فهد حسين
إن الدعوة التي تطلق بين الحين الآخر في مشهدنا الثقافي والنقدي، وهي: الحاجة إلى نظرية نقدية عربية، تجعلنا نقف مليًّا عند مجموعة من المعطيات ذات العلاقة بالثقافة والتراث من جهة، وبالأدب من جهة ثانية، وبالعلوم الإنسانية والاجتماعية من جهة ثالثة؛ لذلك سنقف عند عالميّة الأدب ومكانه ثم نتطرق إلى ما يحلم به بعضهم بوجود نظريّة خاصة بالعرب وآدابها. حيث لا تخلو قوميّة أو إقليم أو دولة من منجز ثقافي وأدبي، بعيدًا عن جودة هذا المنجز، وعمق ما يطرح ويناقش ويسأل، وهذا ما يفرض علينا معرفة بعض التاريخ والتراث المتعلقين بالأدب، والمؤثرات الخارجيّة السياسية والثقافية واللغوية، ولكن بالعودة إلى السطوة الاستعمارية آنذاك، نجد أنها سعت بكل ما تملك من أساليب وخطط لحجب هذا المنجز أو لتقويضه كلما سنح لها الزمن، وفتح لها أفقًا للانخراط من خلاله، أي لو أعدنا بذاكرتنا التاريخية للدول الاستعمارية، وما قامت به في الدول المستعمَرة لوجدنا حقيقة ما نقول، حيث أصرّت إسبانيا آنذاك حين سيطرت على العديد من دول أمريكا الجنوبية (اللاتينية) أن تكون اللغة الإسبانية هي اللغة الرسمية، وتدريجيًا، ومع الوقت والفرض، باتت هذه اللغة وكأنها اللغة الأم، ولتكون لغة التفكير والكتابة والحياة اليومية، أما لغات هذه الدول والمناطق فقد دفنت بين أروقة الحديث الخاص، أو بين بطون الكتب القديمة، أو بين قبور الأجداد، لتكون ضمن حضارة شبه منسيّة، وكذلك فعلت فرنسا حين استعمرت العديد من الدول العربية وغير العربية، وإن كان الهدف ليس اللغة في حد ذاتها، بل الثقافة وطرائق التفكير، وهو ما يتوجب تجاه الدول المستعمَرة وشعوبها الاهتمام باللغة الفرنسية أيما اهتمام، وفعلت بريطانيا الشيء نفسه، ولكن بدرجات متباينة ومختلفة، في سياق اهتمامها بنشر اللغة الوظيفية والتعليمية، فضلاً عن الأدب والثقافة المجتمعيّة.
إن هذه الممارسات كرّست حضور منجز الدول المستعمِرة وسطوتها، والتقليل من منجز الدول المستعمَرة، بل بات – وحتى اليوم – هناك الكثير من الكتاب لا يكتبون إلا بلغة المستعمِر، مع أن هؤلاء يكتبون إلى العقل المنتمي لدولهم أو لقوميّتهم أو لمناطقهم، واستمرّ الحال حتى بعد خروج الاستعمار من الدول المستعمَرة؟ وبرزت في خضم هذا الزخم المتباين مصطلحات، مثل: الكولونيالية، السكسونية والفرانكفونية، ونتيجة ما عانت الشعوب عامة، والشرائح المثقفة بخاصة، والكتاب والمبدعون على وجه الخصوص من ويلات ثقافة المستعمِر المهيمنة، مما أدى إلى ظهور موجات بين فترة وأخرى، تحاول إعادة التوجه إلى تراث هذه الدول المستعمَرة الحضاري، ومنجزها الأدبي، وثقافتها المتأصلة في جذور مكانها، والاهتمام بلغتها الخاصة، بل المناداة للخروج من دائرة الكتابة في مناطق، ومحاور، وقضايا، تقع في محيط ثقافة المستعمِر، وأن تحلق في فضاء قضاياها الخاصة، وحضارتها التي تم تجاهلها، وكيفية التفكير في معالجتها، وبالأخص التفكير في تلك اللغة التي كانت تكتب بها شعوب الدول المستعمَرة، كاللغة الإسبانية أو الإنجليزية أو الفرنسية، وهي اللغات الأكثر توظيفًا في عالم الكتابة والأدب والثقافة حتى يومنا هذا مقارنة بعدد الدول، بمعنى كانت الدعوات تنادي بنتاج أدبي وثقافي له الخصوصية الوطنية والمحلية، ومناقشة قضاياها دون الوقوف عند قضايا الدول الكبرى المستعمِرة، وتعتبر هذه الدعوات من أهم الأسس التي تشكل هذا الخروج، والانطلاق من المركز، والتأمل في الهامش وخصوصيته.
