حاوره- سيف بن عدي المسكري
باحث عُماني
شكّل التعاطي مع التاريخ جاذبية للعديد من العقول التي سعت لاستكناه أغواره عبر مناهج وزوايا نظر مغايرة للسائد، متجاوزة الخطاب الاحتفائي إلى النقد والتساؤل والحوار المعرفي. ولعل منطقة الخليج والجزيرة العربية نالت حظا من هذا الاهتمام في العقود المتأخرة، يتوخى هذا الحوار مقاربة تجربة مهمة لباحث ينتمي لجذور هذه الأرض، دفعه الشغف وقلق السؤال إلى ارتياد مناطق متباينة مطورا في مهاراته ومنوعا في إنتاجه، د. محمد حميد السلمان أستاذ التاريخ الحديث من البحرين، والمتخصص في الحقبة الاستعمارية البرتغالية في منطقة الخليج والجزيرة العربية، الملم بلسان أصحابها، والمبحر في لجج محفوظاتها الأرشيفية. تماس مع التاريخ تدريسًا منذ منتصف سبعينيات القرن المنصرم بداية من وزارة التربية والتعليم إلى عدد من الكليات والجامعات أهمها جامعة البحرين، وجامعة دلمون. له الكثير من الدراسات بحوثا وكتبا، والمشاركات في المؤتمرات، من دراساته المشهورة: الغزو البرتغالي للجنوب العربي والخليج العربي، حكايات من زمن البرتغاليين، مملكة الجبور وعلاقة البرتغاليين بالقبائل العربية الخليجية، وأخرى سيتطرق لها عبر ثنايا الحوار، مرورا برؤيته حول طبيعة الوجود البرتغالي في المنطقة وأثره، المصادر والوثائق البرتغالية وتجربته معها، والمملكة الجبرية وعلاقتها بالبرتغاليين، حقيقة تجارة الرقيق كإحدى القضايا الإشكالية في تاريخ المنطقة. وانطباعاته كمؤرخ حول المتغيرات التي طالت جوانب عديدة من حياة المنطقة.
* سمات الحكم البرتغالي في الخليج العربي وعُمان (1521 – 1622م)، عنوان الترجمة الصادرة عن مركز الدراسات العُمانية بجامعة السلطان قابوس عام 2021م لأطروحتك التي أنجزتها في الفترة ما بين عامي 2000 و2004م ضمن مرحلة الدكتوراه بجامعة هال (Hull) البريطانية. هنالك أمران مهمان نود منك إلقاء الضوء عليهما، الأول: التأثير والتأثر، فهذه الحقبة التاريخية من الوجود البرتغالي الممتد لما يقرب من قرن ونصف القرن من الطبيعي أن تترك أثرها في الطرفين، البرتغالي المحتل، وعالم المحيط الهندي بمكوناته المختلفة.
– بدايةً لابد من إقرار حقيقة مهمة جدًا بشأن هذه الدراسة الأكاديمية التي صدرت مؤخرًا، وهي أنه لولا تبني فكرة إصدارها والتشجيع الكبير من رئيس مركز الدراسات العُمانية بجامعة السلطان قابوس، على ضرورة وجودها على أرفف المكتبات؛ لما رأت هذه الدراسة التي ندعي بأنها فريدة في مجالها، النور أساسًا.
كما أنه عند تناول حقبة الوجود البرتغالي بين عالم المحيط الهندي وخصوصية الخليج العربي؛ فلابد وأن نلاحظ بأن الوجود البرتغالي خارج مياه الخليج امتد لأكثر من قرنين بين غرب الهند وشرق أفريقيا. ولسوف نركز الحديث أكثر وبتفصيل عن الوجود والسيطرة البرتغالية في مياه الخليج وسواحل عُمان.
فقد شكل وجود البرتغاليين في مياه المحيط والخليج بروز علاقة جديدة، نتجت عن اللقاء أو الصدام الحضاري الأول الذي تم بين البرتغاليين وشعوب عالم المحيط الهندي بمكوناته المختلفة، ومنها الخليج العربي، في مطلع القرن السادس عشر للميلاد. ذلك اللقاء لم يكن نوعًا من العلاقات الدبلوماسية أو الاتفاقات الثنائية بين الدول، بل حدث به بجانب الصدام المسلح؛ انتقال وتلاقح أفكار وتبادل ثقافي في نسيج المجتمعات وبين الشعوب حتى وإن كان اللقاء سلبيًا. وبناءً عليه؛ فعندما نفتح نافذة التأثير والتأثر المشترك بين البرتغاليين والمسلمين في منطقة عالم المحيط الهندي بمكوناته المختلفة، يجب أَن نكون مدركين تمامًا أن ذاك التأثير والتأثر لم يكن واحدًا في مستوياته. فمثلًا، إن سيطرة البرتغاليين على مملكة هُرمز الخليجية ذات المناطق العربية الشاسعة ضمن كيانها السياسي والاقتصادي منذ القرن الرابع عشر؛ شكّلت في النسيج البرتغالي السياسي والاقتصادي-الاجتماعي، وضعًا مختلفًا عن المناطق الأخرى التي حكمها البرتغاليون وأثروا وتأثروا بها في عالم المحيط الهندي برمته بين الهند وشرق أفريقيا، أو غيرها. مع أن ذاك اللقاء أو الصدام الحضاري في تلك المناطق، للأسف، لم يكن على شكل حوارات ولقاءات مدنية بين البشر، بل جاء عبر فوهات مدافع الأسلحة الأوروبية المتقدّمة -آنذاك- ضدّ سلاح التقنية المحلية التي تعود إلى القرون الوسطى، فكان العدوان المُركَّز للبرتغاليين موجه ضد مناطق المحيط الهندي المختلفة، ومنها مملكة هُرمز الخليجية.
