يقول الناقد الكبير رجاء النقاش عن الشاعر أمجد ريان إن جرثومة البث الشعري تسللت اليه فتخل عن شخصيته وابتعد عن هدايته الواعية، ويضرب لذلك مثلا بقصيدة لها عنوان عجيب غريب من أربع عشرة كلمة يقول "تغنى للتباعد أصعد، والبراعم حيطاني، أصعد، وهي الامتلاء، ترميني بالأهلة والشوك والجسر بالمنيع"،. ولم يجد الناقد في هذا العنوان غير التشويش والاضطراب والعجز عن الايحاء بمعنى أو فكرة أو عاطفة (ثلاثون عاما مع الشعر والشعراء ص 484). ولابد أن معظم القراء كانوا يشاركون الناقد في استجابته لهذا النوع من الشعر الذي يذهب الى أقصى الحدود في الغرابة والخروج عن المألوف. ولكن بعد عدد إضاءة في فبراير 1985 وهو العدد الذي نشرت فيه القصيدة توالت قصائد الشاعر ودواوينه وتعقيباته النقدية وبيانات زملائه الصاخبة المشربة بروح "حزبية"، فأزاحت بعض الغموض،.وأوضحت بعض الارشادات في كيفية القراءة، ولكن القليل من الألفة الذي أحاط ببعض ما يسمى بشعر الحداثة أكد أن تجربة أمجد ريان الشعرية ما تزال تحتل مكانها العجيب الغريب حتى بين صفوف شعراء الحداثة أنفسهم وسأحاول في السطور التالية تقديم شهادتي عن محاولتي أن أوضح لنفسي ما غمض من شعر أمجد ريان. وأبدأ بعنوان القصيدة القديمة، فهو تقابل بين الثنائي التقليدي الرغبة /التحقق، والظل الساقط بينهما، ويتكون هذا الظل من التباعد والحيطان والشوك والجسر المنيع وكلها رموز عادية، أما الرغبة فتتجسد في الصعود والبراعم والامتلاء والأهلة، ويصور الشاعر فعل الصعود ودراما التحقق المأمول في وجه الصعوبات ومغريات الوعود وهما متداخلان.
ولا يقدم العنوان لقطات من تلك التجربة أحداثها الجزئية، بل يقدم عناصرها الانفعالية الايقاعية في موجات مختلطة، وتفقد الأشياء الخارجية صلابتها وتتحول الى تجليات لحالات شعورية ذاتية (وقد تكون حالات لا شعورية) هي حالات العزلة والوحدة ومشاعر الحواس المرهفة أمام مظاهر التباعد وتفكك الروابط، بين الناس. ويرفض الشاعر صراحة القوالب اللغوية المتداولة الجاهزة التي تعبر عن التجارب النفسية فتزين تلقائيتها وفرديتها وأمالتها وطابعها المباشر وقد يصل من ذلك الى اعطاء أهمية ثانوية لوسائل الفهم والتعبير العقلانية المعتادة، ووضع تجربة الوجود البدائي الحسي والخبرات المباشرة للحياة ومستوى ما قبل الوعي في الصدارة، ولنقل إن كل ذلك قد قدمه الرمزيون والسيرياليون وأضرابهم إبداعا ونقدا منذ نهاية القرن الماضي وبدايات هذا القرن، ولا جديد في ترديده أو محاكاته، ولكنه قد يوضح لنا ارتباط فكرة الوضوح والقوالب العقلانية المتداولة والفهم المشترك بمفاهيم الثبات المضمحل المتداعي والشيخوخة عند شعراء تلك المدارس، ومواجهتها بالتمرد الابداعي وانتهاك المعايير.
ولنعد الى قصيدة 1985، الى أفق يصيب الشاعر بالدوار، وينفر اليه و "يمغنطه":
يا أفقا من العيون الشيخة والنخيل المغضن،
أطلق عصفورة بيضاء ذات منقار أحمر كالسمسمة.
فاللون الأبيض والمنقار الأحمر الدقيق ينتميان الى عصفور لم يخرج قط من بيضة واقعية ولكنه مقابل للهوم والغضون، ومتحلق تلك العصفورة في الحقول الهوجاء وفي زوبعة النخيل خارجة من كتاب الغياب. وينادي الشاعر قلبه داعيا إياه الى الوقوع في "الرهجة" الحكيمة والى الانشقاق في وتر الحنين.