أما في دولنا العربية مثلاً، وبحكم التطوّر الذي حصل لدول قبل أخرى، كانت ثقافة مراكز الإشعاع الثقافي لهذه الدول مركزًا لدول أخرى، وقد برز ذلك في التعليم تدريسًا ومنهاجًا، وطريق تفكير، حيث كانت مناهج دول المركز تدرس في مدارس دول الهامش، وفي الوقت الذي تشير التطوّرات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لعدد من الدول العربية، فهناك من يؤكد على تكريس مفهوم المركز والهامش؛ إذ كانت وما تزال هناك بعض الأقلام التي تحاول البقاء على هذا النمط التقليدي، وإن لم يعد نافعًا في ضوء التحوّلات والتطوّر في مجال العلم والتكنولوجيا، وفي الثورة المعلوماتية، من هنا يأتي السؤال ذو الأهمية القصوى، وهو مدى حاجتنا نحن العرب إلى نظرية نقدية سواء عُنيت بالأدب، أم كانت شاملة العلوم الإنسانية الأخرى.
ليس سهلا أن نطلب من المرء التخلي عن شخصيته أو عن قوميته أو عن موروثه الثقافي في خضم رغبة التحول إلى العالمية، كما حدث في محاولات العولمة التي تفضي إلى محو أو اضمحلال القوميات الصغيرة، وثقافاتها، لتنخرط في الثقافات الأخرى، وهو ما لم تنجح فيه، بل بدأت هذه القوميّات المتناثرة على سطح الكرة الأرضية في البروز والظهور كلما اجتاح مناطقها الدمار والخراب، أو محاولة طمس هذه الأقلية، أو ذاك الدين، أو هذه الثقافة، لذلك من الصعوبة في هذا التحوّل، ولكن لابد من جعل هذه الأقليات والقوميات الصغيرة ذات مكانة مثل ما للقوميات والثقافات واللغات ذات الانتشار والسطوة في العالم، أي أن تكون حاضرة، وهذا ما يدعو إلى الاهتمام بمنجزاتها الثقافية والحضارية، ونقلها للعالم لتكون عالمية الانتشار وتأخذ الدور العالمي دون فقدان هويتها الأصلية، أي أن تطرح هذه القوميات على نفسها سؤالاً بكيف تتمكن من حضورها عالميًا، وما المحكّات التي ستخوضها في هذا المضمار.
والأمر الذي لا نختلف فيه، هو أن كل مرحلة تاريخية (لستُ هنا معنيًا بالتحقيب) تفرز لنا مجموعة من الكتاب، وشرائح من المثقفين الثقافة العامة، والثقافة الخاصة، ومتى ما استطاعت هذه المجموعة تكريس دورها وجهدها الإبداعي أو النقدي أو الفني، بقي هذا النتاج واقعًا ملموسًا أفقيًا في بعديه التاريخي والجغرافي، ولكن حينما تكرّس كتاب هذه المرحلة أو تلك في تفكيك الحراك الثقافي والأدبي والفني، أي أنواع التعبير المختلف، والأشكال المتعددة، والقوالب التي تملأ فيها هذا النتاج وذاك، وهو طالما كنا ولا نزال نحلم بانفتاح النصوص والثقافات على الآخر، وهو ما يفرض علينا طرحًا وسؤالا وسجالا وتقييمًا حقيقيًا والبقاء الدائم في ديناميكية الحوار؛ لأن مراجعتنا النقدية تسهم في بلورة الأفكار وصياغتها، والمساهمة في بناء ما هو في المستقبل، بل من الأجدى أن تقوم كل مرحلة بتقييم ما سبقها والخروج من محيط انغلاقها الراسخ.
عالميـة الأدب
هل فكر أحد منا كيف تكونت ثقافتنا الإنسانية؟ كيف بنى أجدادنا حضارتنا؟ كيف أصبحنا ضمن هويات متعددة؟ هل هناك قاسم مشترك بين الحضارات؟ بين الثقافات؟ بين الهويات؟ بين أحلام البشر وتطلعاتها؟ هل نحن الشعوب المتعددة بلغاتها وألوانها وأعراقها ودياناتها ….. وإلخ. نحن شعب واحد في الإنسانية، وإن تعدد كل ما سبق؟ وهو ما أشار إليه القرآن الكريم في سورة الحجرات، آية رقم 13 (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا ….) صدق الله العظيم، كما أننا لا ننكر عمليات التأثير التي حصلت للعالم العربي من قبل الثقافة العالمية عبر عدة روافد، وكذلك التأثير من هذه المراكز الإشعاعية العالمية والعربية في المنطقة الأطراف، هذه المنطقة التي حدثت فيها بعض المؤشرات ساعدت على تلقي هذا التأثير، أهمها استجابة الواقع المعيش الاجتماعي والموضوعي ثقافيًا وسياسيًا واقتصاديًا لقبول هذا، بل سعى التعليم فيها ومراكز التقدم العلمي لتكون دولاً ذات أهمية تعليمية وثقافية واقتصادية، وهذا ما نراه اليوم، ونقرأ عنه في الأدبيات، ونشاهده عبر وسائط التواصل الاجتماعي، أو من خلال الفضائيات.
