حملناه في قلوبنا وتفر قنا…
ترى هل توز عناه إلى هذا الحد ? حتى لم يبق منه شيء?
فجأة تذك رنا أننا بالغنا في التفر ق وأنه ينبغي لنا الاجتماع لنعيد إلى علي وحدته
علينا أن نعيده كاملا ما أمكن, كما كان قبل أن نشت ته.
ماذا بقي من علي بن عاشور? وماذا كان قبل أن نتوزعه?
كان علي بن عاشور صموتا : يتبدى معناه حين يكتب, نحيلا كالقلم: تظهر قوته حين يعمل, رقيقا شفافا كأنه نسغة الحبر, بلون الدم.
كان علي بن عاشور صامتا دائما; كان ساهما هادئا إلا حين يقر ر فعل شيء, فيكون; يفعله حقا , بصمت وثقة, كأفضل ما يكون الفعل.
كان علي بن عاشور كتابة فحسب; كان كتابة معظمها بقي خارج الصحافة ودور النشر. كتب على نفسه في أوراقه الخاصة; لم يدخل في دائرة التداول العام, فس لم من النشر الرخيص, وصان نفسه من لوك ألسنة »النقاد«.
جمع مقالاته التي رفضتها الصحف في كتاب لم ي نشر حتى الساعة; هل بسبب عنوانه »لكمات نقدية« أم بسبب وجع كلماته الموجعة.
رسائله التي بعثها إلى أصدقائه من مختلف الأماكن, من سجنه الصغير في باريس إلى سجنه الكبير في العالم العربي وفي العالم, حملت أطراف حقيقته الموز عة هنا وهناك.
ولئن كنت آليت على نفسي العمل على نشر نصه النقدي, فبانتظار الوفاء بالوعد كاملا ; هنا أجمع نتفا من فلذات قلم علي المنثورة التي استطعت جمعها:
1) البيان الذي كان وزعه على بعض المثقفين العرب, يحد د فيه رؤيته السياسية والفكرية ويرد على ما كان ي شاع عنه, ما زلت أحتفظ به بين أوراق قديمة. ولا ننس أن هذا البيان ك تب قبل عشرين عاما , ومع ذلك فلا يزال يحتفظ بنظرة قريبة جدا من الواقع الذي آلت إليه الأمور, ولم يتوقعها إلا قلة قليلة جدا كان علي واحدا بينها.
2) الرسالة التي بعث بها إلي من سجنه تشبه رسائله التي بعث بها إلى أصدقاء آخرين. لكنها تنفرد بدفق هائل من الصراحة.
3) الحديث المسجل الذي كان موضوع سهرة طويلة بيننا, جعلت منه موضوعا لحوار صحفي لم يعرف طريقه إلى النشر مذ ذاك, لكنه ظل يحتل بين أوراقي مكانة مهمة.
4) ثمة صديق آخر أود أن أقرنه بهذه السيرة الموجزة, لا لأن روابط الصداقة التي جمعتنا نحن الثلاثة كانت قوية فحسب, بل لأن قوة المصير بالذات التي جمعتهما كانت أقوى مما أرغب أنا نفسي بفعله:
فمحمد بوشحيط الكاتب والصحفي الجزائري المولود في القل , بولاية سكيكدة بالشرق الجزائري, خرج من الجزائر بعد الاستقلال في بعثة دراسية, ووجد نفسه كعلي بن عاشور, في قلب الحلم العربي, حيث تعرف عليه في ليبيا, وتابعا دراستهما معا في سوريا, ثم التقيا من جديد في باريس… فناضلا معا من أجل قضايا تحرر الشعوب العربية, وفي مقد متها الشعب الفلسطيني… فكان أن وجد نفسه مبعدا من عدة دول عربية. فأقام في لبنان وكتب في صحفه ومجلاته, ثم في مدريد ففي بغداد, ثم ساعده بعض الأصدقاء على المجيء إلى باريس حيث أقام خمسة أشهر فقط قضاها في الكتابة, ثم ما لبث أن عاد إلى الجزائر بعد جولة في العالم العربي استغرقت ستة عشر عاما .
توفي محمد بوشحيط بعد علي بن عاشور بثلاثة أسابيع فقط, تاركا وراءه ثلاثة أطفال وأسرته الفقيرة التي لم يستطع إعالتها, ومجموعة مقالات في الأدب والسياسة, وكتابا بعنوان: »الكتابة لحظة وعي – مقالات نقدية«.
* مقدمة
ما أزال أذكر كيف تزامن الحديث مع علي بن عاشور مع حدث تاريخي مهم, هو وصول اليسار الاشتراكي الفرنسي إلى السلطة. فقد صادف يوم إنهائنا تسجيل هذا الحديث (على عدة مراحل) احتفالات الباستيل, ابتهاجا بوصول فرانسوا ميتران إلى رئاسة الجمهورية الفرنسية. مضى أكثر من عشرين سنة على هذا اللقاء جرى فيها ما جرى من أحداث تاريخية, بعضها مهم وبعضها أقل أهمية, كانهيار الاتحاد السوفييتي والاجتياح الإسرائيلي للبنان واندلاع أحداث الجزائر وحرب الخليج واتفاقيات السلام الإسرائيلي الفلسطيني… إلخ.. رافقتها تغيرات في الفكر السياسي والثقافي عموما, لكن يبقى حديث علي بن عاشور محتفظا بحيوية فكرية, وتظل لهذا الناقد الأدبي والسياسي على وجه خاص صورة حية.
هذا الحديث مع علي بن عاشور وكتابه »لكمات نقدية في الأدب والحياة« وحدهما لم ينشرا رغم تقادم عهدهما, وبانتظار صدور كتابه (وهو في عهدة سهيل إدريس, صاحب دار الآداب بيروت) ننشر حديثه الذي يضم سيرة حياته مختصرة, وكذا موجز لأفكاره النقدية والأدبية والسياسية.
رحل علي بن عاشور في منتصف فبراير 1996, وعمره 46 سنة, بعد أن قضى حياة مليئة بالترحل, شريدا بعد أن طردت فرنسا أهله وأسرته من الشرق الجزائري , فعاش بين تونس, حيث كانت نشأته, وليبيا وسوريا حيث درس الطب , ولبنان الذي عمل في صحافته, وفرنسا التي خاض فيها مجالات شتى.
