ثمّة رسالة تنطوي عليه رواية لينة كردية الموسومة بـ«خان زادة» تريد أن تبلّغها الى القارئ بطرائق شتّى مفادها : أنّنا لا نستطيع أن نغضّ الطّرف عن الزمن يجرف كلّ الأشياء بالقدر الذي لا نستطيع فيه أن نصمّ الآذان عن نداء الحياة.
كلّ فصول الرواية تهجس بهذه الرسالة وكذلك كلّ شخصياتها وأحداثها…لكأنّ الرواية شهادة على الزمن يلتهم كلّ شيء، لكأنّها الشّهادة على المرء يصرّ على مقاومته، على إمساكه من قرنيه، والإمعان في منازلته…
و إنّه لأمر ذو دلالة أن تستخدم رواية «خان زادة» ضمير المتكلّم المفرد، وهذا الضمير جعل الرواية تلتبس، في ذهن المتقبل، بالسّيرة الذاتية، والراوية تلتبس بالكاتبة، و الشخصيّات المتخيّلة بالشخصيّات الواقعيّة،. وهذا ما دفع الكاتبة إلى أن توضّح في الحوارات التي أجرتها مع الصحفيين أنّ «الرواية ليست سيرتي الذاتيّة، فأنا لست خمسينية و لا مدخّنة. والقصّة ممكن أن تحدث مع أية امرأة في العالم» مضيفة «ممكن أن تحتوي الرّواية أخبارا عن بعض الأشخاص في عائلتي، لكنّها محرّفة و مصبوبة في قالب مختلف، و الأحداث و الأشخاص ليست سوريالية و بالتالي قد تنطبق على أيّ إنسان عاديّ يعيش، يحسّ و يفكّر، ولكن ليس بالضرورة أنا شخصيّا…».
إنّ هذا الالتباس ما كان ليحدث لو استخدمت لينة كريدية ضمير الغيبة، على سبيل المثال، فهو أدعى إلى الحياد، لأنه من الضمائر التي تجعل العالم المتخيّل بمنأى عن العالم الواقعيّ، و السارد بمنأى عن الكاتب… بيد أنّ الكاتبة تقصّدت، في اعتقادنا، هذا الالتباس لتلغي، عن وعي عامد، الحدود بين الكائن و المحتمل على حدّ تعبير أرسطو، أو بين الواقعيّ و المتخيّل على حدّ عبارة النقّاد المعاصرين ، لا سيما و أنّ الرواية لمْ تفتأ تحيل على المرجع باستمرار تسترفده، و توظّف أحداثه الدّرامية الهائلة: الحرب الأهليّة اللبنانية، احتلال العراق، الصّراع المتواصل بين الفصائل الفلسطينية…
لكنّ ضمير المتكلّم المفرد لا يفضي إلى التّداخل بين الروائي والواقعيّ فحسب، و إنّما يحوّل النص، كلّ النّصّ، إلى خطاب «ذاتيّ» مفعم بطاقات شعريّة لافتة… وتتأكّد هذه «النبرة الذاتيّة» إذا علمنا أنّ الرواية، كلّ الرواية، ليست، في واقع الأمر، إلاّ حركة داخل الذّات، استنفارا للذاكرة، استدعاء لما اختزنت من أحداث ووقائع. فالرّواية كلّ الرّواية إنّما تقول «الخارج» من خلال «الدّاخل» أي تفصح عن العالم من خلال لغة الذّات.
هكذا تتحرّك الرواية في تلك المنطقة الغامضة التي يلتقي فيها أكثر من جنس أدبي، أكثر من طريقة في تصريف القول، أكثر من أسلوب في إنشاء الكلام.
ففي هذه الرواية شيء من تدفق السيرة الذاتية وشيء من إيقاع الشعر، وشيء من تقطيع السينما، وشيء من توتّر الدراما… ثمّة جمع ذكيّ بين هذه المتنافرات في مساحة من القول محدودة. لهذا يخامرنا الإحساس بأننا إزاء رواية وظّفت أكثر من أسلوب لتنجز عالمها المتخيّل، أنّنا إزاء رواية لم تعوّل على تعدّد الأصوات، بما أنّ الصوت المهيمن هو صوت الرّاوية يبسط ظلاله على كلّ الأصوات الأخرى، و إنّما عوّلت على تعدّد الأساليب و تنوّع طرائق تصريف السّرد.
تقوم هذه الرّواية على عدد محدود من الشخصيّات أهمّها : جيهان هذه المرأة التي كانت تحلم بترويض الواقع، فإذا بالواقع هو الذي يعمد إلى ترويضها: فيخضعها إلى قوانينه بدل أن تخضعه إلى رغباتها فاذا بها تتحوّل، من مناضلة يسارية كانت ترى وجه جمال عبد الناصر على صفحة القمر إلى امرأة متعصّبة إلى طائفة ومذهب. فجيهان الأولى ولدت من رحم بيروت اليسار والفصائل الفلسطينيّة، والمدّ الناصري أمّا جيهان الثانية فقد ولدت من رحم بيروت اليمين، وانكسار المدّ الثوري، وانكفاء الأحزاب اليساريّة.