نحن في عالمنا العربي أخذنا من الغرب بلا شك الكثير من المعارف والعلوم والتشريعات والقوانين التي تنظم المجتمع، وتسهم في رقي الإنسان العربي، وقد برز ذلك من خلال التعليم والتكنولوجيا والعلاقات الإنسانية والتنظيمية والحقوقية وغيرها، ولكن في الوقت ذاته لم نقف وقفة صريحة مع أنفسنا، ودراسة ما أخذنا ووصلنا إليه مقارنة بما أخذت الحداثة الأوروبية من العرب أنفسهم، بمعنى أن أوروبا حين جاءت إلى الأرض العربية جاءت بحداثتها التي وصلت إليها عبر عدة قرون، من النهضة الأولى حتى الحداثة، وبعد الحداثة، مرورًا بعصر الأنوار، وتلك الأدوار التي قام بها علماء وفلاسفة ومفكرون كتاب غربيون، أمثال: دارون – هيكل – كانت – جان جاك روسو، وماركس، وإنجليز، ووليم شكسبير، وفوكنر، وهيجو، وغيرهم من تلك العصور، وصولاً إلى العصر الحديث، مثل:
تودوروف، رولان بارت، وجاك دريدا، وبعيدًا عن رسم الرؤى والتوجهات والأهداف التي ربما يراها البعض أنها ذات مسحة استعمارية أو استحواذية، أو رغبة في نشر المفاهيم والمبادئ الغربية، فإن ما جاء عن طريق هؤلاء يطرح على الإنسان أيًا كان مكانه أو فكره أو دينه أو هويته، كيف يفكر، وكيف ينطلق نحو التقدم العلمي والمعرفي، وكيف ينمي وعيه الاجتماعي والحقوق، وكيف يقرأ الواقع المعيش بما جاءوا به هؤلاء وغيرهم من نظريات تسهم في تنمية الثقافة والمعرفة.
بل إن ما قدمه الغرب آنذاك كان في بعضه محاولة للتخلص من الرجل المريض، وهو الاستعمار العثماني، الذي حجب الشمس عن العالم العربي طيلة أربعة قرون، هكذا ينبغي النظر إلى الحداثة الأوروبية.
وكثيرًا ما نطرح نحن العرب أسئلتنا حول النتاج الأدبي والثقافي، ومدى إمكانية هذه النصوص المختلفة إن كانت تلبي طموحاتنا، أم لا يزال الوقت باكرًا على تحقيق هذه الطموحات، وبقينا في دوامة الطموح، وعجلة النتاج، وميزان التقييم، منذ أن نصب زهير بن أبي سلمى خيمته في سوق عكاظ، وحتى يومنا هذا، حيث تتمظهر لنا التساؤلات وتتبعها التعليقات فيما يخص آليات تقييم عملنا ومنجزنا الثقافي والأدبي. من هنا بدأت تظهر بعض النظريات والمناهج التي تربينا عليها منذ الأزمنة الماضية، فقد كان العروض والبحور الخليلية منهجًا اتبع بعد أن وضعه الخليل بن أحمد الفراهيدي للشعراء الذين جاءوا بعد هذا المنهج القديم الجديد، واستمراره حتى هذه اللحظة، مع الحضور الطاغي لقصيدة التفعيلة والنص النثري.
كما جاءت لنا نظريات ومناهج نظروا لها منظرين مسلمين، حيث لم تكن العربية في المحك لمعرفة الشخصية آنذاك، بقدر ما ينظر إليها بوصفها شخصيات إسلامية، إذ برز العربي وغير العربي في شتى العلوم والمعارف، مثل: الخوارزمي الذي ما يزال اسمه ساطعًا في المال والبنوك والأسهم حيث لا يمكن العمل في هذا المجال من دون الخوارزميات، وكذلك برز لنا ابن خلدون والفارابي والغزالي والطوسي وابن سينا والكندي وابن سلام الجمحي، وقدامة بن جعفر والجرجاني والجاحظ وغيرهم الكثير الكثير، ولكن في تلك الفترة لم نقل أننا نريد نظرية عربية نقدية، فمعظمهم هؤلاء ليسوا عربًا، بل أعاجم. من هنا ظهرت لنا علامات النقد الأدبي والبلاغي، وتصنيف الشعراء، وعلم المعاني، وعلم البيان وعلم البديع، وكذلك نظرية اللفظ والمعنى، والسجال حولهما، ولكن أتصور أن هذه المناهج أو النظريات التي بزت في حقبة زمنية معينة، كانت الظروف أكثر مواءمة، واستعدادًا، بل هناك بعض الأسباب التي أسهمت في ظهورها، مثل: قلة التواصل مع الآخر إلا في عصر العباسي حين انتشرت الترجمة والاتصال الثقافي والأدبي والعلمي مع بعض الحضارات الإنسانية الأخرى، مثل: اليونان والهند والصين والفرس. وحينما أخذها الغرب لم يقف عن منبعها ومنبتها، بل واصل العمل بها وتطوير أساليبها وطرائقها.
