زهيدة درويش جبور
“عندما لا يكون لديك الكثير تكتفي بالقليل الذي لديك”؛
“التاريخ يطوِّقني مذ كنت طفلة. لكن رغم كل مآسي العالم يجب أن لا ننسى أن العالم جميل وأن الحياة جميلة”؛
“إنها لنعمة كبيرة أن تكون في حضن الطبيعة وأن ترسمها”1.
أنطلق من هذه العبارات التي وردت على لسان الشاعرة والرسامة التشكيلية الراحلة إيتيل عدنان لأدخل إلى عالمها الشخصي والإبداعي. هي التي وُلدت في منتصف عشرينيات القرن المنصرم في منزل لم يكن فيه كتب، ولا موسيقى، ولا مذياع، شأنه شأن معظم البيوت في تلك الأيام. لكنه كان مليئًا بالحنان والحب، ذلك الحب الذي أسّس لزواج والديها رغم اختلافهما الديني والعرقي. فوالدتها يونانية من مدينة إزمير، ووالدها سوري دمشقي خدم كجندي برتبة ضابط في الجيش العثماني. كانت المكتبة عبارة عن رفّ واحد تقتصر الكتب التي تضمها على القرآن والإنجيل، وروايتين يونانيتين كانت والدتها لا تملّ من إعادة قراءتهما مرةً تلو مرة، إضافةً إلى قاموس تركي-ألماني. وتتذكر إيتيل مستعيدة طفولتها أنها كانت في عمر العشر سنوات عندما اشترت والدتها قاموس لاروس حيث لفتت انتباه الطفلة حينها صورة لبيتهوفن وأوبرا فيدليو، وصور كل أعلام دول العالم داخل مربعات ملوَّنة، هذه المربَّعات التي ترى أنه كان لها تأثيرها على رسومها فيما بعد. بل يمكن القول إن حبها للترحال والتنقل عبر المدن والقارات وشغفها باكتشاف الشعوب والثقافات إنما يعود إلى تأثير تلك الصور على خيالها وعالمها الجواني.
كان عالم الطفلة صغيرًا وبسيطًا، ولكنه وربما بسبب ذلك كان مفتوحًا على الحلم. كغيرها من أطفال ذلك الزمان، لم يكن لديها الكثير من اللّعب ووسائل التسلية فاستعاضت عنها بالتأمل: كان يكفي أن تنظر إلى الزهور التي تزيّن مفارش المائدة وقد نسجتها بأناة أصابع والدتها كي تتحول الغرفة إلى حديقة، أو أن تصغي إلى والدها يحدثها عن جمال الرسوم والألوان في سجادة حاكتها يد حرفي ماهر كي تدرك باكرًا أن الجمال لا يتحقق إلا بالعناء؛ كان يكفي أن تسابق ظلها حين ترسمه الشمس على الأسفلت كي تشعر بالحرية، وكان يكفي أن تراقب الغيوم وهي ترسم أشكالها الغريبة في السماء ثم تعود لتمحوها، كي تدرك سحر التحول؛ كان يكفي أن تراقب مياه المطر وهي تتجمع في الحفر على الطرقات لتتخيل بحيرات وبجعًا. لم يكن عالم الطفلة مملوءًا بالأشياء بل كان فيه من الفراغات والفسحات ما يشحذ المخيلة ويبعث الشعور بالحرية والانطلاق. أن يكون لديك القليل يعني أنك مدعو لأن تصنع من هذا القليل كل أسباب امتلائك وفرحك، لأنك إذ لا تمتلك إلا القليل، إنما أنت متحرر من عبودية الامتلاك، وبالتالي، أنك قادر دائمًا على أن تترك كل شيء وراءك لتعيش السفر وتذوق لذة الترحل. هكذا كانت إيتيل عدنان الشاعرة والرسامة المرتحلة بين البلدان، والمقيمة دائمًا في لغتها ورسوماتها، لا يأسرها الماضي ولا تهجس بالمستقبل، بل تعيش اللحظة، لأنها تدرك أن الزمن الوحيد الذي نملكه هو الحاضر. هي لا تأسى على ماضٍ انقضى لأن “الذكريات أكاليل