نبيل منصر
وحيد القرن
لَمْ نَصطد وحيدَ القرن. وحيدُ القرن
لم نصطده.
جُبنا أطرافَ الصحارى وتُخومَ الغابات البعيدة.
شِباكُنا في كُلِّ مكانٍ مُغطاةٌ بالعُشب
والأزهار والدُّموع.
آثارُ أقدامِنا، تأتي مِن ورائنا دائمًا رياحٌ صديقة،
تَذروها على البُحيرات والأنهار،
لكنَّنا، إلى الآن، لَمْ نَعثُر
على وحيد القرن.
لا فتاة جميلة تتعلَّقُ بِقَرنِه الفِضِّي.
لا مُوسيقي مُرهَفٌ يجعلُه يَلتَفِتُ إلى آيات الناي.
لا عرَّافة تنزِلُ مِن قفَصِها المُعلَّق لِتحرقَ بخورا
يَنتشرُ عِطرُه في السَّواحل.
ولا شاعر بَيننا، يُبادِرُ بِحَمْل المِرآة
التي يَنعكِسُ عليها وجهُه النبيل.
شِباكُنا في كل مكان،
لكنَّ وحيد القرن لا يَأتي لِيَنهَل مِن صورتِه
المُنعكِسة على الماء.
لا يأتي إلى البُحيرة
التي تَستحِمُّ فيها المرأةُ عاريةً وحيدةً،
بِشَعرٍ يَنتشِرُ مثل نيلوفر أسودَ، وَنهدَين طافحين
بالنُّور والنِّعمة.
سواء أجُبنا أطراف الصحراء أو غابات الفن،
سَتبقى شِباكُنا مُغطَّاةً بالليل الأبدي،
ستبقى أشعارُنا مغمورةً بالعتمة،
ولن يأتي وَحيدُ القرن لِينهَل
مِن راحةِ أيدينا.
قابيل
حَجرُكَ يا قابيل ما زال َيهوي عِبر العُصور.
اليدُ التي تَرمي بِه تتضاعفُ كل يَوم في مرايا عديدة،
والرؤوسُ التي سَقَطتْ لا تستطيعُ كتمانَ صَرختِها،
فَتواصلُ السُّقوط من صناديق السُّحبِ المفتوحةِ
مِن أجراف الوديان،
مِن مُنعطفات الزَّمنِ
ومِن بين ثنايا الرِّياح.
الحجَرُ يُواصِلُ سُقوطَه بأشكال وحُجوم مختلفةٍ،
والمرايا أيضا، لا تَفتأ تتضاعَفُ بيننا طبقاتُها العميقة،
فنَرى فيها ما نَرى
وما لا نَراهُ يَغور كالمدية في لحم المجهول
لا نراه حقًّا،
ولكنَّنا نَسمَعُ، في المنام، مِزقا من الصرخة الحيَّة هائمةً،
نُثارًا مِن أبيض الألم ودَبيبِه المكتوم.
تَسقُط الثلوجُ في كل مكان،
وترتدي الأرضُ حُلَّة جميلةً وباردةً.
يَستيقظ قابيل ويواصِل المشيَ بيننا،
نافِضًا عن أرديته غُبارَ القُرون.
يَستيقظ الغُرابُ،
يَتململُ نافضًا عنْ كاهِله حَصيلةَ ليالٍ عاصِفَةٍ،
عامِلًا مِنقارَه، بكُلِّ عَزم، في صخرةٍ بيضاءَ
تَذوبُ تحتَه ببالغ البُطء.
صندوق أسماك
كمَن يَمشي بَطيئا على السَّاحل الباكرٍ،
حامِلًا بين يدَيْه الباردَتينِ صُندوقا مِن الأسماك المتلألئة،
أمشي وَحدي كُل يَوم،
أمشي على الحصى اللامع المغسول،
مُحاذيا كائنا كبيرا يَتلألأ فوقي مِثل جَوهرة مُحصَّنة في بيت الغُيوم.
أمشي بِتَصميم إلى غَير وِجهةٍ،
أمْشي لِأنَّ الأسماك المتلألِئة في صُندوقي الخفي
تتقافزُ بين يَدَي وتحت عينَي
فَتدفعُني الآنَ إلى أنْ أَعجلَ، كأنَّ أفواها جائعة
تَنتظرُني في كوخ قريب.
أمشي، مُغطيا صُندوقي بِنظراتي الهلِعة،
مُتحَسِّسا طيورا فوق رأسي،
تُحلِّق زاعِقة بعُيونها الحمراءَ، كأنَّ فِراخا
تَنتظِرُ بِأعشاشها الصخرية، عَودةَ مناقيرَ كبيرة
مُحمَّلة بسَراطين وأسماك حَيَّة.