شيعته، بنظرتها المنكسرة، من على الباب الداخلي حتى توارى ضاربا في الأرض يبتغي أجر صلاة العشاء الآخر.
افرغت ما يزيد بقليل على نصف الكأس من الماء البارد من "الغرشة"، همت بالاستزادة غير ان الصداع الذي عاودها من جديد، منذ الظهيرة، لعاشر مرة لم يفتل بل بدا طويلا على شمسة بنت علي بن حمدون.
ورغم ان النهار مثل اي نهار عادي في مكان عادي جدا الا ان صداع رأسها وضيق صدرها اشعر انها بالانقباض والرغبة المستمرة في القيء، بدونما تحقق، لم تشعر بمثل هذا العارض قط في أي من البطون العشرة الذين وزعتهم بالتساوي: على ساق أولى بخمسة ذكور وساق أخيرة بخمسة أقمار كأنهن أمهن الموصوفة الجمال في الناحية الممتدة من البواطن وحتى ساحل مسقط، مما حدا بزوجها المعلم شنون – والذي وصل الى مسقط في وسط الستينات حيث كانت الحرائق في تلك السنة تندلع في أكثر من مكان فما تكاد تنطفىء في جبروه حتى تشتعل من جديد في سداب وما يكاد يسيطر عليها هنا حتى تستعر من جديد في كلبوه بدونما تفسير واضح لها من الاهالي والذين أعيقهم الحيلة لوقفها او تفسير لاضطرامها وتزوج من شمسة بعد سبع سنوات من سنة الحرائق تلك بعد ان لعب بعقلها الفض غاوي بن سويف بن حمدون وفر هاربا الى البحرين في خشبة بضائع – ان يوافق على ان تقلب "بيت الضنا" في المستشفى الحكومي الكبير.
بيد أن المعلم شنون، والذي مازال يعلم لغة النصاري التي ابتدأ بها ثروته الهائلة وافتتح لها مدارس ضخمة، لم تستهوه فكرة المباعدة بين الولادات بقدر ما تلمظ بشهوة وهو يتخيلها تريح وتستريح من عناء هذا الانتفاع البالوني كل سنة ونصف تقريبا آملا في التمتع بشمسة التي تصغره بثلاثة عشر عاما ممنيا نفسه بقضاء ما تبقى له من حياة اسيرا "لشمسوه الحمرا" التي لم تتغير لحمتها الناعمة والفضة المنيرة الوجه كفلقة القمر والتي بقيت محافظة على توهجها ابدا منذ ان بنى بها.
لابد أنها شمس هذا اليوم البالغة الحر او اعمال البيت والركض لابد أنها شمس هذا اليوم البالغة الحر او اعمال البيت والركض وراء "القروضة" الذين لم يلتحقوا بالمدرسة، بعد، هما السبب لهذا الصداع بيد ان شمسه تدرك ان هذين ليسا هما السبب فهي لا تكاد تخرج من هواء التكييف الصناعي وهي بالكاد كذلك تهتم بأمور البيت او الاطفال، فالامر بكليته عائد الى الخادمة الفلبينية. أعادت الغرشة على سطح التسريحة الايطالية متشبثة بالكأس نصف الفارغ فارشة عجيزتها على حافة السرير، عاود الصداع، الذي بدأ ظهر اليوم بعيد رحيل غاوي، يطن في اذنيها ويستوطن رأسها من جديد.
استغربت في بداية الامر زيارته، رغم علمها بوصوله منذ اسبوع، بعد كل تلك السنوات في الخارج والتي قررت فيها ان تنسى الغاوي وتدير ظهرها لكل ما حدث غير مأسوف عليه. لكنه مازال وسيما: بشعره الطويل فوق ار نبتي اذنيه ووجهه المستدير الذي زادت حمرته بعد ان حلق لحيته وشاربه وان كان جسمه قد بدا حاشية باستدارة خفيفة وكرشه في البروز قليلا. مبتسما كعادته.
سمر نظرته في عينيها الواسعتين، حتى نكستهما، ثم احتضنها بقوة الى صدره أخذا بفلقة البدر بين يديه الناعمتين واعتصر فمها في شفتيه المتوهجتين بالفحولة والشباب. تحرك كل الشباب فيها واعتصرت ظهره بيديها العاريتين من أي زغب والمبيضتين كنور طاغ يبزغ من الافق البعيد حيث تجمعت سحابتان بيضاء ووردية تعانقتا، وبدأتا في الارتفاع أبعد فأبعد من هذا المضيق الصفير، وهمتا بغزارة على صحراء عانقت ربيعها وظلتا تركضان وتركضان في مراتع غائرة لبوح طال وصله ثم ان استكان المراق، أو كاد، رويدا رويدا بردت السحابتان وفاضتا ملتفتين الى بعضهما صفرا من الماء بقاع صفصف لم تألفه الظهيرة الملتهبة الحارقة.
