أحبه وأقدره ، وأدين له بفضل جليل ، بدون أن ألقاه ، فحين حططت رحالي في مدينة الشارقة عام 1975 كانت قد مرت على رحيله المفاجئ سنتان ، لكنني وقعت على كتابه الجامع «الأدب المعاصر في الخليج العربي» فكان لي نعم المدخل إلى الحياة الأدبية والثقافية في منطقة الخليج . ومع كل ديوان شعر أو قصة أو كتاب له كنت أطالعه ، زادت معرفتي به وزادت محبتى وتقديري وعرفاني له . وقد توج ذلك بأعماله الكاملة التي شرفني بها نجل أديبنا ، الابن الوفي والمحامي النابه الأستاذ جهاد الطائي ، وبها اكتملت في ذهني صورته وإبداعاته ودوره التنويري الرائد في المنطقة .
كان الرجل طاقة متوقدة متوهجة منذ تفتح وعيه على واقع وطنه والمنطقة ، وعلى تيارات الثقافة العربية الزاخرة ، وعلى حركة المد الوطني والقومي في الوطن العربي ، وهو في كل ذلك كان استجابة متفاعلة رائعة للظروف والتحديات ، تجلى فيها أشبه بمؤسسة متكاملة لا يفتر لها عزم ولا يهدأ لها نشاط . ومن خلال هذه التجربة الغنية تبلورت فيه سمات مميزة جعلته ــ بدون مبالغة ــ نسيج وحده ، وكان من أبرز تلك السمات أنه عاش رائدا بلا حدود ، وأنه انفرد أو كاد بتمثيل الوجه الثقافي لوطنه عمان ، في فترة صعبة من تاريخها الحديث خيمت عليها طوالها ظلال داكنة من الركود والعزلة عن حركة حياة أشقائها والعالم .
في عام 1924 كان مولده في مسقط ، في أسرة دينية وأدبية ، عمل بعض شيوخها بالقضاء ، وعرف بعض آخر بنظم الشعر ، فكان من الطبيعي أن ينشأ الطفل مفعما بحب الاطلاع والوعي الديني والميول الأدبية .
(1)
وعمان معروفة في التاريخ القديم مهدا ناضرا للعلوم الإسلامية ولفنون اللغة والآداب العربية حتى قيل فيها : « باض العلم بمكة ، وفرخ بالمدينة ، وطار إلى البصرة ، ثم نهض إلى عمان». وهي أيضا معروفة بالمجد الشامخ الذي امتد عبر البحار إلى إفريقيا غربا ، وإلى آسيا شرقا . لكن كل ذلك آل إلى الغروب ، وجثم على صدرها ليل طويل مظلم ثقيل من القهر وسيطرة الاحتلال الأجنبي والتخلف ، حتى إنه لم يكن في أرجائها كلها ــ حين ولد الطائي ــ مدرسة حديثة واحدة . ولكن في عام 1926 ــ بعد مولده بعامين ــ أنشئت في مسقط أول مدرسة ابتدائية في تاريخها الحديث . وبعد أربعين سنة ، كتب عـبد الله الطــائي في وصف حالـها : «مدرستنا الابتدائية في مسقط ما زالت حتى عام 1966، كما كانت منذ عام 1940 : مدرسة ذات ستة صفوف ، ليس القصد منها إلا إخراج كتبة بسيطين للدوائر ..»
المهم أن الطفل النابه كان من حظه أن دخل المدرسة السعيدية تلك ، وفيها تلقي معارفه الأولى التي شحذت استعداداته ، فراح ينهل من كتب التراث الفقهي والأدبي التي تزخر بها عمان . وسرعان ما لاحت عليه أمارات النجابة وحب الأدب وموهبة الشعر ، كما اشتعل بين جوانحه الشوق والتطلع إلى مواصلة تعليمه .
ومرة أخرى كان الفتى على موعد مع القدر ، فقد تقرر إرسال أول بعثة تعليمية للدراسة الثانوية في بغداد ثم البحرين عامي 1939 , 1940. وكان اسم عبدالله الطائي بين المحظوظين الأربعة أعضاء البعثة ، فكانت تلك هي الخطوة الأولى في رحلة الألف ميل في مجال التواصل والتفاعل مع الأشقاء والحياة الثقافية العربية ، وإضاءة الطــريق لرحـلة العـطاء وخدمة الوطـن والمبادئ الـوطنية والـقومية ، تلك الرحلة التي امتدت بلا حدود ..
في العراق والبحرين ، لفت عبدالله الطائي وزملاؤه الأنظار بتفوقهم واتساع معارفهم الدينية واللغوية والأدبية ، لكنهم أفادوا كثيرا من معاينة أحوال الأشقاء الذين سبقوا على طريق النهضة ، ومن الاطلاع على صحافة النهضة والتنوير العربية التي كانت تسري من مصـر تحمل زادا وافـرا من ثمار الفكر الحــر وأنوار
(2)
الدعوة إلى الإصلاح والتجديد ، مثل مجلتي «الأنصار» و«الشورى» . وكان من أعم آثار تلك البعثة في نفس الطائي أنها كشفت مدى جهل الأشقاء بوطنه العزيز عمان ، الأمرالذي كان مما حدا به ــ فيما بعد ــ إلى هجرة وطنه وانتداب نفسه للتعريف بأحواله ، وثقافته وأدبائه ، وحفز همم أبنائه و نضالهم ضد الاحتلال الذي كان يجثم على صدره ، والقهر والاستبداد الذي كان يخنق أنفاسه .