علي بن عاشور كاتب جزائري معروف في المشرق أكثر منه في المغرب العربي. ولد »ذات فجر من آخر أيام العام 1950, في إحدى قرى تونس, حيث كان والده لاجئا«. وهناك أتم دراسته الابتدائية ليعود غداة استقلال الجزائر, شأن كل اللاجئين إلى الأرض التي اغتصبها المستعمر الفرنسي. هناك بدأ دراسته الإعدادية في معهد ابن خلدون ببلكور بالجزائر العاصمة, حيث قضى عاما وبعض أشهر, ليجد نفسه بعد ذلك ضمن البعثة الدراسية التي أرسلتها الجزائر إلى ليبيا عام 1964, فأتم بها دراسته الإعدادية والثانوية. وفي عام 1969, توجه مع عدد من حملة الباكالوريا إلى جامعة دمشق, فانتسب إلى كلية الطب , لكنه رغم اجتيازه المرحلة الصعبة من الدراسة تركها »للرهبان« حسب تعبيره »وازدادت كراهيتي لهذه الكلية- وكل مؤسسة تعليمية أخرى- لأنها كانت تأخذ كل وقت الطالب ولا تترك له مجالا لاكتشاف شيء, حتى نفسه بالذات تبقى غريبة عليه. فتركتها غير نادم لأغوص في أعماق الحياة سابرا أغوارها, لاع با أحيانا وجادا في أكثر الأحيان, وغادرت ؛جامع دمشق«- كما كنا نسم ي الجامعة آنذاك عام 1974.
في عام 1971, انتخب سكرتيرا لرابطة طلاب المغرب العربي بدمشق, ثم رئيسا لها حتى العام النقابي 1974-1975, كما كان سكرتيرا لمجلس المنظمات الطلابية العربية في سوريا, وبعد أربع سنوات من النشاط اليومي المتواصل, سئم العمل النقابي الذي أعطاه كل جهده, خدمة لطلاب المغرب العربي, ولاسيما أولئك الذين كان ضيق ذات اليد يحول بينهم وبين إتمام دراستهم. ونفسح له المجال ليحدثنا عن تلك السنوات التي قضاها في العمل النقابي الطلابي. بدأ العمل كصحفي في بيروت عام 1975 عندما اضطر للهرب من سوريا ذات ليلة, ليعمل في مجلة »الهدف« البيروتية, محررا للشؤون العربية والدولية. كان نادرا ما ينشر فيها مقالا ثقافيا. في الوقت نفسه كتب في العديد من الجرائد اليومية والمجلات الأسبوعية أثناء حرب السنتين في لبنان (1975-1976), تلك الحرب التي دمرت الإنسان والبنيان أيضا, والتي عايشها بكل تفاصيلها. في الفترة نفسها كتب عددا من الكراسات. عندما أيقن ابن عاشور أن البقاء في لبنان بات مستحيلا, شد الرحال إلى باريس. ومع صدور مجلة »المستقبل« الأسبوعية في باريس, بدأ عمله مسؤولا عن القسم الثقافي فيها, وذلك عام 1977 لكنه لم يبق في عمله هذا إلا أشهرا قليلة »فسرعان ما شعرت أن مسؤولية القسم تأخذ كل وقتي, وتبلد عقلي فاخترت أن أبقى في المجلة كناقد أدبي فقط… وذلك بدون توقيع وأحيانا باسم مستعار ونادرا بالاسم الصريح«. كل ما كتبه علي وتعذ ر نشره في »المستقبل« وضعه جانبا , ليجد في نهاية العام 1978 أنه بات لديه مادة كتاب, لا سيما أنها تدور حول موضوع: نقد الأوضاع الثقافية السائدة في العالم العربي, وتستحق النشر فوضع لها عنوان »لكمات نقدية في الأدب والحياة« واتفق مع سهيل إدريس على إصدارها في دار الآداب.
كان هادئا أحيانا وصاخبا أحيانا أخرى.. جادا كل الجد حتى الصراحة حينا, وساخرا حتى القرف من هذا العالم حينا آخر. في هذا الجو تم حوارنا.
* من أنت?
فأجابني بعد تردد:
** سؤالك سهل وصعب في آن معا. ولو وجهته لغيري لأجابك »سؤال غريب مأجاوبش عليه«. لكني سأحاول الإجابة ببساطة, أنا لا أحب التصنيفات, لكن ما العمل مع عالم تحكمه التصنيفات, تماما كما يصنف الدكاكيني سلعه. فأنا مصنف عند هذا التيار أو التجمع أو الحزب الأدبي أو الفكري أو السياسي في خانة لا يراها غيره. وطالما سمعت التصنيفات أحيانا يقولونها علنا وفي أغلب الأحيان سرا. فإذا اعتمدت على هذه التيارات أو التجمعات أو الأحزاب في أحكامها فإنك ستجد في كل التصنيفات التي ملت منها كل الصحف والأبواق (لا تضحك) فأنا حسب هؤلاء سلفي, مستقبلي, رومانسي, واقعي, دادائي, سوريالي, تحديثي, سلمي, إرهابي,إشتراكي, رأسمالي, شيوعي, مشاعي, ثوري, رجعي, إباحي, إنساني, نازي, ليبرالي, ماركسي, ذاتي, وجودي… وأخيرا وليس آخرا حالم ومراهق أدبي وسياسي.. وفعلا أنا خليط من كل هذا, بل ربما أنا كل هذا, لأن لا أحد من هؤلاء السادة المصنفين تنطبق عليه الصفة التي يدعيها. طبعا أقصد منهم بالتحديد العرب. وتأكد أن الذي سيقرأ هذا الكلام, سيمط شفتيه ويقول: ها, إنه انتقائي! نعم ربما كنت انتقائيا لأنكم يا سادة يا كرام »ينقصكم الجدل« كما قال ذلك الفيلسوف الألماني. ببساطة أقول لك إنني إنسان يحاول أن يكون منسجما مع ذاته في عالم فصامي حتى العظم, وذلك في انتظار أن يتصالح الإنسان مع ذاته ذاتها, أي ذلك اليوم الذي سيكون عيدا, له بداية وليس له نهاية كما يقول الروسي ميشال باكونين.
* ماذا لو تحدثنا, قليلا, عن تجربتك الطلابية?