لاجدوى منها/ لم تبعث أبدًا/ ميتًا من القبر”، ولا تنتظر المستقبل لأنها تعرف أنه رهن بالحاضر. تقول: “في الفن ليس هناك ماضٍ ولا مستقبل”2. هذه العلاقة بالزمن تجد انعكاساتها في كتاباتها كما في رسوماتها. فشِعرها محاولة للقبض على اليومي الهارب ولاكتشاف الخارق في العادي. تولد القصيدة من شاعرية اللحظة، حضور فجائي مباغت لكنه لطالما كان كامنًا ينتظر لحظة اكتماله لينبجس كما الفجر الذي يشقّ عتمة السماء. تقول إيتيل: “أعتقد أن الشعر هو شيء ما ننتظره حتى يأتي كما النبتة التي تنمو داخل التربة وفجأة تظهر في الحديقة، دون أن ندرك أنها كانت هنا”. الشعر بهذا المعنى موجود بالفطرة لدى كل منا، لكنه لا يظهر ولا يعبر عن نفسه إلا إذا تهيأنا للإصغاء إلى ندائه ولاستقباله. الشعر عندها ليس صنعةً ولا إلهامًا يتنزل من وجود علوي بل إملاء لنداء الباطن الذي يعلن عن نفسه في لحظة الإبداع: “أكتب تلقائيا”3 تقول في مقابلة مع مترجمها الشاعر التونسي خالد النجار. أعمالها التشكيلية هي المعادل لشعرها، كلاهما يصدران عن رغبة ملحة بالخلق تعبر عن نفسها بلغتين مختلفتين: الكلمة واللون. إلا أن الشاعرة التي تفتح وعيها على مآسي التاريخ حيث إنها مولودة لأبوين اختبرا معنى الخسارة والهزيمة، إذ فقدت الأم العالم الذي نشأت فيه عندما احترقت مدينة إزمير سنة 1923، فيما والدها شهد بمرارة انهيار الإمبراطورية العثمانية ومعها كل أحلامه، كانت تلجأ إلى الكتابة للتعبير عن حزنها، فيما الرسم بالنسبة لها كان لغة الفرح، تقول: “إن نظرتي المأساوية إلى العالم تمرّ عبر الكتابة، وفرحي بالحياة عبر الرسم”، وأيضًا “الرسم يأتي من فرحي. الكتابة تتصل بالحزن”4، مردّ ذلك ربما إلى أن الريشة أسرع استجابة إلى نداء الصوت الداخلي، أو أكثر حرية من القلم الذي لا بدّ أن يخضع لشروط اللغة ومنظوماتها الفكرية وقوالبها. الرسم أكثر عفوية، وأكثر لصوقًا باللعب الطفولي، فيما الكتابة أقرب إلى التأمل والتفكر. كانت إيتيل تمارس الكتابة بموازاة الرسم، تعمل في غرفة تتقابل فيها طاولتان إحداهما للكتابة، وثانية تغشى مساحتها الريشة والفرشاة والألوان وأقلام الرسم. قد تنتقل من واحدة إلى أخرى وفق ما تمليه عليها الحالة الوجدانية. لكأنها تنسج بين الحزن والفرح خيوطًا رفيعة، فلا يغرق الحزن في سوداويته، ولا يبلغ الفرح حدّ الاكتمال. كلاهما ضروري للحياة، كلاهما ضروري لنشعر بالوجود.
لم تكن أسباب الحزن عند إيتيل شخصية فقد عاشت حياةً هانئة، لكن حزنها كان يصدر عن مراقبة سير العالم، وعن وعي مظالم التاريخ: حروب الإبادة التي ارتكبت ضد الهنود الحمر، المجازر التي سقط ضحيتها الآلاف من الأرمن قبيل سقوط الإمبراطورية العثمانية، حرب فيتنام، حرب الجزائر التي سالت خلالها دماء مليون شهيد، الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956، هزيمة الـ 67، الحرب الأهلية اللبنانية، اجتياح العراق، الحرب في سوريا. إزاء كل هذه الأحداث الجسام كان لإيتيل مواقف تليق بالمثقف الملتزم قضية الإنسان.
