– ماكوتو – أوكا: شاعر وناقد ياباني معروف جدا..ولد عام ا 193 في مدينة صغيرة غرب طوكيو.. من بين أهم أعماله الشعرية: “الذاكرة والحاضر”، “الربيع..الى فتاة”، “في مدن الاعشاب”. له أعمال نقدية كثيرة تتناول بخاصة الشعر الياباني من القديم الى الحديث. ومن بين أهم هذه الأعمال يذكر عادة كتابه:”الحداثة في التعبير”. وقد جمعت مؤلفاته في “أعمال ماكوتو – أوكا الكاملة”. نال أهم جوائز اليابان الأدبية. يمتاز بقدرة هائلة على توضيح خصائص الشخصية اليابانية الغامضة عموما، ولاسيما في الشعر والفنون الأخرى. وهذا ما يستطيع القاريء العربي لمسه في هاتين المحاضرتين حول التقاليد الشعرية اليابانية اللتين ألقاهما ماكوتو – أوكا في “ الكوليج دو فرانس” بفرنسا في شهر أكتوبر سنة 1994، واللتين نقدمهما للقاريء العربي كما هما بطراوتهما.
سوثماوارا – نو- ميتشيزاني: شاعر و سياسي أو مثال الشرخ الذي يفصل الشعر الياباني عن الشعر الصيني
– 1 –
في البداية أود التعبير عن عميق تقديري لإدارة “الكوليج دو فرانس” التي منحتني شرف تقديم محاضرتين في هذه المؤسسة العلمية العريقة. وهذا الشرف يتجاوزني ليصل الى الشعر الياباني في مجموعه، ويشهد على فضولية مليئة بحسن التفات الى مجال لا يزال مجهولا بالنسبة الى الجمهور الفرنسي والغربي عموما. لذلك يبدو لي أن الكلام على الشعر الياباني تحد مثير أرجو من خلاله النجاح في الإجابة على بعض فضوليتكم، كما أرجو إثارة اهتمامكم ما أمكن ذلك. “سوثماوارا -نو – ميتشيزاني” هو الشخص الذي أريد أن أتحدث عنه اليوم أمامكم. لقد كان واحدا من رجال الدولة، وواحدا من رجال الأدب الأكثر أهمية في يابان الأزمنة القديمة: شاعر فحل، ومثقف لا نظير له، استطاع أن يصل الى أعلى مراتب السلطة السياسية، قبل أن يقال من مناصبه في ظروف مأساوية وبعد أن عاقبته العاصمة، مات ميتا فظيعة في منفاه.
وقبل الكلام المباشر عليه، أود الإشارة الى المحيط الاجتماعي والثقافي الذي أفرز رجالا مثله. نقصد بعصر “هييان”، وعلى صعيد تاريخي بحت، القرون العدة التي بدأت خلالها اليابان تنعتق نسبيا من تأثير الحضارة الصينية الهائل، وأخذت بطريقة واعية تشكل ثقافتها الخاصة، يغطي عصر “هييان”، تقريبا، الأربعمائة سنة الممتدة من بداية القرن الثامن الى بداية القرن الثاني عشر. إن المائتي سنة الأولى من أغنى المراحل بالأحداث المهمة والغارقة، سواء على الصعيد الأدبي أو التاريخي. فخلال هذين القرنين تم إنتاج أبدع الأعمال الشعرية والنثرية: “سوثماوارا -نو ميتشيزاني” كينو-تسورايوكي” إيزومي. شيكيبو” في الشعر؛ “موراساكي-شيكيبو”، ساي-شوناثمون” في النثر. ما يلفت الانتباه في هذه المرحلة بالذات، هو أنها تعتبر العصر الذهبي لأدب انتجته نساء أشهرهن: “إيزومي. شيكيبو”، “موراساكي – شيكيبو”، “ساي شوناثمون”. وجميعهن ظهرن في وقت واحد تماما: بين نهاية القرن العاشر وبداية القرن الحادي عشر. كان بينهن في حياتهن الخاصة كما في نشاطهن الأدبي، وبصفتهن سيدات شرف أو وصيفات في البلاط الامبراطوري، روابط صداقة أو – حسب الحالات – روابط منافسة شديدة… وذلك قبل أن يمتن في العزلة دون أن يعرفن عظمة الأعمال الأدبية التي كن قد أنجزن.
الآن وقد مضى ما يقارب الألف سنة، فإن آثار هؤلاء السيدات الأدبية لا تزال محل تقدير وإعجاب. ومن الأصح أن يقال إن جمهور قرائها في تصاعد مستمر، إضافة الى أنها قد نقلت الى لغات عدة من بينها الفرنسية. لكن عددا قليلا جدا من اليابانيين يستطيع اليوم تناول هذه الآثار في نصها الأصلي. وبفضل الترجمات المتع”ة الى اللغة اليابانية المعاصرة، نستطيع مثلا أن نأنس بقراءة “سيرة كانجي” أو "يوميات وسادة” وبفضل الشروحات والتعليقات، أيضا المخصصة لذلك فقط، نتعلم كيف نتذوق ونقدر قيمة “قصائد” أو “يوميات” السيدة “إيزومي –شيكيبو”.
يكمن تفسير هذه الوضعية فيما عرفه اللسان الياباني المكتوب من تغيرات مفاجئة وطارئة خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أي خلال المرحلة التي يشار اليها عادة بعبارة “إصلاحات ميجي” والتي تتقاطع مع انفتاح اليابان على الأجانب وعلى التغريب والتحديث. هذا التغير اللساني المفاجيء جعل اليابانيين غير قادرين على قراءة النصوص الكلاسيكية مباشرة وبسهولة إلا إذا تدربوا عل هذه القراءة بشكل منهجي منظم.
لكن على الرغم من هذه الصعوبات، نجد أن عملا مثل “سيرة كانجي”، والذي ترجمته مرات عديدة، بحرية وتصرف، الى اللغة اليابانية الحديثة، كاتبات متعددات، لا يزال يتمتع بشعبية كبيرة، لحد أنه نقل الى إطار كتب الصور، والقصص المصورة، والرسوم المتحركة على شاشة التليفزيون. ولو بعثت “موراساكي – شيكيبو” من جديد في عصرنا لصعب عليها بالتأكيد التصرف على النص الذي كتبته هي نفسها، وذلك بسبب ما تعرض له من تحولات.
هناك عدة أسباب تكمن وراء الظهور المتزامن – بين نهاية القرن العاشر والنصف الأول من القرن الحادي عشر – لهؤلاء الكاتبات العبقريات حقا مثل “موراساكي – شيكيبو”. أولا، ينحدرن جميعا وبلا استثناء من عائلات ارستقراطية متوسطة ومثقفة جدا، ومنذ الطفولة الأولى تلقين تعليما نوعيا مميزا أعده لهن الآباء. ثانيا باعتبارهن سيدات شرف في حاشية زوجات الأباطرة المساعدات (كان لكل امبراطور عدة زوجات، هذا دون حساب العلاقات العابرة)، كن يعشن في قلب مجتمع البلاط، وبالتالي كانت لهن – وهذا شي ء نادر بالنسبة الى نساء ذاك العصر- اتصالات مثرية مع رجال من الطبقة النبيلة التي كن يعرفنها بشكل عميق. أحيانا كان يمكن لعلاقة بسيطة مع أمير امبراطوري أن تجعلهن مشهورات جدا، وهذه حالة الشاعرة “إيزومي – شيكيبو”.
أما كاتبتا النشر “موراساكي – شيكيبو” و “ساي – سوناثمون”، فلم تكن رواياتهما أو نصوصهما الأدبية تترك أثرا عميقا لدى سيدات الشرف الأخريات وحسب، بل كان الجميع ينتظر ما تكتبان، وكانت نساء الأباطرة يقرأن كتاباتهما بشغف وفضولية. كما كانت لهما لدى الرجال حظوة رفيعة. ومن هنا تلك المباريات الفطرية بين هؤلاء الكاتبات، ومن هنا أيضا نشوء وتطور منافسات أدبية عالية المستوى في البلاط الامبراطوري، وهذا ما أتاح للكاتبتين إعطاء عملين مثل “سيرة كانجي” و”يوميات وسادة”، دون أن تفكرا يوما بأن هذين العملين سوف يعتبران بعد عشرة قرون جزءا من كلاسيكيات الأدب العالمي.
إن الشاعرة “إيزومي – شيكيبو”. قد تركت في سجل قصائد الحب نصوصا نلمس فيها حقا علامات العبقرية. لقد كتبت في إطار شكل “القصيدة اليابانية الموجزة “ -أي شكل “الوكا” -أعمالا عديدة لم يقدر على مجاراتها شعراء العصر نفسه، من الرجال والنساء أعمالا تطغى عليها سوداوية عميقة ورؤى فلسفية حول الكائن البشري.
عندما نتأمل منجزات هؤلاء النساء في المجال الأدبي، يجب أن نحترس من نسيان قضية في غاية الأهمية: أي الدور الذي لعبه نظام الكتابة المستخدم من قبل مثقفي ذاك العصر. فالرجال الذين كانوا يعملون كموظفين في البلاط – وهم ممثلو الأوساط الثقافية آنذاك – كانوا يجدون طبيعيا أن يكتبوا أعمالهم الأدبية بالحروف الصينية، وبالأسلوب المعروف بـ “كاميون”: شكل هجين صيني -ياباني لا علاقة له باللغة اليابانية المحكية. كان اتقان أسلوب “الكامبون” معيارا حاسما للحكم على كفاءة ومهارة موظف البلاط. من جهة أخرى، كان يجب على من يكتب نثرا جميلا الضلوع، ليس فقط في مجالات الحقوق والاقتصاد والدبلوماسية والسياسة الداخلية والتاريخ بل وفي الآداب أيضا، وهذا ما قد يبدو مفاجئا. والذي سأتكلم عنه بعد قليل، أي “سوثماوارا – نو – ميتشيزاني”، هو واحد من هؤلاء البشر النادرين: يسبق النساء اللواتي ذكرتهن آنفا بمائة عام. إنه شخصة ذات أهمية استثنائية وشاعر رائع أيضا.
لكن قبل الحديث المباشر عنه، أريد الوقوف قليلا عند الموضوع السابق: أعني الكتابة التي كان يستخدمها المثقفون اليابانيون آنذاك أثناء صياغة أعمالهم الأدبية.
قلت آنفا أن الرجال – سواء في الشعر أو في النثر –كانوا يستخدمون الأحرف القادمة من الصين كما هي للكتابة بأسلوب صيني. ومن السهل أن نجد بفرنسا ما يقابل هذه الظاهرة: في العصر نفسه تقريبا، ولكي تتشكل اللغة الفرنسية. مرت بسيرورة استعارات من اللاتينية ومن الألسنة الرومانية. فأناشيد الفروسية المعتبرة أول الأعمال الأدبية المكتوبة باللغة الفرنسية، قد ظهرت في النصف الثاني من القرن الحادي عشر، أي بعد عقود عدة على ظهور كتاب السيدة “موراساكي – شيكيبو” “سيرة كانجي” الذي رأى النور في بداية القرن الحادي عشر.
قبل ذلك، كانت لغة المثقفين الرسمية، سيما على صعيد النص المكتوب، هي اللاتينية التي كانت تلعب دورا مماثلا لدور "الكامبون”، أي الصينية الكلاسيكية، في اليابان.
عرفت اللغة اليابانية في مجال الكتابة، سيرورة انعطاف مشابهة لما عرفته اللغة الفرنسية مقارنة باللاتينية. ففي العصر الذي أتحدث عنه،تولد عن الأحرف الصينية – وكانت حكرا على الرجال – ما نسميه بأحرف الـ”كا-نا” التي سرعان ما تبنتها النساء. والواقع إن هذه الأحرف الجديدة، ولكي تترجم الأصوات نفسها، تحتوي على أبجديتين مقطعيتين مختلفتين: هما “الهيراثمانا -والكاتاكانا”.