** سوف أكون مضطرا للاختصار مرة أخرى, حتى لا يتشعب الحديث فلا نجد له نهاية. طبعا , عند دخولي الجامعة انتسبت ككل طالب للاتحاد الوطني للطلبة الجزائريين. وأنت تعرف أن نهاية الستينيات وبداية السبعينيات عرفت صراعا فكريا عنيفا اعتمل داخل الجامعة الجزائرية وانعكس صداه على الطلبة الجزائريين في الخارج, خصوصا القاهرة وباريس وموسكو ودمشق.. لقد تمحور الصراع آنذاك بين أعداء التقدم المتخلفين والمتحجرين وأنصار التطور والانفتاح على الفكر الثوري الجديد الذي كان يهب آنذاك على أكثر من منطقة في صفوف الشباب, وبين من يسم ون بـ»المتعربين والمتفرنسين«. ولقد كانت مهمة الاتحاد خصوصا في فرعي القاهرة ودمشق إثبات أن اللغة العربية قادرة بدورها على استيعاب العصر, ولا أخفي عنك أن هذه المهمة كانت على جانب كبير من الصعوبة. فالمسؤولون المباشرون على الطلاب في سفارات الجزائر بالمشرق كانوا مع الأسف من دعاة التحجر. في أول عام جامعي لي تقدمت في انتخابات هيئة الفرع في دمشق فما كان من أنصار التحجر إلا النضال لإسقاطي, وسقطت فعلا. غير أن الوضع داخل رابطة طلاب المغرب العربي كان يختلف كثيرا , فاستطاع التقدميون في نفس العام السيطرة على قيادتها والنهوض بها إلى مستوى المنظمة النقابية المناضلة بشكل فعلي وفعال, فاستردت دورها الريادي في الجامعات السورية الذي افتقدته باستقلال الجزائر عام 1962. فقد استطاعت أن تصبح المنظمة الطلابية الأكثر بروزا في السنوات السبعينية الأربع الأولى, حتى أن منظمات المقاومة الفلسطينية في سوريا كانت تدعوها لاجتماعاتها للمشاركة بمختلف أنشطتها, وفعلا كان لنا صوت كصوت فتح أو الجبهة الشعبية… إلخ. طبعا, كل ذلك أدى إلى مضايقات عديدة من قبل السلطة لم أتحملها في النهاية واضطررت لترك دمشق ومغادرة جامعتها. لكن الحنين دعاني بعد عام إلى العودة إلى دمشق لأجد الشرطة تبحث عن ي قصد اعتقالي مع ثمانية طلاب آخرين بأمر – مع الأسف- من سفير الجزائر في دمشق الذي أقنع السلطات في الجزائر, وبالفعل هذا ما ثبت بعد ذلك. وهكذا اضطررت أنا والزميل محمد بوشحيط إلى الاختفاء عدة أيام في دمشق ثم الفرار ذات ليلة إلى لبنان. وكانت نقطة النهاية والقطيعة مع تجربتي النقابية التي دامت أكثر من خمس سنوات وهي على سلبياتها الكثيرة مهمة في تكوين الإنسان. وفي بيروت وجدنا أن غالبية قيادة المقاومة الفلسطينية والأحزاب اللبنانية قد قامت باتصالات على أعلى المستويات لإطلاق سراحنا.
* كيف استقبلت عندما وصلت إلى بيروت ?
** طبعا , كان لي العديد من الأصدقاء اللبنانيين والفلسطينيين والعرب الآخ رين المقيمين في بيروت, وأغلبهم من المغضوب عليهم في بقية العواصم العربية, فكان لابد للمتشردين من تضامن! فوجدت كل المساعدة المادية والمعنوية من طرفهم, وربما كانت أحلى أيام حياتي هي تلك التي قضيتها رغم الحرب والدمار الذي سحق البلاد والعباد سنتي 1975-1976.
* كيف ترى الحرب اللبنانية وإلى أي مدى أث رت عليك?
** إنها حرب شائكة ومعقدة فعلا. ولن تستطيع الكلمات أو السطور مهما طالت أن تحلل الأسباب العميقة التي أدت إلى إشعال فتيلها واستمرارها من سنة 1975 حتى الآن. إنها شيء من الحرب الأهلية وشيء من الحرب الطائفية. إنها تعبر عن شيء من الصراع الاجتماعي وشيء من الصراع الديني. هي حرب الفقراء اللبنانيين على بورجوازيتهم المركنتيلية, وحرب أغلبية الشيعة أو المسلمين الذين يشكلون مواد المجتمع اللبناني على الموارنة أو المسيحيين الذين يشكلون الفئات الميسورة من المجتمع. إنها حرب الصهاينة على الفلسطينيين, أو بالأحرى حرب الفلسطينيين على عملاء الصهاينة في لبنان, وبالنهاية إنها حرب كل العرب المتسل طين على الفقراء واللاجئين اللبنانيين والفلسطينيين, وربما أبعد من ذلك حرب الطبقات العربية السائدة على الطبقات العربية المسودة: حرب الاستبداد العربي على الديموقراطية الليبرالية التي أزعجت طويلا سادة العالم العربي. هذه هي باختصار الحرب اللبنانية. إنها تعبير عن جوع مزمن في عيون أطفال المخيمات الفلسطينية وحزام البؤس اللبناني الذي يطوق العاصمة بيروت. كما أنها أيضا تعبير عن رعب مزمن في عيون أطفال الموارنة من الغرق في بحر إسلامي.
وبطبيعة الحال فإن كل إنسان مهما كانت غلظة قلبه لابد أن يتأثر نفسيا في جو من هذا النوع خاصة إذا طغت فيه الدماء على الدموع ولم يذهب ضحيته إلا الأطفال أو الشباب الفقراء الطيبون من الطرفين. إنهم مخدوعون يقتلون مخدوعين! إنهم شباب ثوري أو بريئون في خدمة قضايا غير ثورية في غالب الأحيان, لذلك لابد أن ينتابك نوع من الحزن العميق الذي إن طال تحو ل بالتأكيد إلى كآبة أبدية قد تضطرك إلى الانزواء أو العزلة القاتلة للنفس والروح. ولهذا فضلت بعد أن سئمت مشاهدة حمامات الدم, ترك بيروت مع ألم وغصة في النفس. فبيروت كانت العاصمة العربية الوحيدة التي ما زالت تحتفظ برعشة حياة تستحق أن تعاش.
ويكفي القول أيضا أن ليست كل نتائج الحرب اللبنانية سيئات, فهناك بعض المحاسن وبعض الإيجابيات ثوريا, مثل تجارب التسيير الذاتي التي حصلت في هذه المنطقة أو تلك من لبنان عبر اللجان الثورية التي انبثقت عفويا في الأحياء والشوارع وبعض القرى والأرياف; خصوصا في الجنوب اللبناني الفقير قبل أن تجهز عليه إسرائيل باحتلالها إياه لمدة أيام عام 1987 وتشريد أهله نحو صيدا وبيروت. كما أن هناك على المستوى الأدبي والفكري إبداعات شابة تفتقت بتأثير هذه الحرب, وأن هناك المئات بل الآلاف من الشباب الذين زالت عن عيونهم غشاوة الأوهام, خصوصا أوهام الأحزاب البيروقراطية.
* كيف تحدد نفسك إبداعيا, تركت الطب لتنتقل إلى الصحافة, وكتبت في السياسة ثم في الأدب, فكان لمقالاتك صدى ملموس, فهل أنت كاتب أم ناقد أم…?