وبالعودة إلى ما أوردناه في المقدمة، يمكن القول إن العنصر الثالث المؤثر في شخصية إيتيل عدنان وأعمالها الإبداعية هو إلى جانب الطفولة، وأحداث التاريخ، الطبيعة بما تختزنه من غنى وتنوع وجمالات. ولنا دليل على ذلك ما ورد في أحد الأحاديث التي أُجريت معها: “إن كتاباتي ولوحاتي ليس فيها اتصال مباشر بما هو في ذهني، وهما بالتأكيد يتأثران ببعضهما (…) كتاباتي مرتبطة بالتاريخ (ولكن ليس التاريخ فقط) ورسومي هي انعكاس لحبي الكبير للعالم وللفرح الآتي، وللطبيعة والقوى التي تشكل عناصرها”5. ولعل من بين مكونات الطبيعة الأكثر تأثيرًا في وجدان إيتيل ومخيلتها، اثنين: البحر والجبل. كانت في التاسعة عشرة من عمرها عندما كتبت أولى قصائدها تحت عنوان “كتاب البحر”، هذا البحر الذي تعلمت أن تسبح فيه وهي طفلة لم تتجاوز الأربع سنوات: “كنت أسبح في الرابعة من عمري كنت مذاك أشعر وأحس أنني أسبح في وجود مطلق… كتبت في شعري ما معناه: ما أحببت الرجل لأنني أحببت البحر أكثر من حبي للمخلوقات الأخرى”. كانت علاقتها بالبحر حسيّة وعاطفية في آن. البحر هو الحرية، والحركة الدائمة، هو نداء المغامرة والسفر إلى المجهول، هو المادة التي تجدد نفسها باستمرار، هو الأمواج التي تتناسل وتخصب نفسها بنفسها، هو الحياة والموت والتحول، وهو فوق وقبل ذلك كله عند إيتيل تجسيد رائع للأنوثة: “الطبيعة الأنثوية للمادة تنبثق كجوهر للبحر”6. يتكثف المعنى في هذه العبارة التي تنسج علاقة تماهٍ بين عناصرها الثلاثة، المادة والأنثى والبحر، وقد يشي ذلك باعتقاد لدى الشاعرة بأن المادة، تمامًا كما الأنثى، هي الأصل. هي تعشق البحر بكل أحواله وتقلباته، تتأمله فيصبح في الوقت عينه مادة للنظر وبؤرة تتفجر منها الصور التي تتوالد من ائتلاف الحواس والفكر والشعور والذاكرة والمخيلة: “البحر ولا شيء سوى البحر. جدار متشقق. بحر. بكرات، زيت. شفافية. البحر. بحر شاسع ومضطرب. الأمواج تندفع مستعدة للتقاتل”7. تجتمع المتناقضات في هذه الصور التي لا تخلو من الغرابة ويخرج المشهد من الزمن الأفقي ليتشكل على خط زمن عمودي يتماهى فيه الحاضر والماضي والمستقبل. فيبدو البحر في الوقت نفسه صفحةً هادئةً تخلو من كل حركة كأنه بقعة زيت -الصورة هنا نسخ لعبارة شائعة في اللغة الشفهية- وساحة معركة تتدافع فيها كتائب الأمواج المتقاتلة حين تضربه العاصفة. هي صور انطباعية تصدر تلقائيًا كأنها بنت اللحظة تتناثر على الصفحة البيضاء بإيقاع سريع كخفقات القلب أو كحركة الفرشاة حين تضع اللون على القماش. هنا الكتابة والرسم واحد. أحيانًا تنبع الصورة من عمق ذاكرة طفولية لا يلبث وعي الحاضر المأساوي أن يبددها: “موجة هي افتتاح؛ حصان يأتي، يستسلم ويغرق نفسه. سماء مخططة بالدم. ما هي السماء؟ تسلق جبال لتأمل الغيوم. والماء المتراكم على الماء يعكس صورة آليات الذاكرة”8. الحزن والفرح، الحياة والموت، الماضي والحاضر، يجتمعان في لحظة واحدة لحظة تأمل وخلق في آنٍ معًا. هي الشمس التي تغيب مساءً وتلون الأفق بدمها القاني تقف أمامها الشاعرة متأملة، فتجتاح ذاكرتها -كما الموجة- مشاهد تصعد من عمق الطفولة: حصان خشبي ربما، أو ذلك الطالع من قصص سندريلا والأميرة النائمة، طفلة تعشق تأمل الغيوم في الأعالي وتحلم بملامسة السماء. يكفي أن تلمع صورة واحدة في الذهن -“موجة هي افتتاح”- ليكرّ شريط الذكريات تتوالد وتتناسل تمامًا كما “الماء المتراكم على الماء”. يتبين لنا، إذن، أن الصورة الشعرية تقوم عند إيتيل على إلغاء المسافة بين مكونات المحسوس المتباعدة، وبين المحسوس والمجرد وتتأسس على منطق خاص مغاير للمألوف يؤسس للمعنى وينأى به عن الاعتباطية. كما أنها تجمع بين الفكر وانطباعات الحواس: “المطر يتساقط (…) بينما يجمع الرعد الطاقة ومجموعات من الأمواج تتحول إلى قطع موسيقية. والفكر يلتقط النغم ويبثه للعاصفة”9. هي عاصفة من الأفكار تجتاح الذهن حين الذات الشاعرة تصغي لأوركسترا المطر والبحر تعزفها العاصفة. هكذا تسقط الحدود بين الذات والموضوع وفق علاقة تشابك وتفاعل دينامي.
هذا الحضور القوي للبحر في عالم إيتيل الشعري، لا يضاهيه أهمية إلا حضور الجبل. ويعود ذلك ربما إلى نشأتها في لبنان حيث الجبل يطلّ على زرقة البحر ويغسل أقدامه في زبده، وحيث الثلوج تلمع على القمم فيما تراقبها عيون السواحل. لكن الجبل الذي خصّته الشاعرة بقصيدة طويلة “رحلة إلى جبل تملباييس” هو ذلك المنتصب قبالة منزلها في ساوساليتو، شمال كاليفورنيا، والذي ربطتها به علاقة عشق إذ رأت فيه كما يشرح عيسى مخلوف “مرآةً لتحولات الطبيعة بين الليل والنهار وعبر الفصول”10:
“الجبل يرسم
غيومه.
يرتعش الضوء
فوق أشجار الصبار.
والرغبة تغادر الجسد”11،
تاركة للروح متعة التحليق في فضاءات لا ترى بالعين بل تنفذ إليها البصيرة.
في مقدمة ترجمتها لـِ “رحلة إلى جبل تملباييس” حيث يلتقي السرد مع الشعر والتأمل الفلسفي، تكتب أمل ديبو: “هي رحلة في ملكات إدراكنا، رحلة الكشف عن منطقة فينا هي أبعد من الذهن والفكر والعقل والإحساس والشعور”، بمعنى آخر هي رحلة إلى تلك الذات المجهولة المقيمة في الأعماق والتي قد تكون صورةً مصغرةً عن الكون بما يختزنه من أسرار وحقائق: “وطدتُ علاقة سليمة بالكون. أتنقل بحرية بين الشمس والقمر، وأذهب أبعد وأغوص في ثقوب سوداء وأخرج منها سليمة”12. هي مغامرة قد تقود إلى الموت-الولادة، إلى التشتت حتى الاندماج بالآخر، كما في حالة الانخطاف عند المتصوفة: “أن نخرج من ذاتنا ونخلق مع الآخر لحظات خارقة هو السبب الحقيقي للوجود”13 تقول إيتيل، مدركةً أن الفن هو الطريق الأمثل لتحقيق ذلك. ثمة بعد روحاني واضح في كتاباتها ورسوماتها لكن روحانيتها لا تمر عبر الأديان بل تتجاوزها في نزوع نحو مطلق مجهول:
“الكائن أعزب
إنه ينزل
كالأنهار، ومثل الحدائق
ينطفئ على عتبة
المطلق”14.