حروف “الهيراثمانا” عبارة عن نظام نقل وتدوين حصل عليه من خلل تبسيط شديد جدا لبعض الحروف الصينية التي – حتى بعد تبسيطها – تحافظ على نطقها الأساسي (أي نكتب الحرف الصيني ــ والأفضل أن يقال الرسم الصيني (ideogramme) ـ بحرف “هيراثمانا” واحد دون أن يتغير النطق والفرق هو أن للرسم الصيني معنى، لكن لا معنى لحرف الهيراثمانا” بذاته. م ). أما حروف “الكاتاكانا” فهي مثل الأولى، حصل عليها انطلاقا من الحروف – الرسوم الصينية، لكن بدلا من تبسيط كل الحرف – الرسم الصيني، اكتفينا هذه المرة باقتطاع جزء منه.
لكن حرف رسم صيني في الأساس، صوت ومعنى في آن. أحيانا، يمكن لحرف -رسم واحد أن تكون له تشكيلة كبيرة من المعاني، غير أن حروف “الهيراثمانا” و”الكاتاكانا” هي ببساطة مجرد مقاطع صوتية لا غير وليست لها في ذاتها أية دلالة. إذن، هي من حيث المبدأ شبيهة بأبجدية اللغات الأوروبية وكذلك الكتابة بها.
إن اكتشاف الكتابة هذه، أي كتابة الـ- “كانا” من الأهمية بحيث يمكن اعتبارها من بين كبرى الاكتشافات ليس في اليابان وحسب وإنما في العالم كله. ويبدو أن حروف “الهيراثمانا” و “الكاتاكانا” قد تبلورت تماما وبدأ استخدامها بشكل واسع في أوائل عصر هييان، أي حوالي بداية القرن الثامن.
مما لا شك فيه أن جمالية حروف “الهيراثمانا” الخاصة، حيث تسيطر على شكل الحرف الالتواءات، دفعت النساء الى استخدامها في الكتابة بشكل واسع ولهذا كانت تسمى في ذلك العصر بـ “أونا – دي” أي وحرفيا “يد امرأة”. يعني حسب الحالات “نص كتبته امرأة” أو “كتابة نسوية”. وهذه الحروف التي كان يمكن أن يظن بفقرها الشديد على صعيد الخط المكتوب، بدأت تلعب دورا جديدا تماما. فسرعان ما ثبت بالممارسة أنها، ومن أجل كتابة اليابانية المحكية، أقدر بكثير من الحروف -الرسوم الصينية المتخصصة باللغة المكتوبة.
لم تكن قصائد “الواكا” لتنفصل في جوهرها عن القراءة بصوت مرتفع، وتكشفت حروف “الهيراثمانا” عن مقدرة استثنائية لمن يريد تدوين تلك القصائد، لأنها تتيح كتابة نطقية أمينة لأشعار “الواكا” كما أنشدت. والحالة هذه، كان شكل “الواكا” أيضا، طريقة التعبير الوحيدة عن المشاعر، لحد أن علاقة حب ما لم تكن واردة دون الاعتماد على هذه الصيغة الشعرية. ولذلك وجب على الرجال الاسراع في إتقان هذه الحروف.
وهكذا لم يعد بإمكان اليابانيين الاستغناء عن حروف “الهيراثمانا” ولا عن حروف “الكاتاكانا” هذه الطريقة الأخرى للتدوين النطقي والتي سرعان من قدرها الرجال وتعلموها ـ هذه الظاهرة تحديدا، هي التي أتاحت للأدب في عصر “هييان” أن يكون فاتحة عصر ذهبي. هكذا يعتبر وضع كتاب “ديوان قصائد الواكا القديمة والحديثة”، (كوكين واكارشو) في مجال الشعر من أهم أحداث بداية القرن العاشر. أما في النثر، فقد تتابعت خلال القرن الحادي عشر كتب مثل “قصص العظمة – البهاء” من المعروف أن كتابي: “سيرة كانجي” و”يوميات وسادة” هما لكاتبتين. أما عن كتاب: قصص العظمة –البهاء” ذي الأهمية الكبرى على صعيد ولادة “الرواية التاريخية”، فإن هوية مؤلفه غير مؤكدة لكن الأرجح هو أنه لـ “أكاسومي-امون” هي الأخرى سيدة شرف في البلاط وتمتاز بذكاء حاد.
بالمقابل، نجد في “ديوان قصائد الواكا القديمة والحديثة” – هذا الجامع الحقيقي لنفائس الشعر الياباني ذاك العصر والعصور -السالفة -أن الشعراء الأكثر فحولة هم من الرجال في الغالب. لكن هنا أيضا. نستطيع أن نلمس في كل صفحة الى أي حد كان تأثير الثقافة النسوية سائدا وقويا.
باختصار شديد، إن اكتشاف كتابة الـ “كانا” وتحليق الأدب النسوي هما الميزتان الكبيرتان لتلك المرحلة من عصر هييان.
-2-
ان وقت الحديث عن “سوثماوارا – نو- ميتشيزاني” الموضوع الرئيسي لهذه المحاضرة.
يعتبر “ميتشيزاني” أكبر شاعر في بداية عصر هييان، أي في زمن كان فيه البلاط الامبراطوري، والارستقراطية اليابانية، يعيشان تحت تأثير الثقافة الصينية الشديد. وهذا تماما قبل العصر الذهبي للأدب النسوي الذي تحدثت عنه منذ قليل، وقبل انتشار حروف الـ “كانا” التي ستعطي هذا الأدب دفعة قوية. لكنه – أي ميتشيزاني – كان أيضا مثقفا كبيرا، ضليعا في البوذية والكونفوشية دفعة واحدة، كما كان رجل سياسة استطاع بعد بدايات دبلوماسية موهوبة،أن يتوصل الى مرتبة وزير اليمين، أعلى مرتبة في الحكومة آنذاك.
عندما أقول. كان شاعرا، فأنا لا أتكلم على أشعار “الواكا” المكتوبة باللغة القديمة الخاصة باليابان، والمعروفة باسم “يامانو ـ كوتوبا”، بل أتكلم على القصائد المكتوبة بالحروف ـ الرسوم الصينية (كانشي) التي تلتزم التزاما شديدا بصيغ وقواعد شعر الصين القديمة، هذا لا يعني أن “ميتشيزاني” لم يكتب أيضا قصائد “واكا”، لكن ما وصلنا منها غير مؤكد بأنه له حقا. فبعد اقالته السياسية، وبعد نهايته البائسة ثم وبعد رد الاعتبار اليه بشكل استعراضي بعد موته، يحتمل جدا أن كثيرا من قصائد “الواكا”، قد كتبت باسمه ونسبت اليه، لكن المؤكد هو أن “ميتشيزاني”، يبقى أعظم شاعر ياباني كتب “الكاتشي” (الشعر باللغة الصينية. ولحسن الحظ أن مجاميعه الشعرية الصينية وصلتنا كاملة، دون نقص، ونستطيع اليوم تناولها بفضل إصدارات مليئة بالتفاسير الدقيقة جدا.
من هو “ميتشيزاني” هذا الرجل الذي توفي عن 59 سنة، بعيدا عن العاصمة في مدينة “دازايفو” الواقعة في أقصى غرب الأرخبيل الياباني، في جزيرة “كيوثسو”، حيث عوقب بالنفي الى هناك ؟ اليكم في البداية لمحة موجزة عن حياته.
ولد سنة 845 وتوفي سنة 903. كان مثل جده وأبيه، مثقفا ضليعا في الكونفوشية، ثم جاء حفيده “نو- ميتوكي” ليصبح هو الآخر شاعر “كانشي” معروفا جدا.
يحكى أن “ميتشيزاني” أثار دهشة أبيه بقصيدة كان قد كتبها وعمره لا يتجاوز 11 سنة. وبعد سنوات عدة أصبح الشاب دبلوماسيا، واستقبل في “كيوتو” بعثة دبلوماسية لبلد يدعى “بوهاي” الذي كانت لليابان معه علاقات وطيدة ومتطورة جدا. وقد أشاد السفير نفسه بمواهب “ميتشيزاني” الشعرية. “بوهاي” منطقة تقع في الشمال الشرقي من الصين، ازدهرت بين القرن الثامن والقرن العاشر، وكانت لها ثقافة غنية غنى ثقافة الامبراطورية “التانغية”، كما أن سفيرها كان شاعرا معروفا وبمقدوره اكتشاف موهبة “ميتشيزاني” الشعرية.
حاز “ميتشيزاني” على لقب دكتور في الآداب وعمره 32 سنة، وهذا أمر نادر في ذلك العصر. وكان، بصفته موظفا مثقفا وينتظره مستقبل باهر، يتمتع بملذات الحياة في البلاط. بالمقابل كان عرضه لجميع أنواع الغيرة، والحسد. هذا الموظف اللامع، الذي كان من المؤكد أنه سوف يتابع عمله بشكل منتظم في البلاط، عين وهو في سن الواحدة والأربعين، وبسبب تغير مفاجيء تماما، حاكما على منطقة “سانوكي” – أي منطقة “كاثماوا” حاليا – في جزيرة “شيكوكو” بعيدا عن العاصمة. هكذا كان مجبرا على البقاء أربعة أعوام مثبطة في بلد بعيد جانب البحر.
غير أن هذا الحدث أعطاه فرصة نضوج حقيقي على الصعيد الإنساني. فلأول مرة يجد نفسه على احتكاك مباشر مع الناس. ولذا استطاع أن يعرف واقع حياتهم اليومية البائسة جدا. الأمر الذي سوف ينعكس على إبداعه الشعري، ويدخل تطورا جديدا ومهما. هكذا بدأت تظهر في قصائده سلسلة موضوعات، ما كان له أن يتناولها لو بقي في البلاط، كما يمكن أن نلمس فيه وبدقة يقظة متدرجة على الفساد المنتشر في أوساط الموظفين آنذاك.
بعد هذه الاقامة في “سانوكي”، عاد الى العاصمة. وهناك نال ثقة الامبراطور “أودا” شبه المطلقة، بعيد تدخله الفذ لحل مشكلة سياسية معقدة. بعبارة أخرى، كان للقائه مع الامبراطور تأثير حاسم على مصيره.
كانت تسيطر على الأوساط السياسية في ذلك العصر عائلة “فوجي وارا” سيطرة لا مثيل لها إطلاقا. وكانت للأباطرة، مع بعض نبلاء هذه العائلة روابط زواجية، وفي الغالب، لم يكونوا سوى دمى بأيدي هؤلاء.
ومع ذلك،كان الامبراطور “أودا” يطمح الى تحييد قوة آل “فوجي وارا” وإصلاح القضايا السياسية. ومن أجل هذه الغاية، رفع “ميتشيزاني” الى مراتب مهمة. هكذا أصبح تقدم هذا الأخير في الأوساط السياسية الرسمية سريعا جدا، الأمر الذي عزز احتراس الـ “فوجي وارا” منه. ثم إن غيرة الموظفين الآخرين منه، وتمنعهم عن التعاون معه، كانا قد بلغا الذروة. إضافة الى زواج الأمير الامبراطوري “توكيو –شينو” بإحدى بناته. في مثل هذه الظروف، حيث كان القلق ينغصه من ازدياد الخصوم المحيطين به، توصل “ميتشيزاني” الى مرتبة وزير اليمين، أعلى مرتبة سياسية آنذاك وكان عمره 54 سنة. وفي الوقت نفسه كان “توكيهارا -نو – فوجي وارا” الشخص الوحيد الذي عينه الامبراطور في مرتبة مماثلة لمرتبة “ميتشيزاني” أي وزير اليسار، وهو من أقوى فروع عائلة “فوجي وارا” ولم يكن عمره آنذاك أكثر من 28 سنة، أي أصغر من “ميتشيزاني” بـ 26 سنة. في هذا الحدث ما يوضح جيدا القوة السياسية الأسطورية لآل “فوجي وارا” آنذاك.