وكلمة "الرهج" في القاموس تعني الغبار والسحاب الدقيق كأنه غبار والشغب أي أحداث الفتنة والجلبة. وربما كانت تلك الكلمة التي يكررها الشاعر في سياقات أخرى مستمدة من صورة شعرية متوارثة عن القتال "سوف على مهج في يوم ذي "رهج " كأنه أجل يسعى الى أمل" والرهج هنا الغبار ولكنه أصبح يعني عند أمجد ريان المعركة والصراع والاحتدام، وتضاف اليه صفة الحكمة التي تنتمي الى التعقل والتريث لتخلق احساسا بالترابط المتناقض، ترى هل تهنأ بعيدا والكلمة هي "الوهجة"؟ لقد كان رجاء النقاش على صواب، في انتقاده عبث استخدام كلمات مثل "رطرطتني" العربات الخشبية والحناء التي "تشخب" شعر البنات والعجلات "المعجنة" والتباعيض؟ دون أن يرفض من الشاعر في نحت كلمات جديدة.
تعويذة الدرويش: بيان شعري:
وقد حاولت في ندوة عن الشاعر تقديم بعض المفاتيح للقراءة (هل تلزم مفاتيح ربما كانت "طفاشة" وهي أداة يصطنعها اللصوص لفتح جميع الأقفال هي الكلمة المناسبة) واعتبرت قصيدته "تعويذة الدرويش" مرشدا.
فالشاعر يقطن منطقة تقع في أقصى الحدود، هي حجرته بعد ضياع المستقر والملاذ، مع ذاته وذكرياته. أمامه منضدة متهدلة وأوراق متفرقة فوق الرفوف الكليلة وقفص عشب يسجن عينيه (لاحظ القافات ثم الفاء واجتماع الوحدتين الصوتيتين في قفص) فالتواتر والتكرار في أصوات
لغوية محددة عند اختيار الكلمات يجعل لهذه الأصوات فاعلية بنائية، تضيف , الى الروابط الدلالية للكلمات تنظيما يجمع بين كلمات لا ترتبط من حيث المعنى ويصبح لهذا التنظيم الصوتي دلالة مباشرة، فهو يدعم التماثل في ظلال المعنى. ولنلاحظ أيضا اللقاء بين الحركة الايقاعية الصوتية والبناء النحوي، والترتيب المنتظم للكلمات أو التماثل الاعرابي لتركيب الجمل، وقد تنشأ تنويعات إيقاعية من التوتر بين نبض التدفق الدلال وطراز التركيب النحوي.
إن ذكريات خضرة الطفولة تمسك بأهدابه، فقضيته دائرية ضد المنطق المعتاد، ويدهمه خنجر التيه (صورة الأنثى الملتوية وكوبها الأنثوي). ويقابل سجن العشب سجن الآلي والتافه والكلمة المقننة.
ونلتقي هنا بحنين صوفي للنبع والمصدر الأصلي والطفولة، بسر أبدي وباستبصارات خفية، بحنين لواقع كلي متعال. كما نلتقي تيمة محورية عند الشاعر، تيمة الحب باعتباره منبعا أول للتوحد والانطلاق، فالرغبة في هذا الحب المجنون تذيب الذات وتستعيدها وتضيعها في الآخر. ويعمل القاموس الصوفي على توكيد الوحدة بين أشياء الكون من المجرات والنجوم الى القلم والقيثارة والحلم، وسيواصل الشاعر ارتداء قناع الصوفي حتى عندما يكف عن استخدام قاموسه. فسيظل يحاول احتضان جسد العالم والحملقة في دائرية قضايا الذهن، وستختلط لديه النغمة الحسية الشبقية والنغمة القدسية معا.