** أعتقد أن التخصص قد ولد مع سيادة النمط البورجوازي في الاقتصاد. فبنجاح الثورة الفرنسية الكبرى انتهى عصر الموسوعيين الأفذاذ منوري القرن الثامن عشر الفرنسي طبعا. انتهى إذن عصر الأنسكلوبيديا ليحل محله عصر التخصص. فكما فصلت البورجوازية العامل عن نتاجه, فصلت الإنسان عن نفسه ذاتها, وغدا الإنسان فصاميا في كل مكان. ولم تكتف الرأسمالية المجرمة بهذا الفعل الشنيع بل راحت تفصل هذا المنتج المادي أو الفكري إلى عدة أصناف. فكما تنوعت أصناف المعل بات, تنوع الإنتاج الأدبي والفكري. إذا غدوت إلى التاريخ العربي خصوصا في العصرين العباسي والأندلسي فإنك ستجد أننا قد مررنا بمرحلة الموسوعيين الكبار; كنت تجدهم وهم يكتبون الطب أو الكيمياء يتكلمون شعرا وحكمة وفلسفة في ذات الوقت. إذن, فمشروع الإنسانية الثوري -إن كان ثوريا حقا – هو مصالحة الإنسان مع نتاجه ومع نفسه وإعادة شموليته وكليته كما كانت. لكن في ظروف مادية وعلمية أرقى. من هنا أعتقد أن على الإنسان الثوري, الفنان, المبدع, الناقد وهي كلها, باعتقادي, مترادفات لكلمة واحدة, التحريض منذ اليوم على ظهور هذه الشمولية وتعويد الناس على النظر للحياة بمنظور شمولي وكامل أيضا. لذا أعتقد أنني إذا كنت ناقدا فسأكون شمولي النقد, أي أكون ناقدا في الأدب كما في السياسة والحياة. من هنا لا فرق بين كتاباتي السياسية والأدبية, فأنا أعتبرها كلها نقدا لهذه الحياة الميتة والمميتة.
أريد أن أعود معك هنا قليلا إلى الوراء. فعندما تفت حت عيناي في نهاية الستينيات, كانت منطقة الشرق العربي بل العالم العربي بأسره تعيش مرحلة من النهوض الثوري لم تشهدها منذ قرون. وقد وجد هذا النهوض الثوري تعبيره في صعود حركة المقاومة الفلسطينية التي لم تكن مشروعا لتحرير الأرض الفلسطينية فحسب, بل مشروعا تاريخيا لتحرير الإنسان على امتداد العالم العربي. وقد كان من الممكن أن تكون الثورة الفلسطينية مع ثورة ثورات أخرى فتيلا حقيقيا لثورة عربية الإطار وأممية المضمون. لكن ظروفا عديدة تحالفت ضد هذا المشروع الذي لم يكن قد اشتد عوده لقبره في المهد. فكانت الضربة الكبرى في سبتمبر 1970 في عمان. وبهذه الضربة سقط أمله وبدأنا كجيل للهزيمة الكبرى نبحث عن بدائل أخرى. لذا فكل نقد للأدب أو السياسة أو الحياة بشكل عام هو جزء من المساهمة في البحث عن هذه البدائل. [هنا أعتقد أنني قد أجبت عن سؤالك].
* هناك من يقول ان علي بن عاشور ليس لديه أدب, أي ليس لديه إنتاج فعلي , فما رأيك?
** أحب أن أؤك د لك في هذا الحديث أنني لست أديبا , لأني لا أعتبر ذلك شرفا. لأن الأدب خاصة عندنا – ومع الأسف- لا يخرج عن كونه تقريظا تافها لهذا الحاكم أو ذاك, لهذا المتسلط أو ذلك المتجبر. إنه في أحسن الأحوال »مداهنة« للأنظمة الحاكمة لا مهادنة لها فقط, وهو ليس نقدا لها. وأعني بالنقد هنا امتشاق سياط الكلمات التي لا ترحم في وجه استبداد السلطة المطلقة في كل مكان من عالم اليوم من موسكو إلى واشنطن مرورا ببكين وكل ديار العالم القديم. إنه النقد الذي لا يلين لاستبداد الرأسمالية البيروقراطية في الشرق والرأسمالية الخاصة في الغرب, لاستبداد السلطة اللاهوتية في الجنوب والسلطة المادية الغبية في الشمال. إذن, باختصار لست أديبا بل أحاول أن أكون ناقدا للأدب والسياسة والحياة بشكل عام. لدي كتاب جاهز للطبع منذ سنة 1978, ورغم اتفاقي مع إحدى دور النشر في بيروت على طبعه ورغم أنني قبضت بعض الليرات من مردوده مسبقا فإنني -نكاية بالبعض- لست متسرعا لإصداره, وسأصدره ساعة يطيب لي المزاج. ولقد سميت هذا الكتاب »لكمات في الأدب والحياة« وهو عبارة عن عدة دراسات نقدية في الرواية, والقصة, والشعر والمسرح شرقا وغربا, عند العرب وعند الغرب, مع مجموعة من الحوارات مع بعض الذين أثروا في حياتنا الفكرية العربية.
* هل كتابك محاكمة, ولو موجزة لمسيرة الأدب العربي الحديث?
** قبل الخوض في هذا في الموضوع الهام والشائك, أجد أن من الواجب علي أن أؤكد لك أنني من رأي تريستيان تزارا (مؤسس الحركة الدادائية بعد الحرب العالمية الأولى) ورفاقه فيما بعد في الحركة السوريالية, القائل ؛إن الثقافة قد ماتت بعد أن ات حدت بالإعلام والسلطة في كل مكان ونضب معين التجديد فيها ولم يعد هناك من مبرر للإبداع سوى التحريض اليومي المباشر لإلغاء الثقافة, أي بتعميمها فعلا معيشا في الشوارع كما في الحياة, وهذا ما أكده لينين الثوري وحرضت عليه روزا لكسمبورج. لا بل إن الآباء الحقيقيين للدادائية وابنتها الشرعية السوريالية وأعني بهم رامبو, لوتريامون Lautréamont, والماركيز دو صاد قد نعتوا الثقافة قبل هؤلاء, فقد فض ل رامبو كتابة الشعر بجسده على كتابة الشعر بقلمه فغادر مملكة الشعر وهو بعد طفل (23سنة) إلى مجاهل أفريقيا واليمن, تاجر سلاح وهي فعلة كما ترى لم يفعلها أحد من شعراء اليوم الثرثارين الذين لا يجرؤون على ترك هذه المملكة حتى عندما يحسون بقناعاتهم الشخصية أنهم انتهوا شعريا.. واكتفى لوتريامون العظيم مثلا بديوان واحد هو »أناشيد مالدورور« Les chants de Maldoror كما رضي الماركيز دو صاد أن يدفع من حياته العارمة إحدى وثلاثين سنة سجنا في إحدى المصحات العقلية ثمنا لحريته. فقد رفض هذا الشهم توكيل أي قرد بورجوازي بتسيير إقطاعاته الطائلة وخاض نضالا مريرا ضد اضطهاد عائلته »التي لوث شرفها! « وضد العجوز الشمطاء التي كانت تدير مصحته العقلية… ونجد كل ذلك في رسائله المنشورة مؤخرا بالفرنسية.
