ليزا زَونْشَاين1
يقدم لنا السرد الخيالي الأساس لعمليات تكيفنا في قراءة الأفكار التي تطورت للتعامل مع أناس حقيقيين على الرغم من أننا نكون واعين عند مستوى معين أن الشخصيات في الأدب ليسوا أناسا حقيقيين على الإطلاق. فالكيفية التي نروض بها أنفسنا على استمرار متابعة “لا واقعية” الشخصيات السردية مسألةٌ معقدة وتتصل بمسألةٍ مهمة تناولها علماء الإدراك، ألا وهي الآليات أو العمليات المعرفية التي تجعل التظاهر (ومن ثم التَّخيُّل) أمرا ممكنا. سأناقش هنا عينة محدودة للغاية مما يطرح حاليا من فرضيات على طاولة البحث، مع التركيز على تلك الفرضيات التي تُقدِّم -خاصة عند النظر فيها معا- بعض الرؤى المثيرة للاهتمام حول السؤال الأكبر عن السبب الذي يدفعنا إلى قراءة السرد الخيالي. وقد طوَّر الفرضية الأولى أحد علماء المعرفة، فيما طوّر الثانية ناقد أدبي ذو توجهات معرفية.
ولبيان الأسباب التي تجعل الأطفال المصابين بالتوحد لا ينخرطون في التظاهر العفوي، يشير بيتر كاروثرزPeter Carruthers إلى أنهم عاجزون عن إدراك ليس الحالات الذهنية للأشخاص الآخرين فحسب، بل أيضا حالاتهم الذهنية2. وبناء على ذلك يذهب كاروثرز إلى أن «وعي المرء بحالته الذهنية يمهّد السبيل للتمتع الناجم عن التلاعب بهذه الحالة». من الممكن القول، إذن، أن «الوعي بفعل التظاهر لا يقتضي حتى تضمين محتوى ما يتم التظاهر به. بل إن الأمر لا يتطلب -كحدٍ أقصى- سوى التمثيل الوصفي أنه الآن يقوم بالتظاهر»3. لذلك، فالأطفال المصابون بالتوحّد «لديهم القدرة على التظاهر إن تم دفعهم إلى ذلك»، لكن من النادر أن يمارسوا هذه القدرة. فالأشخاص الذين حرمهم العمى العقلي «من القدرة على إدراك حالاتهم الذهنية بسهولة، هم محرومون في الوقت نفسه من مصدر المتعة الأساسية الكامنة في التظاهر العادي…. ولا يجدون في ذلك النشاط أمرا مجزيا[معرفيا]»4. و«إذا كان الهدف من ألعاب التظاهر هو تمرين المخيلة»، كما يجادل علماء النفس المعرفيون، فإن قلة تمرين المخيلة لدى الأطفال المصابين بالتوحد يجعلهم أقل كفاءة من غيرهم في هذا الشأن5.
وعلى هذا فإن الفوائد المعرفية الناجمة عن قراءة السرد الخيالي قد تكون في مستوى تلك الفوائد المتحصلة من ألعاب التظاهر من خلال ما تنطويان عليه من قدرة مشتركة على تحفيز المخيلة وتنميتها. وقد يعني ذلك أن استمتاعنا بالسرد الخيالي يرتكز -جزئيا على الأقل- على مدى إدراكنا لحالاتنا الذهنية التي “نَخْبُرُها” ومن المحتمل أن تكون متاحة لنا ولكن في لحظة معينة تختلف عن الحالة التي نعيشها.
