في مثلِ هذه الأوقات المتفجّرة التي يصلُ فيها الدّمُ المسفوك ذروةَ غزارته وسطوعه، رعبهِ وبراءته، مصحوبًا بسيلٍ جارفٍ من التّهريج السياسيّ في مستواه العربي خاصةً؛ ذاك المتجسّد بشكلٍ أضحى نمطيًّا جاهزًا في بيانات الشّجب والاستنكار والتّذاكي. يختلط فيه الحابل بالنابل لتغطي ظلال جعجعته اللفظيّة وبلاغته الكاذبة، ساحةَ المجزرة المروِّعة، وتكاد تُنسينا الحدث. ربما من فرط هول المشهد العبثيّ على قسوته وفظاعته، يكون الصّمت المدلهمّ أحيانًا خيرًا من المشاركة في هذه الوليمة الباذخة للكلام المجانيّ المسفوح بموازاة الدّم المُراق في كلّ زاويةٍ ومكان.
لكنّ الخيارات جميعها صعبةٌ ومُربكة..
هكذا هي الحال العربيّة، مجزرةٌ تلي أخرى، وحروبٌ تتناسلُ على نحوٍ يفضحُ أكثر فأكثر، أزمنة الانحطاط الشامل، سواء حروب الأهل، أو مع الأعداء، التي تخوضها غالبًا جماعةٌ بعينها مفصولة بالضرورة عن الجسد العربي المُمعِن في التمزُّق والانهيار، وإنْ كانت موصولة المشاعر والخراب.
حروبٌ لا تكاد تُرخي أوزارها في منطقةٍ إلا وتنفجرُ في أخرى أكثر بشاعةً وهولًا ونكوصًا إلى الخلف، حتّى أعماق الهاوية، تلك الهاويةُ التي تتبدّى من غير سقفٍ ولا قرار.
الخطابُ العربيُّ منذ عقودٍ عديدة، يُقارب هذه المجازر وحروب الإبادة بنفس القاموس السياسيّ والفحوى والمفردات المُضجرة من فرط التكرار، بسبب الشلل التامّ عن الفعل الحقيقيّ في الوقائع والتاريخ.
ما يحصل في غزة الآن من حربِ إبادةٍ يندى له جبينُ العرب والبشريّة جمعاء، هذه البشرية التي يُمعن القـَتـَلة الأقوياء بفعل تطوّر العقل العلميّ، في استئصال ما تبقى من مكاسبها الأخلاقيّة والروحيّة، ليستحيل التاريخُ إلى ركامٍ من الهوان والعار والفلتان الوحشيّ للغرائز.
(غزة) حلقة أخرى، سليلة حتميّة لانحدار التاريخ العربي والفلسطيني الذي وصل منذ زمن إلى أعماق السؤال الأكثر خطورة واحتدامًا، سؤال التاريخ الكبير في البقاء الحقيقيّ الكريم على هذه الأرض الثكلى، أو التلاشي والانقراض؟
الفيلسوف الفرنسي (سارتر) قال: إن كل حروب العالم لا تساوي دمعة طفل.
لكن طفل (سارتر)، لم يعد موجودًا كي تدمع عينهُ.
لقد استلّه القتلة الصّهاينة من أحشاء أمّه المذبوحة وقذفوا به في جحيم البركان التكنولوجيّ.
تحية لغزة فصلًا من تاريخ الإرادة الفلسطينيّة العصيّة، وسط أمواج ذلك الدّمار القياميّ، الذي يفوق قدراتِ قارّة بكاملها، وليس ذلك الشبر من الأرض المحروقة سلفًا بالانشقاق والحصار وحرب الإخوة أبناء الزُّقاق الواحد والخندق الواحد، وهي الأكثر فتكًا من جميع الحروب.
تحية لغزة، وقبلها فلسطين برمّتها ولبنان والعراق والجزائر، وحبلُ المجزرة على الغارب، طالما بقي الزمنُ العربيُّ على حاله والعالم على بشاعته.