ومن أهم سمات الوجود البرتغالي آنذاك، تلك الإدارة السياسية والاقتصادية الضعيفة التي جلبها البرتغاليون معهم إلى المحيط الهندي وشكلت جانبًا آخر مضادًا لانتصار الأسلحة الأوروبية. كما في الخليج العربي وفي أنموذج ظاهر للعيان؛ فقد اعتمد البرتغاليون هنا على النجاح الاقتصادي لحكومة الهند البرتغالية (Estado da India))، بشكل كبير، وهي في الوقت ذاته، اعتمدت على تثبيت الأشكال القديمة التي كانت تحكُم العالم التجاري الشرقي وأنماط تجارته بدلًا من بناء نوع جديد فيه أو موازٍ له. ومن جانب آخر؛ بعد وفاة (أفونسو دي البوكيرك)، مؤسس إمبراطورية الحواف البحرية البرتغالية؛ توسعت الـ (Estado) وتم ربطها بمجموعة من المراكز التجارية أقل تحصينًا امتدت من شرق أفريقيا إلى ساحل بحر الصين.
وبما أن عدد البرتغاليين بالنسبة للسكان المحليين كان محدودًا جدًا؛ لهذا السبب لم تكن هنالك معاملات واضحة بينهم وبين السكان في مملكة هُرمز المبعثرة على طوال الشواطئ الجنوبية الغربية من الخليج وبحر عُمان. بل كانت أغلب معاملات البرتغاليين مع العائلة الهُرمزية المالكة وموظفيها الذين يخدمونها من وزراء وكبار التجار في غرفة تجارة هُرمز، إن جاز التعبير. فلا نستغرب إذا وجدنا أن السياسات التي فُرضت بقوة النفوذ البرتغالي العسكري بعد السيطرة على هُرمز؛ تركزت تقريبًا وبشكل خاص في المجال التجاري، موجهةً أكثر إلى عائدات ما يُسمى بـ «الفندقة» (Alfândega)، أو (غرفة إدارة جمارك هُرمز)، لسبب أن ثروة هُرمز التجارية تأتي منها.
ومن جانب التأثر البرتغالي بالمنطقة، فإن معظم ما اكتسبه البرتغاليون حضاريًا بعد وصولهم إليها؛ أنهم تمكنوا من معرفة سرعة الرياح والتيارات البحرية في المحيط الهندي والخليج، والطرق التجارية البحرية وبعض الطرق البرية، وأهمية الموانئ ومجالات التفوق التي تؤدي للسيطرة على الممرات البحرية. لكنهم في النهاية لم يحققوا شيئا سوى إنشاء، «إمبراطورية الحواف، أو المحطات التجارية» ليس إلا، التي اعتمدت ظاهريًا على منظومة الشبكات التجارية الآسيوية السابقة لوصول البرتغاليين إلى المنطقة. وبمرور الوقت وبسبب التعامل المباشر مع السكان المحليين في عالم المنطقة؛ اتضحت بعض سمات التأثير البرتغالي في شعوبها، من خلال نسيج العادات والسلوك البرتغالي الاقتصادي أكثر من غيره، الذي بدأ يدخل في الأنماط العالمية للتجارة الآسيوية. أضف إلى ذلك بعض نواحي «الثقافة البرتغالية»، ممثلة في التواصل اللغوي، الذي كان بداية إحدى المشكلات العملية الأولى للاتصال البرتغالي الثقافي والتجاري مع مجتمع الخليج. بعد ظهور حاجة البرتغاليين إلى مترجمين أُطلق عليهم (lingua franca)، أو المترجم الأجنبي. وبشكل تدريجي مع مرور السنوات، غدا وجود البرتغاليين حقيقة ثابتة في المحيط الهندي والخليج العربي، وتبعًا لذلك، صارت اللغة البرتغالية من اللغات المتعارف عليها والمهيمنة على التجارة البحرية الآسيوية عمومًا. كما تطورت اللغة البرتغالية نتيجة تأثرها بهذا المحيط عن طريق الجنود المرتزقة من أهالي البلاد الأصليين الذين كانوا ينخرطون في الخدمة ضمن الجيش البرتغالي، نتيجة نقص الأفراد الذي كانت تعاني منه العسكرية البرتغالية على الدوام، وكذلك بسبب فقر أولئك السكان المحليين، مما فتح الباب لتمازج لغوي مع الأصول والثقافات المتباينة في المحيط الهندي. واستمر الوضع كذلك حتى نهاية القرن الثامن عشر الميلادي، حين انتشرت اللغة الإنجليزية مدعومة بالسلاح الأوروبي الجديد أيضًا.
كما أدى ذلك إلى ظهور فئات جديدة من أشكال الإخصاب الثقافيِ-الديني، ونعني بذلك تحول فئة من المسلمين التي عملت في مجال الترجمة مع البرتغاليين من الإسلام إلى المسيحية وكانوا من فئة المُترجمين أو الـ (linguas)، والعكس، أي تحول فئة من البرتغاليين المسيحيين إلى الإسلام، وإن كان بشكل محدود.
أضف إلى ذلك، من باب مراقبة واردات وصادرات هُرمز، وعن طريق المجال الثقافي اللغوي؛ بدأ البرتغاليون يُحلون أنفسهم محل التجار في الخليج العربي، وبالتحديد في غرفة تجارة هُرمز، ويتلاعبون بالوزراء الذين كانوا يقبضون على نواصي التجارة والإدارة في مملكة هُرمز قبل وصول البرتغاليين إليها. كما استخدم البرتغاليون، ليس فقط نظام الضريبة المنظمة والذي وجد في هُرمز قبل مجيئهم، بل كل آليات الدخل التي كان الهرامزة يستخدمونها في إدارة جمارك هُرمز. وصار أي اتفاق تجاري أو سياسي بين تجار هُرمز والجاليات التجارية الأخرى؛ لا يمر بدون معرفة السلطات البرتغالية به أولًا.
