إعداد: دلدار فلمز
فنان وشاعر سوري
إلى خالد خليفة
على بطاقة دعوة للمعرض كتب الناقد السويسري Simon Maurer:
تستخدم لوحات الشاعر والفنان التشكيلي الكردي السوري دلدار فلمز شفرات رمزية تحكي معاناته كلاجئ سياسي وإنساني، وهو في مجموعة أعماله الجديدة، التي أنجزها خصيصًا لهذا المعرض، إنما يستحضر ويحاور ديوان “مرايا الغياب” لصديقه الشاعر السوري فرج بيرقدار، الذي يعيش الآن في منفاه في ستوكهولم بعد أربعة عشر عامًا قضاها كسجين سياسي في بلاده.
يحيي المعرض ذكرى الكاتب السوري البارز والراحل مؤخرًا “خالد خليفة”، الذي أقام “كاتبًا زائرًا” في “دار الأدب” في زيوريخ العام الماضي.
تتجاوز لوحات فلمز مأساة مضامينها من خلال تسمية الألم ونفيه والإشارة إلى طريق ينحو إلى مستقبل أكثر إنسانية وسلامًا .
كتب خالد خليفة:حين كنت شابًا صغيرًا، أردت أن أصبح كاتبًا، في مرحلة مبكرة قرأت قصائد ديوان فرج بيرقدار الأول “ما أنت وحدك” وتداولته مع رفاقي الكتّاب الشباب خاصة اليساريين من أبناء جيلي، صدرت بعد ذلك قصيدته “جلسرخي” في كتاب صغير عام ١٩٨١، تبادلناها كمنشور سري، خاصة وأن القصيدة تحتفي بالشاعر الذي أعدمه جهاز السافاك لشاه إيران.
لم يطل الوقت حتى وقع فرج بيرقدار في الأسر، واعتُقِل مع رفاقه ليقضي أربع عشرة سنة في سجن ظالم عقابًا على قول “لا” في وجه النظام، رفعنا كأس شاعرنا المعتقل في أغلب سهراتنا، هذا ما كنا نستطيع فعله، وأعدنا قراءة قصائده، رغم أننا لم نكن منتمين ولا حتى نفكر في الانتماء إلى أي حزب سياسي، كنا مجموعة كتّاب شباب يساريين هوسنا الكتب والفن ولدينا طموح واحد أن نصبح كتابًا.
أذكر لقاءاتي مع فرج بعد الإفراج عنه في أمسيات وأماكن مختلفة من العالم. ما زال رفيقي الذي أنتظر منه الكثير. ما زالت صداقتنا التي نمت في أوقات متباعدة تحمل ذكريات عاطفية لا يمكن لها أن تنتهي. دومًا لدينا كلام معلق نتركه وراءنا.
حين وصلت إلى زيورِخ منتصف شهر كانون الثاني تلقيت مكالمة من دلدار فلمز الصديق الغائب، ببساطة أخبرني أنه في زيورخ وقريب من منزلي، إنها المفاجآت الحلوة التي أنتظرها في كل مكان. التقينا من جديد كأنه لم يمض أكثر من عشر سنوات عن آخر لقاء لنا في دمشق.
ما زلت أذكر دلدار الشاب القادم من الحسكة حاملًا رائحة حقولها على جلده إلى دمشق، كان مفترقًا عن أبناء جيله، يغرد خارج سربهم، يحمل ألوانه الترابية، ألوان حقول الحسكة معه وينثرها أينما حل.
ما زلت أتذكر لوحاته الأولى التي رسمها في دمشق، أتذكر فرادتها، وحيرتها في الأسلوبية التي ينشدها، كان الجميع غارقًا في الألوان الحارة والزاهية، بينما دلدار كان غارقًا في ألوان التراب الباردة.
أن يرسم دلدار قصائد فرج بيرقدار في ديوانه “لوعة الغياب” صاحب الحكاية التراجيدية السورية الخالصة، الذي كتبت قصائده في السجن وهُربت إلى خارجه، والذي صدر للمرة الأولى عام ٢٠٠٥ بعد رحلة طويلة من المصادرة والمنع.
هذه الشراكة الإبداعية بالنسبة لي حدث شخصي، يجمع صديقين ويعيدني إلى الذكريات التي لم تتركني بعد، يعود دلدار إلى التجريب الذي هو حلم البقاء بالنسبة لأي رسام، يرسم بمواد ثقيلة، بالطين ومواد مختلفة يخط لوحاته على قماش سميك وألواح خشب، بحنينه إلى تلك الحقول المفتوحة يعيد خلق عوالم قصائد فرج بيرقدار الذي لم تغادره سوريا، ولن تغادره رغم عيشه بعيدًا عنها منذ عقدين، رغم الأسى الذي عاشه وعشناه معه كسوريين.