بعبارات أخرى، يشير هذا الى أي حد كان “ميتشيزاني” يعيش معزولا كان دعم وثقة الامبراطور “أودا” في البداية فقط، يمنحانه الثقل والسلطة للتعادل السياسي مع قوة آل “فوجي وارا”. لذلك لا نبالغ إذا قلنا إن مصيره كان معلقا بخيط فقط. وقبله بقرن ونصف، كان “كيبينو –ماكيبي” هو الشخص الوحيد الذي لم يكن من عائلة رجال الدولة، بل من وسط مثقفين غير غني والذي بلغ أعلى مراتب الطبقة السياسية.
لكن الامبراطور،وبكل لا مبالاة الاباطرة عادة، لم يبق حتى النهاية حامية “ميتشيزاني” فهاهو يعتزل واجهة المسرح السياسي، ويخلع نفسه لصالح ابنه البكر، مفضلا، بصفته امبراطورا معتزلا البقاء في الظل من أجل الإمساك جديا بخيوط السلطة، كان عمر خليفته “دايفو” 12 سنة فقط عندما تم تنصيبه امبراطورا. أما هو فكان لا يزال في ريعان الشباب 30 سنة. لقد استطاع “أودا” أن يتمتع -ولحد موته بعد 34 سنة من تخليه عن العرش – بملذات الحياة التي تتاح عادة للاباطرة السابقين. في هذا الوقت ازدهرت حضارة عصر هييان وعرفت أوج تفتحها. والواقع هو أن عصري الامبراطور “أودا” وابنه الامبراطور “دايغو” يمثلان فعليا ازدهار الثقافة اليابانية الكلاسيكية، ويمثلان المرحلة التي استطاع خلالها شاعرنا، ثم شعراء “ديوان قصائد الواكا القديمة الحديثة"، ان يوصلوا الى أعلى درجات الاتقان والكمال شكلي “الكانشي” و”الواكا” الشعريين.
كن الامبراطور الشاب 0”دايغو” في البداية وتنفيذا لأوامر الأب، كل الاحترام والتقدير “لميتشيزاني” أضف الى انه لم يخف مرة واحدة إعجابه اللامحدود بقصائده. وبعد سنتين من تنصيبه امبراطورا، عين “ميتشيزاني” وزيرا لليمين. آنذاك، كان الامبراطور المعتزل “أودا” لا يزال قادرا على إدارة ابنه بسهولة من على مسافة.الأمر الذي يفسر نجاح “ميتشيزاني” في تحمل المسؤوليات الملقاة على عاتقه، بسبب موقعه، رغم الصعوبات المتعددة التي كان يواجهها.
بيد أن هذه الوضعية ستجر “ميتشيزاني” بشكل خفي لكن محتم، الى الخسارة. فكلما كان نفوذه يزداد، كان يبدو أكثر خطورة في نظر آل “فوجي وارا". لقد تآمر عليه أقوياء هذه العائلة من “توكيهارا” الى المثقفين المليئين بالحقد عليه، الى الراغبين بخسارته، فأقنعوا جمعيا الامبراطور ”دايغو” بأن وزير يمينه يدبر له مكيدة هائلة، غايتها أن يتخل عن العرش وأن يحل محله الأمير “توكيو – شينو” المتزوج بابنة “ميتشيزاني” نفسه.
من السهل أن نتصور مدى الصدمة التي أصيب بها الامبراطور الشاب، الذي لم يكمل بعد عقده الثاني (6اسنة )، من جراء مشروع هذه المؤامرة المزعومة. هكذا، أقيل “ميتشيزاني” من منصب وزير اليمين، ليعين في وظيفة مثيرة للسخرية: “حاكم مبعوث في كيوشو”. عقوبة العاصمة جاءت في وقت قصير للغاية. إن هذه الوظيفة الجديدة، والتي تعادل في أيامنا “نائب الوالي”، لم تكن في غالب الأحيان، أكثر من تعيين أسمي لموظفي الحكومة المركزية الكبار المقالين من مناصبهم. وهذا ما حدث لشاعرنا “ميتشيزاني” تماما، دون أي خرق للقاعدة. لنشر الى أن مدينة “دازايفو”، الواقعة في غرب أقصى الأرخبيل الياباني، كانت بالنسبة الى حكومة “كيوتو” قاعدة عسكرية دفاعية ضد أية تهديدات محتملة من الصين أو من كوريا.
بعد سنتين من حياة الانزواء في هذه المدينة القوية، مات “ميتشيزاني” هناك والآلام الروحية والمعنوية تقض مضجعه. إن القصائد التي كتبها، خلال منفاه، انتحاب بدموع من دم. إنها تعبر بصدق حاد عن رجل مدان بجريمة لم يرتكبها وبفضل هذه الأعمال الأدبية صار “ميتشيزاني” الشاعر الكبير الذي نعرفه.
عندما أرسل الى المنفى بددت عائلته بفظاعة وشتت أفرادها في ستة أماكن مختلفة. زوجته وابنته استطاعتا البقاء في البيت بكيوتو. لكن أولاده، فقد أرسلوا الى محافظات بعيدة جدا عن العاصمة: الأول الى “توسا” الثاني الى “سوروثما”، الثالث الى “هبوا”، الرابع الى “هاريما”. أما “ميتشيزاني” فقد أخذ طريق المنفى الذليل مع أصغر أبنائه، فتى وفتاة. وسرعان ما مات هذان الأخيران بسبب سوء التغذية في “كيوشو”. هو الآخر لم يكن صلبا كثيرا سقام حاد بسبب الخوف.. واليأس، عجل من اقتراب نهايته.
لكن التاريخ لا يتوقف عند موت “ميتشيزاني”. فبعد هذا الموت بوقت طويل، تعود روحه القلقة الثائرة لتنتقم من الذين دبروا إقالته. فوزير اليسار، “فوجي وارا. توكيهارا” المسؤول الأول عما حدث لشاعرنا، مات باكرا وعمره 38 سنة. ورأى الجميع في هذا الميتة أن روح “ميتشيزاني” تنتقم. كما أن صاعقة ضربت أهم جناح في القصر الامبراطوري، فمات بعض الذين تآمروا خفية على “ميتشيزاني” ميتة شنيعة، وحتى بعد وفاة الامبراطور “دايغو” انتشرت دعاية مفادها أنه سقط في الجحيم. باختصار كان يعتقد أن “ميتشيزاني” تحول الى إله الرعد كي ينتقم لنفسه. ولهذا بعد عشرين سنة على وفاته، يعاد الى جميع مناصبه الأولية، كوزير لليمين، بغية أن تهدأ روحه الثائرة ثم بعد قرن صار بمرتبة إله. ولا يزال حتى اليوم معبودا في جميع محافظات اليابان تحت اسم “تن – جين – ساما” (حرفيا: ألوهية سماوية). وباعتباره كان مثقفا كبيرا خلف وراءه آثارا أدبية لا مثيل لها، فإن مرشحي مسابقة الدخول الى الجامعات والمدارس يتوجهون برجائهم اليه، وكذلك عندما يأتي فصل الامتحانات، فإن التلامذة وأمهاتهم، في جميع انحاء اليابان، يتوافدون الى المعابد المخصصة لـ: “تن -جين -ساما”.
يوضح هذا أن الصورة المنتشرة عن “ميتشيزاني” هي صورة شخص عنده طاقات ثقافية نادرة. لكن اليابانيين، في غالبيتهم، نسوا أنه كان قبل كل شيء شاعرا كبيرا. يعود هذا النسيان الى أن أعماله المكونة أساسا من “الكانشي “ (أي الشعر المكتوب باللغة الصينية )، مكتوبة بأسلوب “الكامبون”، أو بالصينية القديمة التي لا يفهمها في أيامنا سوى عدد محدود من القراء.
بالمقابل، فإن شعراء الجيل التالي لـ “ميتشيزاني” بدءا بـ “كينو- تسورايوكي” كانوا يكتبون أشعارهم باليابانية المحكية آنذاك (ياماتو – كوتوبا) ويستخدمون حروفا الـ “دكا – نا”. وبفضل هذا التغيير الجذري لنظام الكتابة والذي حدث عبر جيل واحد بالكاد، فإن مختارات “ديوان قصائد الواكا القديمة الحديثة” التي وضعها “كينو – تسورايوكي” فرضت نفسها خلال عشرة قرون تلت، كأهم مختارات في تاريخ الشعر الياباني. بالمقابل وفيما كان “ميتشيزاني” يزداد شهرة كمثقف، وكسياسي ذي مصير مأساوي، ثم بعد موته كإله معبود وقيما كان مسرح “الكابوكي” يزدهر باستلهام هذه الشخصية – “مسرحيات حول سوثماوارا”.. بدءا بمسرحية عنوانها “مرآة التدرب على تعاليم سوثماوارا السرية – فإن قيمة “ميتشيزاني” كشاعر بقيت مجهولة لوقت طويل جدا. وهذا ما يؤسف له، لا بل هو ظلم حقيقي لشاعرنا. ولذلك ألححت في كتاب نشرته منذ سنوات تحت عنوان: “سوثماوارا – ميتشيزاني شاعرا” على أهمية هذا الرجل في المجال الشعري.
في محاضرتي الثانية، سوف أتكلم عل “كينو – تسورايوكي” وعلى الجمالية التي تطبع مختارات “الواكا” الموضوعة بأمر امبراطوري، بدءا بـ “ديوان قصائد الواكا القديمة والحديثة “. لكن لنؤكد منذ الآن وللإشارة الى هذه المسألة في علاقتها مع أعمال “ميتشيزاني” أنه يوجد اختلاف نوعي وجذري بين الشعر “الكانشي” وشعر “الواكا”.
إن “ميتشيزاني”، وبلجوئه، على صعيد اللغة والكتابة، الى وسائل تعبير من أصل صيني، قد بذل كل ما في وسعه لكتابة قصائد ترتكز على مباديء الشعر الصيني نفسها. وقد توج مسعاه هذا بالنجاح. فأعماله تمتاز على صعيد اللغة أو المضمون بشمولية الحد أن شعراء الصين الكبار – ليبو، نوفو، أو برشوي – لو قدر لهم وقرأوها لكانوا استقبلوها باحترام شديد جدا.
وبشكل عام نجد في قصائده – ولاسيما التي كتبها خلال اقامته بسانوكي ثم خلال منفاه. بجزيرة كيرشو – أن التعبير عن المشاعر (فرح أو حزن، غضب أو ألم) ترافقه باستمرار إشارة دقيقة الى العلة والمعلول. كما أن موقع الذات محدد بدقة هو الآخر. كذلك نجده يعبر بوضوح عن مواقفه إزاء أحداث المجتمع المحيط به. والموضوعات التي يتناولها متعددة متنوعة: فهو تارة يذكر الرشاوي والمفاسد الأخرى المنتشرة في وسط البيروقراطيين، الغيرة والجشع السائدين بين المثقفين ؟ كذلك يشير الى قوة ارادته في مثل هذه الظروف، وتارة يصف أبهة مختلف الحفلات الرسمية مركزا اهتمامه على غنج الراقصات وجمالهن الساحر، على حركاتهن، ووضعاتهن الفاترة ؟ وتارة أخرى يرسم بالتفصيل فقر وآلام الناس الحسية، المعنوية ؟ كما ينقل الينا مظاهر متعددة عن حياته الخاصة اليومية من خلال قصائد تحكي بطريقة مؤثرة جارحة كيف كان يعيش وحيدا، أو كيف مات ابناه الصغيران معه. باختصار إن قراءة الأعمال التي تركها “ميتشيزاني”، سوف تتيح لنا، وبشكل ملموس، أن نتخيل وجود هذا الشاعر المثقف الذي كان قد عاش منذ ألف عام، وسوف ندرك ذاك الوجود على حقيقته، وحتى في تمزقاته النفسية.