كما ساهم وجود البرتغاليين بشكل واضح في ظهور مصطلح (الوكالات التجارية) في التجارة الشرقية. إذ إن أَول من أطلقه في سياق الحياة الاقتصادية في الخليج؛ هم البرتغاليون تحت مسمى (Feitorias)، أي وكلاء بالبرتغالية. كان الـ (Feitor) أو الوكيل، هو محور التجارة البرتغالية في المشرق. وكان للبرتغاليين إسهام عن طريق إدخال واستعمال ما يعرف بتسجيل الصفقات أو (conhecimentos) أي تعريف أو إيصال، أو مُستند صرف بلغة العصر، و(mandados) أي تفويض أو تخويل من قبل السلطة العليا في البلاد، وذلك لحصر كل أنواع الإنفاق، باستثناء المصروفات الصغيرة وما يعرف بنفقات الجيب.
ويمكن القول بأن الخليج -بالمقارنة مع الهند أَو جنوب شرق آسيا- كان مُتجانسًا ثقافيًا، إذ كانت أغلب التجمعات البشرية فيه من المسلمين. لذلك يُلاحظ بأن عدم استيعاب البرتغاليين للبيئة الجديدة بالنسبة لهم في الخليج، وتوجس القوى الإقليمية منهم؛ أسهم بشكل كبير وسريع في فنائهم كقوة غزو وشبه احتلال. إذ كانت المنطقة موحّدة في الغالب في رد فعلها العدائي ضد وصول البرتغاليين إليها في مطلع القرن السادس عشر الميلادي.
إجمالًا، فإن التأثير والتأثر الحضاري بين البرتغاليين وسكان المنطقة؛ لم يكن ذا صبغة أحادية الجانب، بل تم التلاقح الحضاري بشكل متوازٍ تقريبًا. إذ استعار البرتغاليون نظام القرطاس (Cartaz) المعني بتراخيص مرور السفن التجارية في هيكلية نظام هُرمز الاقتصادي، وطبقوه على سفن التجارة، والشحن، وصيد اللؤلؤ عمومًا لإثبات سيطرتهم التامة وتفوقهم العسكري في الخليج. كما استعاروا من الخليج، نظام «الشاه بندر»- أي كبير التجار- وأطلقوا عليه: (Rei do Porto)، أي ملك أو حاكم الميناء.
ومن جانب آخر، ترك البرتغاليون أثرًا في حقل بناء السفن. فهناك أدلة واضحة على وجود نوع من الإخصاب الثقافي والتقني ترك أثره على نوعية ومصطلحات صناعة السفن، عند العرب خصوصًا والمسلمين عمومًا. فقد حاكى بناؤو السفن المسلمون تقنيات البناء الأوروبية بسرعة مذهلة بعد أول لقاء عاصف وعنيف ضد البرتغاليين في المياه الشرقية مطلع القرن السادس عشر. ثم إن نواخذة السفن والبحارة العرب في الخليج، استعملوا عددًا من التعبيرات البرتغالية التي تعود إلى الحقبة المشار إليها، منها على سبيل المثال:
-تعبير (kāwiya) وتعني الأوتاد، وتعبير(karwa) من (çurva) وتعني الركبة، أو ثمن ركوب السفينة للتنقل من مكان إلى آخر. وتعبير (dormente) من كلمة (durmait) البرتغالية، وتعني النوم العميق. أما تعبير (kāna)، وقد أضاف له أهل الخليج حرف السين فغدا (Skāna) وتعني «ذراع دفة السفينة» ويبدو أنه جاء من كلمة (cana) البرتغالية. وما زال قيد الاستعمال في الخليج. أضف إلى ذلك أن نوعًا من عملية التهجين الصناعي- التقني قد حدث أيضًا في الحقبة البرتغالية ضمن عملية تطوير بناء السفينة الخليجية المعروفة بـ «البغلة»، التي اتضح التأثير البرتغالي عليها من حيث ضخامتها، وهيكلها، وقدرتها على عبور البحار العالية، ودخول السلاح الناري ضمن تقنيتها في الحروب لاحقًا خصوصًا في عهد دولة اليعاربة العُمانيين عند بدء منازلتهم للبرتغاليين في البحار العالية بشرق أفريقيا وغرب الهند. لأن سفينة «البغلة»، مشابهة تقريبًا لسفن الكارفيلا (Caravella) البرتغالية الضخمة.
* الأمر الثاني.. توصلت في خاتمة دراستك؛ إلى كون الإمبراطورية البرتغالية الأفرو-آسيوية التي وصفتها بالمزعومة؛ لم تمتد بعيدًا خارج القلاع التي أُسست كمحطات عسكرية تجارية على سواحل أفريقيا وآسيا، فهم لم يستحدثوا طرقا تجارية مغايرة لما سبق، ولا أدخلوا سلعًا جديدة، ولا طوروا في شبكات التداول التجاري، وكأنهم ورثوا القوى المحلية والإقليمية السابقة لا غير. كيف ذلك وما بواعثه؟
– الإجابة المباشرة تتضح حين نعلم بالحقائق التاريخية الموثقة التي ذكرت بأن إسهام البرتغاليين في الشبكة الاقتصادية الضخمة في المحيط الهندي بعد غزوهم للمنطقة مطلع القرن السادس عشر؛ كان فقط عن طريق تحويل التجارة والسلع الشرقية مباشرة إلى لشبونة عبر محطات تجارية على طول سواحل المحيط الهندي، أطلقوا عليها (Carreira da Índia). كما سيطروا على العديد من المداخل البحرية الاستراتيجية الدولية، مثل رأس الرجاء الصالح، وسُقطرى عند مدخل البحر الأحمر، وجزر البحرين، وهُرمز في الخليج العربي، وكذلك ملقا عند مدخل بحر الصين الجنوبي.