في هذا السياق المأساوي نتذكر شاعر الشّعر، وشاعر الملحمة الفلسطينية النبيلة، محمود درويش -رحمهُ الله- في قصيدته: “أحمد الزعتر”، فما أشبه الليلة بالبارحة وإن اختلفت بعض عناصر الاصطفاف في هذا الدّيكور الوحشيّ.
أقول الديكور؛ لأنّ العقل السياسيّ العربيّ، يُضاف إليه هذه المرة الإيرانيُّ الطّامح إلى احتلال الواجهة الزَّعامية والإعلاميّة أو ما يوحي بذلك، دعكَ من الدولي، لا يريد من الدم الفلسطينيّ المُراق من الوريدِ إلى الوريدِ إلا ورقةً لتحسين شروطِ تفاوضِهِ مع القوى الكبرى المَاسِكة في نهاية المطاف، بعناصر الهيمنة والقوة والمعرفة.
“نازلًا من نحلة الجُرح القديم
إلى تفاصيل البلاد
وكانت السنة
انفصال البّحر عن مُدُن الرماد
وكنتُ وحدي
آه يا وحدي
وأحمدُ ..
مخيّم ينمو
وينجب زعترًا ومقاتلين
وساعدٌ يشتدّ
في النّسيان
..
مضت الغُيُوم وشرَّدتني
ورمتْ معاطفها الجبالُ
وخبأتني”
كابُوس المجزرة الرّاهنة
في غزة وفلسطين
الأعمال الإبداعيّة في تاريخها، فلسفةً فنًّا أدبًا، حجرُ بنيانها الألمُ البشريُّ والشرّ والظلم الفادح.
أهراماتٌ من الكتب والأشرطة واللغات، لكن هل يمكن وصف الألم على نحوٍ يُعبّر عن حقيقة المأساة؟
“رماني الدهر بالأرزاء حتى
فؤادي في غشاءٍ من نِبالِ
فصرتُ إذا أصابتني سهامٌ
تكسّرتِ النصالُ على النصالِ”
حتى هذا الإعجازُ الشعريّ؛ هل عبّر فعلًا، أم أنَّ أنين الجراح المُحتشد الصّامت عبر الأزمنة هو التعبيرُ الأمثل؟!
ألمُ الصغارِ برهةَ اشتدادِ المرض والمُلمّات هو ذروة المأساةِ، حيثُ يختلطُ الصّراخ بالأنين بالتشنّج أمام أبٍ وأمٍّ عاجزَيْن عن رفع هذا الألم الذي لا يُغتفر، بانتظار ما يجود به الأطباء والأقدار الغامضة، وعدا الحنان الدّافق بالدُّموع الصامتة والتمنّي بحملِ هذه الأثقال نيابةً عن المُصاب الذي داهمته المصائبُ والأيام قبل الأوان.
كم من الأطفال وصغار السن يُبادون يوميًّا في الحروب البشريّة والطبيعيّة: تراجيديا الوجود التي لا تُحتمل.
أسرابُ العصافير التي تنقر كل صباح على نافذة ناصر ثم تُحلّق في آفاق الحرية والضفاف
حاملةً في مناقيرها أسماء أطفال فلسطين الذين استشهدوا في ساح المعارك والدّمار.
سيركُ مهرجينَ ووضعاء يتسلّقون القضايا والحقوق المقدّسة للشعوب المنكوبة،
بحيث إنّ العبارة التي هي من النزاهة والعمقِ بمكانٍ عالٍ، تضيعُ في هذا الخضمّ الجارف للزّيف والتفاهة.
أنا الذي حين أنظرُ في عينَيْ ناصر حين يُداهمه المرض الأكثر لعنةً في حياتي، وأرى في مرآتهما ذلك الخذلان لجموحِهِ في اللعب والحياة؛ أشعُرُ بهشاشة وجودي وانكساري الأكيد، أنا الذي صمدت في أكثر المواقف دمويّةً وقسوة.
إذن؛ أيّ قدرةٍ إلهيّة عظيمةٍ وخارقةٍ تجعلني أحتمل النظر إلى ملايين الأطفال في فلسطين وسوريا والعراق ولبنان… إلخ.
وأطفال العالم
كيف أحملهم في مساءٍ كهذا المساء، حسبما قال شاعرنا الرّاحل الكبير سعدي يوسف.
هكذا، وعلى هذا النّحو المأسويّ الرّهيب تتوالى السنون والعقود منذ مطلع السبعينيّات حتى هذه البُرهة المتفجّرة بالمجازر والإبادات.
(كيف أحملهم في مساءٍ كهذا المساء؟) كل هؤلاء الملايين من الأطفال والنساء والرجال، أراهم في مرآة ابني ناصر وهو يرفس في خضمّ هذه المِحنة الأليمة من المرض، أراهم جميعًا هكذا، إنهم ملخّص لهذا الفضاء من الآلام البشرية المريعة عبر التاريخ.
وبالمناسبة الشاعر سعدي يوسف قال هذه الجملة ضمن قصيدةٍ حول منطقة الفاكهاني التي كانت معقلَ المقاومة الفلسطينيّة والزعماء والرموز والهاربين من بلدانهم إلى حلمِ حُرّيةٍ ونضال.. قالها في هذا السياق.
(الفاكهاني) تلك المنطقة التي ارتكبت فيها أيضا أبشع المجازر ودارت فيها المعارك الأكثر ضراوة ودمويّة بين الفلسطينيين وأعدائهم المدججين من كل حدبٍ وصوب، وعلى رأسهم طبعا الدولة الصهيونيّة خاصة في غزوها الشامل سنة ١٩٨٢م.
مجازرُ وحروبٌ وكوارث تترى وتتناسل في ضوء ضعفٍ عربيٍّ بيِّن، وتلك الوحوش البشريّة والتكنولوجية الطّالعة من التوراة حسب عبارة لپول شاؤول.
الطّائر ينقر على النافذة كعادته كلّ صباح
أنظرُ إلى تلك الكينونة التي من رهافة وأثير
أراه يتكاثر إلى طيور كثيرة تملأُ الفضاء المحتشد بالغبار والغضب
حشود طيورٍ ومخلوقاتٍ قَدِمت من كل جهات الأرض
لا تحمل في مناقيرها غُصن السّلام القادم
بل طليعة تدميرٍ وانتقام.
كان يصرخُ وسط أشلاء العائلة والحطام
صرخته تزلزل السماوات السبع والأرض، الجنة والجحيم، لكنها لا توقظ ضمير أولئك البشر السّادرين في غيّهم، في فجور الدّم المُعربد بأرجاء المجزرة.
تصحو من نومكَ المُضرّج بكابوسِ المذبحة الممتدِّ من غزةَ حتى سريرِكَ إلى أقاصي الكون المصبوغ بدمِ الضحايا
تحاول النهوض
يجتاحك شلل الأطراف والرّوح الجريح
تحسّ أن ضحايا مذبحةِ التاريخِ البشريِّ يطلقون في أعماقك صرخةً واحدةً تطالب بالعدالة والقصاص.
ماذا يعملُ الأب، ماذا تعمل الأم الثكلى؟ أمام أبنائهم القتلى، أبنائهم الغرقى عراةً.
هل يحجبُ الشمسَ الحارقةَ عن أجسادهم المُسجّاة، هل يمنع البردَ الضاري ويدثرهم بأسمال جسده الممزّق.
لا جنازةَ لا قبورَ في انتظارهم ولا مشيعين، لا شيء لا شيء، عدا هذا الفراغ المُحتشد بالأشباح والغياب.
أفظع ما في كابوسِ المذبحة في غزة بجانب الضحايا والمنكوبين، تلك المزايدات والهذر واستغلال الدّم الطاهر المُراق لصالحِ أهدافٍ وغاياتٍ دنيئة ورخيصة؛
أيْ نقيض قداسةِ القضية بحلم الكرامة الإنسانية وتحقيق العدالة بعد تلك التضحيات الجِسام
وهذا ما يتكرر دائما في الأزمنة والأمكنة المُختلفة، وتأتي القضية الفلسطينيّة العادلة في طليعتها.
الطائرة تندفع إلى هدفها المحدّد عبر خطٍّ واضحٍ مستقيم. التعرّجات الخفيّة للأخطار والمصائر لا تظهر على الخارطة. هكذا البشرية في سعيها اليومي إلى تحقيق الأهداف والرّغبات التي أسَّسها أسلافٌ رحلوا وآخرون يرسمون الخرائط والمذابح والحروب. الفلسطينيّون في تغريبةِ الاقتلاعِ الجديدةِ يندفعون حُفاةً عُراةً من شمال البلاد المدمَّر إلى أقاصي جنوب الهاوية، إلى أقاصي المتاهِ الفاغرِ شدقَيْه على آفاق دمويّة ضارية، هاوية المتاه والدم التي تتمرأى على شاشات العالم في فرجته اليومية لهذه الجموع مندفعةً من غير زادٍ ولا أملٍ يعين على هذه الرحلة تحت وابلِ القنابل وكواسرِ الموت. المجزرة تتناسلُ في أعماقك والطائرة تحلّق بعيدًا بعيدًا في مدلهمّ المُحيطات.
ملبّدٌ طقسُ هذا الصباح
يشبه وجهكِ الغائمَ بالأحزان والحلم
غائمٌ طقسُ هذا العالم
مضرجةٌ هي المجزرة في أرجائها الشاسعة
كل بلاغة العباقرة واللغات عبر التاريخ لا تستطيع حتى الاقترابَ من دموع أطفالٍ أمام الأمّهات الثكالى في انتظار مصيرهم المحتوم، حيث القَتَلة يطوّقون البلادَ من كل الجهات حاقنين الهواءَ الخانق بالسمّ الزّعاف، بأسرار الذَّرَّةِ، بكوابيس الموت القياميّ الصاعق.
ملبّدةٌ ملامحكِ هذا الصباح والصباحات القادمة بدماء المجزرة رغم أنكِ تبعدين آلاف الكيلومترات عن حومة نيرانها الجهنميّة،
إنها مجزرةُ ما تبقى من زادٍ روحيّ ومن قيَمٍ إنسانية، مجزرة العالم وقد تدحرج وانحطّ إلى آخر دركٍ في طبقات الجحيم،
ملبدةٌ أعماقكِ بالمجازر هذا الصباح
لقد وُلدتِ في القدس، وها أنت تعيشين الآن في بوليفيا البعيدة؛ لكنّ أنهار الدم تمتدّ من أقصى الكون بكواكبه ومجراته إلى أقصاه
كيف لنا أن نكتب شعرًا مشتركًا كما في الماضي وأي شعرٍ أو نثرٍ يُعبّر عن عار الإنسان أو بالأحرى عار الحيوان؛ لأنه هو من بدأ هذه المسيرة على الأرض حتى محطة الوصول إلى الإنسان القاتل.
وسط نيرانِ الحرائق والدخان ثمّة معسكرُ لاجئين في العراء الدّامي.
المطر ينهمر بغزارةٍ، الأطفالُ يتقافزون منتشين بزائر الرّحمة الغريب، قلوبُ رجالٍ ونساءٍ ترتجف رعبًا من هول الانفجارات، الأطفال في أفراحهم خارج مدار الحرب، طيورٌ لا لونَ لها تُحلّق بين المعسكر والبحر القريب.