النخيل القديم في أضلعه وفي عينيه العشب، وماجدة تملأ عينيه بالصبح، وهو يصارع كل الرموز ويحمل قريته في حقيبته أو جرابه، ومفردات القرية من جسور ووجوه، وأشلاء حقل تفرق في قدميه، هنا اتحاد صوفي بينه وبين نبعه مع تألق الذكرى وخبوها. أما مدينته فهي في السديم وبين جنبيه، أسرار ومآذن، والتواريخ تنام في المآذن، حياة وموت معا في آن. ووسط أفعال حوله في المضارع، قباب تثن وأسرار تتمدد يجيء الفعل المضارع "تنام" التواريخ لينقل معنى هو النقيض من الحركة على الرغم من ثبات الصيغة النحوية فالتقابل ماثل كذلك في "شيء من الموت" والانتقال قبل ذلك من صيغة المضارع الى الماضي ثم الى المضارع: توغل في النخل، غنى الهشيم، أنامله جاورت أفقا، مثل الانتقال من الذبول الى الصراخ، ومن الانتفاض الى السكون، ومن السفور الصارخ الى خفية السكون، فالأزمنة المختلفة تتحد والأوجه المتباينة تلتقي في ذات الشاعر. وبعد ذلك يأتي الانتقال من الجليل (المآذن والتواريخ والسديم والموت والخرافات المصطلية بالظلام) الى التافه اليسير "مواء يهرول، ومشط شعر تجعد في رأسه المتشعب" (لاحظ تساوق الجرس اللفظي للتركيز). ويتم الهبوط من الكون الى الحجرة وذات الشاعر: "بص الى ساعة الحائط، نافذة عادية ستفتح في المستقبل السموات العلا، سيزرع فيها أرجوحة والعناوين لم تعد مثبتة بمعالم الطريق بل انقشعت كأنها سحب"، وكلمة انقشعت ليست لها الالفة العادية لكلمة بص أو عناوين،. هنا نجد الدورة الدائرة صورة الانغلاق وصورة اللانهاية معا، وصورة من الأفق والعلو الى سلم لولبي، صاعد هابط، قد يقود الى الأعالي أو الى النهاية.
وهو في شقته مع الحزن، وفي دوامة الحجرة يدور الزوار، ومشهد التعبير الشعري هو مسرح من دخان السجائر تعرض فيه فجيعته: مصاب بالسكر ويعانق موتا، الغرفة الواهية التي كانت دوامة أصبحت الآن وقورا، غرفة واهية للتسكع، وتنكسر ظلال العمائر في قلبه كأنه قد لاذ بكهف أفلاطون. وبعد التحليق والتحويم والاسترجاع يصبح مدار الحجرة مدارا لقلبه، وهو مدار جروح ولون كآبات ومضغ للأحزان، والنغمة الرومانسية التقليدية تواصل التصاعد لتوميء الى الشعر في عالم الميكنة والخردة و "الواقع" والذين يعيشون على دخل أسهم شركة الواقع المساهمة، وصديده الروحي، والتقاط العارم الذي تنعته عربة الواقع الصدئة، فالزهور خردة ولكنها تنتفض وأمامنا صفة ولكنها صفقة حزن جديدة، و"جورنال معدني" حيث كلمة جورنال للجريدة، في واقعيتها المألوفة، وغرابة أن تكون الخبر معدنية، في جمودها وتماثل ما تقوله كل يوم فالكليشيهات المعدنية هي أخبارها الطازجة ثم تجيء الجارة المعدنية. وتتجاوز واقعية الكلمات وابتذالها على نحو استعاري مع كلمات تقوم بشخصها بدلالة معاكسة وبالتباس مثل: جثة مقعد ملتو، وسينغلق خصاص الباب لن يغلقه أحد، حتى يسافر للذات عبر ضجيج الحديد.
ويستمر التقابل بين الزيف والوجد في جولة وجولات. فالشاعر يغمض عينيا ولكن الترام يخش وسادته (الواقع في نثريته اليومية واقتحامه) والشاعر يهاجر في "ضلفة" الباب، وتشرق عتمته وينهمر عالم الدمى المعدنية في تكرار متراقص في الصحف، "فالجنود" ينفذون فوق سريره نائمين، وفوق البساط وعلى المنضدة. سيلبس الآن ساعته (غير ساعة الحائط)، والعقارب دوامة، وهل هناك ما يحول بين صمت مذياعه المتبلد الذي مات وبين أن "يعوي" بأغنية من نيويورك وأن يتخلق نهد من المعدن اللامع الفضي. وماذا عن الغد؟ يوم غريب سيأتي. يشد وتاج الفضيحة الآن الشوارع فالحزن أسفلت آه سيرجف في قدميه أسفلت حزن" ولن نواصل قراءة البيان، فمن السهل متابعة كل الشفرة وإزاحة الغموض.
