كانت الليلة الأولى لي في السجن كما أسر لي زميل طفولتي: «سأحجزك ليلة واحدة فقط» وقد ندت من سحنته تقاسيم الحرج: «ضيافة مؤقتة». ثم أضاف: «أتمناها لو كانت في بيتي. » نبس بعبارته الأخيرة بصوت خفيض ناكسا رأسه متحاشيا الاصطدام بعيني المشدوهتين، وأنا أتذكر بصعوبة ملامح وجهه الذي بدا وكأنه ينهض رويدا من خلل ضباب الذاكرة:
هذا الضابط كان صديق طفولتي، طاقة وافرة من الشغب والصراخ، كان حاضر البديهة ذا صوت عال وسحنة مشعة بالحماس يمتد تأثيرها إلى خارج فصلنا، حيث ما فتئت وجوه جديدة تزورنا بحثا عنه، في كل أوقات الفسح.
وفيما أذكر كذلك، أنه كسر مرة بيضة على رقبة أحد المعلمين، ولم يفطن له أحد غيري. كان المعلم حينها يرص وجهه في وجه اللوحة السوداء، وهو يسطر بتباشير بيضاء مفاتيح درسه. كما كان الطلبة منكبين على دفاترهم استعداداً لنقل ما سيولد على تلك السبورة من كلمات وفروض، حين انطلقت تلك البيضة في خط مستقيم ونبت لها جناحان من ظلال لتنتهي برقبته. فسال رحيقها الأصفر المتقد على ظهره. أنا الوحيد الذي انتبه لتلك الفعلة، رمقت الفاعل بعينين مستنكرتين فبادلني نظرة قلقة.
جن جنون المدرس، وأخذ يصرخ وهو يرفع عصى ويرقص طرفها، ويلوح بنظراته الحادة في الوجوه والأعين من حوله باحثا عن الفاعل.وحين لم يظفر بجواب، وكان حينها لا بد من عقاب لأي فعل، اختار عشوائيا سبعة من الطلبة، وهو يصرخ بصوت حاد بأن علينا أن ننطق باسم الفاعل. وكنت أنا ضمن هؤلاء السبعة، فأخذ ينهال علينا بالضرب على باطن أكفنا، واحداً تلو الآخر. كان العديد منا قد أجهش بالبكاء من شدة الألم، كنت صابرا ولم أنطق بأم شفة، ولكن عيني لم تكن تفارقان عيني الفاعل، اللائي أحسست في عمقهما بأنه كان يتمنى من الردهات المتوهجة لقلبه، لو أنه كان أحد هؤلاء السبعة، بدل أن يتحمل قوة نظرتي المسمرة طويلا في وجهه. والتي كنت أطلقها بلا رحمة وبقوة الألم الذي ينهال على يدي.
هل حانت الفرصة لكي يرد لي دينه القديم، أنا الموشك على خوض أول تجربة لي في حياتي. بقيت إحدى جمل الضابط الثلاث راسخة طويلا في ذهني تلك الليلة(سأحجزك ليلة واحدة فقط). هو لا يستطيع إذن أن يفعل أكثر من ذلك. ولكنه سيحجزني عن ماذا؟. لو كنت قد أوقفت سير خط ذاكرتي، وأبحت للمعلم باسم الفاعل، وحميت نفسي ورفاقي من ضربات مسعورة لا نعرف سببها. هل ستكون تلك النظرة المحرجة هي آخر رسالة من وجه صديقي القديم. الذي ظل صديقا وفيا لي، طيلة فترة وجودنا في تلك المدرسة، إلى أن تفرقت بنا السبل بعد ذلك. إلى أن حانت هذه الليلة التي تذكرني فيها سريعا. هل لأني سكنت في ذاكرته كل تلك السنين؟.
