يورسنار في كوالالمبور
لا يمكن تحديد ما الذي جعل روحي معلقة هكذا في هذه البقعة الصغيرة من العاصمة الماليزية، كان الدليل في يدي يتحدث عن غابات استوائية عمرها ملايين السنين وبحيرات رائقة، ولكن تعثر دليلنا الالكتروني المثبت في السيارة قادنا لهذه البقعة الصغيرة: ساحة ساحرة ببضع شجيرات متناثرة وبحيرة هادئة وإن لم يمكن القول إنها رائقة. مفاجأة جميلة لطفليّ: ثمة أراجيح ولعبة توازن هنا، استندت إذن إلى جذع شجرة حنون، أرقب طفليّ حينا وأقرأ في كتاب لمارجريت يورسنار حينا آخر. ولكن لم أستطع التركيز في هذا ولا ذاك، ثمة شيء ساحر هنا، شيء غامض، به يتعمق نداء الطبيعة، رغم المباني والعمارات التي تلوح من بعيد، ورغم البيوت المتناثرة على غير مبعدة من هذه الحديقة الطبيعية، والبحث في سر هذا السحر لمكان صغير كهذا وسط عاصمة حديثة- إفساد له. استسلمت للنسمات الباردة، لحفيف الأشجار، وللممشى على حواف البحيرة، هنا صمت، صلاة، روح تتعلق بنذر المطر اللطيفة. بعبور كالطيف للرؤى، بشعر طفلي محلقا وهو يمثل إنه طائرة، في القصة الأولى لمارجريت يورسنار الفنان الصيني وتلميذه يجوبان مملكة الهان بحثا عن الإلهام، لا يملكان غير اللوحات ويزدريان النقود، حيث تقودهما الرحلة الشاقة المليئة بفتنة الجمال إلى قصر الإمبراطور اليائس، الذي يحكم عليهما بالموت لأن لوحات الفنان حرمته من رؤية الحياة الحقيقية خارج الفن، فنساء الحقيقة لسن الحدائق ذاتها، ودماء المعدمين أقل احمرارا من الرمان المصور في اللوحات، وحشرات القرى حجبت جمال حقول الأرز، لكن الفنان وتلميذه ينجوان بالدخول في لوحتهما الأخيرة والإبحار في بحرها الذي ابتل بمائه بلاط الإمبراطور. لقد قرأت هذه القصة من قبل، أتذكر جيدا إني قطعتها من مجلة العربي وأنا طالبة وحملتها إلى أستاذي، قلت له: «أنا مفتونة بهذه القصة»، ولما قرأها قال إن نهايتها تذكره بتداخل الأشياء- أو ربما قال شيئا آخر لا يقل سخافة وإحباطا لي. لكن هذه القصة في هذا المكان الذي تتنادى فيه قوى الطبيعة على هذا النحو الساحر الغامض، تكتسب بعدها الحق، كأنها وجدت مكانها الصحيح في روحي!
هذا الرذاذ الخفيف لم يكن إلا ليسعدني، ويزيدني رغبة في البقاء، لكن زوجي رأى فيه نذر مطر غزير لا يمكن الاحتماء منه، فلما عز علي أن أفارق البحيرة، أوينا إلى ركن مغطى بسقف من القش، حيث صياد ينتظر الرزق، زاد المطر وازددنا نشوة، ولكنها نشوة الجاهل! أنى لعائلة من صحراء الربع الخالي أن تدرك أن كل هذا المطر ليس إلا مقدمة، وحين افتتح الكتاب بسيل منهمر بدأ الخوف، فمأوانا كجبل ابن نوح لم يعصمنا من الماء، وكان على مبعدة من سيارتنا، ولم يحمنا من البلل، وليست الأزمة في البلل بل في صوت الوحش، إذ صعق طفلي بهزيم الرعد الذي لم يتوقف وأصر خائفا إنه صوت الوحش، وعبثا أقنعه أنه رعد لا وحش، حتى اختلطت الأمور علي في النهاية، وأنا أتذكر البرامج التلفزيونية التي شاهدتها عن أناس صعقهم البرق، وربما تخيلت برامج عن عائلات ابتلعتها البحيرات أو ضاعت في أحراش غابات مطيرة، ونظر إلي زوجي نظرة من يقول: «نعم الرأي رأيك»، فضممت طفلي إلى صدري، وسار أبوه تحت عاصفة المطر حتى السيارة التي هرعنا إليها ما إن جاء بها وبقينا محبوسين فيها حتى أيقنا أن صوت الوحش لن يهدأ، بل قد يستمر أياما، وأنه لا مناص لنا من العودة بالسيارة في هذا الجو.
ربطت طفلي في مقاعدهم وتسلحت بحزمة من المناديل الورقية لتنظيف زجاج السيارة الذي يعتمه البخار فورا من الداخل، وهكذا سارت السيارة ونحن لا نكاد نرى شيئا أمامنا، لولا أن أضواء السيارات الأخرى تعطينا ثقة أن الماليزيين الذي ولدوا في هذه الأجواء سيتفهمون سيارة أجنبية عمياء. لقد أعطت وجوه الماليزيين دوما انطباعا بالتسامح والثقة، ولكن لا أدري لماذا تذكرت فجأة خبرا قرأته في جرائد هذا الصباح عن رجل من كولالمبور أردى زوجته بطلقات من مسدس حين رفضت تناول الغداء معه، ثم طردت هذا الخبر من ذهني، لا ريب أن العلاقات الزوجية معقدة جدا، أكثر تعقيدا من صدمة سائح غريب لسيارتك في أوج العاصفة! نعم لو لم تكن العلاقات الزوجية معقدة ما الذي يبرر إذن هذا التوتر الذي يبدو على ملامح زوجي الذي طالما كان هادئا وعمليا؟! ربما انحرفت عنا بعض الدراجات في اللحظة الأخيرة أو نجونا من حفرة مليئة بمياه المطر، أو قفزت سيارتنا بضع قفزات لا ضرر منها، ولكن لماذا يبدو متوترا هكذا؟
حين خفت حدة العاصفة فكرنا في الطعام، كنت أحب الطعام الماليزي خاصة الذي يقدم على أوراق شجر الموز، ولكن الأمر المؤكد أن طفلي لن يأكلا إلا شيئا يعرفانه، وهاهو مطعم علي بابا، وعلى واجهته صورة المصباح السحري الشهير- على اعتبار أن الماليزيين لن يعرفوا الفرق بين علي بابا وعلاء الدين- وما إن قلت لطفلتي خزامى أننا سنتغدى في مطعم علي بابا حتى انطلقت في الأغنية: «اسمي سندباد، أصلي من بغداد، سيدي علي بابا، رئيس العصابة»، وسندباد وبغداد وطائر الرخ وبلاد الواق واق أمور مألوفة من طفولتي، أما لماذا يكون رئيس العصابة هو نفسه علي بابا، ويكون سيدا لي؟ فهذا ربما من مألوفات طفولتها هي، وقد هددتني بالأمس، وهي التي لم تتجاوز السادسة، أنها حين تكبر ستمتلك كل الألعاب الالكترونية التي أمنعها عنها بحجة أنها «عنيفة»، ونطقت كلمة «عنيفة» بازدراء بالغ، مما جعلني أحس إني مازلت أعيش في القرن المنصرم حيث كلمة عنيفة تعني شيئا يخص الكبار فعلا .
ومطعم علي بابا هذا لا علاقة له ببغداد لكن له علاقة وثقى بإيران، فمن الكباب السلطاني لكشك الباذنجان لآيس كريم الزعفران تنقلنا وكأننا عثرنا بعد طول جهد – وبلل- على كنز العصابة، واستكان ابراهيم واطمأن، وإن كان يرفع وجهه الملطخ بالآيس كريم كل لحظة ليسألني عن صوت الوحش، وما صار إليه، وهل صادق الوحش الناس أم هرب منهم؟
جنتنج: بلاد العجائب
حين شقت بنا السيارة المرتفعات الخضراء الساحرة، سعدنا للطافة الجو وجمال الطبيعة، ولم نعرف أن بلاد العجائب بانتظارنا في قمم جنتنج. كل ما نعرفه أن مدينة ألعاب ضخمة سيسرح فيها طفلانا ويمرحان بانتظارنا، ولكن عبثا نهتدي لمدخل الملاهي، فجهاز «جي بي اس» يقودنا إلى مواقف أحد الفنادق المعلقة في الجبال، وهو أعجبها، يصطبغ بالألوان كلها واسمه «العالم الأول»، ننحرف لنخرج منه، نسأل المارة الذين يهزون رؤوسهم، نلف حول الفندق، ثم نعود إليه ونستسلم لتعليمات جهازنا، ونعثر بصعوبة على موقف في الطابق العاشر، ومن ثم نبدأ رحلة البحث عن مدخل الملاهي، هناك إشارات تقودك لقاعة الاستقبال في الفندق ولا شيء غيرها، فنذهب في اتجاهها، ممرات وطرقات ومصاعد ومهابط حتى نجد أنفسنا فجأة في قاعة الاستقبال المزعومة، يا إلهي! هل هذا «لوبي» أم مطار؟ هل هو مجمع تجاري؟ أم ساحات ملأى مطاعم ومقاهي؟ أم مدينة ألعاب؟ أم كازينو؟ حواة وسحرة ومهرجون ومسابقات وباعة ونداءات وطعام وشراب وبيع وشراء، مناطق تظلم فجأة وتشتد إضاءتها فجأة، أشجار صناعية ضخمة تتدلى منها المصابيح، صالونات للتجميل والعناية بالأظافر، متنكرون بأشكال مخيفة، طلع لي أحدهم فجأة فصرخت من الرعب، فغضب لأني لم أشتر تذكرة لعرضه، أطفال رضع ونساء عجائز وشبان وشابات ويافعون، كأنما «العالم الأول» يصر على جمع كل شيء في العالم تحت سقفه العجيب. قلت لزوجي: «ما هذا؟»، فضحك: «إنها لاس فيجاس ماليزيا، ألا تتذكرين لاس فيجاس؟» نعم، أتذكرها وفنادقها المميزة الطريفة، ولكن لم أر من قبل مكانا عجيبا ومتنافرا كهذا، ثم ما هذا السيل من البشر؟ إنهم آلاف مؤلفة من مختلف الأعراق، يتحدثون بكل اللغات، يتحركون كأنما يعرفون إلى أين ينبغي الذهاب، أما نحن فنبحث عن مدخل مدينة الألعاب الموعودة!
أخيرا وجدنا بائعي التذاكر بجانب نسخة من تمثال الحرية، وأرشدونا لمخرج ما، فتنفست الصعداء إذ وجدت نفسي خارج قصر العجائب في الهواء الطلق وأمامي الألعاب. أول لعبة قطار الموت: تظل مقلوبا رأسا على عقب حتى تنتهي اللعبة، حمدت الله على نعمة العقل، وأكملت مسيري، هاهي لعبة بيت الأشباح! صاحت خزامى: «مثل قصة روزي في بيت الأشباح، هيا ندخلها»، ولكن من نظرة واحدة إلى الطابور صرفت النظر وقررت أن أكتفي بقراءة القصة المفضلة لخزامى مرة أخرى عند العودة، هاهي الأفيال الطائرة، آه، تبدو لعبة آمنة وطابورها من ثلاثين شخصا تقريبا مع أطفالهم، حسنا اجلس أنت يا زوجي لترتاح وسأقف أنا معهما، آه انقضت نصف ساعة فقط، هاقد حل دورنا! اركبوا يا صغاري، ودارت الأفيال خمس دقائق ثم توقفت، حسنا، اهبطوا يا صغاري سنلعب لعبة أخرى، هاهي المراجيح الطائرة، ولكن انتظروا فطابورها يبدو أكثر من مائة شخص، ما رأيكم ببعض الآيس كريم؟ «لا أحب آيس كريم الفراولة فهو للبنات»، لا يا ابراهيم، انتظر حتى تكمل سنواتك الثلاث، صراخ وبكاء، حسنا حسنا، ربما آيس كريم الفانيللا للأولاد؟ هاهو قطار موت بنسخة أصغر، «أريد هذا»، لا يا خزامى ما رأيك في العجلة الدوارة؟ تبدو ممتعة، وقف أنت يا زوجي في الطابور وأجلس أنا، ساعة فقط! وما المشكلة؟ فقد وضعت رجلا على رجل ألتهم الفول السوداني وأراقب تنوع البشر، وجاء دورنا، ودارت العجلة دورتين، وفتح الباب، وانزلوا، ولا تزعل يا برهوم ألا ترى ذلك الديناصور؟ لندخل بيته، الله! لا أثر لطابور هنا، لقد كدت أفرح، لولا اكتشافي أن الطابور في الحقيقة يبدأ خارج بيت الديناصور لكيلومتر تقريبا، أو هكذا خيل لي، وستنقضي ساعتان، قف أنت وأجلس أنا، اجلس أنت وأقف أنا، اركب على ظهر بابا يا برهوم، نامي في حضن ماما يا خزامى، وكلوا واشربوا، وانقضت ساعتان وحل دورنا! ودار القارب بنا دورة واحدة وحولنا مجسمات الديناصورات التي أرعبت ولدي حتى ظل يرتجف وهو يلوح لها «مع السلامة»، وبالسلامة انتهت الدورة في بيت الديناصور، وكدت أقسم وقد تورمت أقدامنا من الوقوف، وانقصمت ظهورنا ألا نركب شيئا آخر إلا سيارتنا عائدين، لكن رققت لخزامى، فبحثنا عن أقصر الطوابير، ولحكمة ما لم يقف فيه إلا الجدات مع الرضع، وعددهم حوالي أربعين جدة ورضيعا فقط، فوقفنا، ثم تكشفت اللعبة عن قطار يمشي الهوينا، لدرجة أن بوسع برهوم أن ينزل منه ليلعب قليلا ثم يعود إليه وهو لم يتحرك مترا بعد، فمددنا أقدامنا المنتفخة، وتذكرنا القطار المرحوم من طفولتنا في حديقة النسيم بالسيب، وإذا بالمطر يهطل، ونكاد نقفز من قطار السلحفاة الذي لم يحمنا من المطر، ثم صبرنا ورابطنا فوصلنا، وحمدنا الله على السلامة، ودخلنا من حيث خرجنا: «العالم الأول»، اخترنا مطعما واختارت خزامى آخر، فخضعنا، ووجدنا لسوء الحظ ألعابا في الداخل تدور وتلف وتضيء وتطفيء، فلعبت ابنتنا وابننا، وقضيت أنا وقت الانتظار أدعو لأمي وأبي وأسأل الله أن يمتعهما بالصحة والسلامة والسعادة- على الرغم إنهما كانا يتركاني في مدينة ألعاب الهيلي في الإمارات تحت رحمة أخواتي الأكبر مني، ويفرشان حصيرهما للقهوة، ولم يقفا قط في أي طابور.
هربت من مدينة العجائب إلى السيارة، وأنا أفكر في هذا العالم الذي يقف كل هذه الساعات ولا يتذمر ولا يرعوي، ضربت كفا بكف وقلت لزوجي: «أليس فيهم رجل رشيد؟»، فقال: «بلى، ولكنه رجل ذو أطفال».
ساحة الوقت:
تشتهر ماليزيا بأسواقها المتنوعة، وحتى بالنسبة لشخص مثلي يفضل الطبيعة على المجمعات التجارية، فإن إغراء ملابس الأطفال الجميلة الراقية بأسعار معقولة لا يقاوم، وهكذا خصصت بعض الأيام لجولات تسوقية في مجمعات «ماينز» و«تايم سكوير» و«ميجا مول»، قسمنا العمل: على الأب أن يأخذ الطفلين إلى قسم الألعاب الكهربائية في المجمع بينما تتسوق الأم لهما الملابس، ثم نتفق على المطعم الذي سنتغدى فيه، والخيارات كثيرة لحسن الحظ: مطاعم عربية وهندية وصينية وغربية وإيرانية، والأخيرة هي المفضلة لدينا، ويعود انتشارها إلى أن أكبر جالية أجنبية تعيش في ماليزيا هي الجالية الإيرانية، وقد شرع أفرادها مؤخرا بشراء العقارات، وافتتاح المزيد من المحلات والمطاعم الخاصة بهم، وعلى الرغم أنهم لا يحظون بترحيب كبير في الوسط المحلي، لارتباط بعضهم في قضايا مخدرات – وعقوبة هذه الموت في القانون الماليزي- إلا أن أعددادهم التي تتزايد باستمرار تعد ماليزيا الوطن الثاني المناسب لهم من حيث العادات والطبيعة والاقتصاد.
مجمع «ماينز» أو «المناجم»، قائم على استغلال بحيرة صناعية تكونت في مكان منجم الفحم السابق، الذي عمل فيه مئات الصينيين حتى أواسط القرن المنصرم، استمتعنا بالتجول بالقارب في البحيرة، وركوب المصعد المائي المجهز تقنيا في تجربة فريدة، تتغلب على الارتفاع غير المتساوي للبحيرتين المتصلتين، المجمع عامر بالمحلات والمطاعم، ومثل كل المجمعات التي زرتها في كولالمبور فإن العرق الصيني هو تقريبا الوحيد في ميدان التجارة، فمالكو المحلات والبائعات كلهم من هذا العرق، مع أن العرق المالاوي المسلم هو الأكبر، ثم الصيني البوذي، وأخيرا العرق الهندي الهندوسي الذي يعمل غالبا في صناعة المطاط، إذ تتألف التركيبة السكانية لماليزيا الحديثة من هذه الأعراق الثلاثة، وتاريخيا بدلا من الاعتماد على الشعب الملاوي المحلي كمصدر للعمالة، جلب البريطانيون الصينيين والهنود للعمل في المناجم والمزارع وملء الفراغ في الخبرة المهنية. وعلى الرغم من أن العديد منهم عادوا إلى بلدانهم الأصلية بعد انتهاء عقودهم، فإن بعضهم استقر في ماليزيا بصورة دائمة. وبالإضافة للطابع المتجانس لأغلب الأماكن في كوالامبور والجزر، فقد مررت أيضا على أحياء هندية خالصة حيث محلات الساري ومطاعم الكاري وسينما بوليوود وساحات العروض، وفي جزيرة بينناج الكثير من الأحياء الصينية بمطاعمها المميزة ومعابدها البوذية ومدارسها «الشاقة»، فالطفل هنا- مثل الكثير من أطفال الدول الآسيوية- يتعلم في أكثر من مدرسة ويخضع لدروس كثيرة في الحساب الصيني والرياضة والدين بالإضافة للمنهج الدراسي العادي، وإجازة المدارس في ماليزيا لا تزيد عن ثلاثة أسابيع تنتهي أواخر مايو.
«ميجا مول» مجمع حديث، تسكعت فيه وأنا أتأمل الناس مع السلع، واختتمت جولتي بكوب من القهوة في أحد المقاهي الكبيرة مع الانترنت، وهي مقاه تعج بالسياح الغربيين والعرب، كما تعج بهم محلات البيتزا ومراكز الجولف، أما «تايم سكوير» الذي يأخذ اسمه من ميدان شهير في نيويورك فأعجب هذه المجمعات، إذ يتألف من حوالي أربعة عشر طابقا تعرض كلها سلعا متشابهة تقريبا من الملابس الرخيصة، وتشغل ألعاب الصغار والكبار الكهربائية فيه سبعة طوابق، حتى يتحرك «قطار الموت» طبعا بكامل حريته، ويهوي بالبشر كما شاء، وشاؤوا. وقد تعثر وأنت تتجول في المجمع على محل صغير يبيع ماركات عالمية بأغلى الأثمان، فلا تفهم كيف انحشر هنا حتى تجد له نظائر في طابق آخر، أولا حمدت الله إن أمي ليست هنا، وإلا فأي معجزة ستخرجها من مجمع تجاري من أربعة عشر طابقا؟ وثانيا دخلت أحد محلات الملابس النسائية، قابلتني البائعة بوجه مكفهر فابتسمت لها على أمل أن أوحي لها بأني قد أشتري ولا أتفرج فقط على ثيابها الغالية، ولكن بلا جدوى. قلت لها إني أبحث عن قميص على مقاسي فأشاحت بوجهها كأن مقاسي لم يوجد قط على الكرة الأرضية، مع أنها تفوقني مرتين حجما على الأقل، فقلبت القمصان بنفسي، ثم طلبت أن أقيس أحدها، فأشارت بلا، فنظرت لغرفة القياس بحزن، فأصرت، وأعادت تعليق القميص. قلت لها باللغة وبالإشارات إني عازمة فعلا على الشراء، وكدت أن أقسم على ذلك، فقالت لي إني سأشوه القميص بأحمر الشفاه، فقلبت شفتي لأريها إني لا أضع أي أحمر شفاه ولا أي شيء آخر على وجهي، قلت لها: «ولا حتى كريم»، فترددت برهة، كأنما لتفكر في اختبار صدقي بمسح وجهي ببعض المناديل الورقية، ثم وافقت أخيرا، فأخذت القميص المنشود فأعادت نزعه من يدي، وأعادت تعليقه، فأشرت لها إنه لا يمكنني قياس قميص معلق، فأشارت لي إلى قميص آخر أكبر مقاسا وطلبت أن أقيسه هو، لأني قد «أمزق» القميص الذي اخترته إذا قسته، وهكذا انقضى الوقت وأنا أسحب القميص الذي أريد وتنزعه هي لتناولني القميص الذي تريد، وأخيرا تخليت عن ابتسامتي وتمسكت بالقميص وأنا أتجه كجندية إلى غرفة القياس، فوقفت على الباب تسألني هل تحضر القميص الآخر الكبير بدلا منه؟ وقد سألتني عدة مرات مما طمأنني أن غرفة القياس ليس بها أي كاميرات وإلا كانت قد رأت قميصي على مقاسي واطمأنت، فتحت الباب فوجدتها واقفة بالقميص الآخر، وتلقفت مني القميص الذي قسته للتو لتتأكد أنه لم يتمزق، وليس ملوثا بالمكياج، ولم يخطر على بالي إن كان القميص جميلا علي أم لا فمسألة شرائه أصبحت مسألة كرامة، وهو ما كان، لولا أن البائعة لم تبتسم أيضا، فاشتريت بعض الأوشحة خطبا لودها، بلا جدوى، ففكرت إنها لم تحاول الابتسام في ما مضى من حياتها ولن تحاول الآن، فخرجت من المحل إلى الطابق السابع حيث التقيت بأسرتي وتوجهنا إلى أقرب مركز لمساج القدمين.
لينكاوي: قردة وسحالي وفئران
وصلنا بالأمس بالطائرة من كوالالمبور إلى جزيرة لينكاوي، خضرة وسماحة ومطر، وهذا منتجع رائع، الرمال والأشجار وحمام السباحة والبحر والنمط الاستوائي المميز، الفندق يتألف من أكواخ صغيرة محمولة على أعمدة خشبية تواجه البحر وتحفها الأشجار ونخيل جوز الهند، لكل «كوخ» غرفة وصالة بأثاث خشبي بسيط وشرفة، كان يمكن لهذا المكان أن يصبح فردوسا أرضيا لو كان الجو أفضل قليلا، لكن اللحظة التي تهب فيها نسمات باردة، تتبعها لحظات من الحر والرطوبة العالية، ولذا كان أفضل ما يمكن لطفليّ أن يفعلاه، هو أكثر ما يحبان: قضاء اليوم في حوض السباحة مع الأطفال الآخرين!
في بوفيه الإفطار كان كاري الدجاج والأرز حاضرا، معظم الشعوب الشرقية تتناول الأرز في كل الوجبات، وأعرف بعض العائلات العمانية تتناوله مرتين يوميا على الغداء والعشاء، لكن برهوم لم يرحب بفكرة الأرز في الصباح، كان مستغرقا في كوب الحليب حين تمسحت به قطة ضخمة، وبعدما هدأ روعه بدأ يراقبها تتمطى وتلعق فروها، وانهمر سيل الأسئلة فوق رأسي: «ما لونها؟ لماذا أسود من فوق وأبيض من تحت؟ أين أمها؟ لماذا تلحس نفسها؟ هل أمها نائمة في الشجرة؟ أين سيارتها؟ هل تقود دراجة؟ هل دراجتها واقفة بالخارج؟ ….».
خزامى لا تشبع من السباحة، تسلحت ببعض مجلاتي المفضلة التي ابتعتها من المطار: ناشيونال جرافيك، والاكونيمست، والنيويوركر، واسترخيت على الشاطئ، في حين انفرد زوجي بمجلات الرياضة والتكنولوجيا ولعبته الالكترونية المفضلة، ولكن في الصفحة الأولى صاح برهوم: «ماما خزامى تأخذ مجرفتي»، وفي الصفحة الثالثة: « يا ماما أنا جائع»، وفي عز تحقيق الناشيونال جرافيك عن أقدم معبد في العالم صرخت خزامى: « انفخوا طوقي المطاطي»، وعند تقرير الاكونمست عن إعادة بناء اليابان بعد الكارثة تذمر برهوم: « ماما شبعت من السباحة وأريد أنام «.
إذا كنت ستسافر سائحا مع عائلتك فبالكاد ستتعرف على ثقافة البلد والسكان المحليين، لأنك مشغول بترتيب شؤون الرحلة والعائلة، والتفكير فيما سيمتع أطفالك ويسعدهم، وإن كنت محظوظا ربما تحظى ببعض الحوارات العابرة مع أمهات أو آباء الأطفال الآخرين حول برك السباحة وموائد الطعام! وبمناسبة الحديث عن برك السباحة فهي في فنادق ماليزيا تؤكد لي أن الحياة قائمة على المتناقضات ولكن الناس ألفوها حتى لا يروها، فمثلا على بعد متر واحد من حوض السباحة الذي يتعانق فيه عاشقان يابانيان، تجلس امرأة منقبة مع زوجها لساعات لا يتبادلان كلمة واحدة.
في الطريق إلى غرفتنا سرق قرد بطاطس خزامى، وأرعبت سحلية ضخمة ابراهيم، أما المفاجأة الحقيقية فكانت في الغرفة: بعض أشيائنا الصغيرة مقضومة! «إنه فأر»، وهكذا أعلنت إني لن أبيت ليلة أخرى في كوخ تسكنه الفئران وتحيط به السحالي والقردة، ولكن رب ضارة نافعة كما يقول القدامى فكوخنا الجديد الذي انتقلنا إليه تطل شرفته على البحر مباشرة ويكفي أن أسير بضع خطوات من غرفتي حتى يلامس الموج أقدامي.
تتكاثف السحب الآن، يبدو أن مطرا غزيرا في الطريق، لألمَّ أطفالي ومجلاتي وكوب الشاي وأدخل لكوخي.
نهر أشجار المانجروف:
قررت هذا الصباح أن أفطر على خبز البراتا الذي يخبزه الطباخ أمامك في بوفيه الإفطار وأن أتجاهل تماما رفض ابراهيم لأي طعام وأتركه حتى يجرب الجوع ويأكل مثل خلق الله، وعلى رغم إني لم أنجح في تجاهله إلا إني لم أسمح له أن يفسد مزاجي مع البراتا، وفي تمام التاسعة كنا في قاعة الاستقبال بانتظار الحافلة التي ستقلنا لرحلة نهر المانجروف، بعد انتظار قليل ركبنا مع آخرين، وأحذنا نتجول في الجزيرة، تقع لينكاوي في الشمال الغربي لماليزيا، وقد رأينا اليوم الحدود التايلاندية على البحر، عاصمتها مدينة كواه وهي الميناء الذى يرسو عليه عادة القادمين إلى الجزيرة بحرا، وقد راقني جدا معمار بيوتها الخشبي البسيط، حيث يرتفع البيت عن الأرض بأعمدة خشبية، ويستغل الفراغ تحته باعتباره مرآبا للسيارة أو الدراجة، أو مكانا مثاليا لنشر الغسيل، بمأمن عن المطر وفي مهب الهواء! مررنا على غابات وكهوف وحقول أرز، تراءت لي الأسطورة الشهيرة للفتاة ماهسوري، فقبل حوالي 2000 سنة كانت هناك فتاة اسمها ماهسوري اتهمت بالزنى ظلما، فلما قتلت تدفق من جسدها دم أبيض، وأدى مقتلها لصب اللعنة على الجزيرة لسبعة أجيال كاملة، فغزتها مملكة سيام، وأجبر الأهالي على حرق حقول الأرز، ومقام ماهسوري محل تبجيل ونذور حتى اليوم.
وصلنا إلى الميناء الذي سننطلق منه في الرحلة النهرية، ولكن لا يبدو الماليزيون على عجلة من أمرهم، فقد بقينا ساعة تقريبا حتى ركبنا القارب، الذي ما لبثنا أن نزلنا منه لما انصبت قرب مفتوحة من السماء فوقنا، فلبثنا ساعة أخرى بانتظار الصحو، ثم ابتدأت الرحلة، قاربنا الصغير متوازن على البحر وتنوع الأعراق، فبالإضافة لنا هناك عائلة هندية من طفل واحد تشرح له أمه كل شيء بلا توقف، حتى طريقة الإمساك بعلبة العصير، ولماذا هي الطريقة المثالية، وكيف يرشفه وأظن أنها شرحت له كيف سيدخل لمعدته وماذا سيحدث بعد ذلك، أما أبوه فلم يرفع إصبعه عن زناد كاميرا الفيديو لحظة واحدة وهو يصور طفله المحبوب، وما حوله، أي ما تصادف وجوده في محيطه، أي نحن، وهناك لحسن الحظ عائلة أخرى سنغافورية صامتة، من طفلين وأبوين هادئين، ارتحت في وجودهما الذي لا يعقد العالم أكثر مما هو معقد، خاصة أن معنى اسم الطفلة هو «لقد استجيبت صلواتي»، وفي جولتنا في نهر المانجروف، وهي أشجار القرم، كان دليلنا يتنقل بين قاربنا وقارب آخر بالقفز بينهما كلما تلامس القاربان وسنحت الفرص، تفرجنا على ممالك القردة، ومررنا على مستعمرات سرطانات البحر الصغيرة، كما رأينا بعض الأفاعي البرية والبحرية، وشاهدنا إطعام الصقور في عرض النهر، ثم نزلنا إلى كهف الخفافيش، وهو مكان غير مريح لي ومليء بالاحتمالات الخيالية، مثل ضجر الخفافيش من تطفل البشر الدائم على بيتها وقيادتها حربا ضروسا ضد زائريها المزعجين الذين لا يحترمون وقت نومها، لكن الكهف نفسه ينفتح على غابة أشجار القرم القائمة كلها على المياه الضحلة، حيث تتفرع الجذور من الماء إلى الهواء ولا تبدأ الأغصان بالتكون إلا بعدما ترتفع الجذور لأمتار في بعض الأحيان، الصخور الرسوبية على حواف النهر عمرها ملايين السنين، وتخضع للحماية تماما كأشجار غابات المانجروف والقردة فيها. ينفتح النهر على البحر وتنتهي الجولة بغداء بحري في مطعم عائم. ابراهيم يرفض تناول أي طعام وأنا أحس بالإرهاق وأفكر في دش بارد ونوم هانئ في الفندق، لكن هيهات! فالنشاط يعاود ابراهيم وخزامى فور وصولنا وينطلقان بملابس السباحة فأجلس على البحر أهش حشرات لادغة غير مرئية وأبكي من تقرير الناشونال جرافيك عن زواج الطفلات في الهند واليمن، وأرقب طفليّ على البحر، ممتنة رغم الإرهاق واللدغات لنعمة وجودهما الخارق في حياتي.
القرية الشرقية في لينكاوي
هذا الصباح لم يوح بأنه سيكون رحيما ببعض الرذاذ أو النسائم، ورغم ذلك فقد أمضينا العزم على زيارة «القرية الشرقية» في لينكاوي، وهو ما كان، ما إن وصلنا حتى بدت لي القرية السياحية لا علاقة لها بالشرق، فلها معمار مميز ولكن يصعب تحديد هويته، تلتف مبانيه حول بحيرة اصطناعية، هناك الدكاكين التي تعرض ثياب البحر والتذكارات الخشبية، والأسواق الحرة المعفاة من الجمارك التي تبيع الشوكولا خاصة، ولفت انتباهي الحرص على وضع علامة «حلال» في معظم المنتجات: الأجبان والشوكولا والفواكه والأغذية المجففة، ومن المعروف أنه مع بداية القرن السادس عشر أصبح الإسلام الدين السائد في الملايو. وهوية البلد الإسلامية واضحة: البلد المنتج والشعب المتعلم الذي لا يمنعه التمسك بدينه من الانفتاح على العالم، أغلب النساء من العرق المالاوي يرتدين الحجاب، لدرجة إني رأيت أحيانا بعض الطفلات، بل رضيعة في المطار، محجبة! يروقني دوما ملاحظة تغير مفهوم الحجاب من دولة مسلمة إلى أخرى، ففي حين يتمسك الزي التقليدي الماليزي الزاهي بالتنورة الطويلة مع القميص للركبة، وغطاء الرأس المرصع بالفصوص غالبا، تنحو بعض البنات أيضا لارتداء التي شيرت مع الجينز وغطاء الرأس، ولا يمكن أن يظهر هذا الزي شعرة واحدة حتى لو أظهر الذراع كله، وبالمقارنة مع الخليج مثلا، تتمسك كثير من البنات بالعباءة الفضفاضة، ولكن لا غضاضة أن تتسلل خصلات الشعر أحيانا من جانبي «الشيلة» أو غطاء الرأس الأسود المرصع أيضا بالفصوص، وفي مصر لاحظت أن البنات يحرصن على إخفاء الشعر بالحجاب الملون مهما كان باقي الزي ضيقا، فقد يكون الحجاب –على اختلاف ثقافات هذه البلدان- هوية، وربما هوية مرنة، أكثر منه التزاما صارما بالزي السابغ والحشمة.
ركبنا التلفريك الذي يصل بين قمم ثلاثة من أعلى القمم في الجزيرة، كلما صعدنا أكثر شعرت بأننا سنهوي، أحدق في قمم الأشجار العالية تحتي والشلالات التي تغسل الصخور، فأكثر من 59 ٪ من مساحة ماليزيا مغطاة بالغابات. أتذكر كلمات انطوان دي سانت أكسوبري- الكاتب الطيار- في رائعته: «أرض البشر»، وهو يحاول أن يشرح لامرأة ضيقة الأفق اتساع العالم حين نراه من الأعلى:» كلا، كلا يا آنستي لقد رأيت ما هو أبعد من هذا البستان! آه لو علمت كم هي ضئيلة هذه الظلال! آه لو علمت أنها لا أثر لها بين الرمال والصخور والغابات والغدران»، ثم على القمة الأخيرة نزلنا لجسر حديدي معلق بين جبلين شاهقين، فتخيلت الشعوب القديمة التي عمرت هذه الجزيرة، وعاشت في غاباتها، ولعلها اضطرت بوسائلها البدائية إلى بناء مثل هذه الجسور الهائلة العظيمة الارتفاع قبل أن يدخلها الإنسان الحديث في حظيرة تقنياته. أمسكت جيدا بيد خزامى، فأمسكت هي بيدي وهي تخبرني ألا أخاف من التقدم على الجسر المعلق، فهي معي. هل أصبحت الشمس أكثر قربا من رؤوسنا أم ماذا حدث؟ تصببنا عرقا، وأخذ مزاجي يتعكر مع اشتداد الحر، شبعت ملابس ابراهيم البيضاء من آيس كريم الشوكولا، ونزلنا من القمم إلى الأرض، إذن لم نسقط! حمدا لله! مرة أخرى أردد مع أكسوبري:» شعرت أني مثبت بالأرض من قمة رأسي إلى أخمص قدمي، وأحسست نوعا من الهدوء النفسي في أن أسلم ثقلي للأرض، وبدت لي الجاذبية حاكمة بأمرها كالحب».
اشترت خزامى بعض الدمى الخشبية واشتريت أنا بعض الشموع والهدايا، تجولنا في المكان، تغدينا، ثم دخلنا «سبا» الشهير بالدكتور سمك، إذ تدخل قدميك في بركة صغيرة، تمتلئ بنوع معين من الأسماك الصغيرة التي تتغذى على الجلد المتيبس في القدمين، كان يجب أن أصمت لكن لم أحتمل الدغدغة في باطن قدميّ، وهلع ابراهيم أن كل هذه الأسماك «ستأكل» رجلي، وظل يردد: «الأسماك ما حلوة، اخرجي»، حتى خرجت بعد تجربة قصيرة وممتعة لباديكير الأسماك هذا.
اختتمنا اليوم باختراق الغابة إلى المطعم الايطالي القريب، تتناهى إلى مسامعنا صيحات القردة وأصوات طيور ومخلوقات شتى، فأكثر من ثلث أنواع الحيوانات والطيور الموجودة في ماليزيا موطنها لينكاوي، في المطعم أعجبتني فكرة النكت المعلقة على الجدران، وكلها بالانجليزية طبعا، وهي اللغة المشتركة التي يبدو أن العاملين بالسياحة يجيدونها، وإن كان بعضهم يتحدث العربية الفصحى أيضا، كانت البيتزا شهية وعصير التفاح طازجا، حزمنا حقائبنا في الصباح، وودعنا الجزيرة التي يصفها أهلها بالفردوس الأرضي، ولا عجب أنها المكان المثالي المفضل لجحافل العرسان من الخليج.
عادت بنا الطائرة إلى كولالمبور حيث قضينا الليلة الأخيرة في ماليزيا، البلاد التي صنع معجزتها دأب أهلها، وعبقرية رجل تدين له بالكثير هو مهاتير محمد، رئيس الوزراء الأسبق، الذي أصر على نقل بلده إلى مصاف الدول المتقدمة بالتركيز على التعليم والسياحة والتصنيع، فشهدت فترة حكمه تحولا من الاقتصاد القائم على الزراعة إلى اقتصاد يرتكز على الصناعة في مجالات عدة مثل أجهزة الكمبيوتر والمستهلكات الإلكترونية. كما أن المشهد الماليزي قد تغير مع ظهور العديد من المشاريع الضخمة، لعل أبرز هذه المشاريع هو برجا بتروناس التوأمان، وما زالا يحتفظان بوضعهما كأعلى مبنيين توأمين في العالم، ومطار كوالالمبور الدولي، وحلبة سيبانغ الدولية، وممر الوسائط المتعددة الخارق، سد باكون الكهرومائي وبوتراجايا العاصمة الإدارية الاتحادية الجديدة. بدا أثر هذا الإصرار واضحا لما تجولت في سالينجور المجاورة للمركز السياسي بوتراجايا، حيث المساجد الأنيقة والشوارع الفسيحة والنظام والجمال، وفي معارض الفن الحديث في المجمعات التجارية، لوحات غاصة بإعجاب الفنانين الماليزيين بطبيعة بلادهم الاستوائية، منفتحة أيضا في الوقت نفسه على التجريب الحديث في الفن، وفي المساء تناولت أخيرا الوجبة الماليزية الشهيرة «ناساي جورنج كيرابو» المكونة من أرز بالدجاج والخضروات والروبيان، مع البيض، وأسياخ الدجاج المشوية الحلوة الطعم واسمها ناساي، تقدم هذه الوجبة على أوراق الموز، ولا يحب بعض الناس طعم السكر في الدجاج والأرز، ولكن ناساي راقت لي، وفي الفجر ودعت ماليزيا، إلى جارتها تايلاند.
جوخة الحارثية
كاتبة واكاديمية من عُمان