محمد أركون (1928-2010م) أحد أبرز المفكرين في العالمين العربي والإسلامي الذين يمتلكون مشروعاً فكرياً حقيقياً، وقد صرف فيه سنوات عمره دراسة وبحثا وتحليلاً وتفكيكاً، مدفوعاً بهاجس التحديث والنهوض والتنوير والأنسنة، من خلال قراءة علمية نقدية لتاريخ الظاهرة الدينية الإسلامية ولنصوصها المقدسة وفق آخر ما توصلت إليه مناهج العلوم الإنسانية والاجتماعية.
في 13 سبتمر2010 يرحل صاحب مشروع نقد العقل الإسلامي، مخلفاً وراءه الكثير من المؤلفات والدراسات والبحوث، والتي دائماً ما كانت ترتكز على النقد والتفكيك ورفض ما تراكم من بداهات شكلت جهلاً مقدساً عند غالبية العرب والمسلمين، وإعادةِ أشكلة القضايا والموضوعات، واجتراحِ قضايا جديدة من خلال اجتياح منطقة اللامفكر فيه والمستحيل التفكير فيه.
من هذا المنطلق- وبمناسبة الذكرى الثانية لرحيله- أقامت شبكة المصنعة الثقافية يوم 12 سبتمبر 2012م في صالة نادي المصنعة الرياضي الثقافي ندوتها «نزهة قصيرة في حقول شاسعة»، والتي جاءت كتظاهرة فكرية احتفائية تكريماً لجهود هذا المفكر الكبير الذي اعتبرته دائرة معارف اكسفورد للعالم الإسلامي الحديث أبرز مفكر إسلامي في القرن العشرين وبداية الحادي والعشرين، نظراً لما قدمه من خدمات عظيمة للفكر الإسلامي، شارك في الندوة مجموعة من الكتاب العُمانيين، وأدارتها الفنانة والإعلامية عطيفاء البلوشية.
جاء في مقدمة الندوة: «تكريماً لروح المفكر الإسلامي الراحل وتقديراً لجهوده الفكرية والنقدية في مسار الفكر الإسلامي بصفة خاصة والفكر الإنساني بصفة عامة؛» فهو من أكبر العقول العربية الإسلامية والإنسانية التي عملت على تأسيس خطاب عقلاني وفكري، تاركاً أعمالاً فكرية وفلسفية تشكل ثورة معرفية في حقل العمل الفكري، وتضيف لغة جديدة في ميدان الحفر المعرفي ليست معهودة في الثقافة العربية والإسلامية».
«إنه كبقية المفكرين الكبار الراحلين الذين ظهروا قبله، فإنه لم يعد من هذا العالم، ولكن أفكاره سوف تواصل إضاءة الطريق لكل أولئك الذين يخوضون المعركة من أجل أن تنتصر الحرية والعقل على الاستبداد والظلامية والانغلاق والتعصب».
أبرز ما جاء في الندوة:
اشتملت الندوة على أربع أوراق وقصيدة، كتبها وألقاها الشاعر حميد الحجري:
تبكيك آيات الكتاب طويلاً
يشقق جيباً ينتحبن عويلاً
يا من وقفت لها حياتك دارسا
أسرارها ومحللا تحليلا
بالعلم لا بالجهل شدت مناهجاً
عصرية لا تعرف التبجيلا
…
فضربت أغلال الخرافة حازماً
ورفعت من وهم الزمان سدولا
إن الشعوب خلاصها في عقلها
إن ينطلق حر القرار أصيلا
يا من بذلت العمر فينا مصلحاً
أكرم بعمرك باذلاً مبذولا
أما الورقة الأولى- وقبل الحديث عن محمد أركون سيرة وفكراً – فقد مهد الكاتب صالح البلوشي بها أوراق الندوة بالحديث عن النهضة الفكرية العربية من الطهطاوي إلى محمد أركون، مروراً بأبرز المحطات الرئيسية في الفكر العربي بتياراته المختلفة والمتنوعة، وقد دعا البلوشي في نهاية ورقته إلى إيجاد مجتمع معرفي تمتع غالبية قطاعات الشعب فيه بثقافة كبيرة، وتؤمن بمبادئ الحداثة والديمقراطية والحرية والمساواة، والتي تضمن بتطبيقها مشاركة شعبية واسعة وفاعلة في صناعة القرار السياسي والاقتصادي والثقافي.