ويُمكن القول بأن التحول في خطوط التجارة الدولية الذي حاول البرتغاليون عمله، كان بمثابة نوع من السيطرة البرتغالية المباشرة على مناطق المشرق ومنابعها الاقتصادية، في شكل من الاحتكار البرتغالي لها دون الآخرين. الخلاصة ببساطة: استورد البرتغاليون السلع الآسيوية القيّمة من موانئ ومدن المحيط الهندي وصدروا لها العنف عوضًا عنها. إذ يؤكد المؤرخ بيرسون (Pearson)، بأن البرتغاليين قدموا لنا نوعًا من أنواع عنف وإرهاب الدولة في المحيط الهندي.
* كان تماس الدكتور السلمان مع الوثائق والمصادر البرتغالية لافتًا وقمينًا بالإعجاب بدءًا من سعيه الدؤوب للتمكن من مفردات اللغة البرتغالية عبر جهد شخصي وشغف علمي كبيرين. حبذا لو تصف هذه التجربة معرجًا على ما أسميته بكنوز الأرشيف البرتغالي في لشبونة، وكيفية التعاطي مع مقتنياته التي تربو على آلاف الوثائق.
– في ظل غياب المصادر المحلية المعتبرة في منطقة الخليج حول الغزو والسيطرة البرتغالية الذي تم في تاريخ المنطقة؛ فإنه من الضروري لأي باحث حقيقي، التعامل مع المصادر الأجنبية وبشكل خاص الوثائق البرتغالية. بالرغم من مشقة العثور عليها وترجمتها؛ إلا أنها هي فقط التي تكشف الطريق بكل وضوح وحسم لفهم أسباب ومظاهر حقبة السيطرة البرتغالية السياسية والإدارية والاقتصادية على الخليج في تلك العقود من التاريخ. لهذا الغرض، سافرت إلى البرتغال للبحث عن تلك الوثائق والمصادر البرتغالية، كما قمت أيضا بزيارة عدد من المراكز التاريخية في سلطنة عُمان، ودولة الإمارات العربية المتحدة، والمملكة العربية السعودية، للبحث عن أيّ مصادر أو معلومات تتعلّق بالوجود البرتغالي في الخليج في خلال القرن السادس عشر.
لكن دراسة اللغة البرتغالية والغوص في جوانب التاريخ البرتغالي، ومنه علاقة البرتغال بالخليج في حقبة الكشوف الجغرافية؛ ليست سهلة المنال وليست متوافرة بشكل كبير، بل تحتاج إلى صبر وجهد وتحدٍ كبير لبلوغ هذا الأمر. وكثير من الطلبة ترددوا عن ذلك أو أحجموا عن ولوج هذا الميدان بالرغم من أهميته في تاريخ الخليج بالذات. وإجمالًا ولله الحمد؛ التقيت بعد انضمامي لقسم اللغة الإسبانية بجامعة (هال) البريطانية بأستاذة تلك اللغة، وتناقشت معها حول احتياجي لمعرفة اللغة البرتغالية لدعم دراستي في مرحلة التحضير للدكتوراه في حقل البرتغال والخليج. نصحتني بضرورة السفر إلى البرتغال لتعلم اللغة هناك، والحصول على الوثائق من الأرشيفات البرتغالية مباشرة. وقد ساعدتني هي شخصيًا في ذلك بينما كنت في جامعة (هال) ويسرت لي بعض قنوات التواصل مع معاهد اللغة في البرتغال للحصول على منحة دراسة اللغة البرتغالية بما يُسمى (Bolsa de Estudo). بعد عودتي إلى البحرين من بريطانيا للعطلة الصيفية، تواصلت مع قنصل برتغالي كان يعمل أساسًا في إحدى الوظائف في مؤسسة بحرينية خاصة، -إذ لم يكن هنا في البحرين سفارة برتغالية- وله تواصل مع السفارة البرتغالية في الرياض بالمملكة العربية السعودية. وفعلًا فتح لي طريق الحصول على تلك المنحة الدراسية من معهد برتغالي حكومي رسمي يُسمى معهد كامويش (Camões Instituto)، وهو يعود لتسمية شاعر برتغالي قديم برز في عصر الكشوف البرتغالية بشعره الحماسي. مكثتُ في البرتغال حوالي سنة دراسية كاملة بين عامي 2001-2002. درست فيها اللغة البرتغالية في جامعة لشبونة مبتعثًا لها من قبل معهد (كامويش)، بما وفره من منحة دراسية ومصاريفها بحدود ما يوازي آنذاك 450 (يورو) شهريًا، وكانت تقريبًا تُغطي ثلاثة أرباع احتياجاتي والحياة المعيشية هناك، والباقي كنت أُكمله من جيبي الخاص. عمومًا أخبروني في المعهد بأن دراسة اللغة البرتغالية وإتقانها تمامًا يحتاج لمدة خمس سنوات دراسية. والسبب أن البرتغالية صعبة جدًا وهي لغة قواعد لاتينية وعربية، وليست بسيطة في قواعدها كاللغة الإنجليزية. ذكرت لهم بأنني لا أستطيع المكوث في البرتغال طوال هذه المدة لارتباطي بدراسة الدكتوراه في بريطانيا. عمومًا، قضيت في البرتغال فصلين دراسيين، لتعلم اللغة البرتغالية في جامعة لشبونة، وصلت فيها إلى أن تمكنت في مدة وجيزة من إلقاء كلمة جغرافية وتاريخية بسيطة عن البحرين باللغة البرتغالية أمام طلبة الفصل من جنسيات مختلفة، كنت أنا العربي الوحيد بينهم. وحصلت في النهاية على شهادة دراسة اللغة من جامعة لشبونة نتيجتها (Bom) بحسب تعبيرهم، أي جيد. تعلمت الكثير من أسرار اللغة البرتغالية وكيفية قراءة وثائقها. والأهم والأروع في رحلتي إلى البرتغال لمعرفة أساسيات اللغة البرتغالية؛ أني وببطاقة الدراسة في جامعة لشبونة؛ تمكنتُ من الاطلاع على أهم أرشيف برتغالي في الجامعة، بالإضافة لجامعات ومعاهد ومواقع تاريخية أخرى، وبذلك وصلت لأمهات الوثائق والمصادر والمراجع البرتغالية التي استقيت واستنسخت منها الكثير، أوضحت لي بشكل جلي حقيقة الكشوف البرتغالية في العالم، وحقيقة غزوهم للمحيط الهندي ومياه الخليج والبحر الأحمر، وغيرها من المناطق. وبعد مكوثي في البرتغال حوالي سنة، بخلاف سفراتي المتتالية لها في سنوات الدكتوراه وما بعدها؛ تعرفت على كم هائل من الوثائق البرتغالية الأصيلة، لم أكن أتوقعه، حتى إنني صورت عددًا كبيرًا منها، واستطعت دخول أكبر الأرشيفات البرتغالية في معظم مناطق البرتغال. ولا أنسى مساعدة بعض الموظفين البرتغاليين في معهد (كامويش) في ترجمة ما صعُبَ عليّ من الوثائق والعبارات التاريخية في الوثائق البرتغالية.