هذا بالضبط ما كان يقصده الصينيون بالشعر. بدقة أكثر، كانوا يعتبرون طبيعيا أن تظهر “الأنا” في القصيدة، وتؤكد نفسها بوضوح إزاء المجتمع كان التمييز، لا بل وحتى التناقض، منذ الأساس، موجودا بين الذات والموضوع، وبشكل صريح جدا، في الشعر الصيني القديم، أي في “الكانشي”.
والمقارنة بين هذا الشعر والشعر الياباني سوف تكشف، وفي نقاط عديدة، عن فرق نوعي مفاجيء يكمن، بالدرجة الأولى، في شكل “الواكا” الشديد الإيجاز والحقيقة إن صيغتها الأكثر بساطة وأولية، هي صيغة “التانكا” (أي قصيدة قصيرة ) والتي تتكون من 31 مقطعا صوتيا موزعة على خمسة أبيات. ومنذ القرن السادس عشر يأتي شكل “الهايكو” (31 مقطعا صوتيا) الأقصر، ليغني بقصره هذا العالم الشعري. إن شكلي “الهايكو” و”التانكا” كانا على مر العصور محل شغف وافتتان. ولا يزال الأمر كذلك لحد اليوم. لكن من يقول “إيجاز” يقول بشكل طبيعي “صعوبة قصوى في التعبير عن وقائع وأشياء محددة “ من خلال شكل مماثل. براعة هذا الشعر ترتكز أساسا على الإيحاء، على تقديم معلومات محدودة جدا جدا. في شعر “التانكا” لا يوجد إطلاقا أي وصف تفصيلي لأحداث ملموسة، أو لأشياء: فيه إشارة موجزة جدا الى المشاعر التي تولدها أحداث الخارج لدى الشاعر. ولا تذكر الوقائع الملموسة إلا عندما تكون ضرورية حقا للتعبير عن تلك المشاعر، وذلك بأقل ما يمكن أيضا. واللجوء الى وصف أكثر دقة، يعتبر سوقيا ونثريا، ومستبعدا إلا في أعمال كتاب عرفوا ببراعتهم ومهارتهم.
انطلاقا من هذه الملاحظات، نجد أنه في شعر “الواكا” يندر جدا إثبات “الفاعل – الذات “ أو الإشارة اليه في علاقاته والمجتمع، أو المحيط المباشر. يتم في هذا الشكل الشعري عموما، إسقاط الفاعل – الذات. وغالبا ما ينظر الى الذات والموضوع ليس في تناقضهما، بل في جانبهما «الإندماجي”.
انتشرت في أيامنا طريقة شعرية تقوم على كتابة قصائد “تانكا” متتالية – عشرة، عشرون -حول موضوع واحد. هذه الطريقة المدعوة – “كتابة متسلسلة، وهي وسيلة لمداواة الاقتضابية المذكورة أنفا، والتي هي جزء من طبيعة شعر “الواكا” تتيح وصف ورواية الوقائع بشكل ملموس كما تتيح التعبير عن الرأي الشخصي. يبرهن ظهور هذه الطريقة على أن الوصف الدقيق لا يمكن أن يكون إلا محدودا جدا، وموجزا جدا، في إطار قصيدة «واكا” واحدة فهذا الشكل الشعري، يقوم حقا على فن التقاط أولى ارتعاشات الإحساس قبل أن تتلاشى.
وهناك طريقة أخرى تساعد على توسيع الحدود الضيقة لشكل “التانكا”: يقوم عدة أشخاص بتأليف سلسلة من نصوص قصيرة، مترابطة تشكل قصيدة طويلة. هذه الطريقة المعروفة أساسا باسم “رنفا” أو “رنكو” وحسبما تستند على “التانكا” أو على “الهايكو” -أفرزت أخيرا منهجا جديدا للكتابة، يشار اليه بكلمة “رينشي “ أو د«قصائد متسلسلة “ وبصفة الـ “رينشي” صيغة أصيلة للإبداع الجمعي، فقد بدأت تلفت الانتباه وتثيره حتى في أوروبا وفي هذا أيضا، يمكن أن نلمس واحدة من نتائج استحالة التعبير، ضمن حدود قصيدة “واكا» واحدة، إلا عن معنى محدود جدا جدا.
بشكل عام وقيما يبدو أن “إثبات» أنا الشاعر شي ء طبيعي جدا في الشعر الصيني فإن العكس يمكن أن يقال بصدد شعر “الواكا” حيث – يحبذ “إلغا”، الأنا بشكل طبيعي جدا. لكن عما يبحث الشاعر من خلال هذا الإلفاء ؟ فبدلا من التعبير عن فرديته، يذوب طواعية في الطبيعة المحيطة به، بغية التوحد معها توحدا يتسامى بالأنا. لنشر الى أن المجتمع الذي ازدهر فيه شعر “الواكا” القديم كان يحكمه نظام دقيق وحاد جدا. أضف الى أن معنى الجميل والأذواق، كانت ترتكز على أسس مقننة الأمر الذي وقف عائقا أمام إبراز الشخصية وإخراجها.
إن عصر هييان الذي يمتد على مدى أربعة قرون، يعني في الجوهر سيادة عائلة “فوجي وارا” سيادة قوية على مجتمع يصعب فيه قبول التصرفات والكتابات الشاذة والغريبة سواء بين أفراد العائلات الأخرى القوية، أو حتى بين أفراد آل «فوجي وارا” أنفسهم بهذا المعنى، نستطيع وصف هذا المجتمع بأنه “متجانس “. وهنا، أيضا نجد سببا من أسباب إلغاء أو إسقاط الأنا والفرد في الشعر.
بيد أننا وإذا تابعنا هذه القضية في مؤلفات النساء، فمن الممتع الاكتشاف بأنهن، في المجال الشعري على الأقل،يفقن عدد الرجال في الكتابة والتعبير خارج “جمالية التجانس “ هذه. وذلك لعدة أسباب: من جهة، لأنهن أقل من الرجال خضوعا لمنظومة الواجبات الاجتماعية، وبالتالي لم يكن ليبالين كثيرا جدا بالمظاهر، أو بالواجبات المتعلقة بمرتبتهن، ومن جهة أخرى، وبما أن اهتماماتهن الأساسية كانت تتعلق بحياتهن الخاصة، سيما الحب والزواج والتغيرات التي يمكن لهذين الحدثين اضافتهما الى وجودهن، كن قادرات على التعبير بعفوية أكثر من الرجال بكثير من خلال شكل موجز كشكل “الواكا” عن ألوان غنية ومتعددة من المشاعر والأحاسيس، وعن شعور مكثف بالوحدة. بعبارة موجزة، إذا ما نظرنا الى الأشياء لجهة التعبير عن العواطف، نستطيع القول إن النساء – على الأقل في إطار “الواكا” الشعري- كن يمتلكن طاقة تفوق جيدا طاقة الرجال.
سوف أعود الى هذه المسألة في محاضرتي الثالثة عندما أخذ مثالأ بعض شاعرات اليابان قديما. لكن الأسباب التي ذكرتها للتو، توضح جيدا الدور الكبير الذي لعبته النساء في تاريخ “الواكا”. إن الحديث عن هذا التاريخ دون الكلام عن الشاعرات كالحديث عن الجسد دون قلب.
هذه الظاهرة استثنائية ونادرة في تاريخ الشعر، سواء في الصين أو في الحضارات الأوروبية. ويهذا المعنى يمكن التأكيد على أن الأمر يتعلق بواحدة من خصوصيات التقاليد الشعرية اليابانية.
– 3 –
سأقوم الآن بعرض أمثلة من أشعار “سوثماوارا – ميتشيزاني”، موضوع هذه المحاضرة. وآمل أن أوضح لكم، على مدى محاضراتي التالية، كم تختلف هذه الأشعار عن شعر “الواكا”.
وها هي قصيدة أهداها الى “كينو –حاسيو” صديقه الحميم وتلميذه في المجال الأدبي، يسبق هذه القصيدة تمهيد قصير، ينتقد فيه “ميتشيزاني” أخلاق علماء عصره الفاسدة.
“عندما أتأمل سلوكيات مثقفي هذه الأيام، سواء في الإجتماعات الحميمة، أو بين الناس، فلا أرى غير الجنون في أقوالهم، لأنهم عبثا يناقثسون طويلا آراءهم المتعلقة بالمبادي، الأساسية لأي علم لا يزال واهيا أو متعثرا. أما عن الآخرين، فمن الأفضل الا نقول شيئا: مع الكحول أو مع النساء، يقضون الوقت في تصفية حساباتهم، وهمهم الوحيد هو التشاتم وإذلال بعضهم بعضا، وجعل خصومهم يفقدون كل شيء. أهديك هذه القصيدة كي أشجعك على الكتابة الشعرية “.
بهذه العبارات، يهدي “ميتشيزاني” قصيدته الى “كينو – حاسيو”:
عاصفة في الجامعة
ولا رغبة في الدراسة !
والأنكى، أن العلماء يتسكعون
في جميع الجهات
وماذا! هؤلاء الرعاع أليس
في قلوبهم غير الحصى؟
لا شي ء غير الهذيان
يفتن المستمع
استيقظ من خدرة
الليالي حيث تنتشي
وقف أمام الأزهار
كي تغني كما تريد
لا تخف أن يهجرك
الشعر في يوم ما
لا متناه النعيم الذي
يقدمه لنا الأمير
من البيت الأخير، نفهم أن “ميتشيزاني” كان موظف بلاط كبيرا. وبصفته هذه يحض صديقه عل الدراسة بجدية، وعلى إظهار مواهبه الشعرية. لأنه هكذا يستطيع اكتساب محبة ورعاية الامبراطور.
إن الموضوع الذي يتناوله “ميتشيزاني” في هذه القصيدة، يستحيل تناوله في إطار شكل “الواكا” الغنائي. من جهة يتجل نقد عنيف للمثقفين السوقيين، ومن جهة أخرى، تتجل إرادة “ميتشيزاني” بشكل واضح، لتجاوز هؤلاء الناس، ولتأكيد وتثبيت قناعاته، وعندما يتم اختيار صيغة “الكانشي“ الشعرية فمن الطبيعي القدرة على التعبير بهذا الشكل. ويمكن القول أكثر من ذلك: وحدها صيغة “الكانشي“ كانت تتيح بهذا الشكل من التعبير الذي تعجز عنه صيغة “الواكا” في إطار حدودها الموجزة جدا.
في القصيدة التالية، نجد مظهرا مختلفا تماما لموهبة “ميتشيزاني” فهو يغني جمال الراقصات الساحر، وغنجهن أثناء مأدبة باذخة أقيمت بداية الربيع في البلاط. والمقطع الذي اخترته لكم يتحدث عن جو لحظات انتهاء العيد، ذلك الجو المدوخ والحنيني:
لم تبدو الثياب ثقيلة جدا
فوق بشرتهن البيضاء الحريرية ؟
"لكن الربيع هو الذي يوهن أوراكنا”
كذا ستقول لكم الشقيات الكاذبات
ماكياج يتغير، يد ناعمة تفتح
علبة المساحيق النفيسة
علي عتبة القصر يمشين بخطوات وئيدة
كآبة الرحيل
في عيونهن المغرية الجذابة تخفق أمواج أثارتها الرياح
لمشيتهن وثبة ثلج يطير
ويرقص في نضارة الصحو
وقيما يغيب النهار خجولا بين الزهور
يتوقف غناء الشبابة
متأملات سحابا في المدى، يسرعن الخطي
في اتجاه جناحهن السرى
عبر هذه الأسطر نتعرف على الموظف البلاطي، الشاب، السعيد من نفسه، والذي يتمتع تماما بسحر وملذات حياة البلاط.