وإذ نأخذ هذا بعين الاعتبار، فلننتقل الآن إلى الفرضية الثانية التي طوَّرها الناقد الأدبي المعرفي الشهير روفن تسور Reuven Tsur، وتركز فرضيته، وإن كان ذلك من زاوية مختلفة، على اللذة الناجمة عن وعينا بالعمليات المعرفية التي نقوم بها. ويبرهن تسور أن النصوص السردية الخيالية تؤثر فينا من خلال إعاقة عملياتنا المعرفية أو تعليقها «على نحو ما»6. وعلاوة على ذلك، فإن إدراكنا لتلك المعوقات “يوضح لوعينا” بأن عمليات تكيفنا المعرفية الحيوية في أفضل أحوالها (وهذا نبأ سار دائما). وسوف نعمد إلى تمثيل الطريقة التي تعمل بها من خلال أحد الأنواع الأدبية، وهو النكات:
«تعتمد [النِكَات] اعتمادا كليَّا على آلية معرفية تتمثل في تحويل طرائق التفكير. فطريقة التفكير هي الاستعداد للاستجابة بطريقةٍ معينة. وكما هو واضح، فطريقة التفكير جهاز تكيف ذو قيمة عالية فيما يتعلق ببقائنا. ونحتاج إليه للتعامل مع أي وضعية على نحو متسق. وبالإضافة إلى ذلك هناك جهاز آخر لا يقل أهمية عن السابق يُعرف بـ “مُحوِّل طرائق التفكير”. ويمكن تعريف الأخير أنه تحول استعداد المرء للاستجابة بطريقة معينة. وتقتضي الحاجة إليه للتعامل مع الوضعيات المتغيرة في الواقع غير اللغوي. وقد يحقق استخدام هذين النوعين (المتعارضين) من آليات التكيف ضروبا مختلفة من اللذة. وتعدّ طريقة التفكير مثالا نموذجيا لتحقق اللذة من خلال ادخار الطاقة الذهنية. وينتج عن تحول طرائق التفكير نوعا من اللذة تتأتى من تيقننا أن آليات التكيف الخاصة بنا تعمل على نحو سليم[…] عادة ما يُنظر إلى حِسّ الدُّعابة أو القدرة على توظيف الفكاهة في مواقف الحياة الصعبة باعتباره علامةً على الصحة العقلية […] فالنِكَات تحقق تأثيراتها الفكاهية عن طريق استحثاث تغير ملحوظ في طرائق التفكير، والتي تنطوي عادة على بعض الحالات المتغيرة. إنها إذن، حالة واضحة تتحول فيها آلية التكيف إلى غايات جمالية»7.
سوف أعاود معالجة مسألة الجماليات بُعيد قليل. لكن دعونا أولا نرى كيف قد تساعدنا فرضيتا كل من كاروثرز وتسور بتآزر بعضهما البعض في تسليط الضوء على جانب مهم من جوانب علاقتنا بالسرد الأدبي. يذهب كاروثرز إلى أننا قد نشعر باللذة حينما نكون مدركين لحظة تظاهرنا. فيما يرى تسور أن النِكَات تبعث على المتعة بشكل خاص لأنها تمثل اختبارا سريعا لصحة الشخص المعرفية (كوني أضحك فهذا يعني أنني قادر بشكل عام على تحويل طرائق تفكيري بسرعة). من الممكن إذن أن تَخْتَبِر بعضُ المنتجات الثقافية، كالروايات مثلا، أداءَ تكيفاتنا المعرفية من أجل قراءة الأفكار فيما تبقينا مستمتعين بإدراكنا أن “الاختبار” يسير بصورة جِدّ سلسة. وهذا يعني أنني عندما أتساءل عما إذا كانت المكانة الاجتماعية غير الواضحة التي يتمتع بها خالي [شخصية في رواية “كبرياء وهوى” لجين أوستن] سوف تؤثر على وجهة نظر السيد دارسي [إحدى شخصيات الرواية] فيَّ بوصفي زوجة مُحتملة -مع أني أعلم أن ما أختبره بالفعل هو حالة ذهنية خاصة بإليزابيث بينيت [شخصية رئيسة في الرواية]، التي ليست أنا على أية حال- فإنني أدرك أن نظرية التفكير لدي تعمل بشكل جيد. (لذلك، ربما سأكون بخير هناك في عالم الواقع، حيث وجودي الاجتماعي يعتمد تماما على مدى قدرتي على تخيُّل أفكار الآخرين ورغباتهم ونواياهم طوال الوقت، سواء أكان ما تخيلته صحيحا أو خاطئا أو بشكلٍ مقارب أو بطريقة تخدم الذات أو غريبة).
لكن هناك مشكلة. أحيانا أستغرق بشدة في “الاختبار” الذي أقوم به لدرجة أنني أَغْفَلُ، على الأقل إلى حدٍ ما، عن حقيقة أنني ليس لدي خَالٌ يمتهن المحاماة يعيش في تشيبسايد ولستُ مغرمةً بالسيد دارسي. أو قد أنساق معرفيا وصلًا لما سبق فيخالجني شعور أن ما واجهته إليزابيث بينيت هو أكثر مما تحتويه صفحات الرواية. وفي حين أستطيع أن أتخلص من الوهم الأول بسرعة كبيرة (إلا إذا كنتُ دون كيخوته)، فإن الوهم الأخير يتمتع بثبات أكبر.
