غيّب الزمن لعقود الفنان العماني المتميز محمد.س بن علي البرواني(1920 – 1928م) والذي عاش في زنجبار في الساحل الشرقي لأفريقيا في فترة حكم السلطان خليفة بن حارب (1911 – 1960م) ، والتي كشفت عن التميز الثقافي والفني العربي في تلك المناطق. فهو بلا شك أحد رواد الفن المعاصر في عمان وشرق افريقيا في المفهوم الكلي للثقافة والسياسة حينها.
يعود أصل الفنان التشكيلي محمد البرواني إلى محافظة شمال الشرقية في عُمان، حيث يتمركز جلهم في ولايتي إبراء والقابل. فبداية من القرن التاسع عشر شهد نزوح أعداد كبيرة لقبائل الشرقية إلى الساحل الشرقي لأفريقيا مع اختيار السلطان سعيد بن سلطان (١٨٠٤-١٨٥٦م) زنجبار مقرا وعاصمة ثانية له، فكان لهذه القبائل أن جلبت الثروات وتوسعت في الداخل الافريقي لجمع المال الوفير والاستفادة منه في إعادة صنع مناطقهم، فاستصلحت الافلاج وأنشأت بلدانا وقرى جديدة من هذه الثروات المالية، حيث أحدثت توازنا سياسيا ونفوذا بين قبائل الداخلية والأقاليم في عمان.
والجدير بالذكر أن محمد البرواني، مثٌل ريادة في الفن المعاصر بزنجبار وعمان خلال القرن المنصرم، كما أن نبوغه الفني يدل على إحساسه المتميز في المواضيع التي جسمها بين العمارة ورصد الحراك العام في الأسواق والبساتين والموانئ، وكذلك إلى رصد التنوع الأنثوي واللبس التقليدي، بحسب ما وصل إلي في الألبوم في اثنتين وسبعين لوحة. ويوقع لوحاته م.س.علي البرواني وتحته بالحروف اللاتينية M.S.Ali Albarwani .
وكما جهلنا أو غيب عنا هذا الفنان فان القليل ما نعرفه عن السيدة البريطانية (Margery)، حيث وجد ضمن وثائقها المحتفظة في ضمن الملف رخصة القيادة النسائية المسموح بها في زنجبار ١٩٣٨م، وبعض الرسائل والصور. آنذاك، عملت السيدة (Margery A Freebene ) في مجال التعليم النسائي المعاصر بزنجبار، حيث التقطت لها صور مع مدرسات وطالبات من زنجبار في مطلع الثلاثينات من القرن (20) وجدت من ضمن الملف المحفوظ . ما تذكره Margery عن البرواني أنه كان تلميذا (يبدو في إحدى المدارس الأوروبية الخاصة)، إلا أن الخسائر التجارية التي ألمٌت بعائلته، منعته من مواصلة الدراسة حيث توقف وهو في عمر السابعة عشرة من عمره، وتوفي بعدها بعام. أدركت (Margery) موهبة البرواني في الرسم حيث كانت هناك علاقة صداقة بين الطرفين رغم الفارق العمري بينهما، أشارت إلى انها اشترت إحدى لوحاته وهو في سن الـ ١٤ وكانت قيمة اللوحة عشرة شلينجات.
فجمعت السيدة (Margery) أعمال البرواني، واحتفظت بها حتى رجوعها إلى بريطانيا و من ثم أودعت الملف كاملا في سنة ١٩٨٢ في الأرشيف الافريقي بمكتبة البودليان بجامعة أكسفورد، وتم الاحتفاظ بها في “رودس هاوس” المعروف بجمعه للأعمال المختصة بالشخصيات البريطانية المرتبطة بأفريقيا، حيث ترجع نسبة هذا المنزل إلى البارون “رودس” وهو رمز الاستعمار البريطاني في أفريقيا في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ولذلك سميت زمبابوي قديما قبل الاستقلال بـ”رود يسيا” ، بيد أن الشباب البريطاني المعاصر من جهة ووقفية رودس من جهة حدث تصادم بينهما، فالطلبة بأكسفورد بعضهم يعتبر المنزل من رموز الاستعمار، والوقفية تعتبره أحد المعالم المميزة النخبوية ، ولأهمية هذا المنزل، فإن وقفية رودس اعتبرت المحفوظات تابعة لمكتبة البودليان وأن خزنة الوثائق تأخذ حيزا من المبنى، وقد قررت الوقفية إبقاءها في حيز الجامعة على أن تقام في المبنى للاحتفالات والمناسبات، وبهذا أرجعت المكتبة المحفوظات الموجودة هناك إلى المبنى الرئيسي في البودليان وهي تحمل الرقم(2) (MSS.AFR.s.1883) .
تأثر البرواني جدا بالحياة المعاصرة في زنجبار، حيث انه وثق جميع ما يأتي في نظره، ويشد اهتمامه، عن طريق الرسم الحر باستخدام الألوان المائية التي نبضت بالحركة والحياة في مدونته الفنية التي لا يتجاوز مساحة اللوحة عن ٦x٤ انشات، مع اختلاف أبعاد وزوايا منظوره في كل لوحة. رغم تأثره بالفن الأوروبي إلا أن روحه الوجدانية عكست صورة مختلفة عن الرسم الاستشراقي في التوثيق، يعكس ذلك تجانس ريشته الممتزجة بروحه ونظره للمشهد فهو جزء من الكل.