إذن, أنا من رأي هؤلاء, ومع ذلك فلا بأس إذا أردت مني محاكمة ديموقراطية سريعة لمسيرة الأدب العربي الحديث منذ بداية القرن التاسع عشر. مع الإشارة إلى أن تاريخنا – مع الأسف- لم يعرف مثل هذه المحاكمة. فمن خلال تاريخنا الحديث نكاد لا نجد عربيا واحدا يقدم لنا فكر الآخر كما هو, دون إضافة أو تزوير. لذلك, ستكون هذه المحاكمة مهما أط ل ت عليك, ناقصة لأنها ليست مهمة شخص واحد بل هي مهمة جيل بكامله إذا أردنا أن ندخل, نحن العرب, التاريخ من أبوابه الواسعة لنسهم في عملية التغيير وبلورة الصيغ المطروحة منذ اليوم على جدول الإنسانية المتألمة في كل مكان, والتي بدأت تستعد لتقول كلمة الفصل. ولعل أبرز من عب ر عن وضع البورجوازية العربية هذا هو الشيخ حسن العطار في بداية القرن التاسع عشر مع حملة نابليون على مصر. فبعد أن نجده يدعو تجار القاهرة إلى عرك عيونهم بعد السبات العميق وإلى الأخذ بفكر البورجوازية الأوروبية واللحاق بها صناعيا, نجده يعود ويستغفر ربه ثلاثا! في كتابه الشهير »مقاومة الأديب الرئيس الشيخ حسن العطار في الفرنسيس« كما أن تلميذه رفاعة رافع الطهطاوي لا يشذ عن هذه القاعدة فهو يدعو البورجوازية العربية في كتابه »تخليص الإبريز في تاريخ باريز« إلى الأخذ بمظاهر الحضارة الغربية وترك فكرها الملحد, لأنه على حد قوله »يفسد عقول الشباب ويجعلهم يفقدون دينهم« العزيز على قلبه. وهذا أيضا ما سنجده فيما بعد في كتابات علي مبارك, وعند المويلحي في كتابه »حديث عيسى بن هشام« الذي يصف فيه سلع البورجوازية الغربية بأنها محاسن وفكرها الراديكالي مساوئ. وكما التقى مثقفو البورجوازية العربية اليمينيون بالثورة الفرنسية كاستعمار ثم كامبريالية منحطة, التقى يسار المثقفين العرب بالماركسية كستالينية أي كثورة مضادة. فهذا فرح أنطون يقول في كتابه »الدين والعلم والمال أو المدن الثلاث«: »يجب اتباع مسلك ستالين في الأخذ بيد العمال المظلومين« فيالها من ثورة حمراء! وكذلك سار على دربه شبلي شميل وسلامة موسى. لكن لابد من الإشارة إلى أن المثقفين العرب المسيحيين, وبخاصة الشاميين, كانوا أكثر جرأة من رفاقهم المسلمين بالنسبة لقضية فصل الدين عن الدولة وكذلك بحكم وضعهم كأقليات دينية في بحر من المسلمين. لذلك كثيرا ما نجدهم يدافعون عن فكرة القومية العربية. وبعد ثورة 1919 في مصر والتي كانت قيادتها وفدية إصلاحية وقاعدتها عمالية فلاحية, انضم جيل جديد من المثقفين المسلمين إلى رفاقهم المسيحيين في الدعوة لفصل الدين عن الدولة, وبذلك غدت هذه الدعوة جماهيرية حقة. فقد نهض مثلا الدكتور محمود عزمي للدعوة إلى تحديث القوانين بما فيها القوانين الشرعية, بل راح إلى أبعد من ذلك في الدعوة إلى توحيد هذه القوانين بين المسلمين والمسيحيين خاصة في مواضيع الإرث والزواج. وهي تقريبا نفس الأفكار التي تبناها الطاهر الحداد في تونس عام 1932 في كتابه »امرأتنا والشريعة«. هذه الأفكار لم تستطع البورجوازية التونسية -وهي أكثر البورجوازيات العربية جرأة في هذا الموضوع- تحقيقها عندما سيطرت على السلطة عام 1957. بالإضافة إلى كتابات الدكتور محمود عزمي في جريدتي »الأهرام« و»الاستقلال» واسعتي الانتشار آنذاك, فقد تصد ى الدكتور طه حسين للدفاع عن نظرية العقل وطرد الفكر الغيبي من العقول العربية وذلك في كتابه الرائد الهام »في الشعر الجاهلي«. وسار على نحوه الشيخ علي عبد الرازق في كتابه »الاسلام وأصول الحكم: بحث في الخلافة والحكومة في الاسلام«, ولطفي السيد, لكننا, مع الأسف, نجد أن كل هؤلاء قد ثابوا إلى رشدهم في آخر أيام حياتهم وندموا على ما ارتكبوه في شبابهم من خطايا.