ومن هنا يأتي ما يعتبره جيمس فيلان «القوة الخارقة التي تتمتع بها العادة التفسيرية للمحافظة على المحاكاة»8. وربما، من هنا، يأتي شعورنا بالتناقض الوجداني تجاه هذه العادة. وعلى الرغم من ذلك، فإننا، بوصفنا نقّادًا ومدرسين للأدب، نبني كلا من تأويلاتنا الأكاديمية ونقاشاتنا في الفصول الدراسية على أساس «اهتمامنا بالشخصيات كأشخاص محتملين وبعالم السرد بوصفه عالما شبيها بعالمنا»9، ونظل نلتزم جانب الحرص إزاء نزوعنا ونزوع [طلابنا] إلى التعامل مع الشخصيات المتخيلة كأشخاصٍ حقيقيين. ونعتبر هذا النزوع «سوء فهم عاطفي لطبيعة الأدب»10. ونتذمر، كما فعل زميل لي مؤخرا، من أننا «نعمل بجدية شديدة لتسليط الضوء على صرح عالم السرد المحبوك بشكلٍ متقن، وبعد ذلك نجد [طلابنا] ينساقون إلى مناقشة مسألة ما إذا كانت إليزابيث بينيت ضاجعت السيد دراسي قبل الزواج. إنها لم تقم بذلك لأنها لم توجد على الإطلاق!»11 ويبدو لي أن عدم ارتياحنا في هذه الحالة نابع من إدراكنا الحدسي أن تركيبتنا المعرفية المتطورة لا تميز عند مستوى معين بين الأشخاص الحقيقيين والشخصيات المتخيلة. ففي مواجهة إليزابيث بينيت والسيد دارسي، تنتهز نظرية التفكير الخاصة بنا الفرصة (إن جاز التعبير) لتخمين حالاتهما الذهنية السابقة والحالية والمستقبلية، حتى وإن كنا على وعي أن هذه «النماذج المتصورة وأشباح الخيال»12 لا تستحق مثل هذه العناية. ومن هنا، فإن لذة أن “نُخْتَبَر” عن طريق نص سردي خيالي -لذة كوننا مدركين أننا نمارس بفعالية نظرية التفكير الخاصة بنا العاملة بكفاءة كما يبدو لنا- لا تكون أبدا خالية تماما من خطر إتاحة المجال “لأشباح الخيال” بأن تكون مؤثرة جدا في رؤيتنا إلى عالمنا الاجتماعي.
علينا أن نلاحظ كذلك كيف أن هذا الأمر يعقد فرضية وثيقة الارتباط بما سبق وتتمتع بجاذبية شديدة طوَّرها عدد من نقاد الأدب المعرفيين، ومن ضمن هؤلاء ألان بالمر Alan Palmer، الذي يذهب إلى أن إحدى «ملذَّات قراءة الروايات تكمن في متعة معرفة دخائل ما يفكر فيه مجموعة متنوعة من الشخصيات المتخيلة[…] وهذا يشكل متنفسا لنا إزاء مشاغل الحياة الواقعية، وكثير من تلك المشاغل يتطلَّب مهارة لفك شفرة سلوك الآخرين بكل حرص ودقة»13. وفي حين أنني أصادق شخصيّا على هذا الرأي إجمالا (وسأبني عليه بُعيد قليل)، فهناك بعض النقاط ينبغي أخذها بعين الاعتبار. فمن ناحية، نحن فعليا «قادرون على النفاذ المباشر إلى تلك العقول المتخيلة»14 (على سبيل المثال: نعلم أن السيد دارسي يتغلب على تحامله على خال إليزابيث ويتعلم أن يحبّه ويحترمه لما هو عليه كشخص). ومن ناحية أخرى، فإننا نميل إلى المساومة على لذتنا بـ”النفاذ المباشر” من خلال التصديق، مثل إريك أويرباخ، بأن «الأشخاص الذين يروي المؤلف قصتهم يعايشون أحداثا أكثر بكثير مما يؤمل [الكاتب] في سرده»15. ومن غير أن أشدِّد على هذه النقطة بشكلٍ مبالغ فيه، غير أنني أريد أن نتعامل معها بوصفها وضعية معرفية تشبه “وضعية–22″16. تتيح لنا نظرية التفكير الخاصة بنا فهم الشخصيات المتخيلة من خلال إمدادها بذخيرة لا تنضب من الحالات الذهنية، لكن الثمن الذي قد يستخلصه هذا الترتيب منا يتمثل في دفعنا إلى الاعتقاد أن الشخصيات المتخيلة تمتلك بالفعل ذخيرة لا تنضب من الحالات الذهنية. ومن هنا، فإن وهم المتعة الذي يدفعنا إلى الاعتقاد بأن هناك على الأقل بعض العقول في عالمنا الاجتماعي الفوضوي الذي نعرفه تماما تشوهه شكوكنا في أنه حتى تلك العقول الشفافة ظاهريا تنطوي على بعض الأسرار. (ففي نهاية الأمر لا أحد يدري ما الذي دار في ذهن السيد دارسي عندما تم تقديمه إلى خال إليزابيث وخالتها).