لا يمكن لنا إلا ملاحظة قوة التعبير في لوحات دلدار فلمز هذه، بألوانها الكابية، الأقرب إلى الألوان البنية، واختلاطها مع كل ما يذكرنا بتلك الأرض البعيدة التي تحفل قصائد فرج بالتغني بحزنها ووحدتها وغياب أحبابها عنها. لكني دومًا أبحث عن المعاني، كيف سيرسم دلدار هذه القصيدة:
“قلبه جرس
وجسده كنيسة
وعيناه مغمضتان
على امرأة
ترتدي حزنها
وتقيم لعودته
قداسًا من الدموع”
كيف لنا رسم الغياب، خطوط اللوحات النافرة، عوالمها المفاجئة تخبرنا عن نقلة جديدة لدلدار الرسام أيضًا الذي ما زلنا ننتظر منه الكثير كشاعر ورسام.
كما نقرأ هنا كلمة الشاعر السوري فرج بيرقدار متحدثًا عن ديوانه وعن لوحات الفنان التشكيلي دلدار فلمز التي أعادت صياغة (مرايا الغياب) لونيا منذ الانقلاب العسكريّ، بدأت سوريا تأخذ شكل معسكر اعتقال، تتناسل في داخله سجون ونقاط اعتقال وزنازين لها وظائفُ أكثرَ تخصصًا، وبالتالي أكثرَ قدرة على الترويض أو التحطيم وتأسيسِ الغيبوبة ونشرِ الغياب.
وإذا كان المنفى صورةً للغياب، فإن السجن صورةٌ للتغييب الذي هو غياب أقصى، لا يتفوّق عليه سوى الموت بوصفه غيابًا نهائيًا.
عاينتُ وعانيتُ التغييب والغيابَ في السجون لأربعةَ عشرَ عامًا، وحين حاولت مقاربة ذلك الغياب في قصائدي، اكتشفت أني لم أكتب سوى عن ظلاله في المرايا، وهكذا نشرت تلك القصائد تحت عنوان “مرايا الغياب”.
لاحقًا أخذت المرايا تصفو، وصرتُ أحسّها وأرى فيها ما لم أكن أُحسّه وأراه حين كتابتها.
للمصادفة، وللمفارقة أيضًا، صارت مجموعة “مرايا الغياب” أكثرَ انتشارًا وتداولًا وترجمةً وحتى غناءً، وبالتالي أكثرَ حضورًا من معظم ما كتبت، غير أن حضورَها الأقصى وتجلّياتِها الأبعدَ والأعمقَ والأكثرَ انخطافًا وارتجاجًا لم يكن من خلالها هي أو من خلالي أنا، بل من خلال استدراجها إلى كمائن لوحات الفنان التشكيلي دلدار فلمز، الذي أعاد قراءةَ واستقراءَ مجموعة “مرايا الغياب” ضمن مشروع فنّيّ تتكامل فيه لوحاته حتى صارت هي صوتَ الغياب، وغدت القصائدُ نوعًا من الأصداءِ، إن لم أقل الإصغاء.
أحيانًا تبدو اللوحات مكتظةً بموتٍ مُشرِق أو مضيء، وأحيانًا مسفوعةً بشهيق جمرِ الغيابِ وزفير رماده، كما لو أنّ الغياب صراعٌ أو عناقٌ بين الموت والحياة، وفوق كل ذلك هناك جراءات وتحدّيات في تكويناتِ وتشكيلات اللوحات وموادّها وتكنيكها. وعلى الرغم من الحجم الكبير لبعض اللوحات فإنها تنطوي على إلماحات وتلميحات وملامح أيقونية.
هي سلسلة لوحات تحرِّك الكوامن، وتستثير ما ينطوي عليه حالُ الغياب من طبقاتٍ وأضداد وأزمنة مطوَّحةِ على أنفاق وآفاق وعتماتٍ وأضواء.
لوحاتٌ تقيم حواراتها مع موضوعها “الغياب” ببساطة جارحة الدلالات والجماليات والرموز المفضية إلى جعل الغياب حضورًا لغياب أبعدَ وأكثرَ عمقًا واجتلاءً لمرايا الزمان وأقفالِ المكان وتواطؤِ ما بينهما من سكاكينَ ومفاتيح، وانعكاسِ وجوه المعتقلين وهواجسِهم على تلك المرايا، وضيقِ التنفَس داخلَ ما وراءها من زنازينَ مكويةٍ ببريق الدمع وبروقِ الإرادة، ومعجونةٌ جدرانها بأجساد المعتقلين.
لوحاتٌ تتجرأ على مزج طين الإنسان بطين الأرض، لتتجلّى بهما ناطقة ونابضة بالحياة.
هكذا يحضر الغياب في هذه اللوحات كما لو أنه ظلالٌ مخبوزةٌ في أفرانٍ تعيد تشكيله أو تنفي معناه وتدعوه إلى أن يتبنّى نقيضه.
قد ينطوي كلامي ظاهريًا على قليل أو كثير من الغموض والتناقض، ولكنه في صميمه ليس كذلك. ألم يكن الغياب حاضرًا معنا دائمًا، رغم غموضه دائمًا، طوال سنوات الاعتقال؟
إذن لا يغيب الغياب إلا ليحضر في هذه اللوحات، كما كان في القصائد، ولكن على نحو أكثر اكتظاظًا وتجريحًا وإفصاحًا.