لكنه وبعد كتابة هذا النوع من القصائد، أجبر على الحياة مدة أربع سنوات خارج العاصمة، بصفته حاكما لمقاطعة “سانوكي”. نستطيع أن نتخيل الأثر الذي تركه هذا التحول الفجائي في المسيرة المنتظمة لمهنته. إنه أشبه بأثر عاصفة في سماء صافية. خلال هذه الفترة، أنشد “ميتشيزاني” في كثير من القصائد، كآبته ووحدته. لكن هذا ليس كل شيء: مقاربا لأول مرة في وجوده حياة الناس المليئة بالبؤس، يسجل في قصائده ما يستطيع التقاطه من تلك الحياة. هكذا أتيح لمن كان يمجد متعة وعذاب الدراسة، جمال وفتور حياة البلاط، أن يكتب مادة شعرية جديدة اغترفها من واقع الأشياء.
من بين الأعمال التي تعبر جيدا عن هذه المرحلة، نجد سلسلة نصوص بعنوان: “عشر قصائد للبرودات الأولى". وسبب هذا العنوان هو أنه يظهر بشكل منتظم، وفي بداية كل قصيدة نجد البيت التالي: “لمن ستكون البرودات الأولى ؟" باختصار، يأخذ “ميتشيزاني" مثال عشرة أشخاص من أوساط مختلفة، ويتساءل أي شخص تناله أولا قسوة الشتاء فيهبط الى حضيض الآلام:
لمن ستكون المبرودات الأول ؟
لحافي قدمين يعود ال بلدته ؟
لم يعد له أثر في السجل المدني
اسمه يخون جذوره
تربة قاحلة في بلاد عقيمة
جسد أنحله التشرد
بلا هدف ولا مأوى سيتوه الرجل
إلا إذا ناله عطف غني
تتناول هذه القصيدة مصير رجل لم يستطع أن يعيش حياة مقبولة بسبب الضرائب، الأعمال المرهقة التي تثقل كاهله، فهجر مسقط رأسه. لكن حتى في مكان آخر، لم يجد أرضا يعيش فيها بهدوء. ولذا أجبر على العودة الى بلدته لكن في بلدته أيضا، اختفى اسمه من لوائح السجل المدني. هكذا لم يبق أمامه إلا أن يتحول الى متشرد ضائع بشكل نهائي.
مصير آخر بائس: مصير بستاني، يعمل في مجال زراعة أعشاب طبية غالية جدا. ولا يحق له، حتى في حالة مرض خطير، أن يستخدم عشبة واحدة من هذه الأعشاب التي تخرج من بين يديه ؟
لمن ستكون المبرودات الأول ؟
لعامل يومي يزرع الأعشاب الطبية ؟
يعرفها جميعا، من أنبلها الى أحقرها
إنسان مستعبد، مسخر دون رحمة
هذه الأعشاب المجنية بدراية
لن تشفي آلامه وبؤسه
وأثناء الحصاد إذا نقصت عشبة واحدة
بفظاظة يجلد ويصفع
سلسلة "عشر قصائد للبرودات الأولى “ تتناول، كما أشرت، مجموعة من الأشخاص الذين يعانون أولا، وقبل الجميع، من قسوة الشتاء: متجول يبحث عن عمل جاء من اقليم آخر، ودخل الى إقليم “سانوكي” بشكل غير شرعي؟ رجل مسن توفيت زوجته، يحضن يائسا ابنه الصغير بين ذراعيه، يتيم الأبوين، العتال الذي يكد ناقلا البضائع من جهة الى جهة، وهو لا يرتدي، في عز الشتاء، سوى “كيمونو" غير مزدوج ؟ الملاح الذي يمارس، هو الآخر، مهنة النقل ؟ الصياد الباحث عن اسماك مفترضة سوف تساعده في دفع ما يتوجب عليه من ضرائب، بياع الملح – لأن انتاج الملح على شواطيء جزيرة “شيكوكو" كان مشهورا أو الحطاب.
ما تجدر ملاحظته هنا، هو أن غالبية الأشخاص الموصوفين في هذه القصائد هم ناس فقراء يعانون من ثقل الضرائب. أمام هذا الواقع الذي اكتشفه “ميتشيزاني” في “سانوكي”، لابد أنه – ولكونه في جهة من يأخذ الضرائب – قد صدم صدمة قوية تشهد عليها قصائده نفسها. لم يكن ممكنا إلا لموظف مثله، وبمرتبته، أن يرصد وبشكل متنوع، وواسع الظروف الواقعية للفقراء العشرة الذين يظهرون هنا. لكن تجدر الإشارة الى أن الموظفين الكبار، كانوا أساسا، وفي غالبيتهم، عاجزين عن الشعور بالعطف والرأفة إزاء الطبقات الاجتماعية المسحوقة. بهذا المعنى، يبدو “ميتشيزاني” موظفا بلاطيا، وشاعرا نادرا. ولا نجد قبله، وبعده، إلا ع”ا قليلا جدا من الشعراء الذين أقاموا على مقاربة شعرية مماثلة. ومع مرور الزمن، صار ع” الشعراء القادرين على كتابة قصائد من هذه النوعية يقل شيئا فشيئا لحد الندرة.
“ميتشيزاني” الذي احتفظ قلبه سرا بذكرى ما شاهده في “سانوكي”، يعود من جديد الى العاصمة “كيوتو”. وبفضل الامبراطور ”أودا” الذي ميزه عن غيره تصاعدت مراتبه بشكل مذهل السرعة. غير أن داخله قد أصبح ساحة للمشاعر المتناقضة. هذا الموظف الشاعر، وبعد أن شاهد في “سانوكي” مصير الناس البائس، كيف كان يمكنه أن يغطس من جديد في حياة البذخ والرفاهية لارستقراطيي الطبقة العليا: وعلى الرغم من كل شيء، تابع تدرجه في السلطة بشكل لا يقاوم. وكانت إرادة الامبراطور “أودا” وابنه الامبراطور “دايغو” وراء هذا الصعود:الاستثنائي، ولم يكن بمقدور “ميتشيزاني” أن يخيب توقعهما.
في مثل هذه الظروف، وعندما كنست المكيدة التي دبرها آل “فوجي وارا” ثقة الامبراطور “دايغو” بشاعرنا، لم يكن السقوط إلا أكثر فظاعة. طلب شاعرنا، وقتها، دعم الامبراطور المعتزل "أودا” الذي بذل ما في وسعه لانقاذه من الكارثة، لكنه لم يستطع صد هذه الدسيسة. وهكذا جرد “ميتشيزاني” من كل شيء، ونفي الى أقصى غرب الأرخبيل الياباني الى مدينة “دازايفو”، حيث وجب عليه أن يعيش في بيت يفتقر الى شروط السكن الأولية. كانت ممتلكاته الوحيدة التي احتفظ بها في رحلته هذه، أعمال الشاعر ”بو _ تشوإي”، وأعمال شعراء صينيين آخرين – يجلهم إجلالا عظيما، كان عمره آنذاك 57 سنة، ولم يكن قد بقي له من الحياة سوى سنتين، كتب خلالهما 39 قصيدة. وهذا لا يعادل حتى عشر انتاجه الاجمالي الذي يصل الى 514 قصيدة. لكن هذه الأعمال المكتوبة في ”دازايفو” تمثل مجموع نشاطه الأدبي بعد التغير الجذري الذي قلب حياته.
بين هذه القصائد المتنوعة جدا، حيث تتقاطع نصوص قصيرة، وأخرى أكثر طولا، يوجد ما يستحق فعلا أن يقال عنه إنه تحفة شعرية. وهذا بالتحديد ما خلد اسم “ميتشيزاني" في الشعر.
في نصوص السنتين الأخيرتين من حياته، يصف “ميتشيزاني” بدقة، البؤس الذي يحيط به، يهاجم التهمة الظالمة التي تعرض لها، يشكو مصيره البائس، يفكر بزوجته وأطفاله، يغني باستمرار قنوط المناظر المحيطة، ووحدته الخاصة، يبكي بكاء حادا فقد صديق عزيز لاحقته العدالة بسبب وضعية مشابهة لوضعيته، ولعله مات اغتيالا، يشكو من أنه لم يستطع أن يجد راحة القلب رغم أنه لجأ الى البوذية. وجميع هذه القصائد مكتوبة بطريقة حية لحد أننا نكاد نرى حياة “ميتشيزاني” تجري أمام أعيننا.
أضف الى ذلك أن هذه النصوص المرصعة بالشواهد من أعمال الشاعر “بو-تشوإي” وغيره من شعراء الصين، هي على الصعيد الشكلي مكتوبة بصرامة وأناقة، لا تختفيان لحظة واحدة. وهي في الواقع نموذج حقيقي للشعر الصيني الكلاسيكي.
هذا التواجد المشترك لدقة لا مثيل لها في الشكل، ولكآبة حادة في المضمون، يشهد على عظمة الأعمال الشعرية التي أنجزها “سوثماوارا _ نو ميتشيزاني”. وإذ لا أستطيع أن أقدم هنا، وبالتفصيل أطول القصائد فإنني أكتفي ببعض المقاطع، أو بذكر بعض الأمثلة المأخوذة من قصائد قصيرة، وذلك لإعطاء لمحة عن حياة "ميتشيزاني” في سنواته الأخيرة..
هي ذي لحظة مأخوذة من حياته اليومية:
أما من أحد نتحدث اليه ؟
أنام وحيدا وذراعي وسادة
في جو خانق مطر كئيب لا يتوقف
ووجبات الطعام نادرة: لا جمر في المدفأة
أسمكة تسبح في القدر المليئة ماء؟
وعلى العتبة ضفدع ساحر لا يكف عن القرير
فلاح صغير يجلب لي خضارا
والى جانب الفرن طفلة تطبخ الدقيق
البيت الذي سكنه “ميتشيزاني” وبما أنه بقى غير مسكون لفترة طويلة، تحول الى كوخ وضيع عاش فيه الشاعر حياة انقباض، لحد أنه فقد رغبة أن يصنع لنفسه طعاما بشكل منتظم. وحدهم أطفال القرية المجاورة، كانوا يجلبون له، من حين الى آخر، خضارا، أو يحضرون له وجبة خفيفة لأن معدته كانت ضعيفة ومريضة.
واضحة قدرة الوصف في هذه الأبيات. فمنذ القراءة الأولى، يتكشف بوضوح أمام أعيننا، المحيط اليومي للشاعر الكبير، المنفي قبل ألف سنة. في حياة المنفى هذه، كان “ميتشيزاني” ينتظر بكهف أليم رسائل زوجته التي بقيت في “كيوتو". لكن يبدو أن الزوجة لم تكن قادرة على الكتابة بحرية كانت، من حين الى حين، ترسل اليه زنجبيلا طازجا داخل صرة مموهة بعبارة “أدوية “:
بعد ثلاثة شهور مظلمة ودون أي نبأ رياح مواتية حملت الي أخبارا منها:
شجرة الرواق الغربية نقلت من مكانها وفي شمال الحديقة جرت بعض الأعمال صرة زنجبيل داخل “صرة أدوية “ طحالب في السلة “لأكلها أيام القطاعة “ لكن عن البرد، عن الجوع الذي تقاسيه عائلتي ولا لفظة واحدة – هذا الصمت يؤجج آلامي.
وبفضل قصائد مؤثرة، كهذه القصيدة تبدو لنا المكابدات التي عاشتها العائلات المدانة سياسيا، كأحداث طارئة ومفاجئة في أيامنا.