بعبارة أخرى، قد نرى أن اللذة التي تتيحها النصوص السردية المتخيلة تقوم على وعينا بالاختبار المثمر لعمليات تكيفنا بقراءة الأفكار، أو على المتنفس الذي يوفره لنا مثل هذا الاختبار جراء عدم اليقين الذي نصادفه يوميا في قراءتنا للأفكار، أو على المزج بين الاثنين. وبغض النظر عن ميلنا إلى أحد التفسيرين أو الجمع بينهما، فعلينا أن نتذكر أن متعة قراءة العقول المتخيلة تكون عُرضة لبعض من نفس أوجه عدم الاستقرار التي تجعل قراءة الأفكار في الحياة الواقعية قراءة مثيرة وباعثة على السخط على حدٍ سواء.
وإذا لم يكن الأمر معقدا بدرجةٍ كافية، فيمكن إبداء بعض الملاحظات عن الجماليات. يرغب بعض الكُتّاب في إجراء اختبارات مبهرة نوعا ما لمقدرتنا على قراءة الأفكار، شرط أن نكون مستعدين لإجراء تلك الاختبارات. (وبالمناسبة، هذا الضمير “نحن” مركّب ثقافي معقّد، فهو يشير إلى قارئ يتموقع تموقعا تاريخيا معينا ويتمتع بذائقة فردية خاصة). إن قصة “ذات الرداء الأحمر” تختبر نظرية التفكير الخاصة بنا بصورة جيدة، بكل ما تنطوي عليه من الحالات الذهنية المعزوة إلى الجدة والفتاة الصغيرة الطيبة والذئب الكبير الشرير التي تقتضيها من قرائها/ مستمعيها. بيد أننا مع تقدم العمر نتطلع إلى تحقق نتائج مختلفة من قراءة الأفكار. فعلى سبيل المثال، عند الناقد الأدبي واين بوث يجب أن يكون هنري جيمس، وليس كل جيمس، وإنما جيمس في مرحلته المتأخرة. وباتجاه ذلك الـ”جيمس” ينتهي بوث إلى الشعور بالامتنان العميق؛ إنه امتنان قارئ واعٍ بذاته للسرد الخيالي في مرحلة معينة من حياته تجاه كاتب نجح في تمكينه من تجريب حالة ثرية من الحالات الذهنية بشكلٍ بالغ التأثير17. وكما يتطرق بوث إلى ذلك في حديثه عن رواية جيمس: “أجنحة الحمامة”:
«لقد دعاني جيمس لإعادة تشييد مبنى جميل برعاية منه، إنه ليس فقط هيكلا مجردا وإنما هو مبنى من مخلوقات بشرية رائعة صاغها الفنان على نحوٍ خارق. وقد أتاح لي الفرصة لأتظاهر، طيلة فترة قراءتي، بأنني أعيش “في الأعلى هناك” برفقته، وأنني قادر ليس فقط على تقدير ما فعله بل على القيام به بنفسي. ليس هناك من أحد، بمن فيهم جيمس18، سبق أن أقام لوقت طويل في ذلك العلو… كيف بوسعي التعبير عن اقتناعي بأنه من الأفضل لي أن يُطلب مني أن أخوض كل ذلك، وإنني على علم إذا ما عدتُ باهتمام مماثل إلى بقية روايات [جيمس] المتأخرة فسوف أُدعى إلى هذه الحالة من إعادة التشييد ولكن بشكلٍ متجدد دوما. لا يساورني أدنى شك في هذا الأمر، فأنا أميل بشدة إلى شواغل من الأنواع التي لا تتطلب درجة كبيرة من الدفاع»19.