بنود إضافية في البيان الشعري
ولكن ما أضأل الحصاد، أبعد كل هذا الجهد اعتصرنا من القصيدة (أو لعلنا فرضنا عليها قسرا) قائمة من التعريفات الرومانسية التي ما تزال تعاني سكرات الموت، لتتبرج أمامنا في ثياب عرس: جموح الخيال وشطط العواطف ورؤية اللامحدود واللامتناهي والاستغراق في الرؤى الحلمية الخيالية، أي طغيان الفن على الحياة والذاتية على الموضوعية والحساسية المتورمة المكثفة على العقلانية ؟ هل بلغنا قصاري الجهد؟ الحقيقة أنه لا يمكن الوقوف هنا ففي قصائد أمجد ريان لن نجد جمالا فنيا بمعنى بناء القصيدة في وحدة متسقة مما يعكس رؤية للعالم تقوم على الطراز المتآلف وانسجام الانسان والعالم الخارجي، بل تجيء تنمية القصيدة (بل والسطر والعنوان) تنمية طليعة متعرجة بل مراوغة تائهة فتتتابع الصور والايقاعات والأفكار تتابعا متقطعا متوفرا سريع الاهتياج وثمة انتقالات مراوغة مباغتة في القيمة والنغمة خلال قفزات متنافرة واختلال في الانسجام والتكامل، وتعتمد القصائد وحتى الابيرجرامات القصيرة على اندفاع طاقة متشابكة مشوشة لا على تصميم مغلق، ولنأخذ قصيدة "خذي وشمي" من ديوان "أوقع في الزغب الأبيض"، فالتوازنات حرجة مؤقتة لا يوفق بها. كنت آخذك من الأسماء، أعزف، النهدان قبتان والخصر خيمتي. أعزف،هلع الرموش لي والشهوة الخرساء، أحضن الصلصال واللحظ الذي يتلظى، هنا تجربة عدم الاسترسال والولع بالاستجابات المتضادة. ولن نجد أي محاولة ظاهرة للتنظيم تبعا لمنطق الدراما البلاغية أي من خلال الانتقال التدريجي خطوة خطوة والتسلسل المتعاقب المنتظم في فكرة واحدة أو الذي توجهه فكرة واحدة بل الدوران عبر الأطراف والأضداد والانفراج والتشعب والانحراف:
(ورحت أقطع الأمصار والخلجان. أجلب ماء الآبار وأبني الزوايا والتكايا. أيأس فيك. أغني الموال. الذي يتهجى الكون في فستانك الشاسع. كنت ألملم النجوم والأقاصي وأدور في خيلاء الأقواس).
فنحن أمام تصميم بنائي مراوغ مكوكي ولذلك فهو درامي على نحو مباشر كثيف يتجل كذلك في من "الأريج الأعلى" فكل لقطة هي ذبذبة باطنة لنغمة شخصية ذاتية، وتتوالى اللقطات من زوايا خفية محتجبة. ويحاول الشاعر أن يكون حكيما على حسابه الخاص لا على حساب الأجيال
السابقة، لذلك يقول إن اليقين الوحيد هو الدهشة، فما من حقيقة موحدة السحنة في كل مكان وفي كل لحظة، ورحلة البحث، معقدة الاتجاهات عبر توترات وتناقضات غير محلولة. وهل تصل الرحلة الى مرسى؟ يبدو أن الفورة والاشتعال في "رهجة" العناق كما يقول يظلان بمثابة الدوران الأبدي داخل إطار قدري نهائي شديد الثبات، وسنظل داخل عالم الاحباط على الرغم من أن عناصر التجربة شديدة النشاط متوهجة الطاقة ولكنها مجمدة مشلولة تبني فراديسها الاصطناعية في لحظات تطفو على نهر السكون. ويكمن التناقض بين الحركة والسكون والطاقة والشلل دون تنمية أو حل، في عالم الأنا والحبيبة في القمقم الصوفي الحسي. لذلك لا يبقى أمام الشاعر إلا أن يعود الى لبس قناع الشاعر المتنبي للمرة الواحدة بعد الألف في قعقعات بلاغية: (كنت أمر على الحيطان المكسورة، والورق الضبابي فوق كفي، وأقنعة الخواء مرصوصة حتى الأفق، وكنت اتلو النبوءة، بمراياي المتداخلة سيعكس قزحك آلاف الألوان). ولكننا نرى العالم بعد ذلك معتما مظلما كما هو ويخيم الشلل رغم أن العناق يشهق من فرط الأغصنة التي زهجت فيه ومن فرط الدم الذي سالت عليه، فالشك العاصف تحوله الحبيبة حينما يدخل زمن المرأة الى "مدى يتوضأ في الجسدين" أي الى اذعان تقي لمباديء قطعية، الى "جسدانية نورانية" بالرطانة المعلبة.