لقد اطلعت وتفحصت أكثر من 600 وثيقة ومصدر ومرجع بين اللغات البرتغالية والإنجليزية والفرنسية والفارسية والألمانية والعربية طبعًا، طوال حقبة التحضير لرسالة الدكتوراه. لكنني لم أدوّن منها إلا حوالي 350 مصدرًا ومرجعًا لرسالة الدكتوراه. ففي الدول الأوروبية وبحسب طريقة منهجيتهم؛ فإنهم لا يُحبذون كثرة الكلام وعدد الصفحات في الرسائل الأكاديمية بقدر ما يشجعون الطالب على أن يُحلل ويضيف آراء علمية بخلاف «الهذرة الكلامية» وكتابة معلومات هي موجودة أساسًا في بطون المصادر والمراجع والبحوث. وبما أن ميداني (البرتغالي) هو بحد ذاته جديد وغريب على الأوروبيين والخليجيين كذلك؛ حاولت أن أبدع وأضيف آراء علمية جديدة موثقة جيدًا؛ فاختصرت الدكتوراه وكثفتها في حوالي 300 صفحة من حجم (A4) فقط. حتى إن الممتحن الخارجي (External Examiner) من الجامعة الملكية البريطانية في لندن، والممتحن الداخلي (Internal Examiner ) من جامعة (هال)؛ الاثنين قالا بأن محتوى رسالة الدكتوراه كان حقيقية مفاجئًا لهما، لأنهما لم يكونا يعلمان بكل هذه التفاصيل عن الوجود البرتغالي في الخليج وعُمان لأكثر من مئة سنة، وبأن البرتغاليين لم يكونوا سوى غزاة باحثين عن الثروات الشرقية والضرائب وليس تطوير أنظمة الدول وسكانها؛ والحرص على جني أرباح التجارة الشرقية التي كانت تمر عبر ذراعي المحيط الهندي وهما الخليج العربي وبوابته هُرمز، والبحر الأحمر وبوابته باب المندب. رسالة الدكتوراه تلك ضمت الكثير والمتنوع من المعلومات؛ وجاءت بعنوان (سمات الحكم البرتغالي في الخليج العربي وعُمان في الحقبة بين 1521-1622).
أما بشأن كنوز الأرشيف البرتغالي في لشبونة، فهي فعلًا كذلك، إذ تحوي الأعمال والسجلات التاريخية البرتغالية التي كُتبت خلال ما يسمى بالبرتغالية بـ (Idade de Ouro)، أي العصر الذهبي للبرتغال في القرن السادس عشر للميلاد. ويمكن العثور على معظم هذه الكنوز التي توصَف بشاهد عيان ومعاصر وذات فائدة علمية كبيرة؛ في مراكز الأرشيف البرتغالي، لا سيما مجموعة الوثائق البرتغالية الأقدم والأكثر أهمية، فيما يُعرف بـالأرشيف البرتغالي الوطني: The Arquivo Nacional da Torre do Tombo أو اختصارًا (ANTT). يوجد هذا الأرشيف حاليًا وسط مدينة (لشبونة) عاصمة البرتغال منذ عام 1378، والباحث في هذا الأرشيف الضخم يكتشف أنه من بين آلاف الوثائق فيه، يوجد عدد يخُص النشاطات البرتغالية فيما وراء البحار في القرن السادس عشر للميلاد. يضم الأرشيف ثلاثة أقسام تحوي المواد الخاصة بسنوات السيطرة البرتغالية في المشرق. أولها وأكبرها يسمى بالبرتغالية «مجموعة التسلسل الزمني للأحداث» (Corpo Cronológico)، واختصارها (CC)، وتضم 82,902 وثيقة، محفوظة في عدة مطويات يُطلق عليها (Maços)، أي اللفائف أو الأوراق المطوية. ويلاحظ أن معظم المواد الأرشيفية في الـ (CC) تعود إلى القرن السادس عشر للميلاد.
أما القسم الثاني من هذا الأرشيف، فيتمثل في مجموعة وثائق تُسمى (As Gavetas) أو (الأدراج). يوجد 23 درجًا منها يحوي عددًا كبيرًا من الوثائق طُبعت في عدة مجلدات وصدرت عن مركز الدراسات العسكرية في لشبونة لتأريخ ما وراء البحار للإمبراطورية البرتغالية. وتكمن أهمية هذه الوثائق في أنها تشمل معلومات خاصة بالخليج وشبه الجزيرة العربية والبحر الأحمر خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر للميلاد. كما توجد أيضا في هذا الأرشيف عدة وثائق أصلية عن منطقة الخليج، تم تخزينها في كتيب صغير تحت عنوان «رسائل نواب الملك في الهند».
