تمثّل الجنسانية بؤرة توتر اجتماعية، بقدر ما أنها تشكل أحد الانعطافات الكبرى في تلوين الثقافة الإنسانية عامة، وتلك الخاصة بمجتمع دون آخر، وحتى داخل كل مجتمع خصوصية مفهوم، حيث إن الجنسانية sexyalitè، بصيغتها هذه، تضفي على المفردة طابعاً من التفاوت القائم بين من تمثلهم ذكورة وأنوثة.
إنها أكثر من قضية لغة تركيباً، بما أنها تُظهِر في بنيتها الواردة، ومن خلال هذه الـ«آنية»، ما يخرِج الكلمة «الجنس»، من وضعية الحياد المعروفة، بطريقتها هذه، إلى وضعية التحديد لعلاقات ليست ثابتة، مثلما أنها غير منفلتة من عقالها، لحظة التمعن في آلية العمل بها، أو التفكير فيها، حيث يتبدى كل من الرجل والمرأة مأخوذَين بجملة من العلامات الفارقة، تلك التي تحدد مواقع اعتبارية، تخص نظرة كل منهم إلى الآخر، كما تسمّي ذائقته الجمالية، وكيفية تقويمه للعالم الذي يعيش فيه داخلاً وخارجاً، وآفاق تعامله مع محيطه الاجتماعي. واللغة ذاتها في تكوينها التاريخي، وطابعها الصرفي والنحوي وحتى الاشتقاقي، لم تكن يوماً دائرة في حيّز فارغ، إنما تقول ما تُعطى واقعاً فعلياً، ومجازياً، فهي ذاكرتها الذاتية، مثلما أنها شهادة الجاري باسمها، ومثلما أنها شاهدة على ما يجري، وشهيدة الموقَّع عنها أيضاً.
يعني ذلك كذلك، أن ليس من السهل بمكان، إعفاء المفردة المركّبة تلك، بمجرد تحديدها، من خلال أوجه التنازع بين كل من الذكورة والأنوثة، ومن ثم إبرازها بدعوى وضوحها، فغموضها، وإشكالية التعامل معها، يتناسبان وتاريخية التكوين الخاص بها، أو تجلّيها مفهوماً، أي أن ثمة فيضاً في التعرض لها، أو السعي إلى مكاشفتها داخلاً وخارجاً، من خلال تنوع الثقافات والمجتمعات والمواقف الهائلة والمتعاضة حولها، كما هو الممكن تتبعه في عناوين كتب بارزة تمثل خطابات قائمة بذاتها(1)، وهي لم تتكون في السياق هذا، إلا من خلال المعطيات الاجتماعية المختلفة، والرؤى المختلفة بدورها، وهي مواقف متغايرة حول الجنس بنية ووظيفة ودوراً.
وهذا ما يمكن تتبعه تاريخياً كذلك، وأحدد الأدبيات العربية الإسلامية، كمثال حي وفاعل، حول الجنس كدرس يمكن الإصغاء إلى أصداء المعنيين به، وكيف عاشوه ودوَّنوا له، وهذا الدرس ما كان له أن يُسمى هنا، ربما، إلا لأن ثمة ما يستوجب التذكير، حيث إننا ما زلنا، نلجأ إلى المجاز أكثر من المصارحة، بصدد أي مفردة نعتبرها «صارخة» ذات نسب جنسي، ونحن نُجري فيها تحويلاً، كما لو أن العيش وراء القناع، هو الذي يمنحنا فرصاً أنسب للتحاور، كما هو أكثر المقروء فيما يقدَّم لنا حديثاً، رغم التحول الهائل في المفهوم بالصوت والصورة، ومغريات العولمة وسلعها المادية والرمزية العابرة للحدود الفضائية والأرضية اليوم خصوصاً، ومنها ما أسمّيه هنا، بـ«ترانزيت» الذكورة والأنوثة وأضوائها المختلفة، ولأن الأدب داخل في نطاق هذه اللعبة التي آثرت الكتابة بموجبها، لعبة متقنة، تكون فاعلة ومنفعلة معاً، بحسب نوع المشهد الحسي والتخيلي الذي تجلوه اللعبة هذه، حيث الجسد هو الذي يكون فاعله وأداته، وفاعلية التذوق الجمالي، فاعلية الرغبة في مَحورة الموضوع الرئيس والذي يعني الجسد تاريخياً واجتماعياً، هي التي تمكّننا من الارتحال إلى العالم الأوسع، هذا الذي تمثّله اللعبة، وأي نوع من اللحم يُتداوَل هنا، أي حوار لحمي يقرّبنا مما يشغلنا أدبياً، أي قيمة لحمية الطابع تتشكل في مسرى الحوار المرسَل ذاك، أية مأثورات حسية داخلة في أثريات اللعبة، تستشرف موقع الجسد الذي يتلو علينا ما نعتبره حقوقاً لنا، ونحن نصونها قولاً وفعلاً، إذ نطالب بها، وواجبات نلزَم بها، من خلال انتمائنا الجنسي، أعني ونحن متقاسَمون بالذكورة والأنوثة، وتحت رعاية لا مرد لها هي الجنسانية، وكيف أن الأدب بأفانينه المختلفة، قادر على إمتاعنا، وعلى تنويرنا من الداخل، سواء فيما لا نريد البوح به، ونحن نعيه، أو فيما يفاجئنا لاشعورياً، أو فيما نتوقعه، إذ نمثله جسدياً.
وفي سياق الأدب، تكون الرواية التي يحق لها التباهي بعراقتها النسبية، حتى لو أننا تحرّينا سيرتها الحياتية، وأولي أمرها، عربياً، انطلاقاً من الصيغة السالفة(لعبة الذكورة والأنوثة)، وحتى لو أننا حدَّدنا السيرة الحياتية بالتحديد النوعي لها «الجندر»، وفي مضمار المغذيات الجنسية الطابع، عبر تمثيلات متخيَّلة، لا تقطع صلتها بالجاري اجتماعياً، وهذه اللعبة تزداد خطورةً، عندما يكون التمثيل الروائي، قادماً من جهة الأنثى، في مجتمع، لا يخفي تحفظه على كل تمثيل لها، أو حتى فوبياه «خوافه» التاريخي والنفسي، من الصوت الذي يُسمَع بدقة، نظراً لخطورة الرهان، وإرادة البحث عن الأجمل في الجسد، عبر تسميته، وكيف يكون أداؤه الوظيفي والرمزي واقعاً، وكون الرواية قدّمت كثيراً، أثراً من آثار الرجل، وليس المرأة، وهاهي أطراف اللعبة تأخذ منحى آخر، إذ تسمى المفردة ذات الصلة المباشرة بها، بالكثير من الجرأة، مهما تجلى الموقف مختلَفاً عليه من طبيعة الملفوظ، أو حركية اللعبة المدارة بسرد موجَّه من جهة المرأة، وخصوصاً أكثر، حين يدور الحديث عن صوت أنثوي، يتباهى بحضوره، من أحد المجتمعات العربية التي تعتبَر هنا وهناك، دون المطلوب، مجتمع لم يشب عن الطوق روائياً قبل كل شيء، نظراً للذخيرة المعرفية والنفسية الخاصة، التي تتطلبها الرواية لحظة الانتساب إليها بجدارة.
ولعلّي في هذه المقدمة الطويلة، ربما، وجرَّاء ما تقدم، أتلمس فيما كتبته الكاتبة العمانية غالية ف.ت. آل سعيد روائياً، خروجاً عن هذا التسوير، وخصوصاً في مجال اللعبة السالفة، وهي تطلق السرد من عقاله أحياناً، كما هو متصوَّر من جهة القارىء، لدافع نفسي، أو رغبة غير مفسَّرة، استجابة لحركة يُراهَن عليها، كونها أكثر قدرة على تحقيق المطلوب، أو ليكون في مقدور الحركة تلك، تحقيق المرتجى أكثر، وتعزيز فاعلية الجنسانية من طرف الأنثى هنا.
وإذ أتعرض بمقاربة نقدية دلالية الطابع، للعبة كل من الذكورة والأنوثة، وأوجه تعالقاتها، لرواياتها الثلاث، تلك التي حصَّلتُها، فإنني أبتغي مكاشفة ماورائية ِاللعبة، قدر المستطاع، دون ادّعاء امتلاك كلمة السر فيها، فالنقد ذاته، في شأنه الكتابي، كالرواية أفق الأدب الأرحب، في شأنها التخيلي، يقوم على افتراض الممكن، كما الرواية، إذ تقوم على اقتراض الرمز خَلقياً. النقد يؤّول، يبحث عن الاحتمالات، يتقصى السر في الشخصية المتشكلة والهاربة من التحديد المطلق، والرواية داعية النقد، وسليلة مقداره نوعاً ما، لا تنفك توحي بالمزيد من المقاربة النقدية.
غالية، هكذا، ألفظها، دون رتوش، في مسعى يخدم سعيي إلى قراءة رواياتها الثلاث، عابرة حدود، في ثقافتها، فهي حاصلة على درجة الدكتوراة في العلاقات العامة من جامعة «ورويك» في بريطانيا، وما العلاقات العامة، إلا الحقل الأكثر دسامة، لرؤية الناس في ألوانهم وأصواتهم، ولو بصيغ أخرى، إنما ترفد المتخيَّل الأدبي بالكثير مما يعزز حضوره، وفي الرواية خاصة، وهي تنوّع في كتاباتها، إذ تجمع بين الفكري والاقتصادي والسياسي والاجتماعي، وما ورد في إطار التعريف بها، إلى جانب ما ذكرت، وهو أنها(تقوم حالياً بتأسيس متحف للفنون الحديثة في سلطنة عمان)، إلا حافز توسيع لأفق الرؤية الفكرية والأدبية، أي كيف أنها تحاول التحرك في نطاق برزخي، لا يعود من فصل حدودي ضيق بين ما كان، وما هو كائن، من جهة الشخصية المتشكلة روائياً، بقدر ما يكون المطروح في الرواية، نابعاً من صلب اهتماماتها، وفي منحنى رياضي، لحظة قراءة المثار روائياً، حيث أنها كذات شخصية وحقيقية، لا تغيب مطلقاً، عن أي متابعة لما هو مصاغ أدبياً، دون التأكيد طبعاً، على أن المتحصّل يعنيها، بقدر ما يشكّل وجودها في البلد الذي درست فيه، وجود دعم لوجستي، لإضفاء طابع من المصداقية أكثر، على حقيقة شخصياتها، وهي تتنقل بين أمكنة بينها غاية التباعد، إنما غاية التقارب، فهي في مجموعها، تمثّل حقيقة اللعبة السالفة الذكر، ولو على صعيد كوني، كوكبي، مجتمعي مفتوح، لعبة الذكورة والأنوثة، إنما، ودون أن ننسى أبداً، أنها تعود من جهة المِلكية، أو النشأة التخيلية إلى غالية.