هذا المشهد يحصُل اللحظةَ في غزة وعموم فلسطين وقبلها في بيروت وسوريا، في اليمن والعراق وليبيا، في أرض العرب التي ضاقت على اتساعها حتى استحالت إلى معسكرات لاجئين وثكنات وغرباء.
“إذا كان الفنّ في جوهره شِعرًا فيجب أن يُنسبَ فنّ العمارة والموسيقى والتصوير إلى الشعر”.
هايدغر
“كان الشعرُ عِلمَ قومٍ لم يكن لهم علمٌ أصحّ منه”
عُمر بن الخطاب
هذه اللحظات الأولى من الفجر الدامي بالفراق، وتتراكم الذكرى ومراراتها.. كيف للكائن أن يتدبّر أمرَ رحيله هو المضرّج بكل تلك العناصر والأنقاض والطَّمْيِ الذي راكمه الزمن في صيرورته ذات المسارات المتعددة؟ كيف للفرد الأعزل أن يتدبر شأن حياته العمليّة اليوميّة وهو يتّجه نحو مجهولٍ ضارٍ ينتظره أمامَ كل منعطف وشجرة، ميدانِ قريةٍ وصحراءَ ومدينة؟
(إن ما نستطيع رؤيته من الكون الخفيِّ لا يمثل سوى جزءٍ ضئيلٍ جدًّا، ولكي يقتنص العلماء (اللمحة الأولى) الكونَ الخفيّ من حولنا؛ فإنهم يعكفون على تعلّمِ سبلِ إدراكِ ذلك الشيء المجهول: المادة المظلمة/الطاقة المظلمة ذات الطّبيعة الغامضة والمادة المظلمة هي التي قادت المجرات إلى مواقعها الحالية.)
آمن ويليام بليك بالمتناقضات في الجوهر الأسمى، وعليه تصبح الأبدية في نموٍّ مستمر وليس كمالًا جامدًا مضجرًا. وهكذا مضى جبران خليل جبران حين قال إنه والرب ينموان أمام وجه الشمس.
“عندما تتحدث إلى امرأة فأنصت إلى ما تقوله عيناها”.
فيكتور هوجو
أتأمل هذا الخشب الذي كان يُصنع في صور، ويترحّل على متنه العُمانيّون إلى أفريقيا وبلاد الهند والسند،
مقدرةُ التحمّل والصبر الأسطوري المتبادلة بين البشر وهذه السفن الشراعية وسط بهيم الليل والعواصف المحمّلة بالخطر الجاثم بشبح النهايات.
إلى ثاني السويدي
قبل بزوغ قطرةِ الدم الأولى من جسد الجدّ الأول على سطح هذه البسيطة الأبيض
كنتَ تحدقُ في وجه الموت
لم تكن هناك كينونةٌ
كان الخالقُ والمياهُ والسديمُ
ولم يولد الكائنُ ذو الخليّة الواحدة بعد
وكان العدمُ يُسرج خيولَه في الخواء الشاسع
حدقتَ في الغموض الساطع بوجه الغياب
وهكذا استعجلتَ الرّحيلَ ممتزجًا بأرخبيل الجثث المجندلة في المدن والخنادق
متوحّدًا بمعجزة التراب والشجرة
سلامًا إلى روحكَ النّائمة في مرافئ الأبد.
لحظةُ غروبٍ عُمانيّ
قلتُ لأشباحي: انتظريني على بوّابة المُحيط
فلم تنتظرْني أشباحِي الجَذلى
راقبتُ الدمَ الأحمرَ القاني ينتشرُ على اتّساع الآفاق.
على هذا الليل أن ينقضي، على هذا الليل الكاسر أن ينقضي بفيالقهِ الهائجةِ، بحشراتِه وكوابِيسه،
أن ينقضي وإن كان الصباحُ المُنتَظَرُ ليس بأمثلَ منه.