لا شيء يجمع بين هاتين المرأتين، فهما مختلفتان إلى حدّ التنافر، إلى حدّ التناقض لكأنّهما تنتميان إلى عصرين متباينين، إلى مكانين متباعدين.
من الشخصيّات الأخرى التي قامت عليها هذه الرواية شخصية «روعة» التي آثرت أن تنصاع إلى مقتضيات الأسرة والانصهار في بوتقة الآخرين: أمّها أوّلا ثم حماتها وبنات حماتها. لم تكن «روعة» مغامرة مثل جيهان، ولم تخرج في أية مظاهرة «في عزّ الحماسة السياسيّة، لكنها كانت تكتفي بالانتظار على شرفة المنزل، يملؤها الرعب، والخشية من إصابة رفيقاتها».
لكن هذه الشخصيّة التي تتّقد حياة كانت تجرّ وراءها ماضيا قاسيا مازالت جروحه فاغرة نازفة، فقد تعرّضت في سنيّ طفولتها الأولى، إلى اعتداءين تركا في روحها الهشّة أثرا عميقا لم تمحه الأيام.
أمّا الشخصيّة الثالثة التي قامت عليها هذه الرواية فهي شخصيّة الرّاوية التي خرجت، هي أيضا، من ساحة النضال السياسيّ مهزومة، ومضت، وهي على مشارف الخمسين، تستقطر آخر ما تبقّى في كأس الجسد من لذائذ ومتع، باحثة عن عزاء لا يكون.
كانت الرّاوية تنتمي، مثل جيهان، إلى اليسار، وكانت تناضل من أجل قيام وطن عربيّ واحد، يمتدّ حتى حدود الحلم، لكنها اختارت، بعد انقشاع هذا الحلم، أن تنكفئ على نفسها لتستعيد في وحدتها الفادحة، هزائمها وانكساراتها، مستدرجة، من حين إلى آخر، جسدها حتى يواكبها في رحلة البحث عن متعة محتملة !! إضافة إلى هذه الشخصيات الثلاث نجد شخصيات أخرى لعلّ أهمّها شخصيّة «خان زادة» عمّة الراوية التي ظلت عانسا تحدب على الجميع، وشخصيّة العمّ أسامة الذي عاش حياته بالطول والعرض، مغرّدا خارج السرب.
لكن الرواية تظل قبل كلّ شيء رواية الصديقات الثلاث اللاتي خرجن منهزمات من تجاربهن العاطفيّة، والسياسيّة، وبقين في وحدتهن يقاومن زمنا ضاريا، يحاولن، دون جدوى، منازلته والانتصار عليه. هؤلاء الصّديقات فقدن كلّ يقين وبقين ينظرن إلى العالم نظرة ارتياب وتوجّس… أجل لقد تنكّبن عن كل القناعات الأيديولوجية القديمة التي كانت تدفعهن إلى الاحتجاج فالمواجهة، وتوهمهنّ بإمكان قيام عالم جديد على أنقاض عالم قديم… وعدن، إلى أحضان طبقتهن، مثخنات بالجراح، يبحثن، في كنفها عن بعض العزاء…
في هذا السياق تستعير الرواية بعض خصائص «المذكّرات»، و«السيرة الذاتية»، وتحوّل الكتابة الى استنفار للذاكرة، إلى توغّل في عتمة الذات، إلى سرد لتاريخ الروح. فالكتابة هنا هي، قبل كل شيء، كتابة للداخل، إفصاح عن غائر المشاعر، تصوير لما تبقّى راسخا في الروح بعد ما طوى النسيان كل شيء.
ولمّا كان الزمن هو زمن الذاكرة الذي يختلف عن الزمن الموضوعيّ اختلاف تباين وافتراق، فقد كان، داخل الرواية، يتّسع ويتقلّص، يرتدّ ويتقدّم، يلوب حول نفسه ويتشظّى. هذا الزمن لا يستمدّ منطقه من الخارج، وإنّما من الداخل، من التجربة الذاتية، فهو زمن تخييليّ، زمن فنيّ… ومثلما أوضح العديد من النقاد فإن هذا الضرب من الزمن كثيرا ما يحوّل الرواية إلى نصّ ذي كثافة مجازيّة، تتعدّد فيه الرموز وتتكاثر الصور. والمتأمل في «خان زادة» يلحظ أنّ الرواية لا تكتفي بالسرد لتنسج عالمها المتخيّل وإنما تجنح أيضا إلى الوصف والبوح والاعتراف، وهذه الصيغ من شأنها أن توقف السرد وتؤجله لتجعل الرواية لا تنهض على صيرورة الأحداث فحسب وإنما على كينونة النصّ يشدّنا إليه قبل أن يشدّنا إلى شيء آخر خارج عنه…
ولماّ كان الزمن هو زمن الذاكرة فإن الرواية تقوم على التداعي، والتداعي لا يخضع للزمن الكرونولوجيّ في تعاقبه وتتابعه وإنما تخضع للزمن النفسي الذي يبدو للوهلة الأولى فوضى لا ينتظمه منطق مخصوص وكان من نتائج هذا التداعي أن استغرق زمن الخطاب عقودا طويلة فيما استغرق زمن القصّة ساعات معدودة.