عاد الطائي وزملاؤه إلى مسقط . وكانت عودتهم حدثا ومناسبة وطنية أنشد لها الشعراء ، وعلى رأسهم أستاذهم الشيخ هلال بن بدر الذي قال :
يا فتيـة رفعت مكان بلادهـا
طابت عناصركم وطاب المولد
يا بعـثة عقـدت بها آمـالــنا
مـرحى لأمسـكم وطاب لكم غد
واشتغل الطائي بالتدريس ، لكن روحه كانت تحلق بعيدا وعاليا بلا حدود ، تطلعا وطموحا إلى دور رآه قدره ورسالته ، فقرر الرحيل وقلبه يتمزق .
لم يكن القرار سهلا، وإنما كان كأس نار رأى نفسه مضطرا لتجرعها . ويحفل ديوانه الأول «الفجر الزاحف» أكثر من قصيدة تتناول ترحله وغاياته ومن ذلك قوله :
وماذا يقول الذي قد رآك
تهاجر والعذر لا يدفع
تركـت بـلادك عن مبــدأ
وحقا هو المبدأ الأرفـع
إذا عجز الحر عما يروم
وعز على قوله موضع
فخير له أن يجوب الفلاة
فلا هو ينتظر أو يسمع
واستطاع السفر إلى باكستان التي أسسها مسلمو الهند بعد تقسيمها سنة 1947 .
(3)
وهناك عمل الطائي بتدريس الفقه واللغة العربية ، كما عمل بالقسم العربي بالإذاعة الباكستانية . وقد استطاع في تلك الفترة أن يتعلم اللغة الأردية ، وأن يترجم إليها بعض الكتب العربية .
كانت قلوب المسلمين في العالم آنذاك مشدودة إلى باكستان ،وتعقد آمالا كبارا على دورها في خدمة الإسلام والمسلمين ونهضتهم . وقد تجلى ذلك في المؤتمر الإسلامي الذي انعقد في كراتشي سنة 1948 ، والذي أنشد له الطائي وناشده إنقاذ فلسطين مما يحيق بها ، وكان مما قال :
يا مـرحبا باليـــوم فيــه تأكــــــدت
للــعـالمـــين أخـــوة الإســلام
الــقــدس دنس ، واستهـين بأهــله
وكتـاب أحـمـد ديـس يالأقــدام
ومن الباكستان ترحل الرائد بلا حدود إلى البحرين ، حيث سجل في تاريخها الثقافي صفحة مضيئة رائدة . عمل بالتدريس ، وفي مديرية الإعلام ، وفي التحرير الصحفي بمجلة «صوت البحرين»، وكان له دور مرموق في إثراء الحركة الأدبية ، وتأسيس بعض الأندية الثقافية ، ورفع صوت الدعوة إلى تحرير الوطن ونهضته ووحدة الأمة ، في أرجاء الخليج والوطن العربي الكبير .
وعلى مدى تسع سنوات حافلة عاشها في البحرين ، ساهم الطائي أجل المساهمة في تربية جيل جديد من أبناء البحرين ، صار فيما بعد من أبرز الملامح الواعية في البحرين . لكن سلطة الاحتلال الغاشمة التي كانت تجثم على صدر البحرين آنذاك راحت تضيق عليه الخناق ، فلم يكن أمامه إلا شد الرحال ، والمغادرة مرغما في ألم :
(4)
وداعـا بلاد الخــــير والمجـــد إنني
نأيت على رغمي وفي كبدي ظما
فمالي وهجر الصحب والأرض قدرة
ولكـنه خصــم عـــتـا وتحـــــكـما
ومذ خاب في تفــريقنا مبدأ ، قـضى
بتفــريقـنا أرضا ليكـسب مغــنما
فـمهمــا يكـونوا في قــواهــم فـإنـنا
بإيمانـنـا نــبقى أعــز وأعـظــما
كانت الكويت قبلته سنة 1959 ، وفيها عاش تسع سنوات كانت أغنى سنوات عطائه ، ففيها عمل في رئاسة المطبوعات والنشر بوزارة الإعلام ، وعمل نائبا لرئيس تحرير مجلة «العــربي»، ورأس تحــرير مجلة «الكـويت»، وساهــم في تأسيس رابطة الأدباء ومجلتها «البيان»، وراح يكتب فى الصحافة ويذيع في الإذاعة معرفا بالتاريخ والحركات الأدبية والأدباء في عمان والخليج والجزيرة العربية والوطن العربي ، داعيا إلى نصرة القضايا العربية ، قضايا التحرر الوطني والنهضة والتقدم وتوحيد القوى .