عليه أن يتصرَّمَ وينقضي، وعليكَ أن تحشدَ كلَّ دفاعاتك ومتاريسك إزاء عدوانه الوحشيّ الذي توارثته السّلالة حتى استقرّ ناصبًا خيامَه في أعماقِ رجلٍ وحيد، أن تُعِدَّ له ما استطعتَ من عقاقيرَ ومسارح فارغة يرتادُها نظّارةٌ وهميّون، أن تخبط الأمواجُ صخورَ رأسك وتتلاشى في مهبِّ المغيب، أن تسرح ظباء في القَفر القاحل الذي لم تزره أمطارٌ ولا آلهةٌ منذ قرون، أن تُعِدَّ ما استطعتَ من عدّةٍ تجاه هذا الليلِ العدواني من الأرق والحروب.
بقرةٌ تقفُ فوق شرفةِ منزلٍ مُهدَّم وأخرى فوق أكوام الجثث والجرحى محدّقةً في غُيوم الدّم العابرة للمحيطات
بقرةٌ وليس نسرًا أو حيوانًا ضاريًا آخر
وحيدةً وحزينةً
فوق جبل الحطام والأنين
بقرة تحدق في (مستقبل الماضي) الذي تتناسل دوائره في عقلها الباطن منذ أسلاف قطعانها الوحشية
حائرةً ووحيدةً هي البقرة الصفراء وسط دخان الحرائق للمذبحة الأزلية.
كل شيء يرتطم بنقيضه في هذا الكون، والأكوان الأخرى ربما، ليُولَد الجديدُ ومعه ديمومة الحياة والاستمرار. صراع الأضداد في الديالكتيك الهيجلي. هذا المسكين (هيجل) ظل عقودًا رأسه في الأرض ورجلاه في الأعلى مشقلبًا مُعذّبا، لاعب جمبازِ المنظومات الفلسفية الكبرى وخاتمها حسب بعض الماركسيين حتى جاء المخلّص البروليتاري الشهير فسوّاه على طبيعته الأصليّة المنطقية، التي ستحرّك آلةَ التاريخ وتدفعها إلى ضفاف الحلم وآفاق الفردوس التي ستكون على الأرض وليس في السماء.
تلك اليوتوبيا التي حين باشرت التطبيق العمليّ على أرض الواقع والتاريخ لم تنتج إلا المجازر والديكتاتوريات والدّمار. كل يوتوبيا إذا خرجتْ من جنّة النظرية الحالمة مع غض النظر عن مصدرها ومنشأها الأيديولوجي والعقائدي، تلقى المصيرَ نفسه كارتطام نيزكٍ عملاقٍ بكوكب الأرض حين يحيله إلى خراب ورماد.
الحبّ بكل معانيه التي تُلامس اللانهائي هو جوهرُ الكينونة ومَعينه الذي لا ينضب لدى القلة الفريدة مهما تقدّم العمر في الألم والمعاناة وبلغت الحياة حدًّا من التوحش الذي لا يطاق.
نتوسّله ونلوذُ به
أو كما يقول الشيخ الفيلسوف محيي الدين ابن عربي:
أدينُ بِدينِ الحُبّ أنَّى توجهتْ
ركائبُه فالحب ديني وإيماني
إن هذا الحب أو ما تبقى من ذلك النور الداخلي، لا نترك مآسي الدّهر وانحطاط القيم الأخلاقية والروحية أن تظفر بالانتصار على إطفائه وسحقه
فلنحافظ عليه في مكان قصيّ ونرعاه بفلذات أكبادنا والقلوب.