اللعبة الروائية في خطوطها الكبرى
يمكن للعبة الذكورة والأنوثة، وهي تؤكد حضورها في مساحة واسعة، كما هو المقروء مباشرة في الرواية، تتجاوز حدود المجتمع الواحد، مجتمعها العماني، أو مجتمعها العربي، أو العربي الإسلامي، تتكفل بإظهار غواية اللعبة هذه، مفاصل حركية تشير إلى أسماء شخصياتها، تتلاقى في سياقات لا يمكن الشك في حقيقتها، بسبب الأرضية الواسعة، والتي تذوّب حدوداً، وتمارس دمجاً كيميائياً، من خلال تواجد الأسماء تلك، وقد تنوعت من خلال مجتمعاتها التي تعنيها، وحيث تكون الكيميائية هذه، المختبَر التخيلي المفتوح للكاتبة، في حوار متعدد ميتاحدودي بنية، ولكنه متفاعل لأن مصيراً ألزمها في أن تتداخل داخل مصير واحد، يلغي نسَبها الأحادي الطرف، في الكثير من الأحيان، فاللعبة لا تخفي مباراتيتها، والحكام هم أنفسهم ممن يلعبون، سوى أن المتفرج يكون على صعيد النقل أو البث، اسم كاتبة، وليكون في وسع القارىء تقصّي الخبرة الجمالية لها في تذوق عالمها، في إدارة شؤون أو مصائر شخصياتها وقد وفدت إلى ساحتها الروائية من جهات أربع، وخصوصاً روايتاها(أيام في الجنة، 2005)، و(سنين مبعثرة، 2008)، أما الثالثة فهي الوسطى(صابرة وأصيلة، 2007)(2)، فهي لا تبخل على القارىء بالحراك الحدودي، حيث تتنوع شخصياتها التي تفيض بدلالات أسمائها وأسباب تواجدها معاً، على حدود المجتمع الواحد، ولو من خلال إشارات عابرة، كما سنرى، ولكنها أضيق حدوداً، وأقل صخباً بأصوات الشخصيات، وأفانين اللعبة، لاختلاف مقام الحدث وحتى حلبة المواجهة المفتوحة رمزياً، من الروايتين السابقتين، ولو أن الأخيرة، أوسع نطاقاً، والمقاربة الدلالية تختلف بدورها.
أي خيط استبصاري، أريانِيّ الطابع، مكَّن أو تمكنت غالية من الإمساك به؟ وهي تواجه خلطة هذه المجتمعات في مجتمع واحد، وهذا المجتمع الدسم بطباعه وغرائبه، تناسباً مع تاريخه، أي في بريطانيا، وهي تلاحق حركية أقدار شخصياتها المركَّبة، من خلال أمكنة تسمّيها، وخارج الحدود البريطانية، حيث تكتفي بالإشارة، ومن موقع فضائي، وحتى عندما تكون في مجتمع الرواية الوسطى، تكون في امتحان ذاتها، حيث تتقارب شخصياتها، وتتماحك، مثلما تتعارك من الداخل، أو تتشكل في حيّز ضيق، من ناحية المساحة، ولكنها تبرز في مقام عال ِ ورحب، من ناحية أفق الرؤية، من جهة العمق، تناسباً مع طبيعة الحدث، في المجتمع العماني!!؟؟
إن محاولة تتبع الخيط الميثولوجي والرمزي، تستلزم رؤية خطوط المصائر المختلفة والمشتركة لجملة الشخصيات التي تتطلب صحبتها ومراقبتها، لاكتناه رغباتها، حيث يمكن بالتالي، الوقوف على نوعية اللعبة المصمَّمة روائياً، وكيف تشكلت شخصية الروائية بالذات، أي قرابة لها بما هو منفَّذ في اللعبة، أي رؤية جمالية تترتب على هذه المحاولة، وكيف تتموقع دلالياً في النهاية؟
لنتوقف قليلاً، عند بكرة الخيط الهائلة تلك التي تدور، إذ تتشعب وقائع الرواية الواحدة، تعيش الشخصيات الروائية مصائرها التراجيدية في الغالب، وهذه هي السمة اللافتة في روايات غالية، وكيف أن حضوراً عنكبوتياً يخيّم على مجمل شخصياتها، حتى من جهة التي ترزح، ولو بصورة قدرية، وهي ظرفية واجتماعية، تحت سلطة سواها، وكأن إثماً مرتكباً يوحّدها معاً، لا يعود من إمكانية للفصل بين ما يمكن تسميته بالمعتدي والمعتدى عليه، لكأن لعبة الذكورة والأنوثة، تذيق الجميع مرارة العيش داخل الجسد برغباته المتعارضة، حتى تلك السعيدة بما تعيش، وتلك هي علامة أخرى من علامات اللعبة الروائية هذه المرة عند غالية، وليكون في مقدور الجنس، وقد استفحلت عدوى لعبته، مثلما تنُوهب مفهومه، طابع الوبائية الذي يلاحق الجميع، مثلما يستبطنهم، ويتركهم أطلالاً لشعراء من نوع آخر، في رثاء لا يبكي حتى المعني به، وفي الآن عينه، موقعه الاسطرلابي الشديد الكشفية، في تبيان أو استبيان مكانة الجنس في تاريخ الإنسان ومجتمعه، وتلك هي العلامة الأهم، والأخطر، في المعلَم الروائي لها، وهنا، يحط بنا الرحال النقدي كثيراً!
إن الممكن القيام به، ومن خلال العنوان الذي تحدَّد بداية، هو المتعلق أولاً، بالروايات، كيف تمارس ترميماً للصدوع أو التشققات التي تعتري عالمها، ووفق أي رؤية جمالية، يتم النظر خارج بؤر التوتر هذه، وهي النافذة قيمياً صوب الأعمق فيها، عندما نتعرض للجانب الاستهلالي قبل كل شيء، ففي الأولى، يأتي الإهداء(إلى صديق روحي ورفيق دربي هاشم هارتلند)، وهذه بادرة أدبية، إنما لها مغزاها، في ترسيم الحدود بين كل من الذكورة والأنوثة، في طمأنة القارىء بالذات، بصدد الرؤية الأولى من جهة الكاتبة، إلى الجنسانية عينها، وهي تحدد جهة إهدائها، ومن يكون، وجانب الصراحة في الخطاب الإهدائي، خصوصاً، عندما يُتمعَّن في الرواية، ومن ثم في صيغةالإهداء لاحقاً، وما إذا كان وارداً الربط بين مضمون الرواية، حيث حامل الرواية الرئيس شخصية سلبية، من منظور قيمي، أي غسان، وهو ذكر، ويكون العنوان نفسه(أيام في الجنة)، المحصول الحياتي والتخيلي، لغسان، وقد أودع السجن، جرَّاء مغامراته الصادمة لما هو أخلاقي مشرقاً ومغرباً، كقصة تؤلَّف، من قبله في النهاية(ص408)، والنهاية مفتوحة، إذ لا يُعرَف ماذا يودع في القصة، وهل هي قصة قائمة بذاتها، أم قصرواية، مثلاً، ولتأتي الوسطى، محمولة بهمٍّ محلّي، دون الانغلاق الحدودي، فثمة قسيمة جغرافية خارج الحدود العماني، تتحرك في المتن الروائي، وهي قسمة الشخصية الروائية الفاعلة، ذات المغزى الآخر باسمه ولقبه بالمقابل» شهم بن طفلة»، وما يجري من توضيح للموقف، والتعريف الأولي بمجتمع الرواية استهلالاً من نوع آخر، حيث تتحدد الأحداث تاريخياً، في ستينيات القرن الماضي، ومسقط عاصمة سلطنة عمان، هي مسرحها، والهم الفلسطيني، ومن ثم التذكير بالشكر الموجَّه إلى الشاعر عدنان الصائغ، وإبداء الإعجاب بشعره، إذ وردت نماذج مختلفة في السياق الروائي، وشكلت نفَساً دلالياً يعلوويهبط في القفص الصدري للرواية، إنما يكون عنواناً(صابرة وأصيلة) تيمة بطولية بائسة، انحدارية من جهة الموقع، واستحواذية من جهة المكاشفة، داخل الرواية، وربما مفاتحة لعبة الجنسانية وكيفية العمل بموجبها في مجتمع الرواية، ومن ينتمون روائياً إليه، ولتعود الحدود الروائية إلى الاتساع، إنما أكثرهذه المرة في الثالثة(سنين مبعثرة)، العنوان الدال، كما هو شأن البعثرة في المصائر، وفوضى العلاقات، وانتفاء اللحمة الوجدانية، لأن ثمة أرضية لا تحمل كل هذا الوطء في الرغبات المتضادة، ويكون الشكر مجدداً موجهاً إلى الشاعر السالف، حيث نخبة من أشعاره تمارس حيوية حضورها في أكثر من أداء واجب دلالي في الرواية، كلياً أو جزئياً، والإهداء يسبق كلمة الشكر، وهو منفتح على الذكور صياغة(إلى المبتلين بداء الإدمان، أياً كانوا وكان نوع إدمانهم، ليلهم ونهارهم طويل)، وهي إشارة أمَّارة بالخطر الضمني والصريح، في لغة الخطاب التقريرية: المباشرة، والمرسَل إليهم، كما لو أنهم مدرَكون بأسمائهم، وقراءة الرواية، تمارس إماطة اللثام عن جانب واسع من عالمهم الرمزي، ومع شخصية لا تخفي ذكوريتها، ومدمنة الكحول، هي ناجي، ربما المعنى الممكن التوقف عنده، إنما في منحى مغاير لغسان، رغم ضلوع ناجي في الإيروتيكا، ولكن العلامة إيجابية للمسلك والنهاية ذاتها، وأيضاً، رغم أن الممكن التعرض له، هو قائمة العثرات التي يتعرض لها، وهي وبائية ذاتاً وكينونة مقام، وما المحاولة الأخيرة في قيامته الذاتية، إلا الصدمة الكهربائية للروح التي استسلمت طويلاً لضغوط واقعها، لهواها، ورؤية الطريق من جديد، أي ممارسة الحياة بإرادة أصلب، وأما التاريخ، فيكاد يضع الروايات الثلاث في ذات الخانة، أعني ستينيات القرن الماضي، كما يسهل تعيين ذلك، وهذا التحديد الزمني، له مسباره الأثري والاجتماعي، وكذلك مسافة الأمان أكثر، لسرد المزيد مما تستشفُّ عنه رغبة الذات الروائية من جهة، ولتأكيد الذات هذه، بمصارحة أتم، من جهة ثانية..