ثم تناولت ورقته عرضاً مفصلا عن سيرة اركون الشخصية وابرز اطروحاته الفكرية..
بعدها قام الباحث علي الرواحي بتقديم ورقته وهي قراءة تحليلية لكتاب الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، استعرض فيها جوانبه المختلفة، وأبرز القضايا والإشكاليات التي ناقشها محمد أركون.
ومما جاء في ورقته: «كانت مسيرة محمد أركون حافلة بالعطاء العلمي، تدريساً وتأليفاً، فكان له عشرات التلاميذ، وخلف العديد من المؤلفات والدراسات، كان من أبرزها كتابه الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، الذي ترجمه هاشم صالح».
يرى الرواحي أنه يمكن اعتبار محمد أركون في الفكر العربي والإسلامي المعاصر بصفة خاصة، والفكر العالمي بشكل عام بمثابة الفيلسوف ابن رشد، معللاً ذلك بكون من يقرأ كتابات محمد أركون لا يجد سرداً لمعلومات وبيانات، بل يجد معرفة تحليلية علمية، ففي معالجاته للقضايا والأحداث لا يكتفي بمجرد الوصف إنما يتعدى ذلك إلى التحليل والتفسير، وهذا يرجع إلى ما كان يوظفه من مناهج بحث حديثة، كعلم الاجتماع والتاريخ وعلم النفس التاريخي، وعلم الأديان المقارن، والسيميائيات وغيرها.
ما يميز محمد أركون-حسب وجهة نظر الرواحي- أنه يضع قارئه أمام نقطة انطلاق المشكلة منذ البداية فيبحث عن جذورها، أسبابها، وكيف تشكلت؟ وما هي العوامل التي تسببت في حدوث هذه المشكلة أو تلك الظاهرة، ثم يأخذها بشكل تاريخي من بداية تكونها إلى النقطة التي يريد مناقشتها،ويمثل على ما سبق بكيفية تكون المعتقد عند الإنسان، فأركون يتحدث عنه بشكل تاريخي، يناقشها من بداية تشكلها، ويبين لنا خارطة استخدام اللغة والتاريخ، ولا يدعها في خانة اللامفكر فيه.
اختتمت الأوراق بورقة ألقاها سعيد الطارشي استعرضت الجوانب الأساسية من كتاب تحرير الوعي الإسلامي…نحو الخروج من السياجات الدوغمائية المغلقة، آخر كتاب لمحمد أركون، وقد صدر بعد أشهر من وفاته، وقام بترجمته هاشم صالح، وطبعته دار الطليعة البيروتية، بالإضافة إلى فقرة ناقشت مستقبل الفكر الأركوني.
وبعد الانتهاء من عرض أبرز ما جاء في الكتاب، وجه سعيد الطارشي بعض الملاحظات على الكتاب منها:
الملاحظة الأولى: يكرر مترجم الكتاب هاشم صالح بغير داع تعبيرات تبجييلية لا تختلف عن ما كان أركون ينتقده في الكتابات الأصولية والتقليدية حول الدين فلماذا كل هذه الوثوقية والتبجيل المغالى فيهما والتي أول من يرفضهما أركون نفسه؟
الملاحظة الثانية: يدعو محمد أركون لاستخدام المنهج المقارن والمنهج الانثربولوجي في دراسة الفكر الإسلامي، لكن نرى أنه غالباً ما تكون مقارناته في دراساته محصورة في ما يسميه عالم بحيرة المتوسط؛ أي بين الثقافات التي كانت في الدول المطلة على البحر الأبيض المتوسط، غير مكترث بالفكر والأديان والفلسفات في عوالم ممن مثل الهند والصين واليابان التي تحتوي تراثات وتجارب إنسانية رائعة.