وبتفكير بسيط وغير معقد، فإن المرء يعرف تمام المعرفة أن هناك حضارات وثقافات وقوميات وديانات وأعراف ولغات وأعراق، وهذا أمر واقع، ومحال أن كل هذا يأت بمحض الصدف ليكون واقعًا، بل هناك فكر وتطلع وحلم وبناء وأهداف، ولكن هل فكرنا بسؤال أنفسنا: ما القواسم المشتركة بين كل هذا؟ وبخاصة أننا دائمًا نقول: الفن الموسيقي والفن التشكيلي هما لغة عالمية، بمعنى ليس شرطًا أن تتقن اللغة أو تعرف مدارس الفن أو الدراية بعالم الموسيقى، لكي تكون ميّالا لهذا الفن أو ذاك، فكثيرًا ما نتسمر واقفين أمام لوحة تشكيلية، نعجب بها، أو ببعض جمالياتها ما استطعنا كشفه من دون وضوح أسباب هذا الإعجاب، أي أننا متفقون على أن هذين الفنين لهما لغة عالمية. وهنا نتساءل في سياق المكان؛ هل الأدب عالمي؟ أم قاريّ؟ أم مناطقي؟ أو في سياق التكوين: فهل هو أممي؟ أم قومي؟ أم شعبي (القصد شعب منطقة أو دولة)؟ أو في سياق الدين: فهل هو يهودي أم مسيحي أم إسلامي؟ أو في الفكر والثقافة، فهل هو إيديولوجي؟ وهل الأدب تعبير عن ممارسة فردية أم جماعية أم الاثنتين معًا؟ وهل الأدب ملك أحد أم ملك كوني؟
إن الثقافة أو الأدب لم يكونا في يوم من الأيام حاجزًا بين الإنسان والآخر، بل يسعيان باستمرار لبناء جسور متينة بين البشر، ولكن للأسف؛ البشر أنفسهم لا يرغبون في هذا التواصل والتلاقي، ويرغبون في أحاديتّهم وانزوائهم وتطلعاتهم الفردية القادرة حينًا والعاجزة أحايين في تحقيق طموحات المجتمع والوطن قبل طموحاتهم الفردية، لكن للأسف بعد الألفية الثالثة جاءنا طوفان الكتابة من كل الجهات الأصلية والفرعية، وهؤلاء الذين دخلوا في شرنقة الكتابة يعتقدون أنها الأجمل والأنقى وصاحبة القدرة على التميز، في وقت أن الكتابة لا تتحول إلى عادة واستمرار إلا بالتجربة القاسية والفكر الواعي والقراءة المتواصلة والبحث الدائم في كيفية الحصول على المعرفة والتمسك بها، لا أن تكون الكتابة مجرد صف كلمات لتنبي جسرًا مهلهلاً بكلمات سطحية خالية من السؤال والتحفيز على التفكير، هنا أشار مصطفى ناصف في كتابه لعبة الكتابة، إلى أن « السرد يشكل جزءًا كبيرًا من جاذبية الكتابة التي تحول كل شيء إلى مجرد نص – ص81».
علينا أن نقف متأملين العلاقة والأسبقية فيما يتعلق بالثقافي وبالأدبي، أي هل نؤمن بالثقافة لتكون عالمية أو بالأدب ليكون عالميًا؟ وأين يكمن الخاص، وأين يكمن العام؟ ومدى تحول كليهما للآخر، وبخاصة لو أسقطنا هذا على الأنماط الاجتماعية بشكل عام فيما يخص طرائق تناول الطعام والشراب، ونوعية الأواني والأطباق والملاعق وهكذا، حيث قبل عشرين أو ثلاثين سنة كان التباين واضحًا في هذا، ولكن مع مرور الوقت، وتلاقي الثقافات بين الشعوب والتواصل الاجتماعي المناطقي باتت كثير من هذه الأعراف والسلوكيات الاجتماعية متواجدة في كل المناطق والدول تقريبًا، بدليل حاليا حينما نذهب إلى المطاعم العالمية المنتشرة في البحرين أو أية دولة عربية، سنجد على الطاولات الملاحق وعيدان الطعام التي كانت في يوم من الإيام محصورة على دول شرق آسيا، بل لا أحد البتة يستغرب حينما يرى عربيًا بالتحديد يأكل بواسطة هذه العيدان، وكما كنا قديما لا نستعمل الملاحق ولا الشوك ولا السكاكين في الأكل بات حاليا كل شيء ممكنا وعاديًا، وهنا هل يمكننا القول بأن السلوك الاجتماعي في تناول الأطعمة أصبح عالميًا ومفتوحًا، ولم يعد مناطقيًا ومغلقًا؟
وبالعودة إلى الأدب، فهناك الكثير من أبناء الوطن العربي يقرأ بالإضافة إلى ما تنتجه اللغة العربية تلك الكتب التي تصدر بلغات أجنبية متعددة شرقًا وغربًا، وفي أثناء القراءة هذه تتكشف لنا جماليات النصوص المناطقية أو الخصوصية، أو تلك الحكايات التراثية والشعبية، وربما يحاول البعض تحويل هذه الخصوصية المعنية بمكان أو زمان معين، إلى خصوصية لغته أو قومه أو مكانه وزمانه، وكأنه يحاول جعل ما قرأه مطواعًا ليصلح نصًا مفتوحًا ليس في دلالاته ومضامينه فحسب، بل في إنشائه وتكوينه، وهذا بالطبع متوقف على طبيعة النص وقيمته التي تسلك مسلك العالمية حتى وإن لم تظهر علانية، ولكن لو وقفنا عند نصوصنا نحن في العالم العربي أو في منطقة الخليج أو في أية دولة من دولنا، كم من هذه النصوص تصلح ليكون محيطها عالميًا؟ وكم منها يمكن للقارئ التعامل معها بوصفها نصوصًا خارج المكان، أي ما الصفات والخصائص التي تحوّل الأدب عامة من قوميته أو مناطقيته أو أيديولوجيته أو لغته ليكون عالميًا؟ سؤال لا نجيب عنه، بقدر ما نطرحه على المبدع العربي الذي يأخذه شغف الاطلاع، وحب المعرفة، وطرح القضايا الشائكة بوعي وإدراك، الذي يكتب ليكون حاضرًا في المشهد من دون رسم خريطة فضاء لمشروعه الكتابي، وتحوّلات طبيعة الكتابة والتناول والطرح.
