محمد شحتوت*
لا.. ليس من المزاح في شيء ذلك الذي حصل معي في أوائل التسعينيات من القرن الماضي، كما أنه لا يمت بصلة إلى ما يسمى اليوم الكاميرا الخفية. ما زلت أذكر تفاصيل ذلك المشوار الجميل في حواري الشام القديمة والذي اعتدت عليه ثلاث مرات في الأسبوع، في طريق الإياب من ثانوية دمشق الوطنية حيث كنت أعمل مدرساً للغة الانجليزية هناك. تعرفت خلاله على بائع الهريسة العربية اللذيذة وهو يجتهد في صنعها داخل محل صغير للغاية يقع عند ناصية شارع ضيق يتقاطع مع آخر أكثر ضيقاً. المحل الصغير بالكاد يتسع لفرنه وأدوات صنعته ج. بينما تملأ أجواء المكان رائحة السمن العربي الفواح التي تغازل الأنوف. أعرج عليه وأملأ بطني بنصف أوقية من الهريسة تمسك بتلابيب بطني حتى المساء.
أتابع سيري باتجاه سوق الحميدية العريق. أتصفح الوجوه والمحلات والأزياء على جانبي السوق مستمتعاً بحركة الناس وأصوات الباعة من حولي يتفننون بعرض بضاعتهم. أتذكر تفاصيل ذلك اليوم الذي كنت فيه طفلاً يقودني أبي من يدي في هذا السوق مرة وأنا غارق في الدهشة من جمالية المكان وزحمة الناس، نظرت إلى أبي يومها لأطلب منه شراء لعبة يحركها أحد الباعة على الرصيف، لم أجد أبي!!! فوجئت بأنني أمسك بيد رجل غريب يقابلني بابتسامة ماكرة، ما إن نظرت إليه حتى صرخت باكياً مستغيثاً أتلفت برعب يمنة ويسرة أبحث عن أبي … أبي الذي كان يمشي وراءنا مراقباً المشهد من بعيد.. أطلقت يدي من قبضة الرجل وعدت إلى أبي مذعوراً وسط ذهولي وضحكات الاثنين..
أتابع طريقي إلى سوق العصرونية القريب من قلعة دمشق. ثم أسلك الطريق المحاذي للنهر حول القلعة باتجاه الغرب. أقرأ على حجارة القلعة سطوراً تلخص تاريخ هذه المدينة العريقة.. حيث كل حجر يحكي ملاحم الذود عن حياضها. أكاد أتخيل ملامح الغزاة وآهات المهزومين وأهازيج المنتصرين. هنا كانت تصدح أصوات المنجنيق وهناك تتهادى سنابك الخيل تحت بريق السيوف. أصل إلى الرصيف المقابل لسوق قديم بحي ساروجة نسيت اسمه لكني أعتقد أنه سوق للبضائع الجلدية والحبال والخيام والأدوات المتعلقة بها وغيرها من حوائج الناس قديمها وجديدها. ينتشر أمام السوق على الرصيف عدد لا بأس به من الصبية المتخصصين في صيانة الأحذية وإصلاحها. يجلس كل منهم على كرسي خشبي صغير يسهل حمله، وأمامه صندوق شغله الفقير. نظرت إلى حذائي فلاحظت اهتراء الكعب من كثرة المشي في هذي المدينة. المدينة التي كأنما هي وجدت فقط للمشائين وراكبي الخيول وليس لراكبي السيارات. إنها مسرح كبير لهذا النسيج الإنساني المتنوع الألوان المشارب. قلت هي فرصتي الآن للتغيير وتحسين هيئة الحذاء. اقتربت من أحد هؤلاء الصبية بكل ثقة. أمرني بخلع فردتي الحذاء ودفع لي بشيء يشبه الضبان للوقوف عليه، وقذف لي بصفيحة معدنية فارغة إلا من ضجيجها طالباً مني الجلوس عليها. لم يرق لي ذلك بل شعرت بالذل والمهانة ورفضت الجلوس عليها رغم تعبي وقلت له سأبقى واقفاً أنتظر حتى تنتهي من تغيير كعبي الحذاء. سحبت سيجارة وأشعلتها وأنا بكامل أناقتي أقف متفحصاً الوجوه حولي مرتاباً ومتحفزاً من أن يراني أحد طلابي وأنا في هذا الحال المزرية. ربطة عنقي الخمرية وجاكيتي الكحلي – كان زياً دارجاً للشباب في ذلك الوقت -لا ينسجم بتاتاً مع حالتي الراهنة تلك. وبينما أنا أنظر إلى البعيد إلى حيث ينتصب تمثال صلاح الدين الأيوبي على فرسه مجسداً إحدى معاركه المظفرة في الزمان الغابر، وفجأة حدث هرج ومرج وتعالت الصيحات من حولي …: شرطة !.. شرطة!.. توقف معها هذياني التاريخي وتجمدت خواطري الغارقة بأمجاد الأجداد ونشوة الانتصارات القديمة. التفتّ صوب صاحبي فإذا به يفر بفردتي حذائي حاملاً كرسيه وصندوقه ويختفي في زحمة المكان. بقيت وحدي أقف بدون حذاء وأنا بكامل أناقتي وقمة ذهولي وربطة عنقي تتدلى بحسرة على صدري إلى حد البكاء، تشتتني الصدمة ويجمعني الكبرياء الجريح. مفجوعاً برحيل الحذاء.. وقفتُ متسمراً وسط المارة وهم يرمقوني بنظرات استغراب وكأنني خارج للتو من ساحة عراك. غادرني الألق وغمرني القلق. كنت أشبه بلوحة سيريالية رسمها للتو سيلفادور دالي. مر بجانبي أحد عناصر الشرطة الذين أغاروا على صغار الكَسَبَة ورمقني بنظرة ساخرة محاولاً أن يكتم ضحكاته. قال لي ألا تعرف أن هؤلاء الصبية ممنوع عليهم إشغال الرصيف!؟ طلبت منه مساعدتي في البحث عن الصبي لإعادة حذائي فأنا لم أعد أرغب بإصلاح شيء. فقط أريد استعادة حذائي وحسب والفرار من المكان. تلك كانت أمنيتي الوحيدة وهدفي المرحلي في ذلك المنعطف التاريخي من حياتي. رغم أن حذائي لم يكن على درجة من الأهمية والفخار كحذاء منتظر الزيدي الذي قذف به في وجه الرئيس الأمريكي. لم يأبه الشرطي لمناشداتي وتابع طريقه دون مبالاة يغذُّ الخطى لإتمام مهمته. بقيت على هذه الحال قرابة ربع ساعة ثقيلة حافلة بالمشاعر الممزوجة بالغضب والتوتر والريبة والخجل مما أنا فيه. دخنتُ السجائر الواحدة تلو الأخرى. إنه الفعل الوحيد الذي أستطيع القيام به حينها في ذلك الوضع البائس…
ملتصقاً بالمكان.. أتلفتُ يمنة ويسرة حافياً من كلّ شيء، كمن يبحث عن كبرياء مفقود وعلى وجهي ترتسم ابتسامة موناليزا، بينما ترتفع في الأفق راية الوطن).