لو صادف أن كنتَ مُنظّرا أدبيا معرفيا تخفي أمرك، فلن تكون إلا شديد السرور لسماع واين بوث يتساءل: «كيف بوسعـ[ـه] أن يعبر عن قناعتـ[ـه] بأنه من الأفضل أن يُطلب منـ[ـه] أن يخوض كل ذلك». وااي (هكذا ستهتف بسعادة)، إذا كانت مواصفات قراءة الأفكار لدى القارئ تماثل في تكوينها مواصفات بوث، فليس هناك شك في أنه من “الأفضل” له أو لها أن يتم “الاختبار” عن طريق رواية أجنحة الحمامة. ففي كل خطوة يخطوها قارئ كهذا سيجد الكتاب يقول له، إن صح التعبير: “إن هذه الحالات الذهنية شديدة التعقيد، ومتعددة المستويات، وتتسم بالغموض من الناحية الأخلاقية، وبالوعي الطبقي، وتعكس كل منها الأخرى، وتشوٍّه كل منها الأخرى أنت يمكنك أن تَمْخُر عُبَابها. هذا ما تُجِيدُه في هذه اللعبة الاجتماعية المثيرة للسخط والباعثة على الإعجاب. هل كنتَ تعرف ذلك؟ الآن صرت تعرف!”
لا بد أن شيئا من هذا القبيل يحدث في كل مرة نقرأ فيها قصصا خيالية نستمتع بها، ولو أن المعنى الشخصي الأعمق الناجم عن كل “حوار” بين القصة والقارئ يختلف اختلافا كبيرا تبعا لظروف القارئ ونظرته إلى تلك الظروف. فمثلا، حين جئتُ إلى هذا البلد قبل خمسة عشر عاما تقريبا، مررتُ بواحدة من تلك الفترات المزدحمة بالقراءة النهمة للسرد الخيالي، طالعتُ فيها مزيجا غير مخطط له من الروايات لمؤلفين من بيلفا بلين Belva Plain إلى فلاديمير نابوكوف ومن موريل سبارك إلى فيليب روث. لا بد أن دفعة “الاختبارات” تلك قَدَّمَتْ لي نوعا من “الضمانة” (الأرجح أنها ضمانة وهمية، لكنها ممتعة) بأنني في نهاية المطاف سأكون على ما يرام في العالم الاجتماعي الناطق بالإنجليزية، والذي لا يمكنني سوى أن أخمن اختلافه الهائل عن جيب الجالية اليهودية الروسية في سان فرانسيسكو.
هل كان الأمر مهما بالنسبة لي في ذلك الوقت أن الحالات الذهنية التي خَبَرتُها بمثل ذلك الحماس تراوحتْ ما بين حالات مهاجرة يهودية شابة في رواية “دائم الخضرة” لبلين إلى مشتهي الصغيرات الفصيح في “لوليتا” لنابوكوف، ومن مدرس فاشي في “ريعان شباب الآنسة جين برودي” لسبارك إلى محام مهووس بالجنس من نيويورك في “شكوى بورتنوي” لروث؟ يبدو أن الأمر لم يكن مهما. ربما أكون قد تماهيتُ مع بعض الشخصيات أكثر من غيرها (ومع أن هذا كان أمرا ملتبسا، إلا أن بوسعي الاعتقاد أنني تماهيتُ مع شخصية “همبرت همبرت” في “لوليتا” أكثر من “آنا فريدمان” في “دائم الخضرة”)، لكن الوعي بالتماهي مع الشخصيات لا بد أنه كان بطريقة ما أقلَ أهميةً من الوعي بسعادتي في القدرة على قراءة الأفكار. وقد كانت القدرة على قراءة الأفكار بالغة الأهمية بالنسبة من حيث الطريقة التي كنتُ عليها والطريقة التي كنتُ أفكر فيها بنفسي، خاصة في وقتٍ لم أكن قادرةً فيه على التعبير عن نفسي بإنجليزية سليمة، ناهيك عن مناقشة الحالات الذهنية المعقدة. وأتذكر أنني كنتُ أجري حوارات مستفيضة حول تلك الحالات الذهنية -بواسطة ما كنتُ أعتقد أنها لغة إنجليزية- ولكن في رأسي فقط. وقد فوجئتُ فيما بعد حين علمتُ أنني لم أكن الوحيدة ممن خَبَرَ هذه التجربة، إذ حدثني العديد من المهاجرين الذين قدموا إلى الولايات المتحدة وهم في أواخر العقد الخامس والسادس من العمر أنهم خبروا هذا الأمر أيضا، ويبدو هذا السلوك أكثر تشويقا في حالتهم، لأن قلة منهم فقط -وهم في سن التقاعد- من كان لديه فرصة حقيقية لكسر الحاجز الاجتماعي الذي خلقه حاجز اللغة.
لقد قرأ الكثير منهم عددا كبيرا من الروايات في ذلك الوقت ولا زالوا إلى الآن يفعلون ذلك.
الهوامش
1 – أكاديمية أمريكية متخصصة في الأدب ونظرية العقل، وتعمل أستاذة اللغة الإنجليزية بجامعة كنتاكي الأمريكية، ألفت وحررت أكثر من اثني عشر كتابا، أحدثها: “دليل أكسفورد للدراسات الأدبية المعرفية” (2015)، و”الحياة السرية للأدب” (2022).
2 – يرى كاروثرز أيضا أن فك الاقتران محاولة معقدة لا لزوم لها لتقوية نظرية العمى العقلي لدى المصابين بالتوحد في مواجهة تفسير بديل طرحه بعض العلماء أمثال “أليسون غوبنيك” و”وأندرو ميلتسوف” و”أوتا فريث”، الذين يذهبون إلى أن «العمى العقلي لدى المصابين بالتوحد هو نتيجة لعجز جوهري آخر معين». انظر:
Peter Carruthers, “Autism as Mind-Blindness: An Elaboration and Partial Defense.” Theories of Theories of Mind. Eds. Peter Carruthers and Peter K. Smith. Cambridge: Cambridge University Press, 1996: 258.
3 – Carruthers, “Autism as Mind-Blindness,” 265.
4 – السابق، ص246.
5 – نفسه، ص247.
6 – Reuven Tsur, “Horror Jokes, Black Humor and Cognitive Poetics.” Humor 2–3 (1989): 243.
7 – Tsur, “Horror Jokes,” 248 – 249.
8 – James Phelan, Living to Tell about It: A Rhetoric and Ethics of Character Narration Itaca: Cornell University Press, 2004: 28.
9 – السابق، ص20.
10 – Marvin Mudrick, “Character and Event in Fiction” Yale Review 50 (1961): 211
11 – ستظل هوية هذا الزميل طي الكتمان.
12 – Henry Fielding, Tom Jones. Eds. John Bender and Simon Stem. Oxford, England: Oxford University Press, 1996: 599.
13 – Alan Palmer, Fictional Minds. Lincoln: University of Nebraska Press, 2004: 10.
14 – السابق، ص35.
15 – Erich Auerbach, Mimesis. Princeton: Princeton University Press, 1991: 549.
16 – “Catch-22”: “وضعية 22” مصطلح صاغه الكاتب الأمريكي جوزيف هيلر في رواية بالعنوان نفسه صدرت عام 1961 ويقصد به توافر أكثر من توصيف لواقعة معينة ولكنها تتناقض مع بعضها البعض. فالمصطلح صار مجازا لكل وضعية لا حل لها. [المترجم]
17 – لاحظ أنني أقوم بتبسيط حجة بوث بشكلٍ كبير لكي أُبقي حجتي سهلة المتناول. ففي الفقرة المقتبسة أعلاه، لا يكتب بوث عن هنري جيمس -جيمس “الحقيقي” الذي كان “مقبلا في السنوات الأخيرة من حياته” على الانشغال بصغائر الأمور، بل كتب عن “المؤلف الضمني العظيم” لرواية أجنحة الحمامة-“جيمس” الذي كان “أرفع” مكانة من صانعه، و”تم تطهيره من كل ما اعتبره [هذا الصانع] عيوبه الحية” (“The Ethics of Form.”, 114)، وهذ كيان وصفها بوث في مناسبة مختلفة بأنه “التخوف الحدسي من كل فني مكتمل” (The Rhetoric of Fiction, 73).
18 – مرة أخرى، يقارن هنا بوث بين جيمس “الحقيقي” وجيمس “الضمني” في الرواية.
19 – Wayne C Booth, “The Ethics of Forms: Taking Flight with The Wings of the Dove.” Understanding Narrative. Eds. James Phelan and Peter J. Rabinowitz. Columbus: The Ohio State University Press, 1994: 114.