نحن في الحالة هذه، في مواجهة اعتبارات مكانية وموضوعية، في عملية السرد وحمولته الأدبية، حيث إن الرواية الثانية تجنح صوب الداخل، بالقدر الذي تنكفىء، على صعيد الدلالة على نفسها، تجاوباً مع حركية المجتمع، وموقع الجنسانية فيه، إذ ينضح المجتمع بجنسه في صمت، مثلما أنه يحافظ على نشاطه الحيوي، باعتماد نظام متوارث، يُعاش في السر، ولو أنه يشهد صراعاً على الهوية وباسمها، نظراً للتحديات التي يتعرض لها، جرَّاء المستجدات، بينما يكون الخارج، كعتبة مطلة على المرئي، خارج حقل التمايز المفصلي، بين الذكورة والأنوثة، من شأن جنس آخر، يمكن تحفيز أولوياته، وفق تصورات أخرى، كما هو المشهود له في الروايتين الأخريين، وبجلاء، لا بل بنوع من البورنوية، لحظة إجراء مقاربة ظاهرية، لأن المشاهد الخاصة بها تترى، وكأن الهاجس الرئيسي لغالية، هي كيفية توتير القارىء، قارىءمعين، يتوجس خيفة من سماع صوت الجنس، فكيف بالإقامة داخله معايشة حميمية وصريحة، وحتى بلبلته، ليكون أقدر على التوازن، وسعياً إلى تقبّل المستجد، في محيطه الاجتماعي؟ وجمهرة الأوصاف الكبرى، وهي تتوزع في الروايتين، وخاصة في الثالثة، تشدد على هذا التوجه، ولكن مكاشفة الحركة السردية للروايتين هاتين، تمارس تحريراً لهما، قدر المستطاع، من كل لوثة جانبية، إلا أن القاسم المشترك الأعظمي بالنسبة للروايات الثلاث، متخَم كانهمام أدبي بفيض من الجنسانية، هذه التي تساهم في تمشيط حقلها بحثاً عما يشغل المجتمع حقيقةً، وإن تفاوتت نوعية المشاهد المتخيَّلة، رغم اختلاف موضوع كل منها، ولو أن الروايتين الأولى والثالثة تتداخلان في مسرح الأحداث اجتماعياً، مع فارق التوجه سردياً، حيث الذكورة والأنوثة وجهان لعملة الكينونة أبداً!
جنة الأيام المعدودة
أظن أن غالية تحيط علماً بحركية لعبة الجنسانية، وكيف تتنوع أدوارها، كيف يمارس السرد خاصيته الزمكانية، ويغدو الوعي الجمالي للعالم المحيط، وعي منقسماً على نفسه، من خلال تلك الجنسانية، ومدى الصراع وفاعليته في تشكيل كل من الذكورة والأنوثة، إنه إدراك الكارثي، إن رمنا تاريخية المفهوم بأقنعته، أو المثار رغبياً، في تنوع مناخات اللعبة المشتركة وصلاً وفصلاً.
وإن نطقت منذ البداية، بأن هناك حرب حدود ضروساً، على أعلى مستوى، كما هي حرب صامتة وصريحة، عبر أنفاق وممرات، لأغراض شتى، كما هو ثراء المعنى للجنسانية، تشهد عليها وبها اللغة الروائية لغالية، فلِعلي أكون على صواب، وذلك في مختلف رواياتها.
إن(أيام في الجنة)، صيغة تهكمية لكائن ضليع في التهرب من الآخر، أو ربما، في اقتناص الآخر، ليكون مصرَّفاً لصالح رغباته الشديدة الخصوصية، في تصريف رغباته الشهوية: شهوة الطعام والشراب واللباس والمقام والجنس المتعدد الدلالات، لأنه استقوائي بمكونه التاريخي.
غسان الشرقي، غسان الهامشي ومحب الضواء في الغرب، وفي المتروبول الاستعماري، كائن هجين مشوه، ناسف للحدود الفاصلة، مثلما أنه حيوان الرغبة المدمرة للهوية الميتاذاتية !
من يكون غسان تحديداً؟ هو من مصر، وربما تحديداً أكثر من الريف المصري، وهذا يضفي عليه طابعاً من الخفة والمفارقة وهو يسكن المدينة الكبيرة، وخاصة مدينة مكوكبة لها تاريخها العريق الاستعماري والحضاري كلندن، تعرّف به الراوية هكذا، وهو في لندن يتحرك(كان رأسه محملاً بالأشعار والكلمات فهو(هاوي شعر) كأبناء جيله، جيل الأربعينات.. ص8)، وعلى لسانه، نعرف أنه خرج من بلده، ومن بلدته منذ عام (1970، ص11)، والتعريف الأهم هو التالي(لم يكتشف أحد حتى اليوم ما يقوم به غسان من أمور مشينة مثل السرقات الصغيرة، والتعسف والظلم ضد زوجته المسنَّة، ولم يكتشف أحد الكذب الذي يلجأ إليه، حينما يريد نسج خيوطه مثلاً حول النساء ليوقعهن في غرامه، ثم بعد ذلك يبتز ما لديهن)، ونقرأ بعد ذلك مباشرة، ما يوضّح مسيرته المسلكية (لقد عاش خلال الثلاثين عاماً حياة مزدوجة، حياة بوجهين أحدهما يظهر به أمام الناس والآخر يعيشه مع نفسه، ذلك الوجه لا يراه أحد غيره، ترى زوجته كلارا جزءاً منه من خلال عشرتها الطويلة معه. ص12)، وهي تعلم بأمره أيضاً، ويهمها ذلك مادياً، ليس هذا فحسب، إنما لها دور في تماديه وسلسلة «انحرافاته» المختلفة (ص27).
هذه الازدواجية تحدد سلوكه اليومي، مع النساء بالدرجة الأولى، إنه ينتمي من ناحية الرغبة في لحم أنثوي معين، إلى دائرة الفحولة الشرقية، ولو في تاريخها المعلَن عنها، ولكي يتمكن من تحقيق ما يريد، حيث تكون المرأة الأقل جمالاً طريدته، لسهولة الإيقاع بها، كما الحال مع زوجته، ومع الأخرى تلك التي يعاشرها كعشيق، من أجل مالها (وهو يختار من النساء غير الجميلات، غير المثيرات، فلا بأس أن تكون المرأة ممتلئة القوام بدرجة تثير الشفقة وتوحي بالقبح، فهذا خياره الذي يقدم عليه عمداً وعن قصد وليس عفوياً… ليسد حاجة نقص في نفسه ولحكمة يراها. ص 15)، حيث المرأة الجميلة لا تكون لصالحه(ص15)، وعن الشعور بالنقص، يتكرر ذلك(تقمصه للشجاعة المزيفة يساعده سيكولوجياً على تغطية نقص وتذبذب بهما دائماً. ص 17)، وهو يختار نقاط الضعف في (نسائه)، كما الحال مع كلارا حيث لا تجد مهرباً من البقاءمعه(ص17)، وهي في بيتها، وهو نفسه يدرك ذلك(ص18)، ولكن كيف يعيش بالطريقة هذه؟ يظهر أن ثمة مبرراً له، إذ يلقي بالمسؤولية على المجتمع الرأسمالي وغيره (ومنذ نزوحه إلى لندن وتعايشه في مجتمع رأسمالي كهذا يتراءى له أن نظام هذا المجتمع مسؤول أيضاً عما يعانيه من ازدواجية في الشخصية، لقد فصله هذا المجتمع روحياً وجسدياً عن كل ما يدور حوله حتى أن كل ما يقوم به من إساءات ومشاغبات ضد الآخرين لم يكن سوى رغبة في أخذ الثأر والانتقام من الفئتين (أسرته والنظام الرأسمالي). ص 61)..
الجنس، المرأة المسنة، عالم الفرائس الثمين عند غسان، وغالية، من خلال إحاطتها الجلية بلعبة كل من الذكورة والأنوثة، وهي التي أبصرت الكثير من الحقائق المتعلقة بالجنسانية مجتمعاً وثقافة، عبر مجتمعها، وفي أوروبا، تعلم جيداً، أي خطورة في الرهان على موضوعة الجنس، سواء في بلدها (وهذا ما تتعرض له في روايتها الثانية: صابرة وأصيلة)،، أو في بلد مجاور، بلد في/ من الشرق، كما في بلد غسان حيث تضيق مساحة الجسد بالمعنى القيمي كثيراً، وعلى لسان غسان(استطرد مع نفسه: كيف أن النساء في بلده لا يسمح لهن حتى بالسفر دون إذن مسبق من أزواجهن أو أولياء أمورهن- سواء وللمجتمع ككل… ص22)، أو في أوروبا، مع فارق المساحة وطرق التعبير، وهذا الجانب تم التعرض له روائياً منذ مطلع القرن الماضي، مع رواد الرواية العربية ومن جاءوا بعدهم(توفيق الحكيم، عبدالسلام العجيلي، سهيل إدريس، الطيب صالح..الخ)(3)،ولكنه الجانب الذي يظل يرفد أُولي أمره بالمثير الأدبي، لأن ثمة مستجدات، ثمة وجهات نظر مختلفة، تتكفل الرواية أو غيرها من الأجناس الأدبية بإبراز مفارقات اللعبة، وهذا ما تلجأ إليه غالية، حيث تتجلى الميزة الأدبية والروائية ضمناً، في اعتبار الكتابة تأتي من جهة المرأة، وفي مكاشفات جلية، لا تخفي شجاعة المواجهة، وعنف المتصوَّر هنا وهناك.
نعم، ونعم، ثمة لعبة قائمة، هي كيفية «اصطياد» المرأة المسنة أولاً، ومعها الأقل جمالاً، حيث الصورة الرومانسية أو الخرافية عن فحولة الشرقي لما تزل شاغلة للمتخيَّل النفسي للكثير من النساء في الغرب، كما يظهر، وأظنها هنا، لا تخفي تأثرها بالمفهوم الفرويدي المدرسي عن الجنس ودوره في الحياة، وإن لم تسمّه، إذ عبر الجنس يمكن فهم الآخر وتفهمه كثيراً. أما المسنة فهي من خشيتها الوحدةَ القاتلة أو الموحشة، تضطر إلى التنازل كثيراً، لتجد من يؤنسها، وهذا الإجراء يلجأ إليه الكثير من المهاجرين، أو من يرون أن الحل السحري، للحصول على الجنسية الاوروبية، أو الإقامة، يكون من خلال البحث عن مسنة، واستغلال فارق العمر، وبعد ذلك، يكون الطلاق أو الفراق الكلي، وهو من هذا النوع، وكذلك صديقه العماني ناصر(ص10)..!
إن القائمة الضخمة من النعوت التي يعتمدها غسان مع «ضحاياه: فرائسه»، من النساء على امتداد الرواية، تعيده إلى دائرة أشد كارهي المرأة، وأن سعيه الدائم إلى ملاحقة النساء، يوحّد فيه زير النساء الشرقي ودون جوان الغربي، ولكن المصهر هو غسان والذي يتغربن بمظهره، ويشتهي الغربنة، من خلال سلسلة مغامراته، كما في رغبته الشديدة في يكون باروناً، أو يكون له لقب(ص186)، إن كل ذلك نتاج صيرورة مجتمع مفتوح على أشده، أو مغلق على أشده، حيث نجد أنفسنا إزاء المقولة السقراطية في الإفراط الغربي والتفريط الشرقي، وغسان نتاج العالمين، ولعله فيما يمثّله، كما هو الممكن تقصّيه، رد فعل على الحاصل، نوع من التشهير في الخطأ القاتل، ولو أن التركيبة الفنية للشخصية، تظهرها لافتة في غرابتها، لا تحمل سمة الحيادية الممكن التوقف عندها، بقدر ما تحفل كمفهوم، حِرفياً، بقدر وافر من الجنسانية المزحزحة، من وجهة النظر الروائية، فإذا كانت نساؤها(كلارا، كادي، كلوديا، كلثم، كريستينا، كادي الأخرى» خديجة في الأصل» وهي هندية..الخ)، ضحايا هذه الفحولة الفارطة، فإن غسان ذاته، يظهر في بعض جلي من تقانة الاسم والدور الرمزي، ضحية ما، لهذا التفريط، من ناحية تجاهل بؤرة التوتر في شخصيته، وهو الأمي، رغم تنقلاته اللافتة في المحيط المجتمعي الانجليزي أو اللندني، ثمة خلل في التوازن المتعلق بالشخصية بعلاماتها الفارقة، وهذا ما يمكننا التعرض له، من زاوية الكتابة عن الغرب من وجهة نظر شرقية، وبصورة محددة أكثر، من زاوية المرأة، وفي موضوع شديد الحساسية، أي: الجنس ومقوماته الثقافية.
ثمة تكثيف لقائمة النعوت السالفة الذكر، والتي تنتسب إلى غسان، حرملكية تماماً، وخصوصاً في علاقته بكلارا التي بدت، في تعاملها معه، وتقبلها لإهاناته المريعة، شديدة القرب من أي امرأة شرقية، تتستر على عنف زوجها ضدها، لا بل وتخشاه باستمرار، وكل ذلك من أجل دوام استمراره معها، وقد كبرت في العمر، أي لكي يمتعها جنسياً، وهو يؤذيها كثيراً حتى هنا.
إن مفردة العجوز أو الدمامة أو القبح، تشكل علامة فارقة في الرواية، وتأتي من جهة غسان، مع كلارا خصوصاً (غرس في نفس كلارا الشعور بالدمامة.. ص 61)، وتكون الدميمة طريدته الأدسم، وزوجته تعرف ذلك جيداً، لأن في ذلك يسراً في اصطيادها(تعرف أن زوجها تغريه الدميمة أكثر من الجميلة. ص77)، طبعاً لأن علاقته بالمرأة عابرة للجسد كسلعة، وإلا لاختلفت النظرة الجمالية والموقف الجمالي من المرأة ككيان اجتماعي، أو ككينونة إنسانية، وينادي زوجته باعتبار وجهها (القبيح، ص168)، ولكن يظل الجنس طعماً، وهو مطَّلع على الشأن النسائي في هذا المجال، حيث يجد كثيراً من تغفر له من نسائه اللواتي يستقزهن، ومن ثم يحاولن إرضاءه، كما الحال مع كلوديا (.. ألا تريدين أن (تنامي معي)؟ ألم أشبعك في الماضي بالنوم معك؟ كنت أمارس الحب معك أكثر من ست مرات في الليل والنهار، وهو شيء لم أفعله مع من هي أصغر سناً منك وأجمل… ص 331).
التحرك في مهاد الجنس سمة الرواية، ومن منظور الجنسانية الواضح، تتحدد علاقة غسان مع نسائه، وكيفيه خداعه لهن، وكيف أنه كان وراء انهيارهن، وحتى موتهن أحياناً، ككلوديا(ص 408)، بعد أن أودع السجن، إثر الشكوى المرفوعة ضده، وقد خلف ولداً من كادي الهندية(ص409)، والمغامرات الجنسية، تتداخل مع مغامرات من نوع آخر، في النهب والسلب أو السرقات أو الابتزاز أو بالمزيد من الأقنعة التي سهّلت له طرق الابتزاز هذه(نهب أو سلب أو ابتزاز الآخرين في أموالهم بطرق معسولة، أو ما يقدَّر بالمال، أو بيعها بعد سرقتها)، حتى الكنيسة في بلدته «قريته» لم تسلم منه، وقد نهبها إثر زيارته مع زوجته إليها، حيث أغرى أولي أمرها، أنه يود بناء مشروع كبير(مستشفى)، لأعمال خيرية، كما يظهر، فكانت التبرعات، وعند جمع اللازم، كان الاختفاء والمجيء مجدداً إلى لندن، بصحبة زوجته(ص167)، ولا أظن أن حالات السرقة والابتزاز هذه، منفصلة عن مغامراته الجنسية ومنفعيتها المبتذلة جداً، إنما هي الوجه الآخر لها، إذ هناك تكون النساء، وهنا يكون الرجال، كما لو أن الفحل الوحيد يكون هو فقط، حيث إن المقدرة على ابتكار الحيل أو النفاذ من المآزق، بفهلوية جلية، معايشة لذات الكائن، كون الفحل أكثر من وسم جسدي، في المجال الجنسي، إنه التمايز اللافت بالمقابل.
ما يلفت النظر أيضاً، هو أن غسان، بعد إيداعه السجن، ولمدة وصلت إلى عشر سنوات، تكيف مع سجنه (حتى أنه تعلم القراءة والكتابة باللغة الانجليزية… وألَّف قصة(أيام في الجنة). ص409)، ووجه المفارقة في جملة التوصيفات التي تعنيه مجدداً، حيث إن رجلاً تميَّز بكل هاتيك الصفات في الحيلة والسطو وسهولة التحرك في لندن وغيرها، ولا يعرف الانكليزية قراءة على الأقل، يضعنا في مواجهة الشخصية الروائية وكيفية انبنائها، من جهة الروائية بالذات، ربما هي مفارقة لا تفهَم كما ينبغي(على سبيل المثال، عندما داهم شقة كلوديا، وفتح خزانتها الحائطية الخاصة، وبحث في محتوياتها، آملاً الحصول على ما يفيده مادياً، من أوراق ومستندات وغيرها، يوحي كل ذلك بأنه يعرف القراءة والكتابة جيداً، «انظر ص245»، ولكن يتبين في النهاية أنه خلاف ذلك، وهذا ما يمكن الشعور به في الكثير من المفاصل الحركية للرواية بالذات).
والنهاية نفسها، تطرح علينا سؤالاً، وهو: ما طبيعة القصة الموسومة؟ أهي بعض مما قرأنا على لسان الرواية هنا، أم أن ذلك يختلف عن المقروء في رواية (أيام في الجنة)؟ ربما كان المدوَّن، وتحت تسمية(القصة)، يخص ما قام به غسان، وهو في المحصلة لا ينفصل عما تمت روايته.
ويبقى علينا أن نتساءل: ماذا تستشرف بنا رواية غالية هذه؟ كيف يمكن مقاربة غسان حامل الرواية الرئيسي، كما هو شأن مفهوم البطل في جل الروايات المعروفة كلاسيكياً؟ كيف يمكن القبض على كلمة السر في لعبة الجنسانية التي شهدتها مجموعة الساحات الواسعة للرواية؟
من يرزح في أغلال من؟ المجتمع جهة الفرد، الرجل جهة المرأة، أو بالعكس، في علاقتهما معاً!
إن معايشة الروائية والباحثة هنا ضمناً، لأكثر من مجتمع يختلف ثقافة، تؤخَذ بعين الاعتبار، في الوقت الذي يرفع من سقف مسؤوليتها، جراء كتابة عمل روائي خطير واقعاً، ومن هذا النوع، ومن جهة المنظور، لا أخفي وضوح المقصد، بقولي عن أنها تباغِت قارئها بسرد متعدد الأفرع، متعدد المناخات، ولكنه مقتدر كثيراً، في إبقاء التوازن النصي، رغم تعقد علاقاته ودلالاته، وأعني بالجهة تلك: الرواية العمانية تحديداً، ومن قبل كاتبة مؤمّمة مفرداتها كثيراً، من تحفظات معينة، لها صلة بالحياء المعهود، وقد أعدت عدتها الوافرة لصياغة عالمها الروائي هذا، رغم كل التحفظات التي يمكن إظهارها، كما أسلفت، وبالذات: البنية التركيبية لشخصية غسان!
هل تعرّي المجتمع الانكليزي، ولندن نموذجاً، تحمّله مسؤولية هذا» الفلتان»، وبالتالي، هذا العبث الجاري في الجهتين: الرجال والنساء؟ أم تعرّي تاريخاً ثقافياً، في ذات الشخصية؟ أم أنها تعمد إلى الكشف عن سوأة تاريخية، ملعوب عليها كثيراً، ومشوهة علامةً، سوأة تخص الجنس، فيكون الرجل أكثر انزلاقاً في هاوية التاريخ، وبالتالي، تكون المرأة هي ضحيته سلوكاً وثقافة؟ أي موقع تمثله هي بالذات، في معمعان الحدث الروائي هذا؟ فهي غير منفصلة عن سياق روايتها طبعاً؟
من الجنس، وإلى الجنس، يكون الحديث خارجاً وداخلاً، فكما يكون الجنس استقطابياً، هكذا يبدو محكوماً بمؤثراته التي تسمّيه، كما لو أن الروائية تحكم على تصور كهذا بالإخفاق، وتدعو إلى توسيع دائرة المفهوم، بحيث يتجاوز كلا من الرجل والمرأة» والرجل أولاً، من خلال امتيازاته التاريخية المحسوبة، الدائرة الضيقة للجنس، لأن العمر الذي يعيش المرء لا يضمن ذلك النشاط المتوثب أو الحيوي، ليظل أي منهما، في مأمن من كل طارىء لا يسر طبعاً. وفي هذا المنحى، يُلاحَظ أن عنوان الرواية(أيام في الجنة)، لا تبشّر بدخولها، بسبب النهايات الوخيمة لكل المنخرطين، بأدوار مختلفة في الرواية، إن شخصياتهم، ودون استثناء تقريباً، غابت عنهم السعادة، حتى الموت الذي يختم حياة الكائن، لم يكن بالطريقة التي توحّد الجميع طبيعياً، وربما هي دعوة ما إلى أنسنة أكثر رحابة قيمة لكل المفاهيم الثقافية أو الأخلاقية في المجتمع الإنساني، ومن ذلك الجنس، لتكون الجنسانية في طور المراجعة القاعدية على كل المستويات، وهنا، أقول ربما، تُشَمُّ رائحة أخرى تخيلية، ميتا أرضية، مغايرة لعالمنا، تخص الجنة السبحانية، ودون المساءلة حول طبيعة الجنة هذه، تظل جنتها المرسومة في الرواية نقيضة صورتها كلياً.
النهاية المحتومة لصابرة وأصيلة
أجدني هنا، مضطراً إلى القول بأن الرواية هذه لا تفارق العالم الهائل التنوع والواسع بتضاريس وجوهه لـ(أيام في الجنة)، حيث إن الزاوية الحادة، إن اعتبرنا (صابرة وأصيلة)، نزيلة الزاوية هذه، تناظر من جهة القيمة، الزاوية المنفرجة لعالم (أيام في الجنة)، وأنا بصدد رواية غالية الثانية، وتخص المجتمع العماني، دون التقليل من شأنها، لحظة النظر في امتيازاتها الدلالية، حيث إنها تتجاوز مجتمعها المحافظ، رغم كل الإشارات المكانية، وما يشدَّد عليه، ففي العالمَين يكون الخوف، ولو اختلفت طرق ظهوره أو تواريه عن النظر المباشر، أو الشعور الحسي به: في عالم الأولى، ثمة اطمئنان، ثقة بالذات، لوذ بالذات، دون التفكير في المواجهات، كون الشعور بوجود قانون يحمي المجتمع، هو الذي يبقي النفس مطمئنة، أما في عالم الثانية، فالاستئناس النفسي بسلطة الأعراف، وبقانون من نوع مختلف، والتحرك وفق توجهات العالم المرسوم، دون النظر في التراكمات النفسية، وما يولّده الضغط من مباغتات. إن الكاوسية» العبثية بمعنى ما قرينة الحُجراتية: بعالمها الضيق، وكما أن المجتمع بمستجداته يدفع الأشخاص إلى التحرك في نطاق حدود واسعة، في الأولى، فإن المجتمع بميكانيزمه العرفي، وهو يمارس نوعاً من التحجير على أفراده، مع منح الرجل أحقية التحرك وضبط القانون الجاري، يدفع الأشخاص إلى اللوذ بالمتخيل، وإيجاد الطرق التي تصدع العالم الحُجراتي، إن صابرة وأصيلة، صيغتان متوحدتان تهكميتان بدورهما، وخصوصاً بالنسبة لصابرة حيث ذكاءها لم يشفع لها بمتابعة تعليمها، فبقيت أقرب إلى الأمية منها إلى التعليم الحرفي، رغم أنها اعتمدت على نفسها في تطوير ملَكاتها المعرفية والكتابية، فتلتقي صابرة، بصورة ما مع غسان، مع فارق التمثيل والانتماء الجنسي، في حيز البحث عن عالم أنسب للذات، مثلما الهوى الأدبي يميزها، كما ميّز الآخر في بداياته، والمنحى بدوره مغاير، فنهاية غسان المشينة حصيلة ما جنته يداه، أما نهاية صابرة، فرغم أن لها يداً فيها، وهي مأساوية حقاً، ولكن يبقى المجتمع العرفي، في مواجهة المساءلة عن الجرم الماحق والذي قضى عليها، باسم أخيها!
إن الصداقة التي قامت بين صابرة وأصيلة، هي التي أبقتهما معاً إلى مرحلة ما بعد المدرسة، ولكن الشيء الأهم من الصداقة: صداقة الألم، هو الشعور بالمصير المأساوي المشترك، رغم أن وضع صابرة أشد وطأة، فهذه محور الرواية(تتكون أسرة أصيلة من الأب والأم وخمسة أولاد وأربع بنات من الناحية الأخرى تتكون أسرة صابرة من أب وأم وأخ واحد يكبرها بأعوام كثيرة، وهي بذلك أصغر أسرة في الحارة. ص9)، والرواية تبدأ من هنا، من خلال الوصف المتعلق بالمظهر الخارجي، حيث تبرز صابرة أكثر جاذبية (صابرة سمراء اللون بملامح جميلة وأنف مستقيم وعيون واسعة وشفة بارزة ممتلئة تزين وجهها وتمده بجاذبية صارخة تلفت انتباه الرجال كلما مرت في شوارع الحارة. ص10)، والجمال يستثير عش الزنابير الذكوري، ويجلب اللعنة، لأنه خميرة الفتنة، دساس الغواية في مجتمعها! لقد رشّحت لأن تلعب، كما يبدو، دور البطولة، من خلال العلامات الفارقة والمتوارثة، من جهة الإثارة في المرأة، وليكون في وسع الرواية أن تؤسس لقاعدتها الرمزية، في جعل السرد أكثر قابلية لجذب القارىء وتفعيل الحدث ثمئذ.
تمثل عائلة صابرة، إن جاز التعبير، نموذج العائلة البطرياركية، بل أشد عنفاً، لأن بطرياركية الأب لا تصمد أمام بطرياركية الابن الصاعدة في البيت المشترك: الأخ حمد، فهو الذي يسيّر شؤون الأسرة، يخيّم بظله المحرق على البيت، كونه الوحيد بالمقابل، فنجده يثير كل ما يجعل صابرة في معرض تقريع الأبوين والأخ خصوصاً، و محط المراقبة الصارمة، والاستعجال بتزويجها، وفي صفحات مختلفة، ومنذ البداية(ص12- 13-16..الخ)، وبذلك تحدد مصير صابرة. إن وصف المكان يساهم من جهته في إضاءة الحالة، أعني إبراز ظلامية المشهد الاجتماعي للعائلة البائسة (حيطان المنزل عالية كما السجون والقلاع ووالد صابرة لا يود التدخل في المشاجرات الكثيرة التي تنشب بينها وبين حمد، بسبب خوفه الشديد من ابنه. ص 17)، وكذلك(أمها تعيش في قلب الظلام نفسه. ص17)، و(حمد لديه عدد كبير من البنات…ص18)، وهذا يزيد في توتيره، فهو أبو البنات، وليتضاعف الخوف، من خلال وصف المكان، إذ الحيطان العالية، ووضع الأم البائس، والظلام المقيم في البيت، تعميق لخاصية السرد الفجائعي، سرد المعاش في أوجاعه، أو تصدعه القيمي في الداخل، والبحث عن منفذ تنفيس، حيث تكون صابرة مولعة بالكتابة، جانحة بخيالها إلى عالم التعويض عن القمع الناهش لكينونتها، وهو قمع ذكوري الطابع بجلاء، الكتابة فسحة رجاء وتأمل في عالم آخر(مثلاً، ص26).
إن المدرسة القريبة من بيت صابرة، تمثل العالم المحظور عليها الاقتراب منه، ولكنها بالمقابل، تشكل نابض الأمل الوحيد الذي يضفي على عالمها الراكد والمعتم، ما من شأنه تحفيزها على رؤية العالم الخارجي، وإن بدا الوصف الأولي شاهداً على جانب المحظورية هذه، وذلك من خلال(حيطان المدرسة العالية وبوابتها الكبيرة.. ص29). إن التقسيمات القائمة في المجتمع المحلي، قد أخذت في حسبانها خطورة الجنسانية بلعبتها المهدَّدة لأمن المجتمع ذاك، لحظة َغفلة ما، فالتقسيمات، تمزيق العالم الواحد والمتكامل، وتفتيت القوة المجتمعية عبر تحويرها ذكورياً.
إن الذي تعلقت به، وهو مدرس الكيمياء في المدرسة القريبة شهم أبو طفلة الفلسطيني الأصل، يمثل نافذة الأمل الوحيدة المطلة على الحياة حتى اللحظة تلك، وهو مدرس يتميز بسيرة حياة عائلية لا تخلو من غرائبية، حاكتها عوامل حياتية، وبسبب ظروفه المختلفة، وكذلك(بسبب ملابسه الغريبة وأسلوب كتابته وشكله وظهوره عبر النافذة التي تمر من تحتها، أعجبت به أكثر من باقي المدرسين بل أكثر من أي رجل رأته في حياتها على الإطلاق.. ص31).
الاسم مقلق ومثير للتساؤل، حيث «شهم» من النادر أن يسمى به أحدهم، ولا أدري، ومن موقعي البحثي، حتى في الجانب الأسمائي، ماالذي حث الروائية، إلى أن تقوم بمثل هذه المغامرة الاسمية المركَّبة، إذ إن الاسم شهم، ليس أكثر من صفة، حيث يكون صاحبه، منذور لخارجه، مأخوذ بالنخوة، حيث الطلاب يحترمونه، فهو إذاً مميَّز باسمه هذا، فكأن اختياره جاء مقابل طابع الغرابة المذكور آنفاً، إنها ذكورة من نوع آخر، ربما هي القضية الفلسطينية ذاتها، في حقيقة الاسم ومفارقات الاسم ومحيطها الظاهري وغيره، الذكر الصفة، والكنية اللافتة بدورها: أبو طفلة، وهذا هو الوجه الآخر من التركيب الغرائبي، حيث يندر وجود الاسم الآخر: طفلة» الأنثى»، مفارقة الاسم وما يُسمى به، والاختصاص في دلالته: الكيمياء، حيث تمكنت من إيصال صوتها واسمها اللقب: منيرة، إليه، باعتبارها هاوية كتابة، وهو المولع بالكتابة من جهته، وكأن الكتابة طريق جدير بسلكه، ليوحد بين اثنين، رغم التباعد الكبير بينهما، حيث موقع المدرس المرغوب فيه من قبل المحصورة في عالم يصعب عليها، إن لم يكن مستحيلاً الخروج منه، على صعيد التمني، مكثف على صعيد الدلالة، فظروف صابرة صعبة جداً، وطبيعة لقائها به، مغامرة محفوفة بالمخاطر، لا بل مميتة، كما كانت النهاية (ولكن كانت كيمياء جسدها تفتقر للقدرة على التفاعل، كانت تعيش الانعدام والموت. ص59)، وكأن الساردة الروائية، أرادت أن تضفي على الاختصاص طابعاً من التفاعلية، وهي تمارس تحويراً في المعنى، وربما لإظهار الفتلة في الاسم: الاختصاص، والفلتة في المعنى الذي أخلَّ بتوازن العالم داخلاً وخارجاً، بصعوبة اللقاء عبر منفذ الجنسانية الذي يصعب التنفس فيه، وهي تراهن عليه، حتى بعد لقائه الأول به (تخيلته بطل رواية «عصفور من الشرق» إحدى روايات توفيق عبدالحكيم التي قرأتها مرة واحدة وما تزال تحتفظ بها. ص85)(4)، وتلك تجربة قراءة لا تنفصل عن مشهد المعايشة النفسية والموقعية داخل حركية السرد الروائي، فليس لها أو أمامها سوى أن تحلم أو تتخيل، دون التوقف عند مدى الاستحقاق المنجز ومآله الفعلي واقعياً، كما لو أن الرواية ذاتها محكومة بالنفير الضمني التام، بالموت المقرَّر مصيراً منذ البداية، بنوع من العبثية الأخرى، كما هو وضع شهم أبو طفلة، وضع الحالة الفلسطينية الرازحة في الأغلال، وغموض تاريخ الشخصية اسماً ومقاماً ومسلكاً، واللقاء المحرَّم يتم في غرفة الحارس(ص84)، وما يُرى من قبلها في الغرفة (نظرت صابرة إلى حائط الغرفة فرأت السحلية، المسماة محلياً اللغة، تزحف إلى كأس مملوءة باللحم تجمَّد الدم عليها، علقها مصبح» الحارس هنا» من طرف مسمار هزيل على الحائط لتناولها في غداء اليوم التالي، يوم الجمعة. ص(89)، كما لو أنها ذات السحلية، والموضوعة في الكأس والمعلقة كذلك من طرف مسمار هزيل، دلالة واقع مرصود، لا تملك أي قوة لردعه، ولا هي بقادرة على إزاحة عبئه، أو زحزحته جانباً، وحتى اللقاء الجسدي اللافت، وهتك عذريتها برغبة منها، إثر الكبت المتفاقم داخلها (ص89-92)، حيث الوصف لا يخلو من إثارة…الخ، لقاء يُشمَت به، وبالطريقة التي تم التخطيط لها، دون النظر في اللاحق، ربما جاء ذلك خروجاً على المنطق الروائي ذاته، إلا أنه، في سياق السرد، يفصح عن عبء تشهيري بالجاري، كما لو أن الحاصل صرخة إنذار، ودعوى مبطنة بضرورة تجاوز هذا الانغلاق المعاش من الداخل، نعم، ثمة تسرع، لكنه، يشفَع له، على صعيد مشروعية السرد، في مقام الفكرة المزكَّاة روائياً. إن المفارقات تتحكم بمفاصل الرواية الكبرى، رغم صغر حجمها، وربما بدت في خطورة المتضمَّن الاعتباري، أكثر أهمية من الرواية الأولى، وحتى اللاحقة عليها، وإن كانت مرتبطة بمعنى جلي بهما، ولكن الدخول في العالم الحي، يأتي، على صعيد استرداد الأنفاس، والشعور بسواء الكينونة من الداخل، محلياً، ولتصبح الجنسانية الهادفة هدف الرواية وكيميائية السرد، في فجائعية الرهان عليها تاريخياً!
إن كل ما يتحرك في الحيّز الروائي نتاج المكان المتشعب بجهاته الاجتماعية المختلفة، كما لو أن موضوعة الجنس أكثر قدرة على التكفل بوضع النقاط على الحروف المعلقة في فضاء تاريخ شائك، وليس من شخصية قادرة على الجهر بحقيقتها، واعتبار ذلك تجسيداً فعلياً للحقيقة الذاتية، حيث القهر الظاهري أو الداخلي هو القاسم المشترك بين كافتها، ولتكون الجنسانية ذاتها لعنة تشمل الجميع، وإن بدت في الواجهة غواية ضالعة تسعير نار الرغبات المختلفة.
صابرة، وخلفية الاسم، والكتابة التي تتقدمها، والاسم اللقب «منيرة»، (في يوم ما ستخبره أن منيرة ليس اسمها الحقيقي، أعطته هذا الاسم لكي لا تنفضح.. ص96)، ثمة رغبة تكون نشازاً، رغم أهليتها الاجتماعية، هي التي تجمع بين أسماء مهدورة، تتخفى وراء ألقاب وعناوين لا وجود لها فعلياً، كما لو أن التشبث بالألقاب والوعود التي لا رصيد لها واقعاً، هو المرتجى الوحيد، والمرتقى الأوحد للإعلان الضمني عما يتم هدره اجتماعياً. لا شيء ينير أفق الرغبة لاحقاً، فشهم موعود بالمزيد بالإخفاقات، حتى مع خطيبته، أو حبيته الأولى «نبال»، وهو معذَّب لأنه ترك عُمان، بحكم العمل، وترك من أحبها هناك، أو التقت رغبتاهما معاً، كما لو أنهما عابران في مشهد لا يسمح لهما بالبقاء إلا في نطاق المهدور قيمياً، ولتكون نبال كصابرة، حسب زعم شهم (الفتاتان ولو أنهما من عالمين مختلفين إلا أنهما متشابهتان في أمور كثيرة، الأولى تحارب بحريتها من أجل قضية والأخرى تحارب من داخل جدرانها من أجل قضية. ص149)، ولعل حِمل صابرة من شهم، هو انحراف الوتيرة الأعظم ليحصل خناق الرواية، من جهة التصدع الداخلي للعالم المأمول، حيث مساعي صابرة، في التخلص من الجنين، لم تنقذها، مثلما أن الولادة تمت في المشفى، وسط رعب طوَّقها داخلاً وخارجاً، فكان المولود ذكراً سمي «باسم»، وتركته أمه، وهي مع صديقتها أصيلة، وهي على أشد ما يكون من القهر والكمد، خوفاً من الفضيحة طبعاً (ص156)، لكن التوتر بلغ الذروة، إذ كان حمد على علم بخيوط اللعبة، عندما طعنها في الطريق، طريق عودتهما، وفي صباح يوم العيد، وهو خارج من أجل صلاة العيد، ولتموت في قهرها، وليشعر بالخجل حيث (واصل المشي جريح الأصابع يولول ألماً كأنه ذاهب إلى (عزوة العيد) لا إلى المسجد الطاهر بهدوئه الجليل. ص157)، ولتكون صديقتها هي الشاهدة الوحيدة، ولم يعد أمامها، وهي تبصر الفاجعة سوى (أن تعود إلى البيت وتخبرهم بأنها هي وصابرة كانتا عائدتين إلى البيت عندما دهمهن حمد من الخلف من دون مبرر. ص158).
تنتهي الرواية هنا كلاماً، نصاً مكتوباً،ولكنها تمارس دورها في التنبيه وشغل أمكنة التأويل المختلفة والمتعلقة بخيوط الرواية، وأعباء النص المكتوب، وما يمكن قوله، وما لا يمكن التصريح به، حيث النص الروائي مزدحم بالدلالات الصارخة، ولكن في سياق ما نحن بصدده، تظل الجنسانية أشبه بمصباح علاء الدين السحري، وهو يقودنا إلى أقبية القهر المغيبة في الداخل، وليس إلى الكنوز الخبيئة، كيف أن المجتمع يرزح في أغلاله التي تمثله مثلما تمثل فيه، على الصعيد الاعتباري، تموقعه وهو واقف على حافات خطرة، حيث الذكورة والأنوثة مجرد صيغتين من صيغ المأساة المتعدد الأوجه، ولكن المضمون واحد، مأساة الجسد الإنساني، وتوليف الجنسانية ضداً على حقيقتها، في تحقيق الألفة الملهمة بين كل من الرجل والمرأة.
في السياق ذاته، يكون العنوان أكبر مما يجلوه ظاهراً، حيث إن إحداثيات كبرى تجلو المفارقات الاجتماعية المتجاوزة للمجتمع في محليته، ومن ذلك نتيجة العلاقة السرّية بين صابرة وشهم، ما يعنيه الوليد باسم، باسمه الأشد مفارقاتية، القتل المباغت، ومن قبل الأخ صباح العيد، ما يمكن تصور الجاري بعد الحدث الأليم، مصير شهم في عالمه الآخر، مصير حمد ذاته، أو أم صابرة، وكذلك الأب وعجزه عن المواجهة، إزاء سلطة الابن، ودلالتها عُرفياً، ومآلها الرمزي…الخ.
لقد كانت المرأة هي المظلّلة لسماء الرواية، ترتد الرواية إليها، وينشغل السرد الروائي بأكمله بصوت صابرة: الاسم والرمز، لينظَر في أمرها، وهي الظل الذي يمكّن من النظر ملياً في الفاجعة المعاشة في المجتمع الذي يسلّم مصيره لسلطة أعراف ربما تهدده كلياً في الصميم.
ثمة مفترق طرق، تضعنا الرواية في وسطها، ترينا الخيارات الصعبة، كما هو المناخ السديمي والمؤلم للرواية ذاتها، وأظن أن غالية كانت أكثر إخلاصاً، على صعيد إسلاس القياد للعبة السرد الروائي، في روايتها هذه، من خلال صراع التأويلات التي تشغلنا بها روايتها، بالقدر الذي تستنطق فينا نوع الجنسانية القائمة، أو العائمة داخلنا ذكورة وأنوثة، وكيفية احتكامنا إليها..
لائحة السنة الكبيسة عبر بعثـرة السنين
تستحضر قراءة رواية غالية الثالثة هنا، صورة معينة لها، وهي تمارس تطوافاً ميكروسكوبياً لمدينة الضباب، تعيشها بوجدانها، وبقدر ما تضع المدينة: الحاضرة المتروبولولية مسرحاً حياً لأحداث جسام، تنفتح على تاريخ شائك من العلاقات الاجتماعية والسياسية والثقافية وغيرها، وفي الطرف المقابل، وفي كل خطوة بحثية بالبصر والبصيرة، يكون عالمها الآخر الذي لا يمكن النظر إلا من زاوية المقارنة، حيث يكون الشرق والغرب، رغم أن تداخلاً في العلاقات الحدودية، وفي القيم، على صعيد العولمة من جهة، وغواية العالمية المأخوذة بعين الاعتبار من جهة أخرى، يظل مرئياً، أو مسجَّلاً بحقوقه، من خلال فعل المشاهدة، وتلك قراءة في قلب قراءة، عندما تكون طالبة دراسة، وساعية إلى اكتشاف عالم، وهي داخله، في موقع معين، عبر أسماء أمكنة وإحكام قيم تتخلل رؤيتها البانورامية للعالم المختلف عن العالم الذي تنتمي إليه، وبصفتها امرأة، إنما تكون الرواية هي الناطقة باسمها، أعني على لسان راوية، حيث السرد يفيض بدلالاته على مساحة واسعة، يذكّرنا مباشرة بالرواية الأولى، كما لو أن خميرة الأولى لم تقم واجبها الكيميائي داخل عجينتها الأدبية، وما أريدَ من موضوعها، فكانت روايتها هذه، عودة ما، أو ارتحالاً وعلى إيقاع مختلف، وإلا لما كانت الرواية أصلاً، توقاً، ربما، إلى أمكنة موازية، أو مجاورة لتلك المذكورة في (أيام في الجنة)، ولكن طبيعة الرغبة، والمشاهد ومآلاتها الذوقية والقيمية مختلفة تماماً، وخصوصاً، أنها، مقارنة بما سبق، تنطلق من زاوية شبه كاملة، في الجهر بأمور كثيرة، وهي تضع القارىء في مواجهة مشاهد تخص الجنسانية، وكيف تتمخض عن مفارقات كبرى: يسهل الأخذ بها، لأن لها سجلاً تاريخياً حافلاً بالمواجع ووطأة الذكريات التي تضع الشرق والغرب في سلة واحدة، تخص المصير الإنساني، مثلما تدعو الباحث إلى ممارسة أركيولوجيا داخل أركيولوجيا أخرى، هذه تكون روائية، وفعل الرواية في استمالة التاريخ، واحتواء الجغرافيا الواسعة النطاق، عبر الوجوه التي تتحرك في محيطها الأوقيانوسي أرضاً وسماء، في صلب المتخيَّل الأدبي، ومدى نجاعة المتخيّل من لدن كاتبة لا يمكن تجاهل موقعها الاعتباري، وهي تفتح كاميرتها السينمائية الأبعاد، على أكثر من نقطة توتر، ربما هو الأخذ برؤية ملحمية ما، في تعقب الحدث بتشعباته، ولملمة شتات الفكرة التي تشغلها، خصوصاً، وأنها، وكما ألمحت سالفاً، معنية بالعلاقات العامة، وكأنها شغوف بكيفية تحويل كل فكرة مجردة، مرفقة بأمثلة عيانية، ووثائق موزعة في نقاط قوى تتجاذب، وتتواجه في السر والعلن، للفوز بصدارة تاريخ، كما هو فعل الصراع على المستوى الإنساني، إلى سرد أدبي، تكفل أسماء حركية، جرى الاعتناء بها جيداً، كما أعتقد، في دلالاتها، وخطوط اتصالها وانفصالها، شرقاً وغرباً، وفيما اقتطِع منها، لضمان سلامة السرد، بما يكفي لجعل الصورة الأدبية أكثر قدرة في تحقيق رغبة السارد الروائي العميقة، وهي تقديم مجتمع روائي، هو نتاج مجتمعات مختلفة.
إيقاع الجنسانية الهادر لا يمكن التقليل من شأنه، وكأن الروائية في مغامرتها الروائية هذه، سعت إلى تكسير قاعدة الصمت العُرفية، ومن جهتها كانتماء جنسي، وحتى مقارنة بروائيين معاصرين، في تصميم لعبة الرواية، على مدى قرابة خمسمائة صفحة، لصالح المكاشفة الجسدية، حيث التعرية شهادة السارد الروائي في إبراز المفارقات التي توحّد مثلما تفرّق بين مجتمعات، في الرغبة الواحدة، وكأن الجسد الواحد، مقيَّد برغبته الحارقة، بالإيروتيكا، وكل معاودة، هي غوص في عالمه اللحمي، واستقصاء محفّزاته أكثر، وفي وصف يضعها في الصف الأول، ممن تقدمت أسماؤهم في الخبرة الوصفية لما هو إيروتيكي(أتذكر هنا هنري ميلر، مثلما أتذكر عربياً، وحديثاً، سليم بركات، وفواز حداد، ورشيد الضعيف، مثلما أتذكر وجوه الكتابة النسائية: أحلام مستغانمي، وفضيلة الفاروق، وسلوى النعيمي..الخ)، ولكن عالمها مختلف كلياً، من خلال التحرك الحدودي بين عالمين، حيث الوصف الإيروتيكي اللافت، يظهِر لائحة أدواره المختلفة، في معاينة الجسد المشترك، وماالذي دججه بكل هذا العنف التاريخي، والصاعق الذي يجدد العنف داخل الجسد بلحمه وعظمه وأعصابه وأصناف ألقابه، هو دفق الطاقة الجنسية، وكيف أن هذه تشهر رأسمالها الرمزي، في كليته، وليس في تصنيفه الحدودي الضيق.
إن ناجي، هو فاعل حضاري محلي وعالمي وكوسموبوليتي في آن، هكذا يعلمنا جسده بأمره، باعتباره حافل بالذخيرة الحية المركبة: الفحولة المأثورة والنبوغ المعرفي، والاسم لا ينفصل عن محيطه الثقافي، وعن توجهات المقصد الروائي، وسيطه الاعتباري(كان الابن الوحيد لأبوين مسنّين رأى النور وهما في العقد الرابع من العمر. ولد بعد انتظار طويل وتلهف شديد، كان والده يحدثه دائماً عن ذلك الانتظار والتلهف…)، ومن ثم (نشأ ناجي الابن الوحيد المدلل، لم يكترث والداه بما يقوله الناس عن ضعف شخصية الابن المدلل والخطر الذي يمكن أن يهدد مستقبله بسبب تساهل أهله في تربيته…الخ. ص15)، لاحقاً، ينكشف أمره، وقد قيل في أمره الكثير في نبوغه داخل المجتمع الانجليزي، واستقطابه الأضوائي للمحيطين به من الانجليز وخلافهم، وليعرَف أكثر، حيث تم تبنيه من قبل عائلة انجليزية، اعتقد أنه منتم إليها، كما أخبره أبوه المتبني له، وهو على فراش الموت، كما هو المألوف في الحكايات المعتادة كثيراً (أتى أبوك وأمك إلى بريطانيا طالبين لتكملة دراسة الطب، لكنهما تعرَّضا لحادث سير مؤسف في عام 1948 أودى بحياتهما ونجوت أنت من ذلك الحادث. وأصل أبويك من الشرق الأوسط، الآن تعرف لماذا شكلك يختلف عنا كنت تسألنا بصفة مستمرة.. ص293)، وهذه المسافة الزمنية ومن داخل الرواية، وقد تجلت عبرها أحداث، ومخضت هذه عن أحداث أخرى، هي في جملتها سيرورة الحدث الروائي الواحد، مثلما هي صيرورته تحولاً في الرؤية الجمالية لعالم الشخصية المحورية، كما يظهر، ربما تبدَّى هنا نوع من الانخطاف بالرواية البوليسية في عنصر التشويق، حيث السر يلهب عالم الرواية، ويبقي القارىء على أتم ضبطه لواعيته تنبهاً وتتبعاً لذيول الرواية، مثلما يبقى إشكال الربط أو الارتباط بنِسَبه الثقافية والحضارية، بين المتشكل فيه شرقياً وغربياً، ولتُرفَع الصفة التي تميَّز بها آخرون» في الترميز طبعاً» سبقوه في الولادة الروائية، كما الحال عند توفيق الحكيم في (عصفور من الشرق)، حيث جرى تأنيث الغرب، وتذكير الشرق، وناجي موزع بين المجتمعين: التاريخين، وتلك ميزة فارقة في الرواية، أي تتجاوز المعلوم باسمه سابقاً!
إن نجاح ناجي: الاسم الدال على المسمى، جرَّاء الحادث المذكور، في مسيرته التعليمية، هو الذي يشهره في مجتمع يراهن كثيراً على الذكاء العملي والفكري، وهو وثيق الصلة بأبويه اللاحقين، صار نجماً جامعياً، وفيما يترجَم عنه(ص28)، وبرز مهتماً بأحداث العالم شرقاً وغرباً، وهو يشير إليها، مثلما ينغمس داخلها(ص44-45-47- 50-310..الخ)، وباعتباره معنياً أكثر بعصب الحياة، وخصوصاً في المجتمع الحديث: الاقتصاد(67-210)، ولهذا كان الاهتمام به أكثر، وطلب المساعدة منه، حتى من الخارج، من دولة أفريقية في الشأن الاقتصادي(ص214)، وليكون ملتقياً مع آخرين في هذا الشأن الاقتصادي والاجتماعي والسياسي (حيث السائق الافريقي الذي أقله من المطار إلى حيث مقر عمله الجديد، ص225)، ومع علوان السجين السياسي الأفريقي والمليء شعوراً بالاضطهاد جراء ويلات الجاري عالمياً(ص367)…الخ.
لكن كل هذه الجولات الروائية، إن جاز التعبير، هذه النقلات المكانية والجهوية، لا تخفي الولع الكبير من قبل الراوية بالمفصل الرئيسي للرواية، أعني به خاصيةالزر الكهربائي الشديد الخطورة في إنارة المكان، لرؤية أهليه وحقيقته، وتعتيمه، من خلال اللغة وأسلوب الخطاب أو إنشائيته.
كما لو أن النجومية تعلي من مقام المرء، وتمنحه في التو شهادة تبريز رجولية، أو فحولة مطلوبة، عبوراً إلى أكثر الأماكن سرانية وطقوسية نبالاتية: أرستقراطية.
ناجي هو المحور: الطفل السر، والشاب النابغة، الجامع بين بلاغتين: بلاغة الرؤية للمفارقات الاقتصادية وهي تجمع شمل العالم، مثلما تبلبل عليه أوضاعه في احتراباته الكبرى رمزياً وفعلياً، وبلاغة المعطى الجنسي، فهو مفوَّه بلسانه، مثلما هو آسر بسلاحه الجنسي، فيلتقي الرجال والنساء هنا، وفي مغامرات مختلفة، إنه غسان من نوع مغاير، حيث أعماله تلفت الأنظار إليه.
إنه هو ذاته طالب متعة، كما لو أنه مدرك في قرارة نفسه، أن النجومية معلومة بتوأمها: الشهرة في ميدان العمل، والتمتع بالفحولة، والحرث في منشئه، تغيير معالم الأرض، وإبراز التأثير فيها، ولعل ناجي كان يعلم كيفية استخدام مفتاح اللعبة، وفي الصميم، تكون مفارقات الجنسانية ذاتها.
إن جملة علاقاته ذات المنشأ الجنسي، لم تسفر عن رؤية سديدة لواقع مرغوب فيه، لأن الجنسانية لم تتشيد على قاعدة اعتبارات واسعة وماكنة، إنما مجرد الرغبة النافذة، وليس: وبعد؟
ثمة سخط يسم معالم الرواية، في سنّيها المبعثرة، حيث يستحيل الجمع، لأن الوارد إلى خانة الرواية: مجتمعها، ليس أكثر من أشتات أشتات، كأننا إزاء تذرير مجتمعي لسوء فهم معاش.
وسط المشاهد الإيروتيكية المتكررة، والقُبل الساخنة وهي تجرف أجساد أهليها، وربما تعرضهم لإفلاس قيمي ومادي، جانب اللذة: الإيروس في المتن، ثاناتوس: تدمير، بأكثر من معنى، يحتاج القارىء إلى كتم الأنفاس، أو ما يشبه وضع الكمامة، ليتمكن من الرؤية إلى الآخر، كي لا تجنح به المشاهد المتلاحقة، وربما المتشابهة، وربما أيضاً، الدائرة في ظل رغبة الراوية اللاشعورية أحياناً، في استجلاء معالم الكبت، ما يمكن للنهاية أن تسفر عنه، في لعبة مزدوجة: لعبة تمليح المشهد لمكاشفته، ولعبة تعرية المشهد، للمساءلة حول هذا» التمادي» في العرض الجسدي.
كما الحال مع جملة النساء اللواتي قيّض لهن أن يشكلن أجنحة فاعلة ومقصوصة في آن، في مضمار الرواية، وفي صفحات مختلفة: كولييت، ريتشل، دافني، زوجة المسؤول الأفريقي، غابرييلا، شيند…الخ (نظر إليها مبتسماً وصفق، نهض وسحبها من يدها ودس جسدها العاري بين الفراش، وبلهفة ألقى بجسده بجانبها وهما يضحكان في غبطة… ص65)، (ومد يده وتحسس عنقها الأملس الطويل الشبيه بعنق الغزال البري، وواصل منحدراً إلى داخل فتحة صدر فستانها الأسود الشفاف. ولمدة دقائق غابا داخل مداعبة مثيرة بينما الخمر تلعب بالرؤوس… الخ. ص276)، (ثم قادها من يدها لصالة الجلوس وانحنى مرة أخرى وقبلها من جديد وبدأت يداه تجول بخفة على كل قطعة من جسدها الشاب، حتى وصل إلى أزرار قميصها الأسود المشدود وبتأن بدأ بفك الزر تلو الآخر. ودفعها على الأريكة وهي في استسلام تام، أدرك أنه لن يستطيع التوقف عند هذا الحد فمد لها يده لتنهض. عندها نهضت، قادها إلى السرير في حجرة النوم وانغمسا في مداعبة مثيرة أنستهما الوجود ذاته…الخ. ص433).
ويمكن التعرض للمشاهد التي تخص التقبيل، وما أكثرها(ص:42-65-130-276-321-326-357-376-433…الخ).
ولكن كيف تتسرب الأجساد المختلفة، وفي حمَّى الرغبة الجنسية المشتركة، إلى أتون اللعبة، وكيف تنسلُّ منها، من ناحية المصير الذي يحدد نهاية لكل منها؟
ذلك ما يمكن أن تعلمنا به طبيعة الموقف من الجنسانية، والإدارة الخاطئة لمفهومها: قولاً وعملاً!
لا تقدم الرواية، كما هو شأن الروايتين السالفتين، شخصية ما، شخصيتها على العموم، وهي في تناغم مع العالم. إن اللعبة الجنسية تستثيرها، ولا تثيرها، بالطريقة التي تكتشف من خلالها مقومات كينونتها وحدودها، وهذا ناجم عن المنحدر الوعر للجنسانية وآفيتها، في الجمهرة الجسدية وبعثرتها، فالهروب والبحث عن مسار مختلف، وتعزيز القلق الداخلي علامات فارقة لكل شخصية، والمرأة خاصة، وللعمر دور ملحوظ في التفريق بين الأجساد، حيث التفعيل الجنسي بذرة الجنسانية المستثمرة دون تمحيص، إن التعويض عن الكبت جنسياً، تقويض لذات الرغبة، لسوء التقدير:
نانسي زوجة ألفونس، تتركه، وتهرب مع ربان سفينة استرالي.
كولييت زوجة الفونس الفرنسية والصغيرة، تهوى ناجي وتفضله على زوجها المتقدم في العمر.
ريتشل انتقلت بين مجموعة أجساد ضالعة في ذكوريتها، وانجرفت في تيار رغبتها.
دافني الارستقراطية، ذاقت لذة الجسد، واستماتت في الدفاع عنها، لكنها دفعت الثمن غالياً، وهي من جهتها تتنقل بين جسد وآخر(أنغوس، هانري، هيربيرت صاحب التاريخ البشع في علاقته نساء المستعمرات، وضمناً أسمرينا السودانية، وكيف تنجب منه، ويكون قاتله والمنتقم منه هو ابنه، وفي عاصمة بلده لندن، لحظة تركها لها(ص144)، ومن ثم تشبثها بناجي.
زوجة رئيس وزراء الدولة الأفريقية، وهي تدخل مع ناجي في مشهد جنسي مضطرم.
غابرييلا الفنزويلية التي أحبت ناجي، ومن ثم التحقت بعشيق آخر، هو فرناندو.
كارولاين التي هامت به، ومن ثم تخلت عنه، لتلتحق بالشاب الانجليزي هيوبيرنارد…الخ.
وحتى في مجال سفاح القربى موقعاً، في الرواية الهائلة المساحة، كونها تجمع بين جملة القارات المعروفة أرضياً، ثمة ما يلفت النظر، من خلال علاقة جيورجي الكاريبي بابنة أخيه، وخطفها من زوجها، إلى خارج البلاد، لتكون الجنسانية منفتحة على أكثر من سؤال استنطاقي لحقيقتها.
ناجي النابغة، مجهول الاسم واقعاً، والمسمى فيما بعد، هاوي النساء، والمنبوذ لأنه خالف قواعد اللعبة، بسبب تعاطيه الكحول، وهو المأخوذ بفحولته، هو نفسه في معرض المكاشفة دلالياً، وربما كونه احتفظ ببقية من الطاقة التي تسعفه في استرداد مكانته المعتبرة في النهاية، وقد شعر بخذلانه في النهاية كثيراً، تبدو نهاية الرواية فاتحة» خير»، إذ يحاول ضبط نفسه، وكأنه يحضّرها لمرحلة جديدة، لا تعرَف حقيقتها تماماً (ومضى بخطوات سريعة وواثقة إلى اتجاه جديد. ص486).
طبعاً، لا تنتهي الرواية هنا، ولم يكن الوارد من أمثلة وأسماء ومشاهد، جماع حقيقة الرواية على الورق، فثمة الكثير مما يمكن التوقف عنده، وما له تماس مباشر بالشأن السياسي والاجتماعي والثقافي، على مستوى عالمي، وأنا أشير إلى أنغوس الأفريقي: الطاغية، وقد ارتبطت به دافني، وفضائحه في البلد(ص108)، أو هيربيرت(ص134)، والفساد القائم في البلد الإفريقي، حيث اعتقِل ناجي، كما كان حال علوان، والشعر المعبّر عن الحالة المزرية(ص262، وغيرها).
قوة الرجال وضعفهم في المسار الجنسي، جليان في الرواية، والمرأة ذاتها، تظهر أكثر ظهوراً بعلامات القوة والضعف، لأسباب تاريخية واجتماعية، ولكن ما يبقى محورياً في البداية والنهاية، هو القوة الدلالية للحدث المتشعب، لهذه السنين المبعثرة، وهي وحدها أقدر على الإعلام بفحواها، إذ إن الرواية تظل في وضع لهاثي، على صعيد السرد، إذ إيقاع اللعبة، كما لو أن هم الراوية، هو إبقاء القارىء في الفضاء الواسع لها قارياً، ليمعن النظر في البنية الداعمة لها.
عود على بدء ما، ذلك ما يمكن البوح به، على صعيد المكاشفة الدلالية للرواية، ولكنه عود في مسار مختلف، وبزاوية نظر أكثر وساعة، لحظة التدقيق في لعبة الجنسانية التي تشغل بال كل شخصية في الرواية، وربما هي قضية الوجود الأولى، إذ لا شخصية سلمت من وزر الخطيئة الأصلية المعتبرة، إنما لها يد في تبعاتها، ربما إذاً، لم يعد هناك شرق وغرب، إنما عالم واحد، والكل في الصميم واحد، أما حالة التذرير، فهي تخص التوليف السيء الصيت للجنسانية، رغم أن فاعلية الذكورة قائمة، حتى على صعيد السرد بوصفه صنعة الرجل أساساً، ودون التقليل من مآل المغامرة الروائية لغالية ف. ت آل سعيد(غالية فهر تيمور آل سعيد)، وهي تحدث صدعاً مرئياً في الجدار العالي للذكورة السالفة، فيما ألمحت إليه، أو أحاطت به هنا وهناك روائياً في العموم!
أختتم مقولتي هذه، بصدد روايات العمانية الثلاث، وأنا على يقين، أن العمانية قدمت الكثير أدبياً وروائياً، وعلى صعيد القيمة الجمالية للعالم في كتابتها، وهي في تميزها برؤية أرحب للأمور، كما تابعتها في بعض مما يعنيها في الشأن الفكري والأدبي(5)، ويعني هذا أيضاً أن الكتابة الأنثوية للكاتبة العمانية، تبعث على التفاؤل، وليس التشاؤم. إن التشاؤم الموجود، ومن قبل الكاتبة العمانية، ربما يفسَّر، في منحى العلاقة مع كاتبات عربيات أخريات، وانطلاقاً من ساعة الرغبة وهي تنبّه إلى ضرورة الظهور وفتح المجال أكثر للمرأة لتؤكد حضورها الأدبي الجديرة به(6).
إشارات
1- يمكن النظر حول ذلك، في كتاب (الجنسانية)، لجوزف بريستو، ترجمة: عدنان حسن، دار الحوار، اللاذقية،ط1، 2007، ص 7، وما بعد، وما اصطلِح عليه بـ(الجنوسة: الجندر)، لديفيد غلوفر- كورا كابلان، ترجمة: عدنان حسن، دار الحوار، اللاذقية،ط1، 2008، ص13-14..
2- الروايات الثلاث، صدرت عن شركة رياض الريس، بيروت، وكما وردت بتواريخها، وهي من الحجم الوسط:(أيام في الجنة، 2005، في 412 ص)، و(صابرة وأصيلة، 2007، في160 ص)، و(سنين مبعثرة، 2008، في 494ص). أشير إلى الروايات هذه، دون التعرض لمدى السلامة اللغوية عند الكاتبة، حيث يسهل العثور على هنات، وأخطاء نحوية وغيرها، وفي صفحات متفرقة، عدا الدقة في بعض العناوين، من مثل(أعمدة الحكمة السبع)، لـ» تي أس إليوت»(ص48)، في(سنين مبعثرة)، وهي (السبعة)، وأظن الكتاب للورانس، وليس لإليوت..
3- انظر حول ذلك، ما أثاره جورج طرابيشي، في كتابه(شرق وغرب، رجولة وأنوثة» دراسة في أزمة الجنس والحضارة في الرواية العربية»)، دار الطليعة، بيروت، ط2، 1979..
4- ربما أتلمس في هذا التحميل خطأ قاتلاً، جهة الانزلاق في اللامرغوب فيه، كون بطل رواية (عصفور من الشرق) من منطلق ذكوريته يؤنث الغرب، أما لدى غالية، فصابرة تتلمس في شهم منقذاً لها، وليس بوصفها حالة تمثيل لمجتمع جرى تأنيثه، ونظرة شهم مختلفة أيضاً جنسانياً!
5- لعلي هنا، أشير إلى بعض مما قرأته عنها في أمكنة مختلفة، وأحدد أيضاً، ما قرأت لها شعراً، في مجلة» نزوى» العمانية، العدد24، وكذلك ما كتبته في العدد ذاته، عن روائية عمانية، وروايتها(الطواف حيث الجمر)، وبجرأة لافتة، من جهة الرؤية والملاحظات.
6- أشير هنا إلى مقال العمانية فاطمة الشيدي(هوية الكتابة الأنثوية في عمان)، في العدد ذاته!
إبراهيم محمود
باحث من سورية