أما ثالث المجموعات الحيوية في هذا الأرشيف التاريخي الجامع؛ فيُطلق عليها «كتب الرياح الموسمية»، أو مخطوطات الهند، وهي تتضمن 62 مخطوطة. ونفس هذا العنوان أيضًا أُطلق على المجموعة الرئيسة لأرشيف «ﮔـوا» في غرب الهند، ويحوي 240 مجلدًا، تغطى الحقبة من عام 1605 إلى عام 1650. كذلك يضم أرشيف (ANTT) مجموعات صغيرة متنوعة من الوثائق المُهمة، تناولت الأحداث في الخليج العربي وشبه الجزيرة العربية. بالإضافة للمصادر الكبرى لأشهر مؤرخي الكشوف البرتغالية فيما وراء البحار.
أما عن كيفية التعاطي مع آلاف الوثائق والصفحات، ضمن مقتنيات هذا الأرشيف البرتغالي وغيره؛ فيجب الحذر وتوخي الدقة والحرص بشكل كبير عند الاستعانة به وبكل كتابات المؤرخين البرتغاليين الرسميين، لأن ما دوّن فيها يُشكل تأريخًا برتغاليًا صرفًا، جاء من أجل تسجيل وتوثيق الأهداف الاستعمارية للسلطة والبلاط الملكي البرتغالي آنذاك. إن تلك الكنوز الوثائقية البرتغالية، تُبرزُ التاريخ كمجموعة من الانتصارات واللحظات التاريخية المهمة التي تبجل البرتغاليين وتصفهم كأبطال للمسيحيين في أوروبا. إذ إن معظم تلك الوثائق تُمجد أعمال القتل والسلب والنهب البرتغالية المنظمة لثروات المشرق، وغالبًا ما توصف بأنها أعمال بطولية مؤيَدة من الرب. وعندما تعرج تلك الكتابات على المسلمين أحيانًا؛ تذكر البعض من أولئك الذين تعاملوا مع البرتغاليين انطلاقًا من مصالحهم الآنية، أو كانوا موالين لهم لأسباب عديدة. وأحيانًا أخرى -وربما لإظهار جانب آخر من الصورة- يتم الإشارة لقيام شيء من المعارضة من قِبل بعض أولئك المسلمين ضد السلطات البرتغالية وغزوها للمناطق الشرقية، وكيفية مواجهة الجيش البرتغالي لها والانتصار عليها بسهولة. كما يجب أن نعي جيدًا التوجه الديني العميق في الكتابات البرتغالية في تلك الحقبة، لإبراز شجاعة وحماس البرتغاليين الدينية.
* في السياق ذاته، كيف تفسر غياب حدث جلل مثل الاحتلال البرتغالي عن المدونة المعاصرة له، أي وقت حدوثه، بالخصوص عربيًا ومنها المصادر العُمانية التي لم تبدأ بتوثيق هذا الأمر إلا مع قيام دولة اليعاربة، إذا استثنينا طبعا كتابات الملاح العربي المشهور ابن ماجد؟
– كما ذكرت في باب عرض مصادر الدراسة في الكتاب؛ فإن المصادر العُمانية أغفلت ذكرها للغزو البرتغالي، إلا بشكل عرضي حين تم وصفهم بالمحتلين الظلمة أو غير العادلين. مع أن تلك المصادر أشارت إلى تعامل بعض شيوخ القبائل العُمانية مع سلطات هُرمز والبرتغاليين ضد قادة توحيد عُمان من اليعاربة، وكذلك إلى احتلال صحار للمرة الثانية من قبل البرتغاليين عام 1616. على أي حال، خلال حقبة حكم موحد عُمان الإمام ناصر بن مرشد اليعربي منذ عام 1624، وكذلك حقبة ابن عمه سلطان بن سيف اليعربي منذ عام 1649؛ ظهرت معلومات مهمة وبشكل متدفق وتفصيلي حول البرتغاليين في عُمان ضمن المرحلة التي شهدت العديد من المعارك الطاحنة بين الإمامة والبرتغاليين حتى تم تحرير كافة الأراضي العُمانية من البرتغاليين وأهمها مسقط عام 1650م، منها ما يعرضه بشكل مباشرة كتاب «كشف الغمة الجامع لأخبار الأمة» لسرحان الأزكوي، حول هذه القضية خلال وصف العمليات الحربية العُمانية ضد البرتغاليين وإزاحتهم من مسقط بين عامي 1649 – 1650. ولذلك نجد هنا أن معظم الكتابات العُمانية اللاحقة أخذت عن كتاب «كشف الغمة» واعتمدت عليه بشكل أساس. لكن يبقى من المحيّر وبشكل غير واضح صمت المؤرخين العُمانيين وعدم ذكر أي خبر عن بدء وصول طلائع الغزو البرتغالي لجنوب عُمان وشبه الجزيرة العربية مطلع القرن السادس عشر للميلاد. كما يبرز سؤال ملح في هذا السياق وهو: لماذا انغمس المؤرخون العُمانيون في نقاش وجدال حول مواضيع ثانوية جدًا في شأن بلادهم وحياتهم اليومية؛ بينما أسطول (أفونسو دي البوكيرك) البرتغالي؛ كان يدك بمدافعه المدن العُمانية الساحلية؟ وللرد على هذا السؤال، لا بد أولًا من الإشارة إلى أن معظم المؤرخين العُمانيين بمن فيهم، سرحان بن سعيد الأزكوي في «كشف الغمة الجامع لأخبار الأمة»، وعبد الله بن حميد السالمي في «تحفة الأعيان بسيرة أهل عُمان»، وحميد بن محمد رزيق في «الفتح المبين في سيرة السادة البوسعيديين»؛ لم تتضمن كتبهم، أي معلومة سواء عن البرتغاليين أو المواجهة بينهم وبين العثمانيين في الخليج في تلك الحقبة، إلا أنهم سطروا الملاحم عن الأئمة الإباضيين من أسرة اليعاربة في الربع الأول من القرن السابع عشر للميلاد، مع إعطاء معلومات قيّمة وزاخرة عن الإمام ناصر بن مرشد اليعربي، وعن نهايات الوجود البرتغالي في عُمان بين عامي 1649م- 1650. وربما السبب في إهمال المؤرخين العُمانيين لذكر أية أخبار عن بداية وصول البرتغاليين لمنطقة عُمان وحوض الخليج، هو أن أولئك المؤرخين الذين غطوا نقاشات ومواضيع جانبية هامشية أثناء الغزو البرتغالي للساحل العُماني؛ كانوا تابعين لحكام الداخل العُماني ويعيشون في كنفهم ولم يكن لهم علاقة بالساحل. حيث كانت معظم المدن الساحلية العُمانية تحت سيطرة مملكة هُرمز وليس الإمامة الإباضية في تلك الحقب. أضف إلى ذلك، أن الناس في عُمان آنذاك -كما أوضح السالمي- لم يحفلوا بتسجيل أو تأريخ سنوات الضعف السياسي التي تمر بها بلادهم، بل ركزوا جُل كتاباتهم على أئمتهم وإنجازاتهم الدينية التي تهم حياتهم.
وربما أبعد من هذا السبب، أن عِلم الكتاب العُمانيين بالغزو البرتغالي واحتلال سواحل بلادهم -كما فعل الهرامزة من قبل- هو أمر مُذل وحقبة سوداء، فارتأوا عدم تسجيل تلك الأحداث التاريخية في سجلاتهم. وهذا مرده لما كان يعتمل في نفوس المسلمين -ومنهم العُمانيون- من فخر واعتزاز بحضارتهم الإسلامية التي علّمت العالم الكثير من فنون الحضارة، فكان من الصعب تقبُّل فكرة أنهم يُهزمون على يد قلة من البرتغاليين الأوروبيين. بينما يُلاحظ، ضمن هذا السياق، أن مؤرخي عُمان أفردوا مساحات واسعة في كتاباتهم، للأحداث التالية التي تناولت خطط الأئمة لطرد البرتغاليين من عُمان في الربع الثاني من القرن السابع عشر للميلاد.
* الاحتلال البرتغالي سبق حملة نابليون بونابرت بقرابة ثلاثة قرون، ومع ذلك يُردد أن تلك الحملة كانت مفتتح حقبة الاستعمار الغربي للمشرق العربي! فما حقيقة ذلك؟ هل كانت الحملة الفرنسية على مصر والشام مُفتتح حقبة الاستعمار الغربي للمشرق العربي؟
– من الأخطاء التاريخية الشائعة عند بعض الكُتاب ولا أقول المؤرخين؛ ما يدوّن عن أن الحملة الفرنسية على مصر وبلاد الشام بقيادة (نابليون بونابرت)، تُعدُّ تمهيدًا أو فاتحة لحقبة الاستعمار الحديث في التاريخ الأوروبي في المشرق العربي، بل وفي العالم. حتى إن بعضهم -جهلًا أو عدم معرفة بحقائق التاريخ- يعتقد بأن حملة (نابليون) على مصر كانت أول حملة أوروبية مسلحة على الشرق الأوسط منذ عصر الحروب الصليبية. بينما الواقع التاريخي يوضح بأن الحملة الكشفية البرتغالية ونجاحها عام 1498م على يد (ﭭاسكو دا ﮔاما)؛ في الوصول إلى شرق أفريقيا ومياه المحيط الهندي، ثم الغزو البرتغالي العسكري للمشرق العربي منذ عام 1507م؛ هي أول عملية غزو مسلح للمشرق في التاريخ الحديث بمصطلح الأوروبيين. بل بداية حقبة السيطرة الأوروبية الحديثة عليه، وبروز مسألة شبه الاحتلال ثم الاستعمار البرتغالي لشبه القارة الهندية، والعمل على امتداده للمياه الشرقية في مناطق المحيط الهادي كذلك في النصف الأول من القرن السادس عشر للميلاد. ناهيك عن المحاولات الإسبانية في هذا المضمار أيضًا. هذا تم من باب التدخل الأوروبي المباشر في الشؤون الداخلية لولايات وشعوب المنطقة، وما أردفه من ازدياد احتكار البرتغاليين لثروات المشرق، والطرق التجارية البحرية التي تمر به، وما تلا ذلك خلال الصراع العسكري بين القوى الأوروبية المتنافسة، من انكسار الجيش البرتغالي على يد الإنجليز والهولنديين في المحيطين الهندي والهادي. ذاك التاريخ المنسي برهن سريعًا على أنه لن يُسمح لدولة أوروبية وحيدة دون زميلاتها من دول غرب أوروبا حينها؛ بتحقيق حُلم السيطرة على المشرق والتحكم في طرق التجارة الدولية والهيمنة عليها؛ إلا أن تتيح مجالًا لبقية الدول الأوروبية بالاتفاق معها على الأقل في تلك السيطرة والاستغلال.
ولا شك بأن الحملة العسكرية الفرنسية على مصر، فيما عُرف بـ «جيش الشرق» الفرنسي؛ قام بها (نابليون بونابرت) على الولايات العثمانية في مصر والشام بين أعوام (1798-1801م) بهدف الدفاع عن المصالح الفرنسية أساسًا. لكن هدفه الآخر ضمن حلقات التنافس الدولي ذاتها على ثروات المشرق؛ كان منع إنجلترا من القدرة على التحكم في شبه القارة الهندية بعد الهزيمة التي أوقعتها بالبرتغاليين، وطردهم من المياه الشرقية في القرن السابع عشر، والتحكم في طرق التجارة الدولية، أسوةً بما فعله البرتغاليون قبلهم لمائة عام وأكثر.
وكما فشل مشروع القائد البرتغالي (أفونسو دي البوكيرك)، بتحقيق حلمه وطموحه بإقامة إمبراطوريته العظمى في أوروبا والشرق على غرار ما قام به الإسكندر الأكبر المقدوني؛ كذلك فشل (بونابرت) في تحقيق أحلامه المشرقية، خاصة أمام أسوار مدينة عكا أو (عكو) الفلسطينية الساحلية، التي كانت السبب الأساس في وقف زحف جيش (نابليون) بالرغم من حصاره الطويل لها، مما أدى لسحب جيشه والعودة من حيث جاء خاسرًا وقد تبددت مطامعه بالسيطرة على الشرق والطريق التجارية إلى الهند، دون إنجلترا أو غيرها من الدول الأوروبية.
ثم إن الحملة الفرنسية، بل كل الغزوات الأوروبية الحديثة، تُعدُّ تاريخيًا مجرد انتقام لما تركته وخلفته الحملات الصليبية في فكر وأذهان الأوروبيين وفرنسا بشكل خاص كونها هي قلب العالم المسيحي آنذاك؛ من مرارة الهزيمة التي حلت بحملاتهم السابقة، بعد أن تمكن المسلمون من طردهم واسترداد ساحل الشام من بقايا الصليبيين. ولا حاجة هنا لسرد أسباب الحملة الفرنسية الداخلية والخارجية بالتفصيل، التي كتب معظمها المؤرخ عبدالرحمن الجبرتي، في كتابه القيّم «عجائب الآثار في التراجم والأخبار». لإثبات أنها لم تكن هي فاتحة ما يُسمى بحقبة الاستعمار الأوروبي، إلا أن ما حدث مع هذه الحملة وما بعدها، هو حلقة موسعة أكثر من حلقات التنافس الاستعماري القديم الحديث بين الدول الأوروبية بعضها البعض وبينها وبين المشرق الإسلامي والمناطق العربية تحديدًا التي بدأت، بلا شك تاريخيًا، بالغزو والسيطرة البرتغالية على مناطق المحيطين الهندي والهادي واحتكار موطن ومنبع التوابل المشرقية وتجارتها العالمية أساسًا في القرن السادس عشر، وما تمت إضافته بعد ذلك من استغلال بقية ثروات المنطقة، حتى ظهور النفط في القرن العشرين. هذه هي حركة التاريخ العسكري والاقتصادي ومحاوره بين الغرب والشرق بشكل عام.
* أسس حسين بن زامل بن جبر ما عرف في التاريخ بالمملكة الجبرية منتصف القرن الخامس عشر الميلادي في الجانب الشرقي من جزيرة العرب، وقد امتدت سلطة هذه الدولة على أجزاء واسعة من شبه الجزيرة العربية وبعض جزر الخليج مثل البحرين، واتخذت من الأحساء عاصمة لها، وبلغت أوج قوتها عام 1507م وهو العام الذي شهد الغزو البرتغالي للمنطقة. كنت قد توسعت في كتابك « مملكة الجبور وعلاقات البرتغاليين بالقبائل العربية الخليجية» حول هذا الكيان السياسي، كيف تُقيَّم مواقف القوى المحلية بما فيها الجبور من السيطرة البرتغالية على عُمان والخليج؟
– باستثناء موقف شاهات هُرمز ونظام الحكم بها من الغزو البرتغالي الذي يطول شرحه؛ لم تكن هناك قوى خليجية بمعنى دول تستطيع مواجهة الغزو البرتغالي، إلا مملكة الجبور التي كانت لها مواقف متعددة من ذلك الغزو، معظمها كان ذا صبغة عسكرية.
في حقبة وصول البرتغاليين إلى المنطقة؛ كان قد تولى السلطة في مملكة الجبور، مقرن بن أجود بن زامل خلفًا لأخيه محمد، لكننا لا نملك تاريخًا محددًا لتسلمه السلطة مطلع القرن السادس عشر. إلا أن المصادر البرتغالية ومعها العربية كذلك تؤكد، أن كلًا من البحرين والقطيف كانتا تحت سيطرة الجبور عندما دخل البرتغاليون إلى الخليج لأول مرة. كما أنه عند بدء الغزو البرتغالي العسكري لسواحل عُمان والخليج عام 1507 تحديدًا؛ ركن الجبور خلافاتهم مع هُرمز جانبًا، التي بدأت بسبب التوسع الجبري في شرق شبه الجزيرة العربية بالإضافة إلى جنوبها، وأرسلوا أسطول إغاثة من جزر البحرين مع الرجال والعتاد لمساعدة جزيرة هُرمز ضد هذا الغزو؛ لكن البرتغاليين تصدوا للسفن الجبرية بالقرب من جزيرة «قشم» وشتتوها، وبهدف التصدي للغزو البرتغالي -وفقا لما ذكره المؤرخ البرتغالي (باروش)- سافر الملك [مقرن] إلى مكة المكرمة سعيًا وراء هدفه المتمثل في جلب حرفيين أتراك لبناء سفن من نوع «فوشتا» (fustas)، وأيضًا جنود بحرية يعملون فيها، وهي عبارة عن سفن صغيرة مجوفة تقارب السفن الإيطالية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، ولكنها أكثر رشاقة وأسرع.
وبالرغم من خضم أحداث الخلافات الدموية التي نشبت بينه وبين خاله صالح بن سيف بن زامل الجبري بعد توليه السلطة في مملكة الجبور، التي كادت تؤدي لمحاولة اغتