يعيش لويس باربيري ريكيلمي(1955؛ تشيلي) حالياً في منطقة كوكيمبو، تشيلي. يُصمم ويصنع الأثاث من الخشب المحلي في تجارة مملوكة للعائلة. صدر شعره في عدة دوريات، منها: «Pigeon?s Burrow, Serena contemporary Poetry» 2013. وفي دورية «شعراء وقصاصون» الصادرة عن مركز الثقافة البيروفية، ميامي، الولايات المتحدة الأمريكية، عدد 2013. وفي دورية «من أجل الشجاعة لنعيش» الصادرة عن Santiago Inedito, 2014. وفي دورية «Verses of the Transversal Valleys» الصادرة عن منشورات «Good Hope»؛ كوكيمبو، 2014. وقد مثل منطقة كوكيمبو عدة مرات في معرض سنتياغو الدولي للكتاب، تشيلي. وشارك في ملتقى «الأدب» الذي أقيم في جامعة توكومان «Tucuman» الوطنية؛ الأرجنتين، 2012. وفي مهرجان «سماوات مفتوحة» الشعري الذي أقيم في ليما، البيرو، 2015. وفي ملتقى الشعر التشيلي، 2016.
في هذا الملف، نترجم قصيدة «تلغراف القصدير» كاملة، وكان لنا هذا الحوار مع الشاعر لويس باربيري ريكيلمي، الذي جال بنا في سماوات الشعر والأماكن الأولى. تحدثنا عن العظماء الشعريين في أمريكا اللاتينية وعن الديكتاتورية:
كيف كانت بدايات السؤال الشعري..
حين كنت طفلا، وبمجرد أن تعلمت القراءة، كنت أقرأ بصوت عالٍ «مزامير الملك داود» على جدتي وجدتي الكبرى لأنهن كانتا أُمّيتين. بعدها بدأت برسم لوحات هزلية وفكاهية ثم أبيعها لرفاقي في المدرسة، بعض تلك الرسومات احتفظت بها لنفسي، لكنها للأسف فُقدت مع الوقت.
بدأت في كتابة الشعر وأنا في الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة. كان أحب المؤلفين إليّ هم بيثنتي هويدوبرو، بابلو نيرودا، والت وايتمان، اوسكار كاسترو، غارسيا لوركا، خوان رامون خيمينيث. كانت تلك الأيام مرحلة الانفتاح الثقافي في تشيلي. أيام انتخاب سلفادور أليندي رئيساً للبلاد، وبالتالي تأسيس أول حكومة اشتراكية في العالم عبر انتخاب شعبي وليس بوسائل مسلحة.
ومع مرور السنين، اقتربت من شعراء من مثل غبرييلا ميسترال، جورج تيليار، بابلو دي لورخا، عزرا باوند، وخصوصاً أصحاب الشعر «الهرمسي» من مثل إيجينيو مونتيلا، جوسيبي أونغاريتي، وغيرهم.
vv كما هو جليّ، فإن ذاكرة الطفولة وأماكنها هي بؤرة قصيدة «تلغراف القصدير» التي نترجمها كاملة في هذا الملف. حدثنا عن الأمكنة الأولى وعلاقتها بشعرك..
ولدت في جنوب تشيلي؛ في مقاطعة غالبيتها من الفلاحين، حيث تمطر السماء لأربعة أشهر متوالية، مع فصول أربعة متمايزة جداً. شاعرتنا الفائزة بنوبل للآداب غبرييلا مسترال وصفت الطفولة «بالبلاد الصغيرة». إنها المكان الذي يعود إليه الشاعر أبدا، حيث يقتات ويغْتني، ويبدو غير مسرور وهو يخرج منه. لذلك فإن تلك «البلاد الصغيرة» بمكوناتها -كالمطر- ستظل في نصوصي، رغم أن معظم أعمالي الأدبية قد أنجزت بالكامل في صحراء الشمال من البلاد.
vv قصيدة «تلغراف القصدير» مشحونة بحميمية تجربة خاصة وفريدة..