منا نلتقي بسورة الانفعالات الشبقية باعتبارها منفذا (مهربا) من عجز مجتمع الدمى الميكانيكية عن تقديم إشباع لرغبة دائمة الخضرة عند الشاعر، هي رغبة متسلطة في رؤى ذات درجة حرارة مرتفعة جدا، لأنماط من التكثيف والتركيز والاحتراق والتحليق متعالية تتجاوز الذات، وعلى الرغم من أن الشوق الى العناق تجربة شخصية إلا أنها تتجاوز ما هو شخص فالحاجة عنده الى تجاوز الشخصي لا تقل عمقا وعنفا عن حاجته الى أن يكون شخصية شعرية متميزة. إذابة الاغتراب في النشوة وفي اللاعقلي السحري المجهول وفي غير المروض أو المستأنس وعلى الرغم من التناقض الظاهري في القول، نرى الجنس الذي كان ممارسة ممتعة يتغنى بها شعراء الماضي قد حوله أمجد ريان الى شكل مسرحي ميتافيزيقي واع بذاته، شكل لاشباع متعدد الأوجه بعيد عن التلقائية الحية بل هو ذهني متخيل، أو رمزي لغوي، فاحتراق الجسد في ألسنة النار الحسية الحلوة يفجر الألسنة بالأنغام والكلمات العلوية، وهي تتغنى بطاقة طبيعية صباحية تبحث عن جوهر الأشياء وليست حسية لذية همجية أو تجربة ماخور، ولكن تكرار تلك الأنغام والكلمات مرارا في طوابير من الصيغ يلقى عليها في عزلتها عن العالم اليومي ظلالا من المبالغة الزائفة والنزعة الخرافية الطنانة الصبيانية.
فذلكة ختامية:
في محاولتي قراءة الشعر الغامض لأمجد ريان لم أحاول قط أن أبحث عن مادة تناول ذات طابع سياسي لكي أصنفه في خانة التقدمية أو الرجعية، إن القول بأن الابداء الشعري ليس مجرد انعكاس للواقع أو دعوة لتغييره بل هو إبداع أصيل لأنه "واقع" شعري يشكل جزءا من الواقع لن يلغي الطابع الايديولوجي (نسبة الى الايديولوجية الجمالية) للعمل، فليست الايديولوجيات مكونات تخلط بالقصيدة وليست بمثابة المضمون السياسي أو الاجتماعي لها، فليس من الممكن استنباط شعر طبقة من سياساتها كما أن الايديولوجية الشعرية لن تجد تعبيرا عنها من خلال المضامين فحسب أو في المحل الأول بل من خلال الأسلوب بمعناه العام وهو طريقة ترابط العناصر التيماتية مثل البنات والورد والقلب ومنعطفات النجوم،أو مثل الحلم الحسي بالحياة النضيرة، ورفض الجمود والضحية والمتمرد والثائر معا في آن، وتمجيد النهر والأرض والمرأة التي هي أرض ونهر ووطن، ثم ترابط تلك العناصر في كليتها مع الأدوات التشكيلية، أي الترابط الذي يتجسد في تكامل الايقاع الصوتي وايقاع الصور وايقاع الانفعالات والافكار وطريقة التصميم ومباديء البناء وفي الشعر كما في الفن عامة يدور الصراع من خلال صراع الأساليب، فالأسلوب هو بعينه الايديولوجية الشعرية.
وأصل من ذلك الى أن أيديولوجية أمجد ريان الشعرية ناقدة لمباديء القبح اليومي والمؤسسي تتخيل مثلا أعلى سابق التصور للأنوثة والاشباع والتحقق في جماليات الضوء الساطع والألوان الدافئة والمنحنيات (الأقواس) الجسدية، وهي مواقع الخصوبة والذوق المرهف لنخبة مثقفة ما تظل تنثر أزهارا ورقية لفظية على أغلال واقع مرفوض فلاحد للصباح في قلب الظلمة.
وشاعرنا لم يسر بالشعر الى الأمام أو الخلف بل انحرف به الى جانب، وأحسن اختيار تشكيلة تنتمي الى عصور مختلفة وبلاد مختلفة من الأسلاف (مصباح بيكاسو وراقصات ديجا وسان جون بيرس)، ومنجد أصداء لأشعار وآيات بينات منصهرة، وبعض دور الشعر الصوفي وقد أعيد صقلها. وليس من السهل وضعا في خانة أنيقة للتصنيف فهو يقتطف بنسب مختلفة عناصر رومانسية ورمزية، ويرفض السرد القصصي ويقترب أحيانا من السريالية ولكنه يخضع التدفق التلقائي لتشكيل واع. ولكن من المؤكد أنه برغم الغرابة المتعمدة وبعض الركاكة في الصياغة والوقوع في هنات نحوية لن يتوقف عن التقدم والعطاء، فإن الطابع الحداثي لشعره يرهص بعناصر مما بعد الحداثة، عناصر الخطاب الهامشي ورفض التجربة الكلية ذات المركز والاحتفاء بالشذور.
ابراهيم فتحي ( ناقد من مصر)