وفيما كان “ميتشيزاني” منفيا في “دازايفو” توفي صديقه “فوجي وارا _ نو _شيجزاني” الذي كان يثق به ثقة كاملة، توفي في أقصى شمال اليابان، في الجزيرة الرئيسية التي تدعى اليوم منطقة "دنو – هوكو”. كان “شيجزاني” موظفا معروفا باستقامته وكرهه للظلم. ولهذا السبب على ما يبدو، جر على نفسه نفور مرؤوسيه منه، ومات في ظروف غامضة. تأثر شاعرنا لدى سماعه نبأ الوفاة هذه تأثرا بالغا، وكتب آنذاك قصيدة طويلة يأسف فيها لفقد صديقه، ويصف أيضا سوء تصرفات الموظفين العاملين في غرب البلاد. يجمعون الثروات الطائلة بالغش والغدر، يفرقون بالرشاوى أصحاب النفوذ في العاصمة، وهكذا خلال عدة سنوات يتجهون صوب “كيوتو” لاستلام مناصب رفيعة. والمقطع التالي يتحدث عن واحد من هؤلاء:
يتخذ مكتبه الى جانب سيده
وفي القصر يتبادلان نظرات متواطئة
فالمفسد ينتظر عمولته
جاذبية الغنى تجعله ينسى الأعراف
ولو وجد قاض عنده بعض جرأة
لصر على أسنانه أمام هذه الخسة
ودان الجريمة فاتحا تحقيقا قضائيا
وعاقب الخسيس عقوبة حقة
لكن اللص وقتها سوف يهاجم القاضي
الذي قد يعرف بعد الموت وفي النهاية علة الوجود
يشير البيتان الأخيران الى المصير المأساوي الذي لاقاه الموظف الكبير بسبب ما فعله لتطبيق العدالة: لقد جر على نفسه بغضاء الأشرار، وانتهى الى الموت قتلا. الشخص الموصوف هنا، والذي يفهم بعد موته ما حدث، هو “فوجي وارا – نو شيجزاني"، صديق الشاعر. ومن المحتمل أن يكون الشاعر نفسه أيضا.
من خلال الإشارة الى نكبة هذا الصديق القريب الذي مات ميتة مبتسرة، يعبر “ميتشيزاني” عن غضبه ونقمته لنفيه الى غرب اليابان بعد مكيدة فظيعة المدى.
في أعمال “ميتشيزاني” نادرة هي القصائد ذات الصبغة السياسية التي تهاجم فساد الحكام ومظالمهم: لكن أعتقد أن نصوصا من هذه الطبيعة. لها أهمية كبرى في تاريخ الشعر الياباني. توجد في العصر الحديث قصائد اجتماعية وسياسية، لكن غالبا ما تكون بعيدة عن هذا التميز الفني. من جهة أخرى، وقبل العصور الحديثة، لا يوجد شاعر – باستثناء شاعرنا – تناول هذا النوع من الموضوعات.
وقد يبدو مدهشا، وعجيبا إذا ما رأينا العدد المرتفع لرجال السياسة وللمحاربين الذين كانوا يمارسون كتابة الشعر، إضافة الى عملهم الأساسي.
إن تاريخ الشعر الياباني، بعد “ميتشيزانيد"، يتسم بتغير مذهل حدث خلال مدة قصيرة جدا؟ انتقل مركزه من شعر "الكانشي“ الى شعر "الواكا”. ومن بين الفواعل الأساسيين لهذا التغيير، يجب أن نذكر، بالتحديد الامبراطور “أودا” وابنه الامبراطور “دايغو". لقد أشرت أكثر من مرة الى أنه تم اللجوء الى إطار شعر “الواكا" للبحث عن طرق تتيح إبانة العواطف الجمالية وإبانة أدق الفروق بينها، وتهذيبها بشكل لا نهائي. عندها انفتح للشعر الياباني طريق مختلف جذريا عن طريق شعر “الكانشي"، طريق مكرس لموضوعات ملموسة ومحسوسة، سياسية أو اجتماعية.
سيعترف الحكام (وغالبيتهم من آل فوجي وارا) والمحاربون (كانت غالبيتهم، وبعد الانتصار بقوة السلاح، تنتهي بأن تنضم الى القيم الثقافية الجذابة، قيم الارستقراطيين ) أن رقة شعر ”الواكا” ولطافته تعبران عن خلاصة وجوهر المثال الجمالي، وبالتالي كان من المؤكد أن القصائد التي يكتبونها ستهتم بالمشكلات الاجتماعية والسياسية. ولن تظهر هذه الأخيرة إلا بشكل عرضي، ودوما داخل إطار علاقتها بعالم العواطف والأحاسيس.
بسبب هذا السباق التاريخي، ندرك لماذا لم يعترف بقيمة “ميتشيزاني” الشاعر الحقيقية. وأحد أسباب هذا التجاهل والنسيان، هو أنه كان يكتب شعر “الكانشي “ ذا الأصل الصيني، كما نعرف الآن. بيد أن هذا الشكل هو الذي أتاح له التعبير عن نفسه، كما رأينا. إذن، يمكن القول إن حياته مثال للتناقض. وبهذا المعنى، يجسد حقا الهاوية التي تفصل الشعر الياباني التقليدي من الشعر الصيني التقليدي. لكن الآن، وبعد مرور ألف سنة، أعتقد بضرورة إخراجه من تلك الهاوية و إحيائه مجددا، وقراءة الشعر الياباني على ضوء آثاره الأدبية.
*****
الشاعر "كينو-تسورايوكي" والأفكار الأساسية للمختارات الشعرية الموضوعة بأمر امبراطوري
-1-
تحدثت في محاضرتي السابقة عن أعمال “سوثماوارا – نو ميتشيزاني"، أكبر شاعر كانشي في اليابان قديما، وعن حياته المليئة بالأمجاد والماسي، التي انتهت الى المنفى ثم الى موت مأساوي.
توفي “ميتشيزاني” في بداية القرن العاشر (903م ) وعمره 99 سنة لكن بعد سنتين (905م ) انتهى وضع "ديوان قصائد الواكا القديمة والحديثة “، المهدي الى الامبراطور “ديغو". يتعلق الأمر بأول مختارات شعرية موضوعة بأمر امبراطوري، ونسميها عادة اختصارا (كوكين -شو). يرى بعضهم أن انجازها كان بعد التاريخ التي ذكرت بقليل. ومهما يكن، إن هذه المختارات القيمة لأشعار "الواكا” والتي تضم 10100 قصيدة، تأتي زمنيا بعد المختارات المعروفة باسم (مانيشو) أي “ديوان الألف صفحة “: هذا الديوان المهم هو الآخر للشعر الياباني في العصور القديمة، والذي يجمع بين دفتيه 4500 قصيدة.
إن ديوان “الألف صفحة “، يجمع نتاجا شعريا يمتد على مدى 350 سنة تقريبا. وقد وضعه خلال فترة زمنية طويلة جدا عدد من الشعراء المتتابعين، وذلك قبل أن يعرف صيغته النهائية حوالي منتصف القرن الثامن الميلادي. بين هذا الديوان والديوان السابق فاصل زمني يقدر –150 سنة تقريبا.
خلال هذه السنوات الطويلة، لم تظهر أية مختارات شعرية، وذلك لأن اليابان في القرن التاسع الميلادي، كانت تحت السيطرة الساحقة للحضارة الصينية، كان جميع الموظفين، والمثقفين يعتبرون “ميتشيزاني” شخصية مثالية على هذا الصعيد، مأخوذين بكتابة القصائد والنصوص النثرية بأسلوب صيني، وذلك بقصد إنضاج جمالات لغتهم الخاصة.
القرن التاسع الميلادي هو المائة سنة الأولى من عصر "هييان“ هذا العصر الممتد على مدى أربعة قرون، كان في مجموعه فترة مدهشة الوداعة. وإذا كانت الحكومة قد عرفت خلال هذه القرون الأربعة تغيرات متتابعة فإن الأجواء السياسية بقيت تحت السيطرة الدائمة لآل فوجي وارا الذين استطاعوا التغلب على العائلات القوية الأخرى في اليابان قديما. بفضل لعبة ماهرة من الروابط الزواجية توصلوا في النهاية الى سيادة مطلقة على جميع القضايا السياسية.
كان جدهم ”فوجي وارا -نو كاماتاري" الذي توفي في منتصف القرن السابع الميلادي، قد ساعد الأمير الامبراطوري “ناكانو-أوي” الذي سوف يصبح الامبراطور “تنجي” على التخلص من عائلة “سوثما” أقوى عائلة آنذاك في البلاط. ساهم “كاماتاري" بصفته جنرالا ورجل سياسة، مساهمة كبيرة في إنشاء أسس دولة مركزية تحيط بالإمبراطور والبلاط. ثم جاء ابنه “فوهيتو” وأصدر سلسلة من القوانين الأساسية ولاسيما على الصعيد الجزائي والإداري. ويشار الى هذه المجموعة القواعد القانونية بعبارة “نظام القوانين “ (ريتسو ريوساي) وقد أتاحت إقامة سلطة مركزية قوية جدا حكمت اليابان قديما حوالي ثلاثة قرون: من القرن السابع حتى القرن العاشر.
كان لـ “فوهيتو” أربعة أبناء شديدو الذكاء، وهم الذين أسسوا فروع آل فوجي وارا الأربعة. وفي الفرع المعروف بـ “فرع الشمال “ والذي أسسه ابنه الثاني “نوساساكي” ظهرت سلسلة من رجال السياسة البارعين الذين، وبكل معاني الكلمة، سوف يسيطرون على عصر هييان تماما..
لكن لابد من الإشارة الى حدث مهم فيما يتعلق بـ “فوهيتو”: أصبحت ابنته “كوميوثي” الزوجة الرئيسية للامبراطور “شومو”. وهكذا خرقت القاعدة الثابتة لحد آنذاك: لا يحق الوصول الى هذه المرتبة الا لفتيات العائلة الامبراطورية. لكن يقال إن “كوميوشي “ تميزت منذ طفولتها بذكاء خارق. وما أن أصبحت إمبراطورة حتى أظهرت إيمانا عميقا بالبوذية وأمرت ببناء دارين خاصين بالمرضى والمعوزين.
هذا الوصول الى مرتبة امبراطورة من قبل امرأة تنتمي الى عائلة كعائلة “فوجي وارا”، سوف يخلق في الأوساط السياسية اليابانية ظاهرة جديدة ذات أهمية خاصة: نساء ”آل فوجي وارا” من الفروع الأربعة، سوف يتنافسن، من جيل الى جيل، على شرف أن يكن زوجات الأباطرة.
عندما كان يولد أمير امبراطوري من زواج مماثل، فإن أب الزوجة يكون بشكل طبيعي جدا لامبراطور قادم. وأثناء تتويج هذا الأخير وهو لا يزال في ريعان الصبا وهذا ما كان يحدث باستمرار، لأنه من عادة الأباطرة وقتذاك أن يتنحوا عن السلطة في عز الشباب، وذلك بغية الحصول على لقب "امبراطور معتزل “ فإن الجد لجهة الأم، كان يأخذ صفة “الوصي” (سيشو) ويحكم بشكل فعلي مكان حفيده ويتمتع بسلطة مطلقة.
لا بل كان يحدث، أحيانا، وبعد بلوغ الامبراطور سن الرشد أن يمارس شخص قوي من "آل فوجي وارا" السلطة مكانه، شاغلا وظائف ومهمات "رئيس الوزراء” (كامباكو).
هذا النظام من الأوصياء ورؤساء الوزراء، صار بسبب التشعب الممتد بين جميع فروع هذه العائلة احتكار ”آل فوجي وارا” متيحا لهم تدعيم سلطتهم الهائلة.