هل نحن بحاجة إلى نظرية نقدية؟
لا تنشئ أية نظرية أو يبرز أي منهج في علم من العلوم، أو في حقل من الحقول المعرفية إلا بعد دراسات وافية ومتعددة عبر الزمن، وتحديدًا في قراءة الواقع المعيش، ومدى استعداده لقبول هذا ورفض ذاك، حتى في الأمور الحياتية البسيطة، وكلنا يعلم تلك المواجهات التي حدثت بين دعاة الحداثة والتقليديين، أو دعاة النهضة العربية ومعارضيها الذين كانوا يعتبرون النهضة تستقي شعاراتها وتطلعاتها من الغرب، وكذلك حين كتابة قصيدة التفعيلة وما دار حولها من هجوم الذي تكرر بعد انتقال عدد من الشعراء الذين آمنوا بقصيدة النثر، إذ لا يزال التباين قائمًا في عالمنا العربي حتى اليوم، فأية نظرية تضع في تكوينها مناقشة البعد الفلسفي لتكوينها، والمتعلقة بالأفكار والمفردات (اللغة)، والتصورات (البناء والتكوين الجسدي للنظرية)، والأشياء (المعطيات الموضوعية والمادية التي تسهم في ظهور هذه النظرية أو تلك. فضلاً عن علاقة النظرية بالأفكار المؤدلجة التي قد تعرقل مسيرة تقدم هذه النظرية أو عبور هذا المنهج. وبخاصة إذا بدأت تلك المفاهيم والقيم النقدية تخوض في نصوص مقدسة.
نحن حينما ننادي بنظرية عربية في النقد، فنتساءل أي نقد نعني، هل للنص الأدبي، أم النص اللغوي، أم النص التراثي التاريخي، أم النص الديني، أم النص الاجتماعي؟ أم هي نظرية عامة يمكن توظيفها في شتى المجالات والمعارف والحقول والأجناس، ولكن هل قرأنا واقعنا العربي، ومدى استعداده لقبول مثل تلك النظريات التي ظهرت في أوروبا، هذا الظهور المسبوق بدراسة واقع اجتماعي وثقافي وطبيعة قبول نقد المقدس بحيث لا يوجد نص هناك مقدس، أما نحن فجل حياتنا تقاس من خلال المقدس، فكيف إذن نبحث عن نظرية يقف المقدس الاجتماعي أو الديني حائلاً؟! أي النظرية التي نطمح لها لابد أن تعنى بالنص في سياقاته المختلفة الاجتماعية والثقافية والدينية والآيديولوجية المختلفة، وواقع الإنسان والعيش، الأمر الذي ربما يتعارض وفكر النظرية نفسها، وهنا يكمن الإشكال في هذا، وبخاصة أننا نبحث عن نظرية وليس نظريات، وعن منهج وليس مناهج، فكيف سيتم التطويع والتمثيل والتطبيق؟!
وبهذا فإن تقييم المرحلة كاشف عما تريده، وما يريده كتابها في المجال الذي عملت فيه، وبالأخص الثقافي والإبداعي الذي لا يلغي الماضي التاريخي أو الحضاري أو الثقافي. إن الحياة السياسية والاقتصادية في العالم العربي، وتلك النزاعات التي عادة كانت من أجل المصالح الذاتية، فضلاً عن حضور الكتاب و النقاد والمنظرين في الغرب ليس كما هم في العالم العربي، حيث متطلبات الحياة وتلبية حاجات الإنسان اليومية، التي يمكن إيجادها بطرق تختلف تمامًا عما في عالمنا الذي يبقى المشتغل بالنقد تطبيقًا وتنظيرًا، يمارس دوره في الكتابة من جهة والبحث عن لقمة العيش من جهة ثانية، وعدم تقدير المؤسسات الثقافية الرسمية والأهلية بتقدير دوره ماديًا ومعنويًا. من هنا يصاب بنوع من العطب والتراجع وعدم تحمل المسئولية التي يمكن أن يضعها هو والمجتمع الثقافي على عاتقه المعرفي. من هذا المنطلق بدأ العرب يتكئون على ما يأتي من الآخر من النظريات والمناهج، والعمل على محاولة تطوير ما يمكن وتطبيقها على النصوص، وهذا الأخذ والانتشار منذ القرن الثامن عشر وإلى يومنا هذا.