ويمكن تقسيم مواضيع اللوحات المرسومة حسب المنظور الفني الذي يعكس اهتمام الفنان، وهي كالآتي:
العمارة في زنجبار:
شكل التنوع وامتزاج العمارة الإسلامية وعناصر الفن الكولونيالية الفيكتوري والهندية والفارسية بهوية عمانية ملمحا مهما في جاذبية زنجبار أبرزها هذا الفنان في لوحاته، حيث انه وثق ازدهار حركة العمارة الزنجبارية من قصور وحصون ومساجد …الخ. كما انه أبرز اهتمامه بتفاصيل وتنوع هندسة البناء في الأسقف والمشربيات، والشرفات والنوافذ وأبواب المباني أو في أسوار البساتين. ولم يكتف فقط بإبراز المباني المهمة أو الضخمة ذات البناء الوثيق في المنطقة وإنما تطرق إلى إبراز بساطة عمارة القش لطبقة الأيدي العاملة في الصيد والزراعة.
مدارس القرآن:
وبانتشار المساجد ومدارس القرآن والخانات، قارن البرواني مختلف الزوايا المنظورة عن سقفية المعمارية لمدارس القرآن. حيث أبرز من خلال الرسم زاويتين مختلفتين في تفاصيلهما، فالزاوية الأولى كانت لجدران مدرسة مبنية بطين مع تفاصيل النوافذ وأرضية مستوية، أيضا اختلاف ملابس المعلم عن تلاميذه. وفي الزاوية الأخرى، أبرز فيها بساطة هندسة البناء بأسقف القش ومكشوفة الجدران وسط البساتين وبساطة أرضية البناء.
الأسواق المفتوحة والمغلقة:
عكس البرواني بمنظوره الخاص عن تنوع الأسواق ذات الأسقف المغلقة او المفتوحة والدكاكين في الأزقة الضيقة والملتوية في المنطقة والأسواق المبنية بالقش. وأبرز فيها حركة وانتعاش هذه الأسواق بتنوع منتجاتها والتنوع الجنسي والثقافي للتجار والسياح باختلاف ملابسهم وأشكالهم.
أفق زنجبار المعماري:
أجاد في رسم المنظور بمستوى الإسقاط الأفقي أو المنظور بالزاوية حيث تكون نقطة التلاشي لا نهائية، وأظهر اختلاف هذه الأساليب في المنظور من الأعلى مع إبراز الأسقف او إظهار بُعد أوسع أو بشكل أفقي من واجهة البحر، ليبرز فيها التنوع العمراني بجانب الميناء في أوقات مختلفة في اليوم الواحد. وبجانب ذلك أبرز بالألوان المائية والتي تغطى بالشفافية، فلكل فنان له بصمته المتميزة أو لمسته الخاصة في إبراز شفافية اللون، ويعتمد في خلق الشفافية والنعومة وذلك عن طريق العمق والملمس اللوني للوحة.
علاقة سكان زنجبار بالبحر:
لا تزال فرضاني أو ميناء زنجبار يمثل مخيلة رومانسية للشعراء والكتاب والفنانين والرحالة على السواء، وما زالت هذه الواجهة البحرية أجمل واجهة ميناء في الشرق الافريقي ففرضاني في واجهتها الرومانسية شبيهة ما تمثله واجهة ميناء مطرح في محافظة مسقط. وقد توسع الفنان في منظوره إلى توثيق حركة الميناء ومن ثم إلى رصد توثيق أنواع السفن آنذاك والأنشطة الموجودة في البحر، بل يعكس حركة المشاهدة والإطلالة سواء من واجهة البحر نحو المدينة أو بالعكس بواجهتين مختلفتين في إبراز المقابلة للمشهد.
ناس وأجناس من زنجبار:
الملمح الفني الذي برع فيه البرواني بوعيه الفني أنه أدرك التنوع الجنسي والطبقي والمهني في زنجبار. وهذا دلالة على التسامح والتفاهم الثقافي بين مختلف الاجناس والثقافات التي سكنت في زنجبار في ظل الحكم العماني هنالك. فعلى سبيل المثال، إذا نظرنا إلى إحدى لوحاته حيث يظهر حلاق ذو بشرة بيضاء والمحلوق له بشرته سوداء كما تتمايز القبعات او الكمة بينهما، هذا دلالة على تماهي التميز العرقي بين الأجناس في زنجبار. ويعمل على المقابلة في إظهار نوعية الثوب خلال الفسحة في المدينة بين النساء، والكل له حرية الشخصية. كما انه رسم السلاطين ورجال الحكم بالعمائم والبشوت المعروفة بالجوخ، وتدرج في رسم الشخصيات وتفاصيل الملابس حتى يمكن أن يستعان به في توثيق نوعية اللباس في زنجبار حينها.
وتعمدت في تأخير أهم ملمح فني للبرواني وهو تمكنه في عكس منظوره من زوايا مختلفة، ومتعددة، يبرزها بحكمة الأبعاد في الرسم وإظهار التفاصيل بالضوء والظل.
ولم يهتم البرواني بإظهار التفاصيل الدقيقة جدا، ولكن اهتم برسم اللحظة بالطاقة، مستعينا بجرعة كبيرة من الألوان المائية، والنتيجة كانت مليئة بالضوء والاهتزاز والشفافية الملونة والغنية بالحياة والجرأة، حيث يعتبر رسمه تصويريا وواقعيا جدا للأحداث المحيطة، مبتعدا عن التصوير الخيالي والتجريدي في لوحاته.
إن اهتمام البرواني بطلاء طبقة على طبقة في الورقة نفسها، واستخدامه اللون بتقنية احترافية في رسمه الحر المغطى بالشفافية، يفتح البصر أمام حالة مريحة ناعمة، وهدوء يسمو بالنفس إلى اطمئنانه للطبيعة، هو ما يلفت الانتباه في لوحاته من ناحية عرضها المتكامل في رحلة تسبر أغوار روح زنجبار ممتزجة بروح فنية شاعرية عمانية.
مُزنة السالمي