعتمادًا كبيرًا على محاولة التأمل العميق بواسطة رفع مستوى الوعي وفقًا لمبدأ العقل الممتد (Extended Mind) الذي يحاول المتأمل من خلالها أن يتصل بالوجود بواسطة عقله الممتد والمتصل -أصلًا- بكل شيء لتبدأ عملية من الترابط الذي يصل العقل والوعي الفردي بالعقل والوعي الكوني، وهذه مرحلة عميقة ليس من السهل بلوغها، وهذا حال أصحاب التجربة الإيمانية العميقة مثل الأنبياء (المصطفين). قد يكون من الصعب فهم أسس هذه العملية التأملية العميقة التي -حسب ما أرى- تشرح إحدى الطرق أو التجارب الإيمانية الفردانية التي لا تحتاج في غالبها إلى ممارسة جماعية بل إنها تعتمد على عزلة فردانية (ذاتية) يحدث فيها التأمل العميق والتفكر والتدبر والشعور بالوجود ومحاولة الاتصال بالوجود؛ فهذه العزلة (المؤقتة) تمنح هذه النفس فرصة اكتشاف الذات واكتشاف ما هو خارج المنظومة المادية؛ فيرتقي فيها الوعي كونه بات متصلًا بالوعي الكوني، وهذه الممارسة التأملية يمكن أن نجد من قام بتجربتها مثل الحالة التأملية التي مارسها النبي محمد صلى الله عليه وسلم قبل بعثته، وكثير من المفكرين والفلاسفة مثل أبي حامد الغزالي.
تحاول فرضية العقل الممتد أن تسبر ماهية الإيمان بإطار علمي وفلسفي في آن واحد، وهذه الفرضية تقترح أنّ أطر العقل وحدوده ممتدة خارج الرأس البشري (الدماغ) ليكون جُزْءًا لا يتجزأ من منظومة العقل الكوني الممتد إلا أنّ القصور العقلي من حيث قصور تفكيره وتأمله العميق لا يسمح لهذا العقل الفردي بالتوسع والامتداد الكبير (العميق) وهذا تعليل ندرة حصول بعض القدرات العقلية مثل التخاطر (Telepathy) وحدوث الرؤى المنامية التي قد تتحقق (غالبًا) والإلهام الفكري والشعري والفني، ولهذا من السهل أن نقول أنّ تحقق العقل الممتد وبلوغه مرحلة الاتصال بالعقل الكوني هي مرحلة تتطلب ممارسة تأملية عالية (مثل التي شرحناها في السطور السابقة)؛ فكلما زاد التأمل والتفكر زادت رقعة الامتداد العقلي ومساحته؛ وحينها يزيد مستوى الوعي -الذي أراه مفهومًا مساويًا لمعنى العقل كما وضحته في كتابي “بين العلم والإيمان”2 وهذا ما يمكن أن نفسر به حدوث الحالة أو الاستفاضة الإيمانية التي لا نختلف في أنّ غاية العملية التأملية تحديد وجهة هذا الإيمان وماهيته إلا أننا نجد أنّ كثيرًا من المؤمنين (دينيًا) أمثال الأنبياء والصالحين قد مرّوا بهذه التجربة التي -كما ذكرت- لا أعرف لها تفسيرًا دقيقًا من الناحية العلمية إلا من خلال فهمي لمبدأ العقل الممتد وعلاقته بالعقل والوعي الكوني. العقل الممتد وآلية عمله وتواصله مع العقل (الوعي) الكوني مرتبط بنظام الذبذبات أو الترددات (Frequencies) الذي يمكن فهمه من خلال مثال المذياع وتردداته الخاصة بالقناة الإذاعية المعينة؛ فحين ترغب في سماع قناة معينة فإنّك ستبحث عن تردد يخص تلك القناة، وهذا ما يحدث في حالة العقل الفردي الذي لا يمكن حدُّ حيّزه الوجودي داخل النظام البيولوجي الإنساني (الدماغ) بل هو أشبه بنظام ترددي غير مرئي يحاول أن يتصل بالوجود والعالم الخارجي؛ فيلتقط الأفكار، ويكتسب المعرفة وينال الإلهام. لا أجد مناصًا من تقبلي للفكرة القائلة إن الممارسة العقلية الواعية هي أيضا تجربة إيمانية تكشف للنفس شواهد وبراهين الإيمان وهو الشعور، وبعدها اليقين بالضرورات الإيمانية وأهمها وأولها وجود الخالق وما يتصل به من الضرورات الأخرى مثل العدالة الأبدية المطلقة بعد الحياة.
الحالة الإيمانية التي يمكن أن يصلها بعض ممن يمارس إحدى الطرق التأملية التي يمكن أن نطلق عليها درجة اليقين هي حالة -في أصلها- فطرية معرفتها سابقة نحس بوجودها ولكنها لن تتضح ماهيتها الكاملة دون بلوغ مرحلة الوعي العالي التي يمكن بلوغها بطرق عديدة مثل التي شرحناها آنفًا، ولا غرابة أن نتفق -نسبيًا- مع الفرضية التي تقترح وجود المادة الوراثية الخاصة بوجود الله (God Gene) التي تُبقي الإنسان -عادة في حالات التأمل أو الممارسة التعبدية الخاشعة أو حتى الحالات الطارئة مثل التي تحدث حتى عند منكري وجود الله، وأورد لنا القرآن الكريم هذه المشاهد- على حالة إيمان متجذّر وخفي غير مُفسَّر علميًا. هذه المُوَرّثَة (Gene) تناولها عدد من الأبحاث والدراسات العلمية أحدها كتاب بعنوان (The God Gene: How Faith is hardwired into our Genes) ومؤلفه العالم الأمريكي دين هامر(Dean Hamer). سواء اتفقنا أو اعترضنا أو حتى تشككنا في حقيقة وجود هذا الجين فواقع إدراك ضرورة وجود الخالق حالة يشعر بوجودها الإنسان العاقل وينشط هذا الشعور ويستيقظ في ظروف خاصة دون غيرها، ومن الناحية الفلسفية نجد أن هذه الضرورة أحد مكونات العقل الإنساني التي ارتبطت به سواء قلنا بفطرية هذا الارتباط أم ذهبنا مذهب كانط (Immanuel Kant) في القول بمقولات العقل المسبقة التي أرى أنّ الشعور بحتمية وجود الله هو إحدى الضرورات العقلية في الإنسان مثلها مثل ضرورة حتمية الحركة والصيرورة الوجودية (الكونية) التي ترجمها العقل إلى الزمان والمكان وضرورة التواصل واللسان الناطق التي طورها العقل إلى اللغة، وعندما نعتقد بوجود ضرورة وجود الله فهي تعني تفعيل العقل للحالة الإيمانية التي تنتظر الاستيقاظ؛ لهذا وُجِدَ الدين ليرفد الشعور الإيماني ويقوده من تجربة عقلية إلى تجربة عملية تتلخص فيها ضرورات أخرى مثل الأخلاق والتقوى والانضباط الذاتي الذي يحقق الغاية السامية (السعادة).