وكأنبوب من الذكرى انفجر ماؤه فجأة، فجرت عبارته الأخيرة كل الصور المتناسخة له في ذاكرتي. وأكملت سيل ذلك التذكر وأنا في سجني، الذي بدت ساعاته مختلفة عن أي ساعات أخرى شهدتها حياتي. كان بجانبي ثلاثة شبان ورجل عجوز. حياني الثلاثة بأدب من يدخل على مجلس للضيوف، باستثناء المسن الذي لم يرسل إليَّ سوى نضرة سريعة ووجه مقطب. ثم أدار رأسه سارحا وهو يتثاءب. ولكن فجأة انتفض وتظاهر وكأنه يشجع فريقا رياضيا حين رفيع يديه عاليا وهو يستقبل عطسة ويطلقها بانتشاء، ثلاث مرات يستقبل هبته تلك بفرح طفل، ثم ينتظر الرابعة واقفا رافعا يديه بدون جدوى. تحدثت طويلا مع غيره من السجناء في الساعات الأولى لدخولي. ثم استعمرنا الصمت بعد ذلك، ودخل كل منا في تأملاته ووحدته وعالمه وسجنه.
لم يكن السجن في حقيقته يمثل لي أي فزع، فهو لا يربو وأن يكون غرفة مغلقة محاطة بجدران. كما أن ليلة واحدة لا تعني لي الكثير في حياتي، بل أن المسألة كذلك في عمقها لا تخلو من شغف الاكتشاف، اكتشاف ليلة في السجن. في طفولتي كان ذلك يمثل طموحا حقيقيا، خاصة حين كانت تتردد على مسامعنا الطرية عبارة
« السجن للرجال». كان بالنسبة لي حينها السجن، يشبه ساحة المعركة فهي للرجال أيضا، ويشبه الزواج فهو كذلك لهم، كما أنه يشبه الوظيفة الحكومية والتي لا يقرب الأطفال ساحتها.
عرفت بعدها وأنا أكبر رويدا، بأن السجن المقصود هنا هو سجن الرجال« من أصحاب الفعل الرجولي» والذين ينضوون تحت قائمة المناضلين والمدافعين عن أوطانهم وشرفهم، والمطالبين بحقوق وشروط إنسانية متساوية للجميع. وليس بالطبع قائمة أخرى تتمثل في : اللصوص والمرتشين والقوادين ومروجي المخدرات والزناة.
كان السجن في نظرنا يعادل ما يمثل هذه الرجولة ويثبتها ويمهرها بمهرة الصبر والجلد، إنه سجن يتعلق بإثبات الرجولة وليس سجنا آخر. وبذلك سيختلف السبب فقط، بينما يظل السجن بجدرانه وقضبانه يمارس نفس الفعل: عزل من في الداخل عن أي تواصل مع الحياة.
كان فضولي كبيرا وأنا أكتشف السجن لأول مرة، ولم أكن خائفا لأني بالفعل كنت منتشيا بالاعتقاد بأنني أنضم إلى فئة القائمة الأولى ( فئة الرجال) وليس شيئاً آخر.
كان سبب سجني هو ضربي لشاب يصغرني في العمر، اضطررت لإلصاق كفي بوجهه في عدة صفعات سريعة ما أن تواقح عليّ. ليس بالطبع لكونه شابا منعما ثريا، وقد استأجرت منه شقة في الخوير، وحين ارتفعت الأسعار فجأة وفي غفلة من الزمن والمحاسبة، ولم يولد حينها أي قانون يحمي المستأجر، بل على العكس تماما، كانت كل القوانين تقف إلى جانب التجار والمالكين وتؤجج جشعهم وعنفهم. جاءني يطلب الزيادة في الإيجار، ولكنها كانت زيادة مضاعفة، أصابتني بالصعق حينها، فاعتذرت له بأني لا أستطيع الآن( اصبر عليَّ قليلا حتى أتدبر منزلا آخر)، فما كان منه إلا أن هددني بأنه سوف يدخل البيت عنوة ويقذف بأغراضي إلى الشارع. كان صراخه يصل حتى مسامع عائلتي في داخل البيت. وهو يلوح بعبارات تهديد مستعينا بيديه في نطقها. قلت له عليك أن تحترمني، فأنا كاتب قصة (وهذه إحداها). فأجابني بأن البناية كلها ملكه، والقانون معه ومن حقه أن يطردني في أي وقت، وكان كثيرا ما يكرر عبارة الشارع، وفي سياق صارم مرعب،رأيت فيها حياتي تقذف من داخل البيت إلى المجهول.فقذفته بعدة لكمات في وجهه، ربما كانت من المرات النادرة التي أخرج فيها عن طوري، وأتحول إلى رجل حقيقي، لذلك كان السجن مصيرا طبيعيا.
هكذا رددت بيني وبين نفسي (السجن مصير الرجال) حصلت في ذلك اليوم على بطاقة فخر من الأعين المحدقة من نوافذ البناية وكذلك من زوجتي، وذهبت بنفسي إلى مركز الشرطة فرأيت المؤجر هناك يصرخ باسمي.
كانت تلك الليلة أكثر الليالي مدعاة للتأمل في حياتي، بل كانت ليلة كاملة للتأمل، كانت ذاتي تشتعل حنينا كحضن فارقته منذ سنين، شيء ما تلمسته في تلك الذات التي طالما ظلت غريبة عليّ، كنت كمن يدخل بيتا هجره دون سبب. استغرقت طويلا في تأمل فارغ لكنه مريح، تأمل حول قيمة حياتي انطلاقا من هذا المحبس، الذي لم يكن في حقيقته سوى سراب للعزلة، لقد بدوت مطرودا من الخارج، من خارج السجن إلى داخله، ومطرودا من داخل السجن إلى ذاتي. أحسست بأن العالم كافأني جيدا بطردي من بيتي ومن بين عائلتي. كافأني بهذه العزلة المرفهة، باحتمال أن أطأ بيتي المهجور هذا لليلة كاملة، بيتي الذي نسجته في ذاتي عبر سنين، نسجته في طفولتي ومراهقتي وتلك الأيام التي يحفوها الغبار، وكان علي أن أنفض كثيرا منه، على عتبته قبل أن ألج.
وفي مرات متقطعة،حين أخرج من عزلتي وأسئلتي، كانت عيناي تعبران كماسحة ضوء على الوجوه النائمة للسجناء، لقد انكفأوا بحكم العادة إلى صمتهم ونومهم، ما أن تمكن الظلام من المكان. نقلت بصري بينهم، كنت أنظر إلى كل منهم متأملا حكايته التي تفوه لي بها ما أن دخلت. أخذوا يتحدثون بالدور، وكأنهم ينتظرون أي قادم جديد ليوصلوا له سيل وجدانهم ورسائلهم.
الأول شاب سوري بهي الطلعة، تنطق قسمات الحسن والنظارة من وجهه وكامل جسده، أتي به كفيله ليعمل عملين، الأول في النهار كمراسل ومندوب لشركته، والعمل الثاني في اللليل، ليراود نفسه عنه، رفض الشاب العمل الثاني بعنف، فحدث بينهما ضرب وتقطيع ملابس، فاشتكى المضروب للشرطة وأحيل السوري إلى الحبس على ذمة التحقيق.
الثاني عجوز من فنجا، أسقطت نخلته بيدارا من رأسها فوقع ميتا، وزوجة الميت اشتكت للوالي بأن المالك أكرهه على صعودها رغم علمه بوهنها.