إن وجود الانترنت وبلغة مشتركة سهّل علينا قراءة الآخرين من الشعراء، مع أن كل واحد يبحث عن أسلوبه الخاص مع حبه لأرضه الأم وهويته. هناك بحث دائم عن طرائق مختلفة للتعبير يتم اكتشافها عبر التلاقح الثقافي والتجربة الذاتية. كل بلد له مجموعاته وأجياله الشعرية التي تبحث عن صوتها الخاص، تبحث عن هوية تميزها عن الآخرين.
شعري متأثر بالكتابة التلقائية «الأوتوماتيكية» والهرمسية «الباطنية» والباروكية الجديدة خاصّةً تلك المرتبطة بشعر « Lárica» الذي يعود جذره اللغوي إلى «مكان» حيث الشعر ينظر الى الأمكنة السعيدة في الحياة، خاصة منازل الطفولة.
vv في ثمانينات القرن الفائت، شاع شعر التفاصيل اليومية في منطقتك. شعرك يحتوي على صور وومضات من حياتك اليومية وبعضها فقرات كاملة لكنك تختم تلك الفقرات بجملة استعارية..
في الثمانينات، كانت بلادي تحت أبشع حكم عسكري ديكتاتوري: اعتقالات، تعذيب، قتل وتهجير. أوائل من طُردوا من البلاد كان المثقفون. وأنت بالتأكيد -بما أنك من الشرق الأوسط- تعلم جيداً أن الشعر في هكذا فضاء يعرض كاتبه لخطر الاعتقال. كثير من الشعراء كتبوا شعر التفاصيل اليومية، لكنها زاخرة بالمجاز حتى لا تثير شبهة النظام.
vv أشعر بألفة عندما أقرأ قصيدة «تلغراف القصدير». ربما لأجواء صحراء الجنوب التشيلي العظيمة، المبثوثة في العمل، وهي مناخات تذكرني بالربع الخالي في الجزيرة العربية، التي هي جزء من بلادي، ومن ذاكرة طفولتي.
حدثنا عن علاقتك بالصحراء؟..
أظن أن الصحراء الأشد جفافاً في العالم لعبت دوراً كبيراً في شعري. لقد عشت في الصحراء سِتّ سنوات هي الأسعد والأهم في مرحلة شبابي. يعبر هذه الصحراء نهر لوا (Loa)، والذي يتبخر معظمه قبل الوصول إلى البحر. على شطآنه ما زال يعيش الناس بأزيائهم التقليدية رغم العصر والتمدن.
الصحراء تُلطف الروح، وتعيدنا إلى الفطرة. لن تُعاين حركة في ذلك البعد اللامتناهي، لا روحاً ستجد في عزلة تلك العروق العارمة، وعندما يتوقف الهبوب، يكون السكون عميقاً إلى حد أنك تسمع نبضات قلبك.
vv أنت من مواليد 1955، لكن أعمالك لم تنشر إلا بعد 2010. هل تخبرنا أكثر عن هذه التجربة؟
لقد كنت في العشرين من عمري حين تزوجت. كانت مرحلة ديكتاتورية مريعة سياسياً. وكانت البلاد تمر بأزمة اقتصادية خانقة أقفلت فيهاالمصانع أبوابها، وكان علي تدبر شأن العائلة: أنا وزوجتي وثلاثة أطفال. العائلة في تلك المرحلة كانت هي الأهم، وليس نشر كتاب. أن تكون شاعراً ناشطاً في تلك الفضاءات السياسية الديكتاتورية، فأنت معرض للاعتقال من قبل أجهزة الأمن. ورغم تلك الحالة المقيدةوالخامدة، كنا نقوم بقراءات شعرية في الخفاء، وأخرى قراءات عامة لكنها مراقبة من قبل أفراد الأمن السريين. فقط من كان من بين المكرسين أدبياً كانت تنشر له الأكاديمية بعد موافقة لجنة النخبة والنقد التابعة لها. بينما من كان خارج تلك الدائرة، فلا فرصة له للنشر. بعد سقوط الديكتاتورية وظهور الانترنت،أصبحت أمور النشر أكثر سهولة لمن كان خارج دائرة الأكاديمية.وفي هذه المرحلة أيضا كنت قد انفصلت عن زوجتي، حيث أتاحت لي الوحدة تكريس الوقت للكتابة والتنقيح والنشر. إلا أنّ هناك كثيرين من أمثالي كانوا في حالة ركود دون نشر، وللأسباب نفسها تقريبا.
vv بابلو نيرودا من أشهر شعراء أمريكا اللاتينية في العالم. تُرجم للكثير من اللغات ومنها العربية. نحن نحبه ونقدره خاصةأعماله ذات الروح الثورية وبياناته السياسية العلنية.
حدثنا عن العظيم نيرودا من وجهة نظر تشيلية؟
بابلو نيرودا وغبرييلا مسترال هما الأشهر خارج تشيلي وذلك لحصولهما على جائزة نوبل. غبرييلا كأول امرأة لاتينية تحصل على نوبل في 1945، ونيرودا في 1971. كلاهما جاء من أصول متواضعة. هؤلاء هم الأربعة العظام في الشعر التشيلي: بيثنتي هويدوبرو، غبرييلا مسترال، بابلو نيرودا، وبابلو دي روخا. ورغم أن نيرودا كان مرشحا لرئاسةالأمة التشيلية، غير أنه لم يكن محبباً من قبل المثقفين. فهناك صورة مغلوطة عن أن نيرودا كان شاعر المثقفين، بل العكس، شعره كان منتشراً وبشكل واسع بين عامة الناس. في المقابل، كان دي روخا معبود المثقفين. وكما هو معروف أن تنافساً كان يدور بين هذين الشاعرين، فمن كان صديقاً لنيرودا لم يكن ليصادق دي روخا، ومن كان مقرباً من دي روخا لم يكن ليقترب من نيرودا. نيرودا مبجل لأجل أعماله الأدبية، لكن البعض لم يغفر له كونه كان شيوعياً بورجوازياً في آخر سنوات حياته. أخيرا، نيرودا مات قبل انقلاب بينوشيه العسكري، حيث وضع في المستشفى لعلاجه من السرطان، لكن هناك شبهات كبيرة تحوم حول تسميمه من قبل العسكر. وبما أني ساردٌ في هذه اللحظة، فاني أستطيع أن أقول أني رأيته على بعد مترين يمر من أمامي في السْتاد الوطني (national stadium) عندما تجمعت الأمة في 1972 لتحيته بعد حصوله على جائزة نوبل.
vv إننا نشعر بأن الجماهير في أمريكا اللاتينية ما زالت شغوفة بالشعر، تحضر إلى القراءات بكثافة خاصة في المهرجانات الشعرية،وهي حالة تختلف كلية إذا ما نظرنا إلى الغرب المتقدم أو شرق العالم الثالثوي. فالشعر فيها نخبوي.
لماذا في رأيك ما زال الشعر صامداً جماهيرياً في منطقتك؟ وما هي اتجاهات الشعر الحديث في أمريكا القرن الحادي والعشرين؟
في البدأ لا بد لي أن أوضح أن الشعر هنا ليس منتشراً جماهيريا. وبما أن الشعر الطليعي مختلف وغير مستساغ اجتماعياً، فهو لا يُباع بسهولة،لذلك فإن دور النشر الكبيرة تفضل المؤلفين الكلاسيكيين. الشعراء هنا فقراء، ولزاماً عليهم أن يمتهنوا عملاً ما لأجل النجاة من الموت فاقة. هناك نوعان من الشعر في بلادي: الشعر الرسمي المنتسب إلى النخبة الأكاديمية والمعتَمَد من النظام، وهو الذي يباع بكثافة عبر حملات إعلانية قوية. معظم هذه الأعمال لا بد لها من أن تكون من الحجم الكبير، أي صفحات كثيرة لتصلح تجاريا، دون النظر إلى جودةالمضمون. كذلك حولوااهتمامهم التجاري إلى الترجمات الشعرية، خاصة شعراء أمريكا الشمالية. هذا النوع من الشعراء والمترجمين ينتمون إلى المدرسة الأكاديمية، وهم من توظفهم دور النشر الكبيرة لإنتاج هذا النوع من الكتب.
هناك أيضا شعر يكتب خارج أسوار المؤسسة، طليعي غير مكترث بالقوانين الأكاديمية ونخبتها المثقفة، شعراء يقرأ لهم طيف واسع من الشباب. وضمن هذا الحراك يُنتج فيض من الشعر يصل إلى عامّة القرّاء. لا بد من التنبيه هنا إلى تكون حركة أدبية في أمريكا اللاتينية تتضاد جوهرياً مع التوجهات التجارية لدور النشر الكبيرة، ما أدَّى إلى ظهور عدد كبير من دور النشر الصغيرة، تقود تياراً غير مؤسَّسِيّ، خاصة في الهوامش والأطراف من تشيلي، والتي أسست لأسواق كتاب تنتشر على طول البلاد وعرضها تعمل على مدار السنة.
كان من الصعب الترسيخ بثباتٍ للحركات الطليعية في أمريكا اللاتينية، كثير منها ولد ثم اختفى، لكنها تركت إرثاً سيقرأ يوماً ما ويحلل. في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، ظهرت حركات أدبية مختلفة. قيل أن مرحلة «الطفرة الأمريكا لاتينية» في الستينات من القرن المنصرم كانت من صُنع دور النشر. في المكسيك ظهر جيل التجريبية الأدبية في ما سمي مرحلة «ما بعد الطفرة». ظهر أيضاً، حركة الشعر «ما تحت الأحمر» للتشيلي روبيرتو بولانوس. في كولومبيا ظهر جيل «المسوخ»، في البيرو «الساعة صفر». في تشيلي ظهر «الشعر المديني»، وشعر الأقليات الجنسية، والشعر العِرْقي، وشعر الصوت، والشعر التصويري للشاعر جليانو ديسلر، واشتهر نيكانور بارا بكتابة «ضد الشعر»، وأيضاً ظهرت حركة الشعر الباروكي الجديد.
معظم شعراء تشيلي المعاصرين كتبوا عن واقعهم المعاش، عن أرضهم، عن الشعري في حياة السكان الأصليين لجنوب تشيلي. كتبوا شعر»مابوتشي»؛ لغة السكان الأصليين في الجنوب، ثم ترجموه إلى الإسبانية ليقرأ وينتشر. في القرن الخامس عشر، كتب الشاعر والجندي الإسباني ألونسو دي إريكيلا كتاباً عنوانه «أوركانو»، لإجلال أعدائه المابوتشي. اليوم؛ هناك حركة واعدة من شعراء المابوتشي، من ضمنهم: إريكولا تشيهولاف، غارسيلا هوانو، جيمي هونون، ديفيد أنينير وغيرهم.
تلغراف الصفيح
إلى: ليون ريناتو،ابيجيل كاتالينا
الذاكرة التي أُحب صفيرٌ في منتصف الصحراء
تتخذ قوام جسدِكِ الماطر.
تجدل ذاتها تحت ضوء الجدار الخافت
في ورق مدموغ بالأحجار.
تجتاز الدرب عبر ملاك
يُصفّر في سمائي.
تنير ظلال الزنجار قبالة الليل.
أصوات هذا الطفل عادت
لتُسمع من زاوية تلغرافي
القابع تحت خيط سري
في هذا الوادي.