أعتقد أن كل نظرية يبنيها الإنسان في أي مكان من العالم فهي ليست ملكًا لمكان المنشأ، ولا ملكًا محصورًا على جيل أو عصر أو حتى صاحبها غير الاسم الذي يتكرر كلما ذكرت نظريته أو منهجه. حيث هذه الإنجازات هي إنجاز إنساني، وملك للبشرية قاطبة، ومهما حاولت هذه الفرقة أو هذه القومية أو هذه اللغة التحيز لنظرية خرجت منها، فإن الواقع المعرفي والثقافي وحتى الحضاري يؤكد عالمية النظرية وشيوعها بين الجميع، لذلك كل النظريات التي هي ملك للجميع، ويمكن هذا الجميع توظيفها في حقوله المختلفة.
والأدب في صورته العامة هو فن عالمي لا تحدده أمكنة أو أزمنة إلا في سياق الدراسات البحثية أو الأكاديمية، وهذا لا يعني خصوصية هذا الأدب ومكانه من غيره. وحين نعود إلى الأدب الخليجي فإننا نعني هنا السرد والشعر بعد أن حولنا المسرح إلى عالم الفن، الأمر الطبيعي أن هناك خصوصية لأي أدب كان، فلو عدنا بالذاكرة الثقافية الأدبية والتاريخية ووقفنا على المعلقات سنجد خصائصها متفردة عن غيرها من النصوص التي كتبت في العصر ذاته ولكن في ثقافات وأمكنة أخرى حيث الوقوف على الأطلال والرحلة والحرب والمغامرة والحكم وغيرها، ولا شك أن النظريات والمناهج النقدية التي أنبتت في الغرب، ونمت وترعرعت بفضل منظرين ونقاد وأكاديميين غربيين، فإنها تجاوزت المكان ورحلت مسافرة إلى أمكنة ثقافية وبقاع معرفية أخرى، إذ تلقفها العرب المشتغلون بالنقد والأدب والثقافة، كما تلقتها المناطق الأخرى، وعلمت من خلالها الدراسات التطبيقية تحليلاً وتأويلاً وتفكيكًا، بعد تطويعها قدر الإمكان، وهنا نقول: لماذا الحاجة إلى النظرية الأدبية النقدية؟ من أجل فهم الحياة والإنسان والظواهر والمشكلات التي يتناولها الأدب نصوصًا. ففي العصور السالفة كانت الحياة الثقافية والاجتماعية تهتم بالنص الأدبي كتابة واشتغالا وثم نقدًا، وإن كان في الأصل على النص الشعري، لكن مع تطور الحياة الثقافية وتشعبها، وفي سياقاتها التاريخية والثقافية المتعددة الزمكانية، بدأت النظريات العربية آنذاك محل تقدير من قبل المشتغلين على النصوص غير الشعرية.
إن النظرية الأدبية أيًا كان مصدرها ومنبتها وشيوعها في المكان والزمان، لابد أن تبنى على أهمية الدور الذي تقوم به في أهمية اللغة والمفردة والانزياحات، لذلك حضور التصورات في النظرية تجاه الأشياء والأفكار واللغة وما شابه ذلك، ولكن أتصور الحرية المتاحة لوجود نظرية نقدية محدودة جدًا، وبل طريقها عامة مملوء بالأشواك والعراقيل التي تقيد بناء النظرية أو ظهورها في عصرنا هذا، العصر الذي لم تعد الأمكنة أو الأزمنة حاجزين مانعين من توظيف أي منهج أو نظرية قادمة من مكان آخر، كما أن الفارق بين ما يأتي من الغرب أو من الآخر تنظيرًا، فقد أنبت هذا الإنجاز في عالم الحرية المطلقة، والتي تلغي أي مقدس في العمل الإبداعي مما ينعكس على النظرية ونشوئها، على اعتبار أن النظرية لا يمكن الخروج بها إلا بعد دراسة أنظمة النص الإبداعي وتراكم هذه النصوص التي تصل بالمنظر إلى ابتداع منهج أو تأسيس طريق نقدي أو رسم ملامح نظرية نقدية، فما جاء به سوسير أو بارت أو تودوروف أو دريدا أو كرستيقا أو المنظرين في مجال العلوم الإنسانية، سواء في عالم النفس أم علم الاجتماعي أم الأنثروبولوجيا وغيرهم من المنظرين الغربيين، فإن ما قدموه جاء بعد تراكم الدرس والتمحيص تجاه النصوص الإبداعية والاجتماعية.
