حسن شهاب الدين
“عندما رأيتُ المجذومين في اليومِ الأوَّلِ تدهورتْ حالتي كثيرا..
كان شيئا مُرعبا..”
فرُّوغ فرخزاد
(عن فيلمها الدار السوداء عن مصحِّ الجذامِ في تبريز)
1 – نايٌ بثُقْبٍ واحدٍ
“رأيتُ امرأةً ليسَ في وجهِها سوى ثُقبٍ واحدٍ..
وكانت تتحدث من خلالِ هذا الثقب…”
الريحُ في تبريزَ أقصرُ قامةً مِنْ أنْ تحطَّ يدًا على كتفٍ لأنُثْى النايِ
ثمَّ تسيرُ مثلَ صديقتينِ تثرثرانِ عن الرجالِ..
وساقطاتِ الحيِّ..
والجارِ العجوزِ..
-كغيرهنَّ من النساءِ-
وموضةِ الشَّعْرِ المُضفَّرِ..
والفساتين التي تُغري عيونَ العابرينَ ..
وظلِّ كُحلِ العينِ..
والفيلْمِ الجديدْ.
…
في الليلِ..
تُغْلقُ بابَها أنثى تُخَبِّئُ روحَها في النايِ
تُطلقُ زفرةً سوداءَ تحرقُ ألفَ تبريزٍ
وترتقبُ الصباحَ لكي يرتِّبَ ما تناثرَ
في مراياها الأثيمةِ مِنْ فحيحٍ سائلٍ
كالقَيْحِ منْ ثقبٍ وحيدْ.
…
نايٌ على مرمَى البكاءِ
بهيئةِ امْرأةٍ تحدِّثُ نفسَها
وتبوحُ للعشَّاقِ في مرآتِها عنْ فتنةِ الجسدِ المُضمَّخِ قبلَ عشرينَ
احتراقًا بالتوابلِ حينَ تعرَى في سريرِ صبيَّةٍ كانت..
وينتظرُ انْشطارَ الغيمِ في ليلٍ شتائيٍّ
يمزِّقُها
ويُوجعُها
ويبصقُها بقارعةِ التأوُّهِ
مثلما كانت تريدْ
…
أنثى بلا وجهٍ
تُضاجعُ قبرَها
وتلذُّ طعمَ الموتِ
رغمَ تدلُّلِ الموتِ العنيدْ.
2 – خواتمُ مبتورةُ الأصابع
“النساء المجذوماتُ مدهشاتٌ فعلا..
لقد فقدنَ محاسنهنَّ وما زلنَ يتكحَّلْنَ كلَّ يومٍ
أصابعهنَّ التي نهشها الجذامُ تُغطيها الخواتمَ
(أخذنَ حتى قلادتي وسواري..)
غرفهنَّ مملوءةٌ بالمرايا
والتعويذات التي تبعدُ الحسدَ
فهنَّ بشرٌ على أيَّةِ حالٍ..”
…
لفرُّوغَ أسورةٌ مِنْ غيابٍ
وقُرْطٌ مُدلَّى مِن الذكرياتِ
وسلسلةٌ مِنْ كلامِ المُحبِّينَ مطليَّةٌ بالبكاءِ
وللنسوةِ القابعاتِ هنالكَ في آخرِ الكَوْن مرآةُ عُرْسٍ تأخَّرَ عنْ موعدِ الحبَّ عشرينَ موتَا
لهنَّ خواتمُ ترقبُ أنْ يُنْبتَ الجسدُ الهشُّ أذرعةً
والذراعُ يدًا
واليدُ كفًّا
وللكفِّ بعضُ الأصابعِ
حتى تُزيِّنَها بالجواهرْ
…
لفرُّوغَ بعضُ القصائدِ
عَنْ جسدٍ ضاقَ بالعشقِ حين ارْتداه
فأبدلَه القبرُ جلبابَ موتٍ عفيفًا
تسيرُ به للقيامةِ سيارةٌ مِنْ طرازٍ عتيقٍ*
وللنسوةِ الباحثاتِ عن الموتِ..
وقتٌ كثيفٌ يُعلِّقْنَه في المرايا
على مشجبِ الذكرياتِ
ويُلْبِسْنَه قُرْطَها
والأساورْ
…
على قبرِ فرُّوغَ تنمو شجيراتُ دمعٍ أثيمٍ
وتثمرُ أطفالَ حزنٍ بَغِيٍّ
لهم ما لها
بيتُ موتٍ وسيعٌ
وحافلةٌ ماتَ رُكَّابُها مرتينِ
وأرصفةٌ لا تُجيدُ التسكُّعَ في معطفِ البردِ**
والكلماتِ
وأغلفةٌ سوف تكتبُ أشعارَها بعد موتٍ سريعٍ
وفيلمٌ قصيرٌ
عنْ النسوةِ الغامضاتِ اللواتي
تآكلْنَ
شيئا
فشيئا
ولم يبق منهنَّ
ما ترديه
المقابرْ.
*إشارة لوفاة فرُّوغ في حادث سيارة.
** إشارة لديوانها الأخير “لنؤمن ببداية فصل البرد”.
3 – العاشق يأكلُ نفسَه
“رأيت هناك رجلا مجذوما مشلول الجسد تقريبا والشفاه
وكان يرفعُ شفته العُليا بيدِه ليتمكن من الحديث
كما كان فاقد البصر
وعلى رغمِ ذلك ما إن يلقاني إلا ويقول..
(كم عريضة عليَّ التقدمُ بها ليرسلوا زوجتي إليَّ
إنني مصابٌ بالجذامِ
ولكن زوجتي سليمة وتريدُ العيشَ إلى جانبي)..”
جائعٌ يا سماءْ
أخذوا صَحنَ أُرزي
ونصفَ رغيفي
أكلتُ فمي ذاتَ جوعٍ
وأفرغتُ عينيَّ كي أحتسي فيهما الصبرَ
حتى نفدْ
واحدٌ أنا
لكنني لا أحدْ
…
زوجتي ترتديني لحافَ حنينٍ
وينهشُني بردُها المُتَّقِدْ
…
كلُّ هذا الوجودِ / الخواءِ أنا
والزمان البددْ
…
جُثَّتي ترتديني قميصًا عليها
وقد ملَّ موتي ترقيعَ روحي
فهل آنَ لي الآنَ
أنْ أُسْتَرَدّْ
واحدٌ
مُفرَدٌ
مخطئٌ
في المرايا
العددْ
مَنْ أنا فيهما يا سماء
رجلٌ لم يجدْ ثوبَ قبرٍ على قَدْرِ مقياسِ موتي
أمْ
قبرُ حزنٍ يسيرُ على قدمينِ
بغيرِ
جَسَدْ.
خاتمة
“رغم مرور عام على تلك الأيامِ
أتلقَّى الرسائلَ منهم
حيث يطالبونني بإيصالِ عرائضهم إلى وزير الصحةِ
وأنْ أقول له إنَّ المسؤولين يسرقون من أُرزِ المصحِّ
وإنَّهم محرومون من الطعامِ…………”