غادَرَنا الآن
حلمٌ يرانا عبر المرآة،
وبينما أصيرُ هنا شمساً
يصير الفِناء المفقود حياةً.
أمطاركِ تنطق بالأسرار،
بالأشياء
التي هي في مكان آخر معي.
رأيت أحلام الرحيل في
عيون الشجرة تتفتح،
تُقلع من الميناء تجاه
الأمل..
ظلالاً تتحرك في الطريق.
حزمة من الأضواء الحميمة
تصل لتقعُدَ في الليل
إلى جانب الدرب
قبالة الصورة المُرتعشة على النافذة
جالبة مُنحناها الإهليلجي الملتهب
أبدا.
عيونُكِ تتسرب من السماء،
تَظهرُ الحدود من عالم صحراوي ساكن
كل شيء هنا مُسَكَّن بجرح ملْحي.
درّبتُ نفسي على الترحال
مغموراً بالكامل
أصغي عارياً للجبال،
أتبوّل الأضواءَ
وقوس الليلِ
والحليبَ المنسكبَ في العزلة.
ومضات نحو الشمال الصحراوي
الفم الحجري إلى أعلى..
من خطمها منثورةً نحو الشمس
تظهر من جديد
تلك الرمال المالحة كأنف جبل الجليد
بمعاطف من جلود كلمات جافة.
تفتح الشمس فمها على النهر
شذى شجرة الشنار الرائق يغمر الهواء.
أحدد أثر المسارات
التي تتفتح عبر العيون.
حواف الرمال تنظر
عبور المياه
سيارةً عتيقة
أقدامَ أطفال شفّافين
البردَ
تقاطعَ الأنهار في حقل ذرة،
أنظرُ
عبور الحتف
الذي لا يتبدل.
أوراق الخشب
المتفتحة في عروق
الجنوب القاسي،
عاصفة أرضية في الأحلام..
هناك تنتصب
من الشجرة مقاعد،
طاولة، سرير
مؤطر بالفولاذ.
وتكتسي الأذرع بالعضّات،
هي إشارات أرضية من فم الشمس.
ظلال شحيحة
العين الجافة من بئر النجوم
المجهولة والغامضة
تهتز فوق الباب
أُؤمن بأني جئت من حلم صغير
يمشي عارياً فوق عين الشمس.
بلدتي، البُرْهَةُ الحنون في صخب اليوم
باتت زقاقاً بأعلام ورقية صغيرة
منصوبة على البطن الملون لصِلصَالِكِ
مشذبة صورتها على صورة خصركِ
موشوم جسدها بالجبال وصوتي.
قريتي»فيكونه» تظهر سمراء من السماء
تحت الجبال على شاكلة حلماتكِ
ماؤها البدائي يتدفق
نازلاً عبر الوادي إلى بحرنا.
لا أعرف ما الذي يؤلم
عندما تبسطين فرْشَكِ
فوق الصمت
العذب
تحلّين به ظفائرك.
هناك جنات حجرية عارية
من الأمطار
نباتات تُعرش كخيوط
عنكبوت
على سفح وادي «إلْكوي»
تُشيّدُ ساحات مجهولة
تضيء بالصلوات
نطفة العذراء
مع آلهة من طبل
جعلت من ذواتها مهاجرين
دون سطوة،
ولا متعة في الجنس
فجوات جدران معابدها الطينية
مغطاة بعيون القوارير
صور جافة على مذابح مشدودة
صوب الشمس
الناس يرحلون كغرباء
وهم يطوفون حول الوادي
محشورين في أرض صغيرة بلا أبواب.
هذه الأيام
يظهر لنا أبي الخرف
دون وجه،
يوصي الذاكرة
أن تجفف جذور العين
أن تحلَّ عُقَدَها
في حجرة السنوات المظلمة.