وأنهى سعيد الطارشي ورقته والندوة بإثارة نقطة إشكالية حول مستقبل الفكر الأركوني في تطور الفكر في العالمين العربي والإسلامي بصفة عامة، وفي المشهد الفكري في عُمان بصفة خاصة، معتقداً- ومن خلال أبرز ما يميز مسيرة أركون الفكرية-، أي من خلال فكره النقدي ومنهجه التعددي، أن سيكون له مستقبل، لكن لا كما يبالغ الاستاذ هاشم صالح، أي ليس له وحده بل لجميع المفكرين النقديين في الساحة العربية وهم كثر، ولهم مساهمات مهمة ومؤثرة، وتجارب فكرية ومشاريع علمية لدراسة التراث الإسلامي أو الغربي أو حتى الإنساني بصفة عامة، كعبدالوهاب المسيري، وعبدالله العروي، وحسن حنفي، ونصر حامد أبوزيد، وهشام جعيط…الخ.
n المناقشات والتعقيبات:
حضر الندوة العديد من المثقفين والمهتمين بفكر محمد أركون، وبعد ختام عرض الأوراق بدأت عملية النقاش، وقد كان الحضور متفاعلاً بشكل كبير، حيث قاموا بتوجيه مجموعة من الأسئلة والتعقيبات للمشاركين في الندوة، منها ما طرحه يونس النعماني حول مدى التزام الغرب بقيم التسامح مع الإسلام.
وموقف أركون من الغرب في هذه النقطة بالتحديد، أي موقف الغرب من الإسلام، وهو الذي يكتب بالفرنسية والإنجليزية ليخاطب الجمهور الغربي؟
وأجاب سعيد الطارشي: «محمد أركون يوجه نقداً لاذعاً للغرب الذي يفتخر بالنزعة الإنسانية وحقوق الإنسان، بسبب سطحيتها وشكلانيتها، وعدم تطبيقها على أرض الواقع عندما يكون الإنسان مهاجراً أجنبياً أو حتى لو كان أوروبياً.
كذلك يوجه نقده للمستشرقين الذي يكتفون بدراسات يراها اليوم غير علمية لاكتفائها بالمنهج التاريخي التقليدي والمنهج الفيليلوجي، وعدم توظيفهم لأحدث منجزات ومناهج العلوم الإنسانية والاجتماعية.
كذلك أبدى الباحث خميس العدوي بعض الملاحظات لما تم عرضه من أوراق، يرى طغيان الجانب الاحتفائي الذي يتضح ابتداء من عنوان الندوة، كما تمنى ألا يغيب الجانب النقدي من الأوراق المقدمة، فمحمد أركون كاتب إشكالي وله آراء ربما تكون غير مقبولة، لذا تمنى أن يوجه له شيئا من النقد بدل الاحتفاء، لتتوازن الأمور على الأقل.
وتطرق الدكتور زكريا المحرمي الى أن أركون وقع ضحية تطرف المبغضين والمريدين، فالأولون لا يرون فيه إلا الشر، والآخرون وقفوا أمامه موقف المنبهر العاجز عن نقد الأطروحة الأركونية، كما نلاحظ بروز ذات المؤلف بصورة غير طبيعية فهو لا ينفك يذكر أنه كتب وأنه قال وأنه الوحيد الذي فعل كذا وكذا، فهل هذا نتيجة لتضخم الأنا النرجسية أم أن هنالك أسبابا موضوعية فرضت على أركون الوقوف أمام المرايا المحدبة.
وأشار جاسم الطارشي: الىأن أركون يدعو الى العلمانية، لكن ما هي هذه العلمانية وبأي شكل؟
وحول هذه النقطة أجاب الباحث علي الرواحي: نعم يدعو للعلمانية، ولكنها علمانية منفتحة على الروحانيات والأخلاق والدين، بمعنى أنها لا تستبعد البعد الديني، وتؤمن بالغائيات ووجود الماورائيات، وينتقد من جانب آخر العلمانية المادية، أو ما يسميها العلمانوية المتطرفة
.