ليس الكون إلا بعض من تجليات هذا المطلق الذي تحاول القصيدة القبض عليه في اللحظة الهاربة. “العالم قصيدة كبيرة وما نكتبه هو نتف تتجلى لدينا من هذه القصيدة”15. الجمال موجود حولنا في كل ما تقع عليه العين، كما في ما لا ينفذ إليه البصر، والفن ليس إلا محاولةً للإصغاء إلى أسرار الكون ووشوشات الطبيعة. لعل مأساة الإنسان المعاصر أنه في نظر الشاعرة قد قطع الحبل السُري الذي يربطه بأمنا الأرض، بل أكثر من ذلك أنه كالابن العاق تنكر لها وألحق بها الأذى. نقرأ في “رحلة إلى جبل تملباييس”: “أشعر أننا مخلوقات غريبة تجرِّح الأم الأرض، نأكل زرعها، ندوس عشبها، نحارب غيومها بقبضاتنا، ونربي أطفالنا لحروبٍ آتية” 16. لا خلاص حقيقي، إذن، دون العودة إلى الفطرة الأولى أي إلى التناغم والألفة بين الإنسان والطبيعة بمعنى آخر إلى إحياء الوعي بوحدة الكائن الطبيعي. تتجلى هذه القناعة عند إيتيل بلغة شعرية تلغي الحواجز بين الإنسان والنبات والحيوان، كأن تقول: “أيام المطر/ نستحيل نباتات”17، أو:
“مثل فتاةٍ تعرضت للضرب
كانت أوراق الزيزفونة ترتعش
وأغصانها تجفل كحصان”18.
هذا الإحساس المرهف بالطبيعة لا يتوفر إلا لقلب ملؤه الحب: “الحب، تقول إيتيل، هو السبب الوحيد للوجود. أن نخرج من ذاتنا ونخلق مع الآخر لحظات خارقة”19، هو الحب يجمع بين عاشقين حين تلاحم الجسدين معراج للروح، وهو الحب يشعل جذوة الثورة ضد الظلم والقهر وامتهان كرامة الإنسان. لقد كانت إيتيل دائمًا إلى جانب المظلومين، رافضةً للعنصرية والتعصب، مدافعةً عن حق الشعوب في تقرير مصيرها. من هنا كان إعجابها، بشخصيات تاريخية كبيرة مثل تشي غيفارا، المتمرد على الظلم وحامل شعلة النضال ضد التسلط، ومارتن لوثر كنغ المدافع عن كرامة الإنسان الأسود، ونيلسون مانديلا المناضل ضد نظام التمييز العنصري في جنوب أفريقيا، وعبد الناصر قائد ثورة 23 يوليو في مصر.
لم تتردد حين قدمت إلى الولايات المتحدة لتستقر في منطقة كاليفورنيا، في كتابة قصيدة تنتصر فيها للثورة الفيتنامية وفي الانخراط مع جماعة الشعراء الرافضين للحرب، وكتبت رائعتها الشهيرة باللغة الإنكليزية “يوم القيامة العربي” تعبيرًا عن تراجيديا العرب في العصر الحديث، واستشعرت الحرب الأهلية اللبنانية قبل حدوثها بعامين في قصيدة طويلة: “قطار بيروت السريع إلى الجحيم”، وبعد ثلاث سنوات من اندلاع هذه الحرب نشرت روايتها الشهيرة “الست ماري روز” مفتتحة بها ما عُرف فيما بعد برواية الحرب اللبنانية، حيث أعلنت انحيازها للفلسطينيين وقضيتهم مستوحية موضوع روايتها من حادثة واقعية بطلتها سيدة لبنانية مسيحية ارتبطت بعلاقة حبّ مع مناضل فلسطيني فدفعت ثمن ذلك حياتها بعد أن نالت نصيبها من التعذيب على يد المليشيات المسيطرة. وغداة الاجتياح الإسرائيلي لبيروت سنة 1982، كتبت إيتيل هذه العبارات التي تكشف عن تصدعات لا يزال المجتمع اللبناني يعاني منها إلى اليوم: “ليست إسرائيل وحدها من يجتاح لبنان، هذا البلد الصغير تجتاحه أيضًا ثقافة السطحية والابتذال”20. أما الاجتياح الأمريكي للعراق عام 2003 فقد كان كافيًا ليقضّ مضجع الشاعرة التي حملت مآسي الشرق الأوسط معها إلى باريس:
“كنت أستطيع الذهاب إلى المقهى المجاور
أتأمل البرد وهو ينسلّ إلى الخارج
بينما أنعم بالدفء، أو حتى بممارسة الحب،
بيد أن القنابل كانت تنهمر على بغداد”21.