بيد أن تسمية وصي أو رئيس وزراء، لم تكن منتظمة أثناء إقامة هذا النظام: هكذا نجد في “سوثماوارا -نو – ميتشيزاني" وبصعوده السياسي البارع، مثالا مدهشا لخرق هذه القاعدة. وكما قلت في محاضرتي الأولى، بعد أن تميز “ميتشيزاني” تميزا خاصا من قبل الامبراطور “أودا” عين في أرفع مراكز الحكومة. لكن وفي الوقت نفسه عين الامبرطور “دايغو” – وهو ابن الامبراطور “أودا” – زعيم فرع من فروع “فوجي وارا”، وهو "توكيهارا" في المرتبة ذاتها. كان الامبراطور الشاب ينفذ رغبة أبيه المعتزل. فهما كانا يريدان تحييد نظام سيادة آل فوجي وارا المطلقة، وبالتالي تأمين وسائل إدارة السلطة بنفسيهما. بيد أن هذا المشروع – وبسبب معارضة “آل فوجي وارا “ الشديدة – انتهى الى فشل ذريع ومأساوي، ثم أدى الى سقوط “ميتشيزاني”.
– 2 –
هكذا عزز “آل فوجي وارا” سلطتهم شيئا فشيئا وبدعمهم اللا متناهي للنظام الامبراطوري، استطاعوا بسط سيطرتهم ليس فقط على الأوساط السياسية، بل على جميع مجالات الحياة الاجتماعية، بما في ذلك المجال الثقافي. ومن الجدير بالذكر أن كثيرا من عائلات "فوجي وارا” قد انتجت عددا مهما من الشعراء والرسامين، والكتاب، والفنانين. لم يكونوا حكاما سياسيين وحسب، بل تميزوا غالبا بمواهبهم الإبداعية في مجال الأدب والفن، ولعبوا دور حماة مثقفين عن الفنانين.
لكن الظاهرة المثيرة هي بروز عدد غير قليل من الشعراء الذين ينتمون الى عائلات أقصاها “آل فوجي وارا” أثناء الصراع على السلطة. وعلى الرغم من طبقتهم المتواضعة داخل الارستقراطية، فإن اجتذبوا بدورهم الأدبي احترام وتقدير عشاق الشعر.
من جهة أخرى لم يكن بمقدور ميل بعض الأباطرة الشعري والفني المرتبط أساسا برغبة جادة في الوصول الى استقلال نسبي عن سلطة "آل فوجي وارا” المطلقة، إلا أن يحبذ هؤلاء الشعراء الموهوبين المنحدرين من طبقة نبيلة صغرى: هكذا كان هؤلاء يجدون أنفسهم وقد أصبحوا اعلاما في الأوساط المثقفة. تلكم هي الحالة الجديدة والحاسمة التي فرضت نفسها أثناء صدور أمر امبراطوري بوضع المختارات الأولى للقصائد اليابانية، أي "ديوان قصائد الواكا القديمة والحديثة“.
وهنا أيضا، يمكن القول ان الأمبراطور “أودا” وابنه الامبراطور “دايغو” الوفي لميول أبيه الفكرية، هما اللذان فتحا طريق هذه التوجهات الجديدة. فالأمبراطور “أودا” الذي ميز “سوثماوارا -نو – ميتشيزاني”-هذا الغريب عن آل فوجي وارا – كان يكن له أسمى آيات التقدير بصفته متخصصا كبيرا بالدراسات الكونفوشية، وشاعر “كانشي “ من الدرجة الأولى. والحقيقة أن “أودا" كان عاشقا كبيرا لشعر “الواكا”.
أحد أسباب ميوله الى الشعر الياباني يعود _ قد يبدو ذلك مدهشا _ الى انه كان مولعا بسحر النساء الذكيات. كان للامبراطور رسميا، أربع عشرة زوجة ثانوية، وكلهن ينحدرن من أقوى عائلات اليابان، ولاسيما عائلة فوجي وارا. نساء يصطففن الى جانبيه الواحدة بعد الأخرى. كانت من بينهن ابنة “ميتشيزانيد" وكذلك ابنة “توكيهارا” خصم “ميتشيزاني” السياسي. وتجدر الإشارة الى أن ثلاث نساء على الأقل، من هؤلاء الزوجات الثانويات، كن شاعرات، وأن واحدة منهن واسمها "إساي" ذكية وجميلة _ قد أثرت بعصرها حقا. لقد انتهت "إساي” الى ترك قصر الامبراطور “أودا” والزواج من أمير امبراطوري أنجبت منه "ناكاتسو كاسا" التي سوف تعرف هي الأخرى بمواهبها الشعرية.
أن يكون للامبراطور هذا العدد المرتفع من النساء، فليس في ذلك أي شيء استثنائي بالنسبة لى ذاك العصر. يقال إن الامبراطور “ايغو" كانت لديه ست عشرة زوجة ثانوية، وكانت للامبراطور “ايشيجو” ست زوجات، وكانت الى جانبه كسيدات شرف الشاعرات: موراساكي _شيكبو،د ساي _ تشوناثمون،“إيزومي _ شيكيبو" أما بالنسبة الى الامبراطورين المعتزلين “ثمو شيراكاوا وثمر توبا” اللذين طبعا الشعر الياباني القديم بطابع مدهش ورائع، وذلك بصفتهما نصيرين للأدب وشاعري “واكا” أو شاعري “أغان شعبية “، فقد كانت للأول سبع عشرة زوجة، وللثاني ثلاث عشرة، وجميعهن يسكن في مقصورات القصر الخاصة.
كانت بينهن _ بالإضافة الى الشاعرات والمغنيات والراقصات الممتازات. الأمر الذي يعني أن الجمال وحده لا يكفي. فإلى جانبه لابد لامرأة البلاط من موهبة خاصة تعد جزءا من جاذبيتها، كالقدرة على كتابة القصائد مثلا، أو التمكن من فنون المسرح.
والحالة هذه كانت القصائد التي أتحدث عنها هي قصائد “واكا” مكتوبة بأحرف “الهيراثمانا” التي تستخدمها النساء عادة، لا قصائد “كانشي “ مكتوبة بالأحرف. الرسوم الصينية _ شكل من الكتابة خاصة بالرجال. يمكن أن نجدهن واحدة من النتائج المنطقية لنظام الأوصياء ورؤساء الوزراء (الذي لعب دورا حاسما في تعزيز سيطرة آل فوجي – وارا): فهو لم يعط نساء الأباطرة مكانة راجحة وحسب، بل بفضله استطاع شعر “الواكا" الذي برعت النساء فيه كوسيلة للتعبير الأدبي، أن يحتل مكان الصدارة حيث أخذ مكان شعر “الكانشي “ هكذا تجمعت الظروف الملائمة لوضع أول مختارات شعرية بأمر امبراطوري.
أما على الصعيد السياسي، فقد اتحد نظام الأوصياء ورؤساء الوزراء القائم، كما رأينا، على تحالفات زواجية، مع نظام القوانين الدقيق جدا، وأفضى الى ولادة صيغة حكومية جديدة حقا. بدءا لم يعد واردا، على الإطلاق، تقليد النموذج الصيني حرفيا، ثم جاء عزل “ميتشيزاني”، هذا المتخصص بالدراسات الكونفوشية، ليكون معلما لهذه القطيعة المهمة. كما أن الصعود المدهش لشخص مثل “كينو-تسورايوكي” _ أصفر من “ميتشيزاني” بثلاثين سنة _ ذو دلالة كبرى، ويكشف عن المنعطف الحاسم الذي عرفته اليابان في بداية القرن العاشر: انتقال من تقديس الصين الى احترام الدولة اليابانية: انتقال من شكل “الكانشي “ الشعري الى شكل “الواكا” والى الأدب بحروف “الهيراثمانا”؛ انتقال من ثقافة تسيطر عليها الأرستقراطية العليا الى ثقافة أوجدتها الطبقة النبيلة الوسطى.
هناك، باستثناء “دكينو – تسورايوكي” الذي ينتمي الى الطبقة العليا، ثلاثة ارستقراطيين أخوين ينحدرون من طبقة متواضعة تماما، تلقوا أمرا امبرطوريا بوضع “ديوان قصائد الواكا القديمة والحديثة “ (كوكين واكا. شو) وذلك لأنهم كانوا ذوي مهارة فائقة في مجال شعر “الواكا” إن اضطرابهم أمام شرف معافى، وأمام مهمة بهذا الحجم، ثم انفعالهم العميق بعد انجاز المختارات وتحققها كل ذلك يتجاوز ما قد نتصور.
كانت الصينية بنظامها الرسومي، خلال القرن التاسع، هي لفة الكتابة المستخدمة في البلاط، وفي جميع المناسبات الرسمية، سواء تعلق الأمر بالشعر أو بالنثر، لا اللغة المعروفة – (ياماتو. كو توبا) أي اللغة اليابانية المحلية. لم تكن أشعار “الواكا” المنظومة باللغة اليابانية، بالنسبة الى الرأي العام، شيئا أخر إلا وسيلة يستخدمها الرجال والنساء للتعبير عن عواطف الحب السرية، وأداة تواصل لها سمة الخصوصية.
ولذلك لم يكن للقصائد آنذاك الشرف الكافي للظهور علنا أمام الناس. لكن هوذا “ديوان قصائد الواكا القديمة والحديثة “ يقلب الموازين. وفجأة يتحول شكل “الواكا” الشعري الى شكل رسمي في البلاط، وذلك بفضل دعم الامبراطور وتقديره المطلق لهذا الشكل. والحقيقة أن عبارة “موضوع بأمر امبراطوري” (تشو- كوسين )، الموجودة على رأس المختارات تعني: “اختارها الامبراطور نفسه “.
في مقدمة هذه المختارات المكتوبة بالهيراثمانا، والمنسوبة الى الشاعر “كينوتسورايوكي” يتجلى الفخر والسعادة بهذا الاعتراف الرسمي. إن هذا النص بيان يعلن انتصار شكل “الواكا" الشعري على شكل “الكانشي “.
منذ ذلك الحين، وحتى بداية القرن العشرين، أي خلال ألف سنة، تطور معنى الجميل ونضج _ كما يتضح في الشعر الياباني وف جميع الأشكال الفنية الأخرى، وحتى في الاستخدامات اليومية _على أسس “ديوان قصائد الواكا القديمة والحديثة “. صارت مقدمة “كينو_تسورايوكي” المرجع الجمالي القدوسي الذي لم تتوقف العودة اليه باستمرار. لقد لجأ المبدعون من جميع المدارس، بشكل علني أو غير علني، وفي جميع المجالات، من الشعر الى فنون القتال، مرورا بطقوس تقديم الشاي (إيكي _ يانا) ويفن تثمين العطور وتذوقها، وبالموسيقى، وبالرقص، وبمسرح “النو” أو الـ "كيو _ ثمين، الى مقدمة "ديوان قصائد الواكا القديمة والحديثة “ أو الى قصائد هذا الديوان نفسها، للبحث عن سند معنوي يدعم نظرياتهم الخاصة. كما أنهم وجدوا موديلات في المختارات الأخرى الموضوعة بأمر امبراطوري على أن “ديوان قصائد الواكا القديمة والحديثة “، وكل مختارات تمثل عصرا معينا.
إن اسم “كينو _ تسورايوكي”، اكتسب سلطة شبه خارقة، سلطة لم تتوقف عن تأكيد نفسها خلال عشرة قرون، وذلك قبل أن توضع وبشكل عنيف، موضع نقاش في نهاية القرن التاسع عشر على يد الشاعر الشاب “ماسا أوكا _ شيكي” الذي أسس حركة لتجديد ”الواكا”.