كانت سنوات البحرين و الكويت ــ الخمسينيات والستينيات ــ هي أخصب سنوات النضال والمد القومي العربي ، وتجلى ذلك في شعر عبدالله الطائي الذي كان مرآة شفافة للأحداث ، فمجَّد صمود بورسعيد الباسل في وجه العدوان الثلاثي ، وحدا ثورة الجزائر وحنا على جميلة ، وحيا النضال و الثورة في المغرب والعراق وفلسطين ، ولم يدع خبرا عن وطنه عمان وأعلامها إلا أنشد وشدا له ، فياض القلب بالحنين الجارف إليه :
(5)
أبــدا على عـيني وملء فــؤادي
تبدو رؤاهــا رائحا أو غـــادي
فكــأنما هي للـــفــــؤاد نجيـــــة
وكــأنــها للـعــين نـور هــادي
وخلال سنوات الكويت ، انتدب الطائي ــ عامي 63 و 64 ــ نائبا لرئيس مكتب الكويت في دبي ، حيث تابع وتفاعل مع بشائر نهضة دبي الحديثة . وفي عام 1968 دعاه الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان للعمل مستشارا له ونائبا لرئيس دائرة الإعلام ، حيث ساهم مساهمة جليلة في دفع مسيرة النهضة التاريخية في أبوظبي والإمارات . وفي عام 1969 ، دعاه معهد البحوث والدراسات العربية بالقاهرة التابع لجامعة الدول العربية ، لإلقاء محاضرات على الدارسين به عن الأدب العربي في منطقة الخليج ، فكانت حصيلة محاضراته كتابه الرائد «الأدب المعاصر في الخليج العربي» الذي يعد أول دراسة شاملة تلقي الضوء على أدب الخليج والعوامل التي أثرت فيه ، وتطوره وأغراضه ، وأعلامه الذين قدم منهم أكثر من ستين شخصية أدبية . وقبله وبعده قدم نخبة من الكتب القيمة :
في الشعـر قـدم دواوينه « الفجــر الزاحف» و«وداعا أيها الليل الطويــل» و «حادي القافلة». وفي القصة قدم مجموعة «المغلغل» وروايتي «ملائكة الجبل الأخضر» و«الشراع الكبير» التى تحكي قصة الكفاح العماني وانتصاره على الغـزاة البرتغاليين في منتصف القرن السابع عشر . وفي المقـالة والدراسـات قــدم «دراسات عن الخليج العربي» و«شعراء معاصرون» و«تاريخ عمان السياسي» و«مواقف» .
وفي يوليو 1970 بدأ عهد جديد في عمان بحركة التصحيح التي قادها السلطان قابوس ، فأسرعت طيورها المهاجرة وفي مقدمتها عبد الله الطائي إلى العودة إلى الوطن للمساهمة في بناء الحياة الجديدة . وتولى وزارة الإعلام ، والشؤون الاجتماعية والعمل .
(6)
ومرت الأيام ، والفارس لا يترجل ولا يستريح ، وإنما يواصل رسالته في بناء الوطن الذي أحبه ، وارتحل بلا حدود حاملا همومه وآماله بين ضلوعه ، وفي إقامة جسور التواصل وتوثيق عرى الترابط والوحدة بين روافد نهر الثقافة العربية في الخليج والوطن العربي . لكن الأيام لا تمهله ، ففي اليوم الثامن عشر من يوليو 1973 فاضت روحه فجأة في مدينة أبوظبي ، مودعا ضمير الأجيال رسالته النبيلة وكلمته المستنيرة :
=من حياض الحب إنا قد شربنا
فنهـلنا من رؤاها وارتـوينـــــا
فلأجـل الوصــل ما نحن بذلنا
قد تحدينا ، وها نحن انتصـرنا
طوال حياة الترحل الشاقة والخصبة معا ، كان الرائد بلا حدود عبدالله الطائي نسيج وحده ، يمثل بصدق وجلاء الوجه العماني الثقافي الجميل ، ولا تكاد الأوساط الأدبية والثقافية العربية الحديثة تعرف من أبناء عمان المبدعين الكثر وجها آخر غيره ، طوال عهد الركود المظلم قبل حركة التصحيح . الطائي كان السفير الثقافي الكفء لوطنه لدى الحياة الثقافية العربية ، وكان صوت الإبداع العماني الجهوري بعد أن غُـيِّب طويلا وراء أسوار العزلة ، بل إن الطائي كان من أبرز وأخلص دعاة التنوير والوعي القومي والنهضة الحديثة ، والمساهمين عمليا في مسيرتها ، في كل أقطار الخليج ، الأمر الذي يستحق التقدير والوفاء والعرفان له . وأنا أذكر أنني في يوليو 1983 ، في الذكرى العاشرة لرحيله ، كتبت مقالا بجريدة «الاتحاد» الإماراتية بعنوان «ذكرى جديرة بمهرجان» طالبت فيه الأدباء والمؤسسات الثقافية في دول الخليج بعقد مهرجان تكريم ووفاء للرائد العظيم . وأعتقد أن الدعوة مازالت قائمة ، بل صارت أكثر إلحاحا وضرورة ، بل دينا في أعناقنا .
عبد الوهاب قتاية