وربما وجدنا في دعوة الرئيس (محمد أنور السادات!) إلى العودة إلى أخلاق القرية أصدق تعبير عن ارتباك المثقفين العرب. فإذا أردنا الرجوع إلى إنتاجاتهم فإننا سنجد حنينهم الأبدي للعودة إلى القرية وسحر الشرق وفكره الغيبي. هذا ما نجده في »عصفور من الشرق« لتوفيق الحكيم وفي ؛قنديل أم هاشم« ليحيى حقي, حيث نرى أن طالب الطب المصري الذي درس في أوروبا لم يجد في العلم شفاء للأمراض وإنما وجد ذلك في سحر وشعوذة الشرق. كما أن بطل »موسم الهجرة إلى الشمال« لصاحبها الطيب صالح يحن لأخلاق قريته في السودان أمام عجزه عن إيجاد البديل الثوري لأخلاق العرب. ولا أطيل, فكل المثقفين العرب تصالحوا بعد هفوات الشباب مع بورجوازيتهم وفكرها المختلف. لكن مع ذلك لا يجب أن نحم لهم أكثر من طاقتهم, وبالأحرى لا ينبغي أن نظلمهم, فكثير منهم رغم توبته, قدم لنا الكثير نسبيا. فطه حسين فتح عقولنا على العقل والمنطق الغربيين وفتح نوافذ فكرنا على مذاهب النقد الغربي الحديث. وتوفيق الحكيم عرفنا بالمسرح اليوناني والروماني القديم وحلل لنا تاريخ الأسطورة في الشرق والغرب على حد سواء. كما أن نجيب محفوظ أدخل إلى ثقافتنا فن الرواية البورجوازي الحديث, رواية زولا وبلزاك الفرنسيين. كذلك قدم لنا الدكتور لويس عوض كل المدارس الفكرية الأوروبية الحديثة خصوصا عبر كتب دار الهلال الشهري, ومثله عرفنا الدكتور حسين فوزي على مدارس الموسيقى الغربية الحديثة ورو ادها. كما أن الدكتور يوسف إدريس أرسل لنا قواعد الفن القصصي. وعلى هذا المنوال قدم لنا عبد الرحمن الشرقاوي وعبد الرحمن منيف في الرواية وزكريا تامر وغالب هلسا في القصة وعصام محفوظ وعز الدين المدني في الكتابة المسرحية, وبدر شاكر السياب وأدونيس ونزار قباني ومحمود درويش ومحمد الماغوط في الشعر. ولا ننس ما قدمه شعراء الأدب المهجري عمالقة القصة الرومانسية أمثال إيليا أبو ماضي وجبران خليل جبران ومثلهما رواد مدرسة أبولو في مصر وأبو القاسم الشابي في تونس. طبعا , أذكر لك هؤلاء عفو الخاطر ودون ترتيب لأن هناك, ولا شك , غيرهم ممن ساهموا مساهمة كبيرة في مسيرة الثقافة العربية الحديثة.
* لقد نسيت الأدب العربي الشاب , خصوصا في العقد الأخير?
** لا شك أن جيلا جديدا من الأدباء الشباب على امتداد العالم العربي, وعلى هذا الجيل تقع برأيي مهمات جديدة هي غير تلك التي اضطلع بها سابقوهم. على أدبهم أن يكون تخريبيا بكل ما في هذه الكلمة من معنى. وباعتقادي أن معظم هؤلاء لا تبتسم في وجوههم صفحات الصحف الرسمية وغير الرسمية, المقيمة منها والمهاجرة. فكل هذه الصحف معادية في الصميم لكل تفكير بشري محرر ومحرر فعلا, فجميعها أبواق للنظام السائد. وأعرف العديد من المبدعين الشباب العربي في بيروت مثلا تسألهم- كل دار نشر- يدقون أبوابها, طلبا لنشر إنتاجاتهم عن الدول العربية التي تمنع فيها أسماؤهم من التداول. لذلك كثرت في السنوات الأخيرة منشورات »سامسات« أي (أنشر ما تكتبه ووز ع كتاباتك بيدك) ولا أقصد هنا المنشورات السياسية الببغائية, بل منشورات أدب الإبداع وأدب النقد. إذ كما ترى, فإن هؤلاء سواء من كان منهم مهاجرا أو مقيما هو ممنوع بالضرورة من النشر في جميع البلدان العربية, فالنظام العربي يمنع كل نقد حقيقي لأنه خطر على وجوده ذاته. وإذا ما صادف أن سمح ببعض النشر فإنه يحسب لذلك ألف حساب ويكون قد اطمأن مسبقا لإمكانية احتواء الأدب النقدي مستقبلا.
* ما رأيك لو انتقلنا قليلا إلى الأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية, فهناك من يتهم هذا الأدب ببعده عن معايشة مشاكل الإنسان في المجتمع الجزائري?
** أعتقد أن هناك شيئا من الصحة في هذا الرأي, لكن من الخطأ التعميم. وكما أسلفت فإنني لا أريد أن أظلم أحدا. فمن ناحية لغة هذا الأدب نجد أن هناك انفصالا بين الأديب ولغة مجتمعه, وهذا باعتقادي ليس ذنب الأديب بل نتيجة ظروف تاريخية أرغمت المثقف الجزائري على أن يكون فرنسي اللسان. ولا حاجة للإطالة في شرح هذه الظروف فكلنا يعرف ما فعل قرن ونيف من الاستعمار لقطع لسان شعب بأكمله, إذن لا عتب على كت ابنا إن كتبوا بالفرنسية, بل العتب الوحيد هو تجاهل بعضهم, أي ذلك العداء الدفين الذي انغرس في لاوعيهم للغة العربية, وهو اعتقاد بعضهم بعجز اللغة العربية عن الإبداع كتابة. وأعتقد أن عدم تعلم الأحياء منهم اللغة العربية بعد الاستقلال هو الجريمة بعينها. لذلك يدخل في باب التنبلة (الكسل). فإذا نظرنا إلى أوضاع مجتمعات عانت نفس معاناة المجتمع الجزائري لغويا, نجد أن مثقفي هذه المجتمعات تجاوزوا هذه العقدة, فالمثقفون الفيتناميون مثلا »فتنموا« أنفسهم خلال عام واحد بالرغم من أن اللغة الفيتنامية تشبه إلى حد كبير الهيروغليفية, ففي ظرف سنة غدت الفيتنامية لغة العلم والحياة في فيتنام. وكذلك فعل الإسرائيليون بعد قيام الدولة الصهيونية في فلسطين, ففي ظرف عامين »عبرنوا« كل مظاهر العلم والحياة مع العلم أن اللغة العبرية لم يكتب بها من قبل ذلك التاريخ سوى »الكتاب المقدس« وبعض الأساطير اليهودية. كما أننا نجد الأدباء في إسرائيل قد أصبحوا منذ عام 1950 يكتبون إنتاجهم باللغة العبرية بعد أن تعلموها في إسرائيل وهجروا الكتابة بلغات المجتمعات التي قدموا منها. طبعا, شخصيا لا أطلب من كتابنا بالفرنسية أن يكتبوا بالعربية فهم أحرار, بل كل ما أطلبه هو أن يقرأوا باللغة العربية, لأنهم بدونها لن يتعرفوا على مسيرة الفكر أو الصراع الاجتماعي الذي عصف بالعالم العربي خلال القرنين الماضي والحالي, وبذلك أعتقد أنهم لا يستطيعون أن يساهموا في مسيرة الإنسان الجزائري نحو قضية التغيير التي لن تكون بحكم التاريخ سوى عربية الإطار. بطبيعة الحال لقد أعطى كتابنا باللغة الفرنسية ما كان مطلوبا منهم تاريخيا, فك ت اب مثل مولود فرعون ومالك حداد ومحمد ديب وكاتب ياسين وغيرهم أعطوا للإبداع الإنساني الكثير , أعطوا كل ما كان مطلوبا منهم للقضية الوطنية, لقد استطاعوا أن يعكسوا قضايا مجتمعهم وطموحاته لقراء اللغة الفرنسية في العالم. وقد ساهمت ترجمات بعض إنتاجهم للغات أخرى في إسماع صوت المجتمع الجزائري كبقية مجتمعات العالم. كما تجدر الإشارة إلى أن هذا المضمون الوطني لبعض إنتاجهم لم يمنع التفرد الإبداعي الإنساني عند بعضهم, وأذكر بشكل خاص كاتب ياسين الذي دخل برأيي تاريخ الأدب الإبداعي العالمي من بابه الواسع. فقط ملاحظتي حول هذا الفنان المبدع عقدته من اللغة العربية التي لم يستطع – مع الأسف- التخل ص منها.
