ليلــــــــــة نعــــــــي
القديس
لطالما أثارت الحياة الاستثنائية للفنان الهولندي فان كوخ، اهتمام ودراسات العديد من النقاد الفنيين والأطباء النفسيين، وحتى المعجبين بفنّه وربما شخصه أيضاً. ومنهم د. ديتريك بلومر الطبيب الأمريكي الذي نشر دراسته عام 2002 في الجريدة الأمريكية للطب النفسي والذي أشار إلى عدة دراسات تشخص الحالة التي عانى منها الفنان، فقد اتضح أنّه شُخّص كمصاب بأحد أنواع الصرع، كما انتابته اضطرابات مزاجية على فترات متقطعة، تم تشخيصها أحياناً كنوبات اكتئاب تفاعلي، وقد رُجّح أنّه مصاب باضطراب ثنائي القطب.
والمتأمل حياة فنسنت القصيرة نسبياً (1853-1890) وما قاساه خلالها من الآلام والتحولات التي ساقته في النهاية إلى اعتكافه على إنتاج اللوحات ثم الانتحار،لابد وأن يجد بعض مفاتيح تلك الروح المعذّبة متروكة عن عمدٍ في لوحاته.
محاولات التعافي
دخل فنسنت المصح العقلي غير مرة بعدما عانى من نوبات متكررة من الاضطراب البالغ حد الذهان، وكان آخر دخول للمصح قبل رحيله بما يقارب العام.
بعد ما يقارب الشهر من إقامته في المصح، وفي يومٍ صيفيٍ من عام 1889، رأى فنسنت ليلته الأسطورية في بلدة سانت بول دي موسول في فرنسا، فرسمها مركّبة تستند إلى الذاكرة أكثر من الواقع على خلاف العادة، فقد كان يفضّل المشاهدة والمراقبة على استدعاء الذاكرة، فكانت مزيجاً من المنظر الذي تطل عليه نافذته، وما ترسب في ذاكرته من معالم قريته وأشباهها التي نشأ فيها وقضى طفولته الأولى.
في وضح النهار رسم فنسنت ليلة صيفية سماؤها صافية بدرجات زرقاء جليلة. ونجومُها الأحدَ عشر مشعةٌ كشموسٍ صغيرة، تمتد من يسار اللوحة إلى أقصى اليمين حيث يسطعُ في الأعلى قمرُ نهاية الشهر متآكلاً في هيئة هلال. لكنّ ضوءه الجليّ المتهادي إلى الأرض يكاد يُرى على وجه متأمل اللوحة.
من السماء نبدأ حيث أضاءها فان كوخ بأجرام تبدو نجوماً مشتعلة أو كواكب تعكس أنوار الشمس، وجعل آخر مطافها الهلال.
أهلة فان كوخ
ولو أننا دققنا في وضع الهلال هاهنا فسنجده هلالاً متناقصا في أيام الشهر الأخيرة فيصير محاقاً مظلماً في النهاية إيذانا بانقضاء الزمن المقدّر لذات الشهر. وهي دلالة هامة إلى النهاية التي قررها فنسنت فيما بعد.
رسم فنسنت الهلال في أربع لوحات، ثلاثاً منها متنامية في أول الشهر القمري من اليمين إلى اليسار وهي : لوحة السرو، ولوحة هلال وزوجان يمشيان، ولوحة الطريق والسرو والنجمة.
وضع فنسنت أمله في القوة الخفية خلف هذا الكون، واستعاد إيمانه الذي قيل أنه قد تخلى عنه في وقتٍ ما، عندما حمّل السماء أمله في انجلاء محنته، ومهّد الأرض بعدما أعتمها، وأسلمها إلى هدأة الليل.
حب بلا طائل
وهنا سنطوف على عجل بحياة الفنان من زاوية الحب، حبّ فنسنت الرجل لامرأة تتكامل مع أجزائه المفقودة وتحقق له استقراره العاطفي، فسنجد أن ثمة أربع خيبات مع أربع نساء أحبهن في فترات مختلفة من حياته، وتقدّم للاتباط بثلاثٍ منهمن. ولكنّهن لم يبدين تجاوباً مع طلبه، والغريب في الأمر أنهن جميعاً يكبرنه، فقد كانت محاولته الأولى للاتباط في عمر التاسعة عشر. وتحيل الكاتبة سوزانا ستانكا في مقالها عن قصص حب فنسنت البئيسة تحيل ذلك التعثر إلى التنشئة الصارمة التي فرضها والده عليه باعتباره قسّاً في الكنيسة البروتستانتية.
في الهامش ومنه.
وكان فنسنت قد اعترف في رسالة لأخيه ثيو بأنه: “مشدود للسيدات اللاتي تزدريهنّ السلطة الدينية، ويقصيهنّ المجتمع”.
لعلً ذلك لأنه بذاته كان من أهل الهامش، واكتوى بنار الإقصاء وتجرع الكأس ذاته من معاصريه بالرغم من تفرّده و سبقه في خطه الفنيّ، فلم يعره سماسرة الفنون انتباههم إلا بإيعاز من أخيه.
و أقول لعل فِعلَ والدته كان دافعاً له فيما ذهب إليه، ولربما وجد العوض عما ضنّت به عليه عندما أسمته باسم أخيه المتوفى “فنسنت” الذي يكبره، لتلغي وجوده وتعيد للحياة ذكر أخيه.
لقد أحب وآوى سيدة وطفلها الرضيع وأعالهما في غرفته واقتسم معهما قوته وسريره، هذا المحب فنسنت الذي لم ترض به سيدة من تلك اللاتي يكبرنه عبئاً وعمراً. ربما وجد في حبّهن العوض عما ضنّت به والدته عندما أسمته باسم أخيه المتوفى الذي يكبره، لتلغي وجوده وتعيد للحياة ذكر أخيه الراحل.
نجمة الصباح والحب “فينوس”
قبيل شروعه في رسم اللوحة تحدث فنسنت في غير رسالة إلى أخيه عن رغبته في رسم ليلة النجوم المسيطرة على تفكيره، فقد أورد موقع متحف الفن الحديث في منهاتن بأمريكا إحدى رسائل الفنان إلى أخيه يقول فيها: ” هذا الصباح شاهدت القرية من نافذتي قبل شروق الشمس بوقت طويل لم يكن هناك سوى نجمة الصباح عند الفجر،وقد بدت كبيرة للغاية”
من هنا شكّل التماع كوكب الزهرة أو “فينوس” المرأة الإلهة في باطن وعي الفنان المرهف، ورأى فيها ذلك البعيد المحال، الذي يوجد فقط حيث الأبدية، وتقبع فرصة لقائه حيثما يعبر الحياة نحو الضفة الأخرى، فوضع “فينوس” مماسّة لقمم شجرة السرو الطالعة في سمائه.
دلالات السرو
فبدأ اللوحة من أسفل اليسار في خط مائل متصاعد يستند إلى أشجار السرو، هكذا صدّر النعي بشجرة تغلب زراعتها في المقابر والكنائس في أوربا، ولها دلالتها على الموت، كما تشير إلى الأبدية والخلود، وهي في هيئتها الباسقة المشتبكة الغامضة تتقاطع وأسرار الحياة الأخرى المتخيلة في السماوات، وهي بلونها الأخضر الدّاكن الضارب في الغموض يتخللها بعض الخطوط البنية المؤكدة على التفافات تلك الأغصان توغل في المجهول، بينما الفراغات البيضاء التي تتخللها توحي باختراق الريح للأوراق الإبرية وبث الحركة الطارئة لنفحات من عبق السرو البارد المؤكد على السكينة.
بعد ذلك أحكم فنسنت سياج أشجار الزيتون على القرية الوادعة فأضفى لمسات البركة المتعارف عليها في جميع الشرائع السماوية، وأودع قلب القرية كنيسةً استعاد فيها إيمانه القديم.
مستودع الحلم الآجل
يودع فنسنت أمانيه المخفقة في ليلته تلك،وتمضي اللوحة في صعودها على سلسلة التلال ملامسة السماء ويتفتق من خلفها صبح يومٌ وليد، هذا الصباح الذي سيطلع على الجميع إلا هو، حيث سيبدأ رحلته الأخرى.
ما يعني أن فنسنت تخيًل الليلة في ساعاتها الأخيرة قبل طلوع الفجر.وفي منتصف اللوحة تقريباً وضع منحنيين لولبيين بضربات فرشاة سريعة، عريضة وطويلة نسبياً، أحدهما أكبر من الآخر، ولعله يشير هنا إلى ورطته في الدوامتين المتداخلتين فما أن تنتهي الأولى إلا وتتولد منها الأخيرة، ورطة كبرى في الحياة وأخرى أخف وطأة منها في مجاهيل الموت.
لا أرى فنسنت في هذه اللوحة إلا قديساً ينعى نفسه للعالم. هو القمر والشمس في آنٍ. يواجه العالم متمثلاً في أحد عشر كوكباً بما فيهم نجمة الصباح، إنها قصة النبي يوسف، التي لابد أنه مرّ بها في دراسته لعلم اللاهوت عند التحاقه بالكنيسة قبل أن يتحول إلى الفن بالكلية، وهنا يضع “فينوس” المحبوبة، في صف واحد مع صدود العالم و إحباطاته التي واجهها وحيداً إلا من الحب والفنّ.
غادر فنسنت المصح بمحض إرادته بعد ما يقارب مكوثه العام في مايو 1890، وسرعان ما اتخذ قرار الرحيل الأبدي منتحراً بطلقات مسدس، لم تقتله، بل ظلّ يعاني بعدها لأيام ومات متأثراً بجرحه في يوليو من العام نفسه.