"كيف حالك يا باردال ؟ أرجو أن يتاح لنا أخيرا رؤية لسان الفراشات هذا العام ".
منذ مدة والمعلم يترقب وصول مجهر من مديرية التعليم العام ، وصف لنا كثيرا كيف تتخذ الأشياء الصغيرة وغير المرئية أحجاما كبيرة بفضل ذلك الجهاز، إلى درجة أننا بد أنا، نحن الصغار، نواها فعلا، كأنما كان لكلماته الحماسية فعل عدسات شديدة القوة "لسان الفراشات عبارة عن أنبوب ملتف على نفسه كنابض ساعة . إذا اجتذبتها أحدى الزهور، مدته وحشرته في كأسها لتمتدح منه . الا تشعرون أنتم ، حين تمدون أصابعكم المبللة إلى علبة السكر، بحلاوته في أفواهكم كأن باطن اصابعكم تحول إلى طرف لسانكم ؟ هكذا هو لسان الفراشة ".
كنا نغبط حينئذ الفراشات ، يا للروعة ، أن تجوب العالم محلقا في الهواء، مزدانا بتلك الأزياء البهيجة ، وتنزل على زهور كأنها حانات مليئة ببراميل العسل .
أحببت كثيرا ذلك المعلم ، في البداية ، لم يصدق أبواي الأمر، أعني أنهما لم يستطيعا فهم كيف أنني أحببت معلمي، عندما كنت صغيرا، كانت المدرسة بمثابة تهديد رهيب ، كانت كلمة تهتز في الهواء كعصا الدفلى.
"سوف ترى يوم تذهب الى المدرسة "! .
كان عمان لي قد هاجرا الى أمريكا، كالعديد من الشبان ، حتى لا يتم تجنيدهم لحرب المغرب . وكنت أنا أيضا أحلم بالرحيل إلى أمريكا حتى لا أذهب الى المدرسة . كانت هناك قصص حقيقية عن أطفال فروا الى الغابة لتفادي تلك المعاناة : وعادوا للظهور بعد يومين أو ثلاثة ، مذهولين
وعاجزين عن الكلام ، كأنهم هاربون من جرف الذئاب .
كنت أقترب من السادسة من عمري وكانوا يسمونني باردال ، كان بعض الأطفال الذين في مثل سني قد دخلوا ميدان العمل . لكن أبي كان خياطا ولم تكن له أرض ولا ماشية ، كان يفضل الا يراني في دكان الخياطة الصغير أعبث وأشوش عليه . لذلك كنت أقضي معظم النهار متسكعا في طريق الحور، وكان كورد يرو، جامع القمامة والأوراق الجافة ، هو الذي وضع لي ذلك اللقب : " تبدو مثل باردال "(1).
أظن أنني لم أركض أبدا مثلما ركضت في ذلك الصيف الذي سبق دخولي إلى المدرسة ، كنت أركض مثل مجنون متجاوزا أحيانا طريق الحور وأتابع بعيدا، وعيناي مركزتان على قمة جبل
سيناء، أتخيل أن جناحين سينموان لي، فأستطيع أن أطير الى بيونس أيريس ، ولكنني لم أتجاوز أبدا ذلك الجبل السحري.
"سوف ترى يوم تذهب الى المدرسة !".
كان أبي يحكي، وكأنه يعف جلسة تعذيب أو كأن يدا تجتث لوزتيه ، عن الأستاذ الذي أصلح لثغتهم ، حتى لا يقولوا "خربان " بدل "غربان " ولا "خاتمة " بدل "غائمة ". كان علينا أن نكرر كل صباح الجملة : "تملأ الغربان في خواد الاخارا حواصلها عند الغروب ". أكلنا علقات ساخنة
بسبب "خوادالاخارا!"(2) إذا كانت غاية أبي إدخال الرعب في قلبي، فقد نجح في ذلك . لم أنم في الليلة السابقة لذهابي إلى المدرسة لأول مرة . أصغيت ، وأنا منكمش في الفراش ، لساعة الحائط المعلقة في الصالون وأنا أشعر برهبة المحكومين عليهم .جاء النهار أبيض كمنديل جزار. ما كنت سأكتب لو أنني قلت لأبوي أنني كنت مريضا.
كان الخوف يقرص أمعائي مثل فأر.
لم أستطع حصر بولي، ليس في الفراش ، بل في المدرسة .
أذكر ذلك جيدا، مرت أعو ام طويلة مازلت أشعر بالبلل الساخن والمخجل يسيل على رجلي، كنت جالسا على الطاولة الأخيرة ، نصف منطو على نفسي، آملا الا يفطن أحد لوجودي، حتى تحين ساعة الخروج فأذهب للطيران في طريق الحور.
"أنت ؟ نعم أنت : قم واقفا!".
القدر ينذر دائما ، رفعت عيني فاكتشفت برعب أن الأمر كان موجها الي، كان ذلك الاستاذ القبيح مثل حشرة يشير نحوي بالمسطرة . كانت صغيرة ، من الخشب ، لكنها بدت لي كأنها حربة عبدالكريم الخطابي.
"ما اسمك ؟"
"باردال "
انفجر كل التلاميذ ضاحكين ، أحيسست وكأنهم يضربونني بعلب صفيح على أذني.
"باردال ؟"
لم أعد أذكر شيئا ، نسيت حتى اسمي ، انمحى من رأسي كل ما كنته حتى ذلك الحين ، صار ابواي صورتين ضبابيتين تتلاشيان في الذاكرة ، نظرت نحو النافذة باحثا بقلق عن أشجار الحور. في تلك اللحظة سال بولي.
عندما لاحظ الأطفال ذلك ، ارتفعت الضحكات وتحولت إلى ضربات سياط .
هربت . انفلت راكضا مثل مجنون بجناحين ، عدوت كمن يعدو في الحلم أمام غول يطارده ، كنت متأكدا أن ذلك ما فعله الأستاذ ، أنه ركض خلفي، كنت أشعر بتنفسه على عنقي ، وتنفس الأطفال كلهم ، كأنهم سرب من الكلاب يلاحق ثعلبا ، ولكن عندما وصلت قرب منصة
الموسيقى ونظرت إلى الوراء ، اكتشفت أنه لم يتبعني أحد ، أنني كنت وحيدا ، مع خوفي ، مبللا بالعرق والبول . كانت المنصة فارغة ، بدا أنه لم ينتبه أحد لي، وكني كنت أحس بأن كل القرية تتظاهر بذلك، وأن عشرات العيون المراقبة تتجسس علي من خلف النوافذ ، وأن الألسنة الهماسة لن تفتا أن تنقل الخبر إلى أبوه ، رجلاي هما اللتان قررتا ما علي أن أفعله ، سارتا نحو جبل سيناء بعزيمة غير معهودة من قبل . لابد أن أصل هذه المرة حتى مدينة لاكورونيا ومن هناك سأركب خلسة في إحدى السفن المتوجهة الى بيونس أيريس .
لم تكن رؤية البحر ممكنه من قمة جبل سيناء ، كانت العين ترى جبلا أخر أكبر منه ، بصخور مقطعة كأنها أبراج قلعة منيعة . أتذكر الأن بمزيج من الدهشة والكأبة ما نجحت في تحقيقا ذلك اليوم . كنت بمفردي ، في القمة ، جالسا علي المقعد الحجري ، تحت النجوم ، بينما
كان الأشخاص الذين خرجوا للبحث عني بالقناديل يتحركون كالحباحب في الوادي ، كان اسمي يقطع الليل ممتطيا نباح الكلاب . لم أكن منفعلا ، كأنني كنت قد تجاوزت خط الخوف ، لذلك لم أبك ولم أقاوم عندما لاح قريبا مني طيف كورديرو الضخم ، لفني في معطفه وحملني في حضنه "اهدأ يا باودال ، لقد انتهى كل شيء" .
نمت تلك الليلة نوما عميقا ، وقد التصقت جيدا بأمي ، لم يعاتبني أحد ، بقي أبي في المطبخ ، يدخن في صمت ، ومرفقاه على السماط البلاستيكي ، واعقاب السجائر متراكمة في المطفأة القوقعة ، تماما كما حدث يوم ماتت الجدة .
كان لدي شعور بأن أمي ظلت ممسكة بيدي طول الليل ، وأخذتني على تلك الحال ، مشدودا كمن يحمل قفة ، نحو المدرسة ، وفي ذلك اليوم ، استطعت أن أتفرس لأول مرة في وجه المعلم ، برباطة جأش ، كان له وجه ضفدع .
ابتسم الضفدع ، قرصني على فدي بلطف . "يعجبني اسمك ، يا باودال "، جرحتني تلك القرصة مثل حلوى لها مذاق القهوة ، ولكن الأغرب حدث عندما أخذني من يدي، وسط صمت مطبق ، نحو مكتبه وأجلسني على مقعده ، ظل هو واقفا وقد أمسك بكتاب ، وقال :
"حل بيننا صديق جديد. إنه أمر سار للجميع ، دعونا نصفق ترحيبا به "، شعرت بأنني سأبول من جديد، لكن فقط تبللت عيناي. "حسنا، والأن سنبدأ بقصيدة ، على من الدور الأن ؟ على روموالدو ؟ تعال ، يا روموالدو، اقترب ، لا تنس أن تقرأ ببط ء وبصرت عال ".
كان روموالد وببنطونه القصير مثيرا للسخرية ، كانت رجلاه طويلتين وداكنتين ، وكانت ركبتاه مليئتين بالخدوش .
في مساء برد وعتمة
"مهلا، يا روموالدو، ماذا ستقرأ؟"
"قصيدة ، يا أستاذ".
"وما عنوانها؟"
"ذكرى من الطفولة ، للشاعر أنطونيو ماتشادو".
"حسنا يا روموالدو، تفضل ، بهدوء وبصرت مرتفع ، انتبه جيدا لعلامات الوقف ".
مثل مدخن عجوز للتبغ ، تنحنح المسمى روموالدو، الذي كنت ة تعرفت عليه عندما كان يجر الأكياس المليئة أكواز الصنوبر كما يفعل كل أطفال الطاميرا، ثم قرأ بصوت عجيب ، رائع ، كأنه يصارعن راديو مانولوسواريث ، العائد من مونتيفيديو.
في مساء برد وعتمة
من الشتاء، التلاميذ
يدرسون ، رتابة
المطر خلف النافذة.
إنه الدرس .
لوحة تمثل قابيل هاربا
وهابيل مسند الرأس
قرب لطخة قرمزية
"حسن جدا. ما معنى رتابة المطر، يا روموالدو ؟ "، سأل المعلم .
"يعني مطر علي مطر، يا دون جريجوريو" .
"أهل صليت ؟"، سألتني أمي، وهي غارقة في كي الملابس التي خاطها أبي خلال النهار، كانت رائحة لفت مرة تنبعث من طنجرة العشاء في المطبخ .
" أجل "، أجبتها دون كبير ثقة . "شيء يتحدث عن قابيل وهابيل ".
"هذا جيد"، قالت أمي "لا أدري لماذا يقولون إن المعلم الجديد ملحد ".
"ما معنى ملحد؟"
"من يزعم أن الله غير موجود " .
صدرت عن أمي حركة امتعاض وهي تمرر المكواة بعنف على تجاعيد البنطلون .
"أهل أبي ملحد ؟ "
تركت أمي المكواة وركزت عينيها علي .
"هل أبوك ملحدا: كيف يخطر لك أن تسأل مثل هذه التفاهة ؟"
كنت قد سمعت أبي عدة مرات يسب ( . . .) . جميع الرجال يفعلون ذلك ، عندما لا تسير الأمور على ما يرام ، يبصقون على الأرض ويتفوهون بتلك الأشياء الفظيعة ، يقولون الشيء نفسه عن ( . . .) وعن الشيطان ، بدا لي أن النساء وحدهن يؤمن بالله حقا .
"والشيطان ؟ هل هو موجود؟"
"بالطبع"
كان غطاء الطنجرة يرقص من الغليان ، من تلك الفتحة المتحولة كانت تصعد هبوات دخان ونفاثات الزبد والخضر ، كانت فراشة ليلية تحوم في السقف حول المصباح المعلق بسلك مضفور، كانت أمي متضايقة كعادتها عندما يكون عليها أن تكوي الملابس ، كان وجهها يتوتر عندما تضغط على ثنيتي الرجلين ، لكنها كانت تتكلم الأن بصوت هادئ وحزين بعض الشيء ، كأنها تتحدث عن شخص محروم .
"كان الشيطان ملاكا ، لكنه تحول إلى الشر" .
اصطدمت الفراشة بالمصباح ، فتهادى قليلا واضطربت الظلال .
" قال المعلم هذا اليوم إن للفراشات لسانا أيضا ، لسانا دقيق وطويل جد ا ، يكون ملتفا كنابض ساعة ، سوف نواه بجهاز سيبعثونه له من مدريد ، إنه أمر لا يكاد يصدق أن يكون للفراشات لسان أليس كذلك ؟" .
" إذا كان المعلم قد قال ذلك ، فالأمر صحيح ، كثير من الأمور تبدو كاذبة ولكنها حقيقية ، هل أعجبتك المدرسة ؟" .
" أجل ، والمعلم لا يضرب "
لا ، المعلم دون جريجوريو لا يضرب ، بالعكس ، كان يبتسم دائما بوجهه الشبيه بوجه الضفدع ، إذ ا تشاجر اثنان خلال الاستراحة ، كان يناديهما ويسألهما : "هل أنتما كبشان ؟" ، وكان يقنعهما بالتصافح ، وبعدها يجلسهما على الطاولة نفسها ، بتلك الطريقة تعرفت على أفضل صديق لي ، دومبودان ، الكبير والطيب والبليد ، كان هناك صبي أخر، إيلاديو، الذي كان له خال على الخد ، وكان بودي لو أعطيته علقة ساخنة ، لكني لم أفعل ذلك أبدا خشية أن يطلب مني المعلم مصافحته
ويحرمني من الجلوس مع دومبودان ، أما الطريقة التي كان دون جريجوريو يعبر بها عن غضبه فكان هو لجرؤه للصمت .
"إذا لم تسكتوا أنتم ، سأسكت أنا".
ويتجه نحو النافذة الكبيرة ، بنظرات غائبة ، ضائعة في جبل سيناء. كان صمتا طويلا، محبطا، كأنه تركنا مهجورين في أرض غريبة ، سرعان ما اكتشفت أن صمت المعلم كان أسوأ عقاب يمكن تخيله ، لأن كل ما كان يتحدث عنه يصير على لسانه حكاية أخاذة ، قد تبدأ الحكاية بصفحة من الورق ، بعد المرور عبر الأمازون وانبساط القلب وانقباضه . كانت كل الأشياء مترابطة ، ولها معانيها، العشب ، الصوف ، الشاة ، البرد الذي أشعر به أنا. عندما كان المعلم يقترب من
الكرة الأرضية ، كنا نبقى منتبهين كأن شاشة سينما ويكس قد استنارت . كنا نشعر بخوف هنود أمريكا عندما سمعوا لأول مرة صهيل الخيول ودوي البنادق . كنا نركب ظهور الفيلة مع هانيبال القرطاجي عبر ثلوج الألب ، في الطريق إلى روما. كنا نقاوم بالعصي والحجارة في بونتي سامبايو(3) ضد جيش نابليون ، لكن لم يقتصر الأمر على الحروب فقط ، كنا نصنع المناجل وقضبان الحرث فيدكان اينثيو للحدادة ، كتبنا دواوين الحب في منطقة لا بروفانس وفي بحر بيجو، وبنينا بوابة النصر، وزرعنا البطاطس الأتية من أمريكا، وهاجرنا الى أمريكا يوم استفحل طاعون البطاطس .
"البطاطس جاءت من أمريكا"، قلت لأمي ساعة الغذاء، عندما وضعت الصحن بين يدي.
"ما هذا الكلام ؟ البطاطس كانت موجودة دائما"، قالت أمي بكل ثقة .
"لا، في الماضي كان الناس يأكلون القسطل ، والذرة جادت من أمريكا أيضا". كانت تلك المرة الأولى التي أشعر فيها بوضوح أنني، بفضل المعلم ، أعرف أشياء مهمة عن العالم لا يعرفها أبواي.
لكن اللحظات الأكثر روعة في المدرسة كانت تلك التي يتكلم فيها المعلم عن الحشرات . عناكب الماء اخترعت الغواصة ، النمل يعتنون بقطيع يعطي الحليب والسكر ويزرعون نبات الفطر، وكان هناك طائر فر استراليا يلون عشه بنوع من الدهن يصنعه من أصباغ النباتات ، لن
أنساه أبدا، اسمه تيلونورينكو، كان الذكر يضع زهرة أوركيديا في العيش الجديد لاجتذاب الأنثى.
بلغ اهتمامي بالأمر الى درجة أنني أصبحت مزودا دون جريجوريو بالحشرات ، وعاملني هو كأحسن تلميذ له ، في بعض أيام السبت أو الاعياد كان يمر على بيتنا ونذهب معا للقيام بنزهة ، كنا نتجول على ضفاف النهر، ونجوب الأراضي البور، والغابة ، ونرتقي جبل سيناء ، كانت كل رحلة من تلك الرحلات طريقا للاكتشاف ، كنا نعود دائما بكنز، سرعوفة ، يعسوب ، حنظب ، وفي كل مرة فراشة من نوع جديد، لكفي لا أذكر سوى اسم واحدة سماها المعلم إيريس ، والتي كانت تلمع ببالغ الجمال وقد حطت على الوحل أو الروث .
كنا، عندما نعود، نفني عبر الدروب كصديقين قديمين ، وفي أيام الاثنين كان المعلم يقول في المدرسة : "أما الأن فسنتكلم عن حشرات باردال "
كان اعتناء المعلم بي مدعاة لفخر أبوي ، عندما كنا نقوم بتلك النزهات ، كانت أمي تحضر طعاما خفيفا لساعة العصر: " لا داعي يا سيدتي، لقد أكلت " يؤكد دون جريجوريو، ولكنه يقول لها عندما نعود: "شكرا يا سيدتي، كان طعاما لذيذا".
"أنا متأكدة أنه محتاج "، تقول أمي في الليل . "المعلمون لا يتقاضون ما ينبغي أن يتقاضوه من أجر"، يقول أبي بتفخيم صادق . "إنهم نور الجمهورية ".
"الجمهورية ، الجمهورية ، سوف نرى ما يكون من أمر الجمهورية "، تضيف أمي.
كان أبي جمهوريا، أما أمي فلا، أعني ان أمي كانت من المعتكفات على القداس اليومي، اما الجمهوريون فيبدو انهم كانوا أعداء للكنيسة ، كانا يحاولان تجنب الجدال بحضوري، كني كنت افاجئهم أحيانا.
"ما الذي جناه عليك أثانيا، رئيس الجمهورية ؟ أظن أن القسيس هو الذي يحشر رؤوسكم بمثل هذه الأفكار".
"أنا أذهب الى القداس لكي أصلي" تجيب أمي؟
"أنت نعم ، لكن القسيس لا"،.
ذات يوم حين جاء دون جريجوريو لأذهب معه للبحث عن الفراشات ، قال له أبي انه يريد أخذ مقاييسه ليخيط له بذلة إذا لم يكن لديه مانع . "بذلة "؟
"أرجوك ،لا تسيء فهمي يا دون جريجوريو، أريد أن أقدم لك شيئا ما، وكل ما أعرف فعله هو خياطة البذلات ".
نظر المعلم حوله بارتباك .
"إنها حرفتي" قال أبي مبتسما.
"أنا أحترم كثيرا كل الحرف " قال المعلم أخيرا.
ارتدى دون جريجوريو تلك البذلة عاما كاملا، وكان يرتديها في ذلك اليوم من شهر يوليو 1936، عندما صادفني في طريق الحور، باتجاه البلدية .
"كيف الحال يا باودال ؟ لعلنا سنرى أخيرا لسان الفراشات هذا العام ".
كان شي، غريب يحدث ، بدا الجميع على عجلة من أمرهم ، ولكنهم كانوا لا يتحركون ، كان الذين ينظرون أمامهم يلتفتون ، والذين ينظرون الى اليمين يستديرون إلى اليسار، كان كورد يرو، جامع القمامة والأوراق اليابسة ،جالسا على مقعد، قريبا من منصة الموسيقى، لم أر من قبل كورديرو جالسا على مقعد، نظر الى الاعلي، وقد أظل عينيه بيده ، عندما ينظر كورديرو بتلك الطريقة وتصمت العصافير فان ذلك كان يعني أن عاصفة تقترب .
سمعت دوي دراجة نارية ، كان يقودها شرطي وفي المقعد الخلفي علم منصوب ، مر أمام البلدية ونظر نحو الرجال الذين كانوا يدردشون بقلق في المدخل ، قال صائحا "الى الأمام إسبانيا" وشغل من جديد الدراجة تاركا خلفه سلسلة من الفرقعات .
بدأت الامهات ينادين على أبنائهن ، في البيت ، بدا وكأن جدتي ماتت مرة أخرى، كان أبي يكوم أهاب السجائر في المطفأة وأمي تبكي وتقوم بأمور غير معقولة ، كفتح صنبور الماء وغسل الصحون النظيفة وحفظ الصحون الوسخة .
طرق الباب فتطلعا نحو المقبض بقلق ، إنها أميليا، الجارة ، التي تعمل في منزل سواريث ، العائد من أمريكا.
"هل سمت بما يجري ؟لقد اعلن العسكر حالة الحرب في لاكورونيا، إنهم يطلقون الرصاص على مبنى العمالة ".
"بحق السماء !" قالت أمي وهي ترسم إشارة الصليب .
"أما هنا" تابعت أميليا بصوت خفيض كأن للجدران أذانا "يقال ان العمدة قد ارسل في طلب رئيس الدرك ، لكن هذا الأخير أجاب بأنه مريض ".
في اليوم التالي منعوني من الخروج من البيت . كنت أنظر من النافذة وبدا لي جميع العابرين أشباحا منكمشة على نفسها، كأن فصل الشتاء وصل فجأة ودفعت الريح عصافير طريق الحور كأوراق يابسة .
وصلت وحدات عسكرية من العاصمة واحتلت البلدية ، خرجت أمي للذهاب الى القداس ، وعادت شاحبة وحزينة ، كأنها شاخت في نصف ساعة .
"إن أمورا مرعبة تحدث ، يا وامون "، سمعتها تقول لأبي وهي تنشج ، كان قد شاخ هو كذلك ، بل أسوأ من ذلك ، بدا وكأنه فقد كل ارادته ، تهالك على كرس وامتنع عن الإتيان بأية حركة امتنع عن الكلام ، امتنع عن الأكل أيضا.
"يجب أن نحرق الأشياء التي قد تورطك يا وامون ، الجرائد، الكتب ، كل شيء".
كانت أمي هي اتى أخذت المبادرة في تلك الأيام ،ذات صباح جعلت أبى يصلح هندامه وأخذته معها إلى القد اس . عندما عادا ، قالت لي : "تعال يا مونشو ، سترافقنا إلى طريق الحور" . أحضرت ملابس العيد وقالت لي بصوت جاد وهي تسوي لي عقدة ربطة العنق : "تذكر ما سأقوله لك يا مونشو، بابا ليس جمهوريا، بابا ليس صديقا للعمدة ، بابا لا يتكلم بسوء عن القساوسة ، وشيء أخر مهم جدا يامونشو: بابا لم يهد بذلة للمعلم ".
"بلى. لقد أهداها له ".
"كلا يا مونشو، لم يهدها له ، هل فهمت ؟ لم يهدها له ".
"لا يا ماما ، لم يهدها له".
كان هناك كثير من الناس في طريق الحور، وكانوا يرتدون ملابس الأحد جميعا، كان بعض الناس قد جاءوا من القرى، نساء بملابس الحداد، رجال متقدمون في العمر يرتدون الصدريات والقبعات ، أطفال على سيماهم الذعر، يسبقهم بعض الرجال بقمصان زرقاء ومسدسات في الحزام ، كان هناك صفان من الجنود يؤلفان ممرا من درج البلدية إلى شاحنات مغطاة بالأقلعة ، كتلك التي كانت تستعمل لشحن الماشية في الموسم الكبير، كن في طريق الحور لم يكن هناك صخب المواسم ، بل صمت صارم ، كصمت عيد الفصح ، الناس لا يتبادلون التحية ، كأنهم لا يتعرفون على بعضهم البعض ، كان كل انتباههم مركزا علي واجهة البلدية .
فتح أحد الحراس الباب قليلا ونظر الى الناس حوله ، وبعد ذلك فتحها عن أخرها واشار بذراعه ، خرج المعتقلون من فم البناية المظلم وقد أحاط بهم حراس أخرون ، كانوا موثقين من الأيدي والأرجل بحبل واحد في سلسلة صامتة ، لم أكن أعرف أسماء بعضهم ، لكني كنت أعرف كل تلك الوجوه ، العمدة ، أصحاب النقابات ، المشرف على نادي البلدية الثقافي "ريسبلاندور أوبر يرو"، شارلي، مغني أوركسترا "صوي أي بيدا"، عامل المقلع الملقب هرقل ، أب دومبودان ، وفي نهاية السلسلة ، هزيلا وأحدب مثل ضفدع ، كان المعلم.
سمعت بعض الأوامر وصياح متقطع تفجر في طريق الحور كأنه مفرقعات ، شيئا فشيئا بدأت تنبعث من الزحام همهمة انتهت بتقليد ذلك السباب .
"خونة ! مجرمون ! شيوعيون !".
"اصرخ أنت كذلك يا وامون ارجوك بأعز ما لديك ، اصرخ "، كانت أمي ممسكة أبي من ذراعه، كأنها تسنده بكل قواها حتى لا يغمى عليه . د،يجب أن يروك وأنت تصرخ يا وامون ، يجب أن يروك ".
عندئذ سمعت أبي يقول بخيط من الصوت : "خونة "، وبعد ذلك بقوة أكبر فأكبر، "مجرمون " "شيوعيون "، ترك ذراع أمي ودنا أكثر من صف الجنود، ونظر بعيون غاضبة نحو المعلم . أديا مجرم ، يا فوضوي، يا أكل الأطفال ".
حاولت أمي الأن ايقافه وشدته من المعطف خلسة ، لكنه لم يعد يملك نفسه ، "يا قرنان يا ابن الزانية "، لم أسمعه ابدا يقول مثل ذلك الكلام لأحد، لا حتى للحلم في معلب كرة القدم ، "ليس لأمه أي ذنب ، يا مونشو، تذكر ذلك "، قالت لي أمي. غير أن أبي استدار نحوي الأن بجنون ودفعني بنظراته وعيونه المليئة بالدموع والدم ."اصرخ فيه أنت أيضا، يا مونشو، اصرخ فيه أنت أيضا".
عندما أقلعت الشاحنات المملوءة بالسجناء، كنت من بين الأطفال الذين ركضوا فنها وقذفوها بالحجارة ، بحثت بيأس عن وجه المعلم حتى أناديه خائنا ومجرما ، لكن القافلة كانت قد تحولت الى سحابة من الغبار في البعيد، ولم استطع ، وأنا واقف في وسط طريق الحور بقبضتي المعقودتين سوى أن أتمتم بحنق : "أيها الضفدع أيها التيلونورينكويا إيريس ".
ينتمي ما نويل ريباس (لاكو رونيا 1957) للجيل الجديد من الكتاب الاسبان ، نشر ثلاث روايات وأربع مجاميع قصصية وثلاثه دواوين شعرية ، بالإضافة إلى عدة مؤلفات نقدية ، نال عدة جوائز أدبية ، أهمها جائزة النقد الوطنية على مجموعته القصصية "مليون بقرة " ( 1990) والجائزة الوطنية للأداب سنة 1996 عن مجموعته "ماذا تريد مني، يا حب ؟" يكتب عادة في جريدة الباييس ، ترجمت بعض أعماله الى الفرنسية والايطالية والألمانية .
ظهرت قصة ،"لسان الفراشات " التي حولت مؤخرا الى فيلم سينمائي، في مجموعته "ماذا تريد مني، يا حب ؟" الصادرة عن دار النشر ألفاجوارا ، مدريد 1995، واعتبرها النقاد أحد أفضل القصص في القرن العشرين ، وهي تحكي بأسلوب مفعم بالرقة ، قصة صداقة بين طفل ومعلمه في فضاء قرية صغيرة آمنة في شمال اسبانيا، لكن الحرب الأهلية (1936) جاءت لتلقي بظلالها العنيفة على المكان والعلاقات .
ـــــــــــــــ
– لويس ميغيل كانيادا : مستشرق اسباني. .
– أحمد العبدلاوي :مترجم يقيم في مدريد .
1 – باودال باللغة الجليقية تعني عصفور الدوري . (ملحوظة للمؤلف )
2- تم التصرف في هذه الأمثلة لعدم التطابق بين خصائص العربية والإسبانية (المترجمان )
3- موقع هام في منطقة برنتي فيدرا ، اسبانيا ، هزم فيه الجيش الجليقي خلال حرب التحرير نظيره الفرنسي بقيادة المارسكال نيي . (المؤلف )
ترجمة: لويس ميغيل كانيادا وأحمد العبدلاوي