* ما رأيك في الأدب المكتوب باللغة العربية في الجزائر ?
** هنا بيت القصيد, فتاريخيا نجد أن الذين اضطلعوا بالتعريب في الجزائر سواء على صعيد الكتابة أو الحياة هم من دعاة السلفية والماضي والتحجر. فبدايات هذا الإنتاج في الثلاثينيات غالبا ما كانت تنتمي إلى عصور الانحطاط العربي ولا تنتمي إلى ما وصل إليه تطور الفكر واللغة في المشرق العربي. نجد فقط شيئا من هذا التفتح عند رضا حوحو الذي اطلع مبكرا على إنتاجات طه حسين وتوفيق الحكيم بشكل خاص, لذلك نجد عنده نفحة من التجديد. أما الآخرون فكلهم تقريبا داروا حول موضوعات عفا عليها الزمن وبلغة لها طعم القديد وملمس الخشب, ويخاطبون الجماهير بلغة قمعية مستوردة من ترسانة ماضينا التعيس. من هنا في اعتقادي جاء الالتباس الذي تكون عند بعض مثقفي اللغة الفرنسية حول اللغة العربية. ومع الأسف فإن هؤلاء هم الذين تصد وا لقضية التعريب بعد الاستقلال. لذلك وجب التصد ي لمثل هؤلاء من قبل الجيل الجديد الذي استعاد لسانه لكن بمضمون جديد كل الجد ة هذه المرة.
* ما رأيك في الطاهر وطار في هذا المجال?
** بدون شك الطاهر وطار يختلف عن أولئك السلفيين الذين تحدثنا عنهم. لقد بدأ عندما كان شابا بدايات جيدة نسبيا, فقد كتب بعض القصص التي تقف ندا لقصص بعض الكت اب في المشرق العربي. وكانت لديه في كتاباته الجملة البسيطة المعبرة والفنية, لكنه عندما بدأ يكتب الرواية نجد أنه فشل فشلا ذريعا. وكما قلت لك سابقا إن الرواية ليست مزحة أو قرارا شخصيا يتخذه هذا أو ذاك من الكتاب. الرواية مرتبطة بحقبة تاريخية تمر بها هذه الأمة أو تلك. مثلا, في مصر لم تظهر الرواية إلا عندما كان هناك صعود تاريخي للبورجوازية المصرية, أي عندما كانت تصارع من أجل تحقيق ذاتها وتحقيق استقلالها عن البرجوازيات المستعمرة. طبعا, لا أقول إن الرواية مرتبطة ارتباطا أوتوماتيكيا بصعود البورجوازية, لكن أريد أن أؤكد أن الرواية ارتبطت دائما في الغرب كما في الشرق باحتدام الصراع الاجتماعي الذي ي فضي إلى سيادة البورجوازية الثورية على مسرح التاريخ أو انهيارها وتراجعها إلى المحافظة الفكرية والدينية. وبما أن تاريخنا العربي لم يعرف صراعا اجتماعيا وصل إلى لحظة الفصل, أي أننا لم نعرف ذلك الفرز الطبقي الذي عرفه الغرب, فإننا نجد الرواية كنوع أدبي تكاد تكون غائبة. وباختصار فقد قرأت كل ما كتب ونشر وطار فلم أجد سوى التكرار. فباعتقادي أنه اعتز بنفسه, وبالتالي أصبح يرى في الكتابة مهنة ويعتقد أنه من الضروري أن يطل على القراء ولا يهمه إن كان العمل الذي يقدمه سيئا أو جيدا, طالما أصبح معروفا في السوق. وهذه قمة العقلية التجارية في رأيي; فالكاتب الجيد أو المبدع يحتقر السوق أصلا ويسمو عليها. المهم أن روايات وطار نوع من الخطاب السياسي والايديولوجي المصطنع والمشوه في غالب الأحيان. لقد قرأت روايته الأخيرة »الحوات والقصر« فوجدتها فعلا كما قال عنها أحد النقاد قريبة من المقال السياسي وأحداثها مشتتة وغير قادرة على التماسك الداخلي. وهي كرواياته الأخرى لا تختلف عن روايات موظفي »نوفوستي«. كل ما يضيفه إليها هو أن الحاكم كان بريئا وأن الشر ليس منه بل من حاشيته السيئة. كأن الحاكم ليس مسؤولا عن اختيار حاشيته, وهو على أية حال يلوك أسطورة ظلت منذ لويس الرابع عشر تشيعها المخابرات بين الغوغاء لتبرئة الملك الحنون على رعاياه وتوجيه غضب المظلومين إلى خدمه وحشمه. وبالتالي فإن الملك عندما يرى الغضب الشعبي آخذا في الغليان يتناول خروفا أجرب من حاشيته ليقد مه »كبش فداء« كما فعل اليهود في تاريخهم الأسطوري ليتحمل سيده أخطاءه وخطاياه بحق عباده. أما اللغة التي يستعملها وطار في هذه الرواية فهي باردة ومميتة ومتخل فة حتى عن كتاباته السابقة وهذا طبعا , ناتج عن تكرار النفس. أريد أن أضيف أن كل أعمال وطار منهوبة من رواية كتاب مغمورين سوفييت, يأخذ فكرتها وحتى تسلسل أحداثها ويعيد صياغتها ويغير أزمنتها وأمكنتها وأسماء أبطالها ليقدمها فيما بعد على أنها من بنات أفكاره لتباع وتشترى في الأسواق.
* هل لك دليل أكاديمي أو علمي على ما تقول?