لا شك هناك من فريق من الكتاب والمبدعين العرب ينادون بوجود نظرية نقدية منطلقة م فضاء العالم العربي، وهناك آخر يرفض هذا التوجه جملة وتفضيلاً، وفريق ثالث بين هذا وذاك لأنه لم يحسم أمره. ومن هذا المنطلق ألا ينبغي علينا نحن المنتمين إلى عالم الكتابة والإبداع أن نقف وقفة صريحة نقدية لما هو موجود من تراكم نصوصي في مجال الأدب والفن؟ فحين نؤمن بوجود نظرية نقدية فإننا نبنيها ونشيدها وفق ما يعطينا النص العربي الحديث من أسباب تفرض علينا التفكير والبحث والعمل من أجل هذا النظرية النقدية أو هذا المنهج النقدي، لكن ولنكون أكثر صراحة، إذا كانت جل النظريات التي نعتمدها الان في دراساتنا التطبيقية قد بنيت على قواعد النص، فهل قواعد نصنا قادرة على ما كان في نص الآخر؟ وهل لدينا الإمكانات والقدرات التي تقوينا لنقد كل المسلمات التي لم تعد فارضة نفسها في النظريات الغربية؟ فلم تعد النصوص الأدبية محصورة في أدبيتها فقط، بل في سياق النقد الأدبي والثقافي وارتباط النص الأدبي بالعلوم الإنسانية الأخرى، فنحن علينا أن ننظر شمولية النص من حيث التكوين والبناء والتناول والطرح، وليس غلق النص تحت الأدب ونكتفي كما كان في الماض.
بات النص الأدبي هو نص أدبي ثقافي.
هل نحن العرب في حاجة إلى بناء نظرية نقدية؟ وإذا كان، أية نظرية نريد، هل بناء على النصوص المنشورة في عصرنا هذا التي كثير منها بحاجة إلى إعادة نظر في بنائها قبل أن نجعلها عتبة الدرس النقدي؟ هل نحن بحاجة إلى نظرية أدبية خاصة تهتم بالنص الأدبي عامة؟ أم نحن بحاجة إلى نظرية تصل لنا وتمفصل الجزئيات من هذا الأدب، بمعنى: هل نريد نظرية ذات مقولات عامة يمكن تطبيقها على زي نص أدبي؟ أم نظرية متفرعة بفروع النصوص الإبداعية من شعر وأنواعه الثلاثة (القصيدة العمودية – قصيدة التفعيلة – النص النثري)، ومن سرد وتعدد أنواعه (قصة – رواية – قصة قصيرة جدًا – الحكم والأمثال – السيرة بأنواعها (السيرة العادية – السيرة الروائية – رواية السيرة)، وأدب الرحلات، غير ذلك. وكذلك المسرح إذا صنفناه ضمن النصوص الأدبية، وبأنواعه الجاد والهزلي، العادي والميلودراما. أم نحن بحاجة إلى نظرية شاملة للعلوم الإنسانية كلها بما فيها النقد الأدبي والنقد الثقافي.
أليست النظريات التي يشكلها الإنسان بعد معارف وتجارب وتطبيقات تصل بنا إلى أن تكون هذه النظرية أو تلك علمًا وليس فنًا، والعلم لا يقتصر على مكان ما أو زمان ما، بل هو منجز إنساني يعبر القارات والمحيطات ويستوطن في أي مكان يريد أو يُطلب، بمعنى حينما ظهرت لنا المناهج النقدية والنظريات الغربية، من الواقعية الاشتراكية والواقعية السحرية، والسيمائية والتأويلية والبنيوية والتفكيكية ونظرية التلقي، هل استقرت في مكان دون آخر، أم تلقفها المبدعون والنقاد والمشتغلون بالنصوص تنظيرًا وتطبيقًا؟ وهذا ينطبق ليس على الأدب فحسب، بل كل العلوم ذات العلاقة بالحياة والإنسان والكون، حيث العالم كالهواء والماء، وحينما نتفق على أن النظريات النقدية حتى تصل إلى مستويات عليا، فهي علم، لذلك تصبح هذه النظريات عالمية لكل البشر دون استثناء.
وهناك إشكالية تتمظهر في فضاء الدعوة إلى نظرية عربية نقدية، تتمثل في علاقة الأنا بالذات نفسها، وبالآخر، وبالمقدس، وبالنصوص الأخرى ذات الطابع اللغوي والأدبي، وبخاصة إذا آمنا أن النقد في حد ذاته هو إعادة كتابة نص على نص، وهنا قد تبرز بعض العوائق في التعامل مع بعض النصوص، كما أن هذه النظرية التي ينادي بها البعض، هل ستكون محصورة على العالم العربي؟ وإن كان ذلك، فهو يشكل انغلاقًا على الذات، الأمر الذي لا يتوافق وطبيعة العمل النقدي عامة والنصوصي والتنظيري بشكل خاص، حيث كل نص ينتجه الكاتب فهو ملك للجميع وليس لفرد أو مجموعة أو لغة أو منطقة.