لعل هذه الوضعية تعود الى الخطوة التي أحاطت بـ “اختيار قصائد الامبراطور”، أكثر مما تعود الى قيمة عمل “كينو _ تسورايوكي” نفسه. لكن ما يمكن قوله بحق هو أن “ديوان قصائد الواكا القديمة والحديثة “، وكما هو يجمع بين طياته عددا كبيرا من القصائد التي فيها، بالنسبة الى تاريخ التعبير الشعري المكتوب باليابانية، من الجمال الكلاسيكي والكثافة البارعة، ما يجعلها تقاوم عاتيات الزمن.
– 3 –
وفيما يلي أهم فقرة في مقدمة “ديوان قصائد الواكا القديمة والحديثة “ المنسوبة الى،دكينو _ تسورايوكي،، كما قلت سابقا:
“الشعر المكتوب باللغة اليابانية (ياماتو _ كوترنا) نواة في قلب الإنسان، ويتكون من كلام لا متناه عدده. إن من يعيشون في هذه الدنيا يعرفون كثيرا من التجارب المختلفة والمتنوعة جدا. وبالكلمات يعبرون عما يشعرون به استنادا الى ما يشاهدون وما يسمعون. هل يمكن أن نتصور كائنا حيا واحدا لا يكتب شعرا عندما يسمع غناء عندليب فوق شجرة مزهرة، أو صوت ضفدعة “الكاجيكا" المقيمة في المياه ؟ زلزلة الأرض والسماء، إثارة أرواح الموتى اللا مرئية، تلطيف العلاقات بين الرجال والنساء، تهدئة قلب المحارب المقدام ؟ ككم هي _ ودون اللجوء الى القوة استطاعة وقدرة شعر الواكا”.
في البداية يؤكد “تسورايوكي” أن نواة شعر ”الواكا" موجودة في “قلب الإنسان “، ويشير الى أن هذا القلب المنسجم مع التغيرات التي تخضع لها جميع الأشياء في الطبيعة يعبر بكلمات هي نفسها في تغيير مستمر؟ باختصار يعبر من خلال الشعر. زد على ذلك ان جميع الكائنات الحية _ المعبر عنها هنا: عندليب فوق شجرة مزهرة، ضفدعة تنق على طرف المياه _ هي شعراء أيضا _ هذه الرؤيا للأشياء تستحق الانتباه، لأنها وبشكل نظري تشبه _وهذا مبكر جدا في تاريخ الآداب _ الى النزعة الإحيائية، أو الأرواحية (الاعتقاد بأن النفس هي مبدأ الفكر والحياة العضوية في آن ) الشديدة النقاء، والتي يمكن القول عنها إنها تشكل واحدة من خاصيات الشعر الياباني.
ثم يقدم د”تسورايوكي” عرضا أكثر إمتاعا: يعتقد أن شعر “الواكا” يستطيع، “ودون اللجوء الى القوة “ أن يزلزل لأرض والسماء وأن يلامس بعمق أرواح الموتى. بعبارة اخرى، إن هذه الصيغة الشعرية المكونة من كلمات محدودة لعدد، تحتجز في داخلها طاقة كافية لرج حتى الكائنات الفوطبيعية. يكشف هذا المفهوم للأشياء عن رؤية للشعر مختلفة جدا عن رؤية مألوفة بالنسبة الى القاريء الأوروبي، على الأقل، والتي يجدر ذكرها ببعض الكلمات: الشعر بالنسبة الى هذا القاريء هو تعبير إلهامي، تعبير موحى، أوحت به قوى فوطبيعية لبعض الكائنات البشرية ذات الموهبة الخاصة.الموكول اليها نقل هذه الرسالة الى البشر الأخوين.
نقطة الانطلاق المركزية بالنسبة الى “كينو _ نسورايوكي"، هي “قلب الإنسان حيث كل شيء يأتي من هناك. قلب يتماهى، وبلا عناء مع أدنى اهتزازات النباتات والأ شجار، ويفني بالتساوق مع العصافير، ومع الدابات البرية المتوحشة، مع الحشرات والأسماك.
لعل هذا ما يفسر العدد المحدود جدا للمقاطع _ 32 مقطعا صوتيا _ التي تشكل قصيدة “واكا” واحدة. فمن أجل التنغيم والترجيع مع عناصر الطبيعة، ومن أجل الفناء يتوافق مع جميع الأجناس الحيوانية، ومن أجل الوصول الى فضيلة البساطة، فإن الصيغة الموجزة ملائمة في الشعر أكثر من غيرها. فهي أكثر ملاءمة من القصائد الطويلة، بمعنى أنها تؤثر على الدوام الإيماء، وتستدعي خيال السامه أو القاريء.
يقودنا هذا الى القول: إن التفوق في الشعر الياباني التقليدي لا يرتكز على مفاهيم مثل: الأفكار الأصيلة أو النبوغ والإلهام _حتى وإن كان لهذه القيم احترام وتقدير شديدان. لكن ما كان يهم بشكل أساسي وأكثر من غيره هو أن تثير القصيدة أصداء لدى الآخرين، وأن تؤثر بالكائنات الحية الأخرى، وبالموضوعات والأشياء غير الحية، وهكذا تتوحد بين هذه الأشياء جميعا مطابقات انسجامية.
هذا ما نعنيه، من ناحية، لفظة “الواكا": فالمقطع “وا” يعني من جهة، الـ:”يا ماتر”، أي اليابان وكل ما هو ياباني بخاصة. ومن جهة أخرى، تعني، وبشكل أكثر عمقا، “الإنسجام “ بجميع صيفه وأشكاله، سواء تعلق الأمر بدوزنة الصوت مع أصوات الآخرين، أم بمجاراة عواطفهم والتناغم معها، أم بخلق جو من التفاهم والإتفاق. إذن، المعنى الأولي لكلمة “واكا” _التي يمكن ترجمتها بـ “قصيدة يابانية “ _هو “قصيدة مغناة بالتساوق “.
إن إلحاح “كينو-تسورايوكي” ينصب فعليا على هذا الإنسجام. وبهذا المعنى، كان من الطبيعي أن يضفي على “الواكا" القدرة على خلق حميمية بين الرجال والنساء، وعلى تهدئة قلوب المحاربين الأشاوس.
باختصار كان المثال الأعلى “للواكا” هو تهدئة القوى الفوطبيعية الأشد خطرا، وتحريك الطبيعة، وإثارة أرواح الموتى. ولذلك كان هذا الشكل الشعري، في الأزمنة القديمة، وفي العصر الوسيط يستخدم على قدم المساواة مع بعض الصيغ والعبارات السحرية كإنشاء لمقاومة الجفاف واستنزال المطر، لمنع الطوفانات والكوارث الطبيعية الأخرى، وأيضا لحماية الناس من الأوبئة الخطيرة التي كانت تعيث فسادا آنذاك. كان يعتقد، حقا أن قصيدة “الواكا” تمتلك سلطة فوطبيعية تكفي قوتها لدحر هذه القوى الشريرة، كان هذا الاعتقاد سائدا، في المجتمع الياباني القديم وفي العصر الوسيط، بين الناس العاديين _لا بل كان متجذرا في أعمق أعماقهم.
إذن، الا نستطيع القول بأن هذا الجانب النفعي لقصيدة “الواكا"، يجعلها مختلفة بشكل جوهري عن “القصيدة “، كما كانت تفهم في العصر نفسه بالغرب ؟ وطالما أن نواة قصيدة “الواكا” موجودة منذ الأصل في قلب الإنسان، فإنها تمتلك في الحاصل، وبشكل كوني، وبفضل مبدأ “الإنسجام"، القدرة على تهدئة وأنسنة الحضورات الفوطبيعية الأشد تخويفا وترهيبا.
هذا الاستعداد لدى اليابانيين للإيمان، ويمثل هذه البراءة، بسلطة الشعر يعود الى عدة عوامل: منها وبشكل خاص، كون الأرخبيل الياباني، وبحكم موقعا الجغرافي، لم يعرف على مدى قرون طويلة أي غزو أجنبي، وبالتالي استطاع سكانه العيش ولزمن طويل، أياما هادئة ووديعة. زد على ذلك أن اليابان تقع، من جهة نظر مناخية، جنوب جنوب شرق آسيا، في منطقة تسيطر عليها الرياح الموسمية، حيث السيوف الحارة جدا، الرطبة والغزيرة المطر، توفر الشروط المثالية لخضرة نباتية كثيفة كما أن الربيع والخريف يتسعان بفروقات مناخية متنوعة جدا، مما يؤدي الى تنوع على صعيد الحيوانات والنباتات. ولهذا السبب يذكر ”كينو _ تسورايوكي” في المقدمة آنفة الذكر، وبشكل عفوي، غناء العندليب ونقيق الضفدعة.
بالنظر الى جميع هذه الاعتبارات، يمكن أن نفهم لماذا لم يستطع اليابانيون إلا أن يتبنوا ويطوروا رؤية أرواحية للطبيعة. كما نفهم أن هذه الرؤية، وبكل مالها من عميق وأصيل، هي التي قولبت الشعر الياباني وصاغته.
– 4 –
يعرض “كينو _ تسورايوكي” في المقدمة السابقة الذكر، عدة موضوعات عزيزة عليه وليس في نيتي تناولها هنا بالتفصيل. لأن جوهر هذه المقدمة، مكثف جدا في الفقرة المستشهد بها سابقا. لكن الأفكار التي ذكرتها للتو تكون نسيجا، لا يشترك فيه مجمل الشعر الياباني وحسب، بل والنثر أيضا، سواء المذكرات أو السرد القصص، أو اليوميات الواقعية حقا. نجد هذا النسيج في “أسلوب العيش"، الياباني الأصيل، الذي لم يتوقف عن رفع الأفعال اليومية الى مستوى الفن: نستطيع أن نلمس ذلك في تنسيق الزهور، أو في طقوس تقديم الشاي مثلا. أخيرا، إنه النسيج نفسا الذي يضم، بشكل عام، مجمل الاحتفالات والأعياد التي تمر أثناء العام.
من الجدير بالذكر أن هذه الرؤية، حكمت أيضا إعداد المختارات الشعرية الأخرى التي وضعت متتالية بأمر امبراطوري. فخلق “الانسجام “ بين الناس يصل الى حد تهدئة
القوى الفوطبيعية الأشد خطورة. وأنبل وسيلة لبلوغ ذلك، هي كتابة قصائد “واكا” ككم هي الأفكار التي تعج بها هذه المؤلفات.
يتعلق الأمر هنا، لا أكثر ولا أقل، بمفاهيم تعكس ما يجب أن يكونه، وبشكل مثالي، نفوذ الأباطرة. لقد ظلت السلطة، واقعيا، بيد “آل فوجي وارا” مدة 400 سنة قبل أن تنتقل هذه المرة الى أيدي العسكر الذين سوف يتعاقبون على رأس الحكومة مدة 600 سنة أي من بداية القرن الثالث عشر الى بداية أو منتصف القرن التاسع عشر تقريبا، أي أن الأباطرة لم يتمتعوا أبدا، وخلال ما يقارب الألف سنة، بسلطة مطلقة، مارسها في مكانهم المحاربون والأرستقراطيون. بالمقابل، لم ينكر هؤلاء أبدا، وبشكل علني، نفوذ الامبراطور الذي وإن لم يكن له أي تأثير على القضايا العسكرية، احتفظ بمكانه في قمة الهرم السياسي.
لا بل يمكن القول إن الأرستقراطيين والمحاربين، استخدموا بشكل دائم، هيبة الامبراطور لتدعيم وترسيخ سلطتهم الخاصة. تلك الهيبة المحسوسة جدا، كانت في الوقت نفسا شيئا مقدسا ومطلقا.
ضمن هذا السياق، كان وجود الامبراطور داخل مشروع إعداد مختارات شعرية ذا دلالة، طالما أن شعر “الواكا” نفسه يتمتع بسلطة مقدسة. ولذلك لم يتوان الارستقراطيون، والمحاربون عن دعم إنجاز هذه المختارات الأمبراطورية.