لم يكن اهتمام إيتيل بالمشكلات السياسية نابعًا من تبنّيها لعقيدة أو أيديولوجيا أو حزب معين، فهي لا تؤمن بالحقائق الجامدة القاطعة، تقول:
“الحقائق
هي متاجر كبيرة
حيث نصعد مشيا
أو بالسلالم الكهربائية
ولا نعود أبدًا”22
انشغالها الأول والأخير هو بالإنسان وبحقه في الحرية والكرامة. وهي لم تكتب أدبًا سياسيًا أو ملتزمًا بالمعنى الضيق، بل أعلنت على الدوام نصرتها للضعفاء والمظلومين والمهزومين أينما كانوا وفي كل زمان. تقول:
“لا مجال للخوف من هؤلاء
الذين يلعنون تمردنا
الكلمة الأخيرة ستكون للمهزومين” .
في شعرها تمرد على السلطة وتحريض على الثورة والرفض لأن عشق الحرية أقوى من ظلمة السجون:
“في خلايا السجون الأكثر عتمة
ثمة نور يضيء
العالم”
ونقرأ في موضع آخر:
“قرون من ممارسات محاكم التفتيش
لم تستطع هدم لغة
الريح”؛
تؤمن بالحرية وبقدرة الشعوب على التحرر والنضال:
“ثمة شعوب عيونها
لا تموت أبدًا
وهي تملأ الفضاء
الكبير
الهنود الحمر بصدد
المجيء
لديهم مناجل لقطع الأعشاب
العالية التي تغطي
وجه الشمس” .
رأت إيتيل أن مأساة الهنود الحمر تتجدد في التاريخ الحديث من خلال النموذج الفلسطيني. فقد اقتلع الشعب الفلسطيني من أرضه فيما الاحتلال الإسرائيلي يمارس ضده من أعمال القتل والعنف ما لا يقلّ خطورة عن حروب الإبادة. لذلك لا تغيب فلسطين عن شعرها، وليس في ذلك مجرد تعبير عن انتمائها للعروبة بل إيمانًا منها بأن القضية الفلسطينية هي قضية الإنسان بامتياز، ولعلها بسبب ذلك لا تفقد الأمل بقيامة آتية وإن كانت التضحيات كبيرة والطريق شائك وطويل:
“ثمة دم
في هذا الضياء
ورائحة ما بعد الموت
في سهول
فلسطين”.
لعل الشعراء وحدهم يستطيعون رؤية النور في آخر النفق المظلم، ربما لأنهم يسكنون الحلم ويتوقون إلى المستحيل، ولأنهم يعرفون كما تقول إيتيل أنه “إذا لم يكن لك وطن/ سيبقى لك الكون/ صديقًا” كتبت إيتيل باللغتين الفرنسية والإنكليزية لعدم تمكنها من اللغة العربية، نظرًا لظروف نشأتها، لكنها في منفاها الطوعي بين باريس وكاليفورنيا، بقيت لصيقة بقضايا الإنسان العربي، رافضة لقوى الجمود والتقليد المتمثلة بسلطة الحكام، معاديةً للاحتلال. هي المتعددة الأصول، المركّبة الهوية، المتحررة من القيود كما من الانتماءات الضيقة، اختارت الترحال طريقة حياة وجسدت في كتاباتها وأعمالها التشكيلية نموذج الفنان الشاهد على العصر والمتجاوز في الآن نفسه باتجاه الحلم ومستقبل أفضل للإنسان على هذا الكوكب.