الثالث يبدو أنه منسي في السجن، تسكنه نظرة ملل عميقة، وينثر عباراته بسأم من يعيد حكايته آلاف المرات ولكل داخل جديد وبنفس النبرة الرتيبة. قال لي، وبدون أن أسأله، بأنه منذ تسعة أشهر لم يفرج عنه رغم أنه على ذمة التحقيق، يأتي السجناء ليمكثوا بالأيام وهو قابع بالأشهر، وجريرته أنه تجرأ وضرب إنجليزيا بحديدة في ظهره، حين كان يقود سيارته بمهمل مضيقا الطريق على سيارة الجيب التي تتمايل بخفة خلفه، مستعجلة تبحث عن منفذ سريع وهي تموج منحرفة ذات اليمين وذات الشمال، يقودها شاب إنجليزي رفع أصبعه الوسطى متبرما ومتحديا حين لم يجد منفذا سريعا، تلك الإصبع التي التقطها الشاب من المرآة العاكسة لسيارته، فأوقفها في قلب الشارع وخرج وفي يده حديدة، كاد الإنجليزي أن يلوذ بالفرار تاركا سيارته، لكن قبل ذلك، كانت الحديدة قد وصلت إلى ظهره وأحنته.
نقلت عيني على أجسادهم النائمة، ثم شخصت إلى السقف محاولا جلب النوم إلى رأسي،كنت في حاجة إلى غيبوبته في تلك اللحظة، ولكن بدلا من غيبوبة النوم راودتني غيبوبة الذكرى، فقد عبرت طفولتي بصفاء، تسمرت أمام عيني كما تتسمر الأجساد في شاشة عملاقة، وسطعت أول حركة في طفولتي،آخر ما يمكنني تذكره.
كنت حينها قابضا على عقص عمتي. والتي كانت طفلة حينها،رأسي مليء بالأسئلة ونحن ننتقل وجميع أغراض بيتنا البسيطة – في سيارة بيكاب – من سرور إلى مطرح. لعبي الخشبية المربوطة بحبال الليف وكرب النخيل الملونة بالفحم على هيئة وجوه مشدوهة، بأفمام دائرية وأعين محدقة، انتقلت تلك اللعب معي وهي تتهازز في ذلك الظهر الصفيحي المفتوح. تذكرت هطول المطر المتقطع طوال العام وصراخ الأطفال الهستيري الممزوج بالبطولة. أنين جدتي عند الفجر. كان ذلك أول المشاهد التي انطبعت في ذاكرتي كوشم.علاقة أخرى بالشرطة نبست في ذاكرتي كذلك. كان ذلك حين قفزت أول مرة من سور المدرسة، بحثا عن وجبة أخرى يمكن أن أشتريها من الخارج، فتلقفتني شرطة الكشافة المدرسية، ثم أخذت الأيادي تسحبني بصمت ودون أدنى مقاومة مني إلى مكتب الناظر، وكان وجيب قلبي يتدافع في صدري. ولكن فجأة، وبغير حساب، أنقذني تدخل تلك المرأة التي كانت تبيع الحمص الساخن على قارعة الطريق،أرسلت لها نظرتين منكسرتين وأنا في طريقي مسحوبا، فقامت من مكانها وانتشلتني من أياديهم وهي تحضنني ثم أطلقتني إلى حال سبيلي. تلك المرأة التي تأبي صورتها أن تفارق ذاكرتي، بقسماتها السمراء المتغضنة بسبب التعب والحرارة، وقفت في وجه خصومي ولم تكن تعرفني. حضنها الدافئ الذي امتزج بخفقان قلبي الخائف، ذلك الحضن ظل طويلا يلاحقني في أحلامي كأغطية البرد.
لم تتذكر المرأة وجهي بعد تلك الحادثة، ولكني أصبحت منذ الصباح الموالي أفضل زبائنها، فقبل دخولي إلى المدرسة، اشتري منها الحمص الساخن الذي تفرغه لي في دست تقدمه بدون ملعقة، أشرب ماءه أولا ثم ألتقط بأصابعي الصغيرة حباته، الواحدة تلو الأخرى، وعيني لا تفارق حضنها.