** لقد تكلمت عن هذا في كر اس خاص أصدرته في العام الماضي عن طاهر وطار وأشياء أخرى وأريد أن أؤكد لك هنا أنني لست بصدد دراسة أكاديمية لكي أثبت لك نهبه لرواياته من أعمال السوفييت المغمورين. فتلك مهمة من يريدون العمل الأكاديمي وهي مهمة سهلة بالنسبة لهم, فحسبهم أن يعودوا إلى ترجمات دار »التقدم« الروسية. بالنسبة إلي كنت مجبرا على قراءة كتابات وطار باعتباري جزائري ا, وغالبا ما أ سأل عن الكتابات الجزائري ة من قبل المثقفين المشارقة. وهي مهمة شاق ة عن النفس كما ترى لأنه من العبث رصد كل إسهال كتابي يصاب به هذا أو ذاك من أشباه الكتاب شبه الأ ميين.
* في الكر اسة التي ذكرتها تت هم الطاهر وطار بالبربرية, فما رأيك بالمناسبة بموضوع البربرية الذي يحاول البعض طرحه الآن في بلادنا?
** أود هنا أن أ شدد على أنني لم أت هم وطار بالبربرية, فعقليته البربرية معلومة لدى كل عارفيه, وكذلك عداؤه للقضية العربية والمقاومة الفلسطينية على وجه الخصوص, وقد تحدثت عن ذلك في كراسي لكل من يريد الإطلاع. لا, بل لقد ات همني لدى بعض الأدباء الشباب الجزائريين بأنني »عميل لمنظمات أجنبية«, وهو يقصد طبعا , المنظمات الفلسطينية. وهنا أريد أن يطمئن قلبه فأقول له: نعم أنا عميل لمثل هذه المنظمات إن كان التعاطف مع الشعب الفلسطيني يعتبر بنظره عمالة! ثانيا موضوع البربرية موضوع شائك أي سهل وصعب في نفس الوقت, أو بالأحرى كان موضوعا سهلا, ومع الأيام أخذ يغدو صعبا. لكن باستخدام العقل والحكمة يمكن حل الموضوع بسهولة. هناك فئة من الناس استغلت ظروفا معينة لتطالب بلغتها لاستعمالها في أفراحها وأحزانها. مبدئيا هذه المطالبة في محل ها والتصد ي لها في اعتقادي جريمة لأن ذلك يعقد الموضوع ويشع به ويجعل المطالبين به ضحايا وبالتالي تتخلد قضيتهم. برأيي لابد من إتاحة الفرصة لكل فئة من الناس ليعبروا باللغة التي استعملها آباؤهم وأجدادهم في الراديو وفي التلفزيون والحفلات الفنية, وحتى أن يكتبوها إن استطاعوا.. المشكلة الحقيقية برأيي في الجزائر هي مشكلة الصراع بين العربية والفرنسية وليست بين العربية والبربرية. ودعاة البقاء على اللغة الفرنسية استغلوا موضوع الحرمان الذي يلاقيه مواطنونا بالنسبة للتعبير لكي يضربوا محاولات التعريب التي سارت في الجزائر بخطى متعثرة وبطريقة تخلو من التخطيط العلمي. فإذا , المشكلة هي في تعميم التعريب في جميع مراحل وفروع التعليم وكذلك في جميع محاولات التسيير والإدارة اليومية لتصبح الفرنسية فيما بعد مجرد لغة أجنبية ضرورية لحياة الإنسان المتعلم والمثقف مثلها مثل كل اللغات الأجنبية الأخرى الضرورية في هذا العصر المتطور بسرعة, والسائر نحو وحدة البشر. اللغة البربرية لغة ميتة كما نعرف جميعا, وهي بالنسبة للحياة اليومية عاجزة عن التعبير عن كل شيء, فهي تستعير على الأقل 40 في المائة من العربية, وإلى ما غير ذلك من مجالات الحياة?! فما بالك بالنسبة للحياة العلمية والسياسية والاقتصادية, فعندما تصبح اللغة العربية هي السائدة في جميع مجالات الحياة, فإن البربرية لن تجد غير اللغة العربية لتستعير منها كل ما تعجز عن التعبير عنه. عندها قد تغدو البربرية إحدى اللهجات العربية. وعلى كل حال, فإن إحدى النظريات الإثنية تؤكد أن البربر هم من أصل عربي هاجروا إلى شمال أفريقيا مع هجرات العرب الأربع الكبرى, خصوصا بعد انهيار سد مأرب. وتعميم اللغة العربية مرة أخرى هو احدى المهام الكبرى لهذا الجيل الجديد الذي بدأ ينطق بلسان عربي فصيح.
* هل يمكنك أن تقيم أدب الشباب المكتوب باللغة العربية في جزائر اليوم?
** بصراحة, لن أستطيع تقييم هذا الأدب, لأني لست على اط لاع شامل بما كتبه الأدباء الشباب في الجزائر. لقد أتيحت لي الفرصة للاطلاع على الجزء اليسير الذي نشر منه, وهنا أخص بالذكر ما تنشره مجلة »آمال«, لكن أعتقد أن الجزء الأكبر منه لم تتح له فرصة النشر بعد . فمن خلال اطلاعي هذا أستطيع أن أقول أن هذا الأدب مازال في بداياته ينطق بسملاته الأولى, ولم يتبلور بعد كحركة. هناك بعض النماذج في الشعر والقصة بخاصة, يمكن أن نقول عنها إنها واعدة ولا حاجة هنا لذكر الأسماء; المهم برأيي هو النشر, وهنا لا أعفي الشباب أيضا, فبكفاحهم هم يستطيعون الحصول على المزيد من المنابر الثقافية والأدبية, وبنشاطهم أيضا يمكنهم ايجاد حركة جديدة في الحياة الثقافية الجزائرية من خلال فرض أنفسهم واختراق الصعاب والفخاخ المنصوبة أمامهم خصوصا من أولئك الذين نصبوا أنفسهم أوصياء على الثقافة في الجزائر. وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذه البذور الشابة لا يمكنها أن تنمو وتبدع إلا بالمزيد من الاطلاع على ما وصلت إليه الحركة الثقافية في المشرق العربي وفي العالم. لقد لاحظت من خلال اطلاعي على بعض نماذج كتابات الأدباء الشباب في الجزائر أنهم يحاولون تكرار تجارب المشارقة, ولكن على نحو أقل نضجا. فبرغم أن الاطلاع الشامل على ذلك ضروري فإن المطلوب اليوم من هؤلاء الشباب هو الانطلاق مما وصل إليه أدب الإبداع وأدب النقد في المشرق وربما في العالم أيضا لتجاوزه في مضامين أكثر إبداعا وأكثر تحريضا على خلق الإنسان الجديد الذي نحلم به جميعا. وعلى أية حال فإن الأيام كفيلة بأن تصقل هذا الجيل وكفيلة أيضا بأن تثبت لنا إن كان في مستوى التاريخ أم لا.
الطيب ولد العروسي كاتب من الجزائر