كُتبَ النسيان على جبهته
في عين طفولته القصيرة
في طفولتنا
وحيداً ترقد نظراته
في سبات على الموقد
ملطّخاً بالليالي
يلقي حلمه في قلوب
الأطفال.
يصبح جسده أعزلَ من أثر البرد
يطقطق بيديه قبالة نار صغيرة.
تعرفتُ على اللذين جعلوا
من أشجار النخيل
ترفرف على ضفاف الليل.
في الجهة الأخرى، مرآة الذاكرة
تقذف بنفسها
على مرمى عين
تُفرغُ الأصوات في كأس
حيث الأزرق يغلف وجْه الأيام.
ما زالت العيون أشجاراً
مخفية بين الأوراق
في انتظار الصافرات
السرية للطفولة، نكتشفها
وهي لا تتعرف علينا
جاهلة أننا ذاهبون
للدوس على الموت،
أنّ الأطفال ذاهبون
مثل كُبّة خيط
مجدول عبر ظل الوادي الخصيب.
زمن الرمال الصامتة
والأسوار المشمسة
في الوقت المناسب يحميني
كأني ميت في حجر رملي
إصبعه ترسم سمكة
في حياة أخرى
تغمرني
في بقعة من الماء لأحيا
تنسجُ الكلمة في النبيذ
صلابةُ تستبدل الطرقات
تغطي هذا البحر الذي يكلمنا
الممتد من الأحلام.
النهار مصنوع من ناره
المحيطة بالشجرة.
قيلولة مع ألواح الخشب المتكدس،
الماعز وصوته القاضم
تحت الشمس
عند الأبواب الصدئة
الذي يعْبر الآن المقدمة
يحزن مع الكلب
مع هذه الصحراء
التي في بطنها صحراء أخرى
مخبأة تحت الشمس.
تصل حيواناتنا من الرحلة
مع نباح متعرج
مرسوم على الرمل.
خلف تلك الأيام السحيقة
أصوات الأطفال
أطفال الخشب
ما زالت تسود إلى اليوم
ساحة الدار
حافظين في صناديق حجرية صغيرة
خواتم العائلة.
وفي انعكاسات البحيرة الضحلة
ما زال مالك الحزين
يتمشى.
بعدها
وجدت أياديكم
أيادي الأطفال
ما زالت
على مقابض الأبواب الصدئة
المغطاة بالنحاس
وعلى ذات الصدأ
وجدت الكلمات الصغيرة
التي صنعناها في الأماسي
تحت أحجار اللعب.
تحت شجيرة الحياة شذرة
من كوكبة الصليب الجنوبي
الجدة، الجدة الكبرى،جداتي
الخبز الرقيق مع عيون يملأها الأمل
عند الباب سمعت إحدى أغانيهن
يمضغن قداس الإنجيل تحت المطر النازل
يخلعن أيادي الفحم
مع مقشّات الخوص المزهر.
عند مدخل بابي وبأغصان قديمة
يُعَلّمن الارض بدوائر زيتية
وعلى نور المشعل يغنين لنا
وحيدات، يجرفن فناء الدار المفقود.
علاماتٌ من ندوب المياه..
قرميد منسلخ تحت السقيفة.
يفتحن بابي،
الفراشة التي تعبر الظهيرات أمامي
الحُزَمُ الجافة للأعشاب الحلوة المرة
نهر عتيق متعرج يَمُوج تحت نور الشمس
الى أن يصل موكب الجدات الأميات
لابسات قماشات القطن اليومية
بذات عيونهن الحكيمة يُضِئْن كالقناديل
على جلجلة الشريط تحت ضوء علبة الصفيح.
** تلغراف الصفيح: صفائح قصديرية توصل بخيط بين كل صفيحتين، يلعب بها الأطفال كما لو أنها تلغراف أو هاتف.
ترجمة وحوار: زاهر السالمي * ترجمة وحوار: زاهر السالمي * مراجعة: غدير أبوسنينه