كما هي العادة في الأزمات التي تعصف بالإنسان والمجتمع، وتجعل جل تفكيره في المآسي التي وقعت أو التي ربما تقع، مما تزيد من الخسائر المادية والبشرية وطغيان الألم النفسي وخلخلة العواطف واضطراب الوجدان، لذلك تحاول الدول التي تقع فيها الكوارث من فيضانات وأوبئة أو براكين، أو الحروب التي تقع بين الدول أو نتيجة الاستعمار أو الحروب الأهلية، وما ينتج من خسائر فادحة، تحاول هذه الدول، أن تقدم برامج أخرى تحاول من خلالها إبعاد المآسي عن المجتمع، وهو ما فعلته الدول العربية عامة وتلك التي كانت في مواجهة مع إسرائيل، والدفاع عن فلسطين، إذ قدمت العديد من الأعمال السينمائية المائلة إلى الرومانسية، أو بيان أسباب الهزيمة وما ترتب عليها من حزن وانطواء وفقد الأمل في الوحدة العربية أو النضال العربي، أو المشروع العربي، كما برزت العديد من الكتابات التي سطرت في الكتب والمجلات والصحافة اليومية، كذلك ظهرت الكتابات الإبداعية من قصة ورواية وشعر ومسرح، فضلاً عن الفنون البصرية الأخرى، وكل هذا من أجل انتشال الإنسان العربي من مأساته، وهذا ما عبر عنها الجابري بــ (أدبيات السقوط). ولكن في الوقت نفسه فإن المفكرين والمنظرين العرب حاولوا أيضًا أن يقرأوا الوضع ويدرسوا تداعيات ما حدث تفضيلا وإجمالا، وقد عقدت الندوات والمؤتمرات واللقاءات لمدارسة هذه الهزيمة وانكسار الإنسان العربي، وفقد أمله في المشروع القومي العربي.
من ينادي بوجود نظرية نقدية عربية، كأنه: يتعلق بالهوية القومية ويرتبط باللغة والإنجاز الحضاري لشعوبنا العربية، وفي الحقيقة أننا نعاني ليس من عدم وجود نظرية أدبية نقدية عربية، بقدر ما نعاني من حاجتنا إلى قراءة واقعنا العربي قراءة واعية في كل حقولنا، الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية وغيرها من شئون الحياة، وهذا يعني إذا آمنا جدلاً بمناداة لوجود نظرية عربية نقدية، فالواقع المعيش يفرض أن تكون لنا رؤية فلسفية أولاً لواقعنا الذي يحتاج إلى التحليل والتأويل والتفكيك.
ومع أي متابع حصيف للمنجز العربي الأدبي والثقافي، يتساءل حينما يقرأ أو يسمع من ينادي بوجود نظرية نقدية عربية، التي هي في الأصل لا يمكن لوجودها إلا وفق معطيات وشروط وعوامل متعددة تسهم كلها في بلورة هذا التصور الذي سيكون بعد المخاض في طريقه إلى المنهج أو النظرية، حيث قبل المناداة بوجود نظرية نقدية أدبية عربية، فإننا بحاجة إلى فلاسفة الأفكار التي تعنى بالتأملات والتأويلات للنصوص واللغة وغيرها، وأن نستحضر جل مقولاتنا القديمة التي استطاعت تشييد الحضارة وبناء ثقافة المجتمع، وتطور وعيه، وشحذ تفكيره تجاه العديد من القضايا الإنسانية ذات الصلة بالنص الأدبي، كما عليما أن نعي جيدًا أن الأدب والنقد لهما قواعد متينة وصلبة تتمثل في مجموعة من التصورات والرؤى، التي تشكل طريقًا معرفيًا للإبداع والنقد التنظيري والنصوصي.
وهل يعلم العالم العربي ومن ينادي بوجد نظرية نقدية عربية، أن أي منهج نقدي أو نظرية نقدية، سواء تعلق الأمر بالأدب أو بالعلوم الأخرى، فهذا لا يخرج عن ضرورة الانتباه إلى أن أية نظرية لا تكون محصورة في مكان معين أو لقوم دون آخر، لأن النظرية في صميم تكوينها مرتبطة بالبشر دون استثناء، هي إذن إنسانية، كما أنها ينبغي أن تبتعد عن الأدلجة الدينية أو السياسية أو الطائفية أو ما شابه ذلك، بمعنى ألا تقف النظرية عن المفاهيم المغلقة، مثل: العروبة أو القومية أو الدين أو الطائفة، لأن هذا يشكل خطرًا على طبيعة تشكل هذه النظرية أو هذا المنهج، وهنا يتطلب الأمر أن تكون مبادئها وعناصرها قادرة على معالجة كل القضايا دون استثناء، بل تملك السبل والإمكانات التي تؤهلها للإجابة عن الاستفسارات العالقة في لغة النصوص، وطبيعتها وتشكلها، وغير ذلك، بالإضافة إلى استعداد هذه النظرية للتعديل بين الحين والآخر وفقًا لمتطلبات المرحلة زمنيًا وثقافيًا، وتواصلاً مع الآخر، أي ألا تحدث قطيعة مع الثقافات الأخرى، ولكن للأسف كونها نظرية ذات اسم محصور في العرب، يعني تتصف بالانغلاق، إذ لم نسمع أو نقرأ عن نظريات النقد عامة أنها صنفت على دولة أو مكان معين، وإنما يحضر صاحبها ملاصقًا لها. فحين نتحدث عن البنيوية يحضر لنا دي سوسير، أو التفكيكية لدريدا، ولكن لا نقول هذه نظرية فرنسية أو أمريكية أو إنجليزية. فكيف لنا أن نوسم ما ننادي به بنظرية عربية؟!