من السهل أن نرى قضية العقل وارتباطه بعالم الأفكار مثل التجربة الإيمانية التي هي قضية يَصعُب على الفلسفة المادية والتجريبية مجاراتها وتفسير ماهيتها المعقدة بشكل واضح وكامل، وكما ذكرنا أنّ مفهوم العقل الفردي الممتد وصولًا إلى الوعي الكوني هو تجاوز للمفاهيم والقوانين البيولوجية، لهذا من الصعب أن نجعل كل الحمل في تفسيرنا أو حتى محاولتنا خوض التجربة الإيمانية على المنهج العقلي دون المنهج الحسي (التجريبي) كون القضايا المعرفية العقلية غير الظاهرة تحتاج إلى دليل حسي سواء ظاهري أم باطني لترجيح يقينية القضايا المعرفية النسبية وإلا فهو مجرد رأي يحتمل الخطأ والصواب كون التفكير العقلي المجرد من الدليل البديهي أو الحسي المجرب لا يمكن أن يكون معرفة يقينية، وحينها في حالة تجربتنا الإيمانية -خصوصًا حينما نحاول أن ننقل الشعور الإيماني ونترجمه إلى غيرنا- يستوجب إسناد الشعور الإيماني الذي ندركه بالعقل إلى دليل حسي ندركه بالحواس الباطنية وبعدها بالتجربة الإيمانية التي نستمد أسسها من المنهج القرآني؛ فحينها نحن نؤسس لمنطق بديهي في محاولتنا لتفسير الإيمان ولأجل التناغم معه فكرًا وحسًا (تجربة).
التجربة الإيمانية وفق المنطلق الديني يمكن ملاحظتها وفهم أسسها النظرية والتطبيقية عبر المنهج القرآني في قالب فريد من نوعه حوى الأطر الفلسفية والعلمية بنسق تميّزَ به القرآن؛ فنجد الآيات المكية تؤسس لقواعد إيمانية تعكس المبادئ الكبرى للضرورة الإيمانية من خلال ترسيخ مفهوم الخالق وعظمته وخلقِه وتبيان غاية الوجود وسبل النجاة، وتصور مشاهد الآخرة بصورة فريدة من نوعها تتناسب مع قدرات الإنسان العقلية والحسية (الباطنية). تأتي بعدها الآيات المدنية التي تترجم هذا التنظير الإيماني إلى واقع عملي يتمثل في الممارسات التعبدية مثل الصلاة والذكر والتقوى والإخلاص وغيرها لتعكس الشعور الإيماني الداخلي.
الخلاصة التي يمكن أن نرسو عليها هي أنّ تجربة الإيمان الخالصة لا تتم كاملة بواسطة المنهج العقلي (العقلاني)، ولا من خلال المنهج التجريبي (الحسي) دون اللجوء إلى المنهج الديني كون المنهجين العقلاني والتجريبي يؤسسان للتفسير العقلي والبرهاني دون القدرة على الولوج إلى جوهر الإيمان، بينما استطاع الدين بواسطة القرآن التعاطي مع قضية الإيمان على أنها ضرورة متصلة بعقلنا الواعي (الكوني) وأمكن له أن ينقل ماهية الإيمان من النطاق الفكري والميتافيزيقي (الغيبي) إلى التجربة الحسية شعورًا ويقينًا وتطبيقًا؛ فماهية الإيمان ترتكز على مسلّمة الشعور اليقيني بضرورة وجود الخالق والشعور به مَنوط بوجود العقل الواعي الذي يفسر مبدأ “الاصطفاء الإنساني” الذي أراده الله للإنسان من خلال إنزاله إلى منزلة التكليف المُترتب عليها وجود العقل الذي يمكن أن نعرّفه بالوعي ووجود الإيمان، وهذه معرفة تُدركُ بالعقل وبرهانها الشعور بضرورة وجود الخالق وما يرتبط به من الحس الأخلاقي والميتافيزيقي، إلا أنّ المنهج التجريبي يتيح للإنسان الراغب في اكتشاف جوهر الإيمان العبور إلى مدارج الإيمان وأسراره عن طريق التجارب الإيمانية مثل التأمل والتدبر، ولهذا نجد أنّ المنهج القرآني قد جمع كلا المنهجين (العقلاني والتجريبي) في قالب فريد من نوعه من خلال آياته المكية والمدنية الدال بعضها على منهج التفكر والتأمل، والدال بعضها الآخر على أسس الممارسة التعبدية التي تترجم النظرية الإيمانية إلى تطبيق عملي تستكين إليه النفس وتطمئن، وذلك لما يناسب فطرتها الإنسانية الأخلاقية.