حدثته عن شوقها وحبها الذي ظنت انه انتهى وحدثها عن اقطار بعيدة وأناس آخرين بوجوه بائسة وفتيات جميلات لا حد لحسنهن لكن صورة شمسه الوحيدة التي بقيت متقدة في خياله لم تبارحه. حدثها عن زوجها شنون الذي يعرف أسباب الحرائق وربما شارك في افتعالها وكيف انه رمى الكثير من قروش الفضة لجدتيهما لتشهد زورا ان شمسة أخت غاوي من الرضاعة أفاقت على قبلة الغاوي، وقد فرغا، أعلى جبينها ممسكا بيديها بين يديه على أن يأتي ظهيرة الغد، حيث يكون المعلم شنون ما يزال في الخارج، ثم انسل بهدوء!((*)).
أحست، وحدها، بالحزن في نظرة المعلم شنون والانكسار والخيبة في عشرين عين بريئة، تناوشتها نظرات قاسية، صغيرة وكبيرة، حتما انهم كانوا يعلمون عن شنون: حاولت ان تغمض عينيها لكنها أبصرت عيونا كثيرة تلاحق المعلم شنون بحقد وتلاحقها بسخرية. يا إلهي كيف تسنى له أن يخدعها كل تلك السنوات المليئة بالحب والامل؟ لامية عابثة لا تدري ان المياه تجري من تحت قدميها وفي لحظة واحدة انفجر كل شيء، على وقع كلمات الغاوي عن فساد شنون وجدتها والناس الذين تآمروا على كل شيء واخفوا الحقيقة عن عقلها المليء بالنوايا الحسنة والسماح، ليجرفها الى مناطق لا مجال للتراجع عنها ولا مناص من المضي فيها.
لماذا بعد كل تلك السنين: أكانت منذورة للغاوي في بكارتها الأولى وفي زيجتها التي حافظت على نقائها وطهرها قبل أن يأتيها ليعيد حديث مراهق وصبية غافلة؟ اعترافا، بغتة، الوهن ودبت في جسدها الشيخوخة حين تمادت في غيها وغاويها واستسلمت بكل سهولة كما لو ان كل شيء زائف ويتهاوى تحت قدميها زاد اضطرابها وعاودتها اوجاع القلب التي خفت بعد العملية التي أجرتها قبل سنين في لندن وكلفت شنون الكثير من المال لكنا لم يأبه سوى بعودتها سالمة ترج ضحكتها أرجاء البيت الكبير كأمل أخير يرفعه في وجه شيبته المتربصة كقبر مفتوح ومنذ الظهيرة الجارحة، أياها، زاد فكرها صدعا وروحها تصدعا ورغبة مستمرة في القيء الذي لم يتحقق.
افرغت كامل قنينة (الموكسال) وما يقارب العشرين كبسولة من (الزانتاك) الى جوفها ودلقت وراءه جرعة الفضلة التي تزيد عن النصف من كأس ماء بارد، ساحبة البطانية الى تحت صدرها بقليل، قبيل وصول المعلم شنون من صلاة العشاء الآخر.
((*))
بعد سنوات كثيرة حين قرأ غاوي الحكاية لاصدقائه من مجموعة قصصية لشاب مغمور، لا تربطه به صلة ولا يعرفه أصلا هاله هذا التوارد ودقة معلومات الكاتب رغم انها وقعت من فترة.
ناتلي الفرنسية قالت: ان السارد هو غاوي نفسه. الساندرا الروسية: ان السارد هو طبيب شمسة. كيفن الهندي: السارد هي شمسة محمد امين عصفر: السارد هو شنون وقال غاوي حتما ان السارد هو الكاتب نفسه.
زاد اختلاف الاصدقاء الى ان أيا مز هؤلاء لا يمكن ان يكون السارد: فغاوي لم يكن يعلم، أصلا، بانتحار شمسة بل قدر موتها رغم أنفها / والطبيب، وان كان علم بانتحارها، فانه لم يعلم بعلاقتها مع ابن عمها غاوي/ وشنون لم يعلم بانتحارها او علاقتها مع غاوي في عودته الاخيرة / وشمسة لم تكن تستطيع ان تسرد القصة الى نهايتها (اذا قدرنا موتها بعد تناول الاقراص !) والكاتب لم يلتق أيا من هؤلاء فضلا عن عدم معرفتهم وكذلك فارق العمر بين الابطال والقاص.
تماما هو اذن ذاك (السارد) الذي فكرتم فيه للتو!!
اشارات
(1) الغرشة: القنينة – الزجاجة.
(2) الفروضة: الاطفال الصغار.
(3) بيت الضنا: الرحم.
(4) MOXAL : دواء لمعادلة الحموضة في المعدة.
(5)ZETAC : دواء للقضاء على الحموضة.
سالم الحميدي (قاص من سلطنة عمان)