أنا.. من أنا؟ أنا الذي قبض قبضة من أثر العابرين,وعدت لكم بصور عما رأيت. عائدا لكم رغما عني، راغبا عن حسن إصغائكم مكتفيا بلذة تذكر ما حدث تاركا الليالي الهرمة تلقي بأسرارها للهباء.
متدليا بحبلي السري الى عالمكم.. أفرخ أبكي راغبا في العودة الى زمان عشته ومكان رأيته… ولكن هيهات فإن ما كان ثانية لن يكون. ليس أمامي الآن إلا محاولة تأييد اللحظة وادامة الصرخة.
في البدء كانت الحركة..
إن الانسان يسافر، لكن في لحظة ما طال الزمان أم قصر، تأخذ بتلابيب النفس حاجة غريزية للعودة للمكان الذي كان… وللزمان الذي منحه الروح, حاجة لاتقهر تعرج به الى مدينته الفاضلة، او تسير به الى كهفه الأول !.
ها هو الممر المضيق الوعر الذي صعد بي عبر الأحراش المتشابكة يوصلني الى كهفي الأول… خطوات وأزيح آخر الأغصان التي تحجب الصفاء التام ! اضع قدمي على العشب الناعم وأخطو بحذر دون أن أسمع وقعا لخطواتي… الشمس والنجوم بلا بريق تحت سماء زرقاء هادئة… كل ما حول ساكن سكون الوجود لحظة الخلق.
نقلت قدمي – لم أعد أذكر اليمني أم اليسرى كانت -… وهويت !ما ألذ الهاوية, كان الصمت يدخل مسام جلدي كدخول الهواء في إناء مفرغ, فلا يعود الصمت صمتا، امتلأت بالعدم, وظلت عيناي مفتوحتين على اتساعهما تحدقان الى نقطة ثابتة في أعماق ليل أبدي، بينما تصاعد من أعماقي صوت خافت سمعته مبل بوضوح.
[ امر كان….
وأمر يكون…
وأمر لا يكون أبدا.]
هدوء, لا خوف ولا حذر، لا حزن ولا فرح, لا وجود ولا عدم.. ويظل صدى الصوت الخافت يطاردني بالوحشة, حاولت أن أمد جسورا شعرت أنها انقطعت بيني وبين بدئي يوم كنت ذرة في عالم الذر… كانت خواطري متعددة أستجمعها من تجاريب وذكريات وحاضر، لذا جاءت في صور مبتورة مليئة بالألغاز… زادت وحشتي!.
[ امر كان……
وأمر يكون….
وأمر لا يكون أبدا.]
صدى النداء سمعته بوضوح تام, جاء من تلك النقطة التي ظننتها ثابتة في الليل الأبدي.
أنا وتر مشدود على هاوية مسوق في سباق لم أختره أنا، مسحت عيني لأصفي جيدا، صارت نقطة الظلام وردة مضيئة, وأحسست أني منذور لها:
[وردة الورود،
وردة العالم كله,
تلك التي أربكت العشاق !
غادرت مكانها،
منزلقة بين النجوم البيضاء
لتجذبني نحوها!]
لن يسمع بعد وجيب القلوب من حولي وهي تصرخ صرختها الأخيرة.
[إننا قد لا نموت ولا نحيا!]
لا أدري كيف أتوا.. من أين جاءوا… ولا أدري لماذا هوت الأفضل والأسرع من بينهم,كانت قدماي سوطا ورأسي سمكة تطير الى مصيرها.. ثم لا أدري أين ذهبوا ولا كيف اختفوا.
عرفت الوردة أني الوحيد الصامت بينهم حين صرخوا صرختهم الأخيرة, وعرفت أني لها لا محالة.
قالت وردة الورود: [لاتكن واثقا من شيء أبدا، عرفت من مشوا على الماء باليقين, وعرفت أمثالك ماتوا بالعطش وهم أفضل من أولئك يقينا!]
وتموج صوتها مشعلا قوس قزح عند أقصى الأفق. أكلتني الحيرة, لا أدري إن كنت الأفضل أم الأقل حظا… حنقا مقهورا حدقت بقوس قزح حتى شلعتها من أركانها، انتفضت قوس قزح واستدارت, حزمت النجوم عن الأفق الأقصى وقذفتها الى العدم, فارتعبت صارت السماء وردة كالدهان, دنت مني وردة الورود، تلك التي أربكتني, دنت وتدلت عارية من خيلائها، فتطاولت وأضاءت لي مدينتي الفاضلة متحررة من أسرارها، صارت قاب قوسين أو أدنى، فاقتربت, ورأيت قدري متحررا من أسراره, بلا ملامح واضحة, فهربت.. هربت الى حضن وردتي ودخلت !
هدوء. لا حب ولا كره, لا وجود ولا عدم, لا أسئلة, هاهو الممر الضيق مرة أخرى، إنه يقودني عبر البتلات المتشابكة, كل شي ء حولي ساكن سكون الوجود لحظة العدم, مددت يدي الى ميسم وردتي، رافعا كلي عن بتلتها الزاهية – لم أعد أدري اليد اليسرى أم اليمنى كانت – وصعدت !.. البرق لمع قاذفا بالرعد على مدينتي الفاضلة فتزلزلت, المطر انهمر على قدري فأورق, وذابت أناي في أعماق نار أزلية.
أخذ القوس باريها..
لم أعد أنا أنا، ولم تعد الوردة وردة, ما في الجبة إلا… انزلق الشي ء في عتمة الكهف على مزلاج صرخة أخيرة: [قد لا نموت ولا فحيا]
صفير, صفير الهاوية, اتمنى قليلا من الخوف.
صفير, صفير الرجاء، وهو يدخل مسام جلدي الجديد، أتشهى قبسة وجد.. رفة هدب… رجفة…. لا شي ء إلا وجيب قلب بدأ ينبض الآن, النبض يطو صوته, الصوت طبل يصم الآذان في هذا القفر الموحش, الصوت يرشح من مسام جلدي فيستحيل الى صدى صادي،، أستشعر نسغ الرجاء في داخلي وأدرك معنى أن أكون وحيدا… أرتجف وتظل عيناي مفتوحتين على اتساعهما مشدودتين الى نقطة برق توشك أن تنفجر في أعماق هذا الليل… بينما تصاعد من أعماقي صوت خافت, سمعته بوضوح كأنما صوتها:
[ فأمر ?ان: محبتي لك.
وأمر يكون: تواني وتذوب في.
وأمر لا يكون: لا تعرفني معرفة أبدا…]
ذلك كله تجمع الآن في دافعا للبحث عن نصف الدائرة الأزلية ليكتمل التكوين… هيهات ذلك طه تجمع الآن في وجدا، ربما لأني لم أنسج للحب صمتا يليق به, وجئت لأرمي أغنية في الهواء فكانت صرخة, وكيف لا تكون أغنية الولادة صرخة… من أين ستجيء الأغنية وأنتم ستقطعون هذا الحبل المدلى الآن من سرتي… يا للوحشة لا مشاعر ولا أشعار، لا قدر ولا إرادة
آه، كم أحن الى بدايتي ولهفة الشوق في أول مسعاي، وقدرة الإرادة في مستهل خطاي!.
هاشم غرايبة (كاتب من الاردن)