والواقع أنّ هذه الرواية إنّما هي نشيد طويل مزجى الى مكان و زمان مخصوصين، أمّا المكان فهو بيروت، وأمّا الزمان فهو الماضي. كل فصول الرواية إنّما هي احتفاء ببيروت، ببيروت الجامع العمريّ، وسوق إياس، وسوق الطويلة، و أزهار الزّنبق، وشعائر الموت المتوارثة،…بيروت التي تتفلّت من بين الأصابع لتصبح مجرّد ذكرى بعيدة…مجرّد صورة باهتة. ليست بيروت هنا «مكانا» أو «إطارا للأحداث و انّما هي شخصيّة من شخصيّات الرواية، بل لعلّها كانت أهمّ شخصيّاتها، و أولاها بالنظر والاهتمام… و قارئ هذه الرّواية لابدّ أن يلحظ كيف تأنّت الرّواية، في العديد من الفصول، في سرد سيرة هذه المدينة، في وصف ملامحها، في رصد غائر مشاعرها… الأمر الذي يدفعنا الى القول إنّ عناية الرّواية بهذه «الشخصيّة» كانت اهمّ من عنايتها بالشخصيّات الأخرى.
لكنّ بيروت التي احتفت بها الرّواية ليست بيروت الحاضر، و إنّما هي بيروت الماضي، بيروت الذّاكرة…كأنّ فعل السّرد في هذه الروايّة فعل بناء، بناء لهذه المدينة حجرا… حجرا، بيتا… بيتا ، حيّا… حيّا، لكأنّ فعل السرد بات نقيض فعل الزّمن، فإذا كان هذا يقوّض و يشتّت فإنّ السرد يشيّد ويجمع، يشيّد ما تقوّض، و يجمع ما تشتّت و يتّضح هذا أكثر ما يتّضح في استحضار الرّاوية لطفولتها داخل هذه المدينة المتوارية خلف أسوارها… و أسرارها.
الرواية استعادة لهذه المرحلة ، لأحلامها، و أساطيرها و رؤاها. لكأنّ الرّاويّة اتخذت من هذه الطفولة درعا تحملها في وجه الزمن لكأنّها أرادتها حضنا تحتمي به من ضراوة السنوات تتقدّم.
في هذا السياق كتبت لينة كريدية صفحات من الأدب الرفيع بعد أن استعادت عيني الطفلة التي كانت :
«…كان لديّ ايمان مطلق بأن الله… يخلق كلّ يوم كرة من النّار، الشمس، ويلقي بها إلينا لتنيرنا، و تدفئنا ثمّ تسقط هذه الشمس في البحر… لمْ أصدّقْ في درس الجغرافيا أنّها الشمس نفسها التي تشرق وتغيب. كيف؟ وأنا أشاهدها تهوي في البحر كلّ يوم؟
وكيف تسقط النّار في الماء و لا تنطفئ؟ لم تكن الغيوم بالنسبة لي أبخرة وفيزياء و حرارة / بل مجرّد حلوى غزل البنات صنعها اللّه، وكم تمنيت بحرارة لو استطعت أنْ ْأذوقها. حين ركبت الطائرة لأوّل مرّة لم أبرح النّافذة لحظة، و تمنّيت طول الرّحلة لو أقفز على الغيوم أتمرّغ بها وآكلها…».
لكّن الراوية لا تحتفي بزمن الطفولة فحسب و إنّما تحتفي أيضا بزمن الشباب : زمن غيفارا، و عبد الناصر، و اليسار العربي، زمن المشروع القومي يدفع الصديقات الثلاث الى الحلم. تقول الرّاوية «جيهان و روعة و أنا اللّواتي حلّمنا بأننا يوما ما سنعبر حدود العالم العربي من الخليج الى المحيط من دون حدود أو تأشيرات، بسيّارة صغيرة نتناوب على قيادتها، و بحوزتنا عملة عربيّة موحّدة «.
هذا الاحتفاء بالماضي يواكبه داخل الرواية ازدراء للحاضر، حاضر الدولارات يغزو العالم، حاضر أطفال غزّة يحترقون بالفسفور الأبيض، حاضر اقتتال الإخوة الفلسطينيين وا نكفاء المشروع القوميّ، و حاضر الزمن يفترس كلّ شيء.
بمشهد… يختزل على نحو عميق انتصار الزّمن تختتم هذه الروايّة، مشهد الكلب يعجز عن القفز، بعد أن قصرت قوائمه عن إعانته على ذلك فينكفئ على نفسه… تماما مثل بطلات الرواية.