أن يقذفك سوء طالعِ الصّدفة وأنت في وهمِ نزهةٍ على رصيفِ مدينةٍ في الشّارع أو في مقهى، في البلدان الريعيّة خاصّة، إلى لقاءِ شخصٍ تعرفه منذ قرون أو لا تعرفه إطلاقًا؛ لكنه في الحالتين يُلقي بثقل حضوره كذبًا وتهريجًا وادّعاءً على اللحظة الممتدّة في الزمان والمكان اللذَيْن سيغمرهما بغلاظة انحطاطه المُنتن، فعليك بعد التخلص من هذا المأزق الوجوديّ الذي لا بد من تكراره رغم الحيطة والحذر في مثل زماننا المجرّد من القيم الأخلاقية والإنسانيّة إلا في النُّدرة المُعتزِلة خارج القطيع السّائد، فعليك لحظة الخلاص بجانب تذكّرك لمقولة سارتر (الجحيم هم الآخرون)، أن تغسل روحكَ بمياه القداسة والمحيطات المُزبدة بالحنوِّ والغضب على هذه اليابسة، كي تستطيع النَّوم برهةً محدودةً محاولة للنّسيان.
(العُزلة وطن الأرواح المُتعبة) الأرواح الجريحة التي طوّح بها النأيُ بعيدًا بين أمواجه المزبِدة الغامضة، فوجدتْ في العزلة بعضَ أمانٍ وطمأنينة يمليها وطنٌ حقيقيّ.
العُزلة ليست خيارًا قسريًّا، زنزانةً يدفع إليها الاكتئاب والقنوط؛ بل الخيارُ الأكثر جمالًا وحريةً وضفافًا لا محدودة.
المكان الذي يمكنك أن ترى منه الأشياء والبشر خارج الأقنعة والمساحيق والقشور، ويمكنك أن تقارب حقيقةَ الوجود والطبيعة في جوهرها المُغَيَّب وسط الصخب والزحام.
إنها ليست منفى؛ بل وطن الأرواح والقلوب التي أثخنتها جراحُ التّاريخ والغياب.
امرأة بجسدٍ رشيقٍ وفخذين صقيلين بمثابة تلخيصٍ لما خفي من جمال الكون، قبالة البحر، في ضياءِ طقس غائمٍ بالسحر على غير العادة، إزاءَ هذا المشهد الجمالي النادر، ماذا يفعل الحاملُ في ضميره ثقلَ مجازر التاريخ من أول مجزرة على أديم هذه الأرض الثكلى وحتى آخرها في هذا الراهن المتفجر بالدماء والنكبات.
ألفُ مقبرةٍ يهرع موتاها في أعماقه كأنما يومُ نشورٍ داخليّ، منها تتشكل أنسجةُ أعضائه والخلايا، ماذا تفعل هذه الروح الجريحة التي تحاول الإفلاتَ من ألَمِها المُمِضّ العميق؟
كل العالم والكائنات في عبورٍ دائمٍ وليس الخلودُ إلا أحدَ تجلياتِ الوهم البشري في رعبه المتجذر في كينونته ولا وعيه واقعًا ومنامًا.
لذلك يحاول خلق علاماتٍ راسخة للبقاء والديمومة، عبر الإنجاب والأعياد القارّة التي تتوارثها الأجيال عبر القرون لتخفيف مسيرة الزّمان الثقيلة على الأجساد والأرواح، كما تتوارث المقدسَ والوعودَ الغيبية الباذخة.
(سِرْ إِنِ اسْطَعْتَ فِي الْهَوَاءِ رُوَيْدًا
لَا اخْتِيَالًا عَلَى رُفَاتِ الْعِبَادِ
خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْـ
أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ
وَشَبِيهٌ صَوْتُ النَّعِيِّ إِذَا قِيـ
ـسَ بِصَوْتِ الْبَشِيرِ فِي كُلِّ نَادِ
أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَنَّـ
ـتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ
صَاحِ هَذِهْ قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْـ
ـبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟)
…
( ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ).
سيف الرحبي
(*) القطعة النثريّة الأولى (ما أشبه الليلة …) كُتبت في لهبِ مجزرة سابقة على الرّاهنة التي ما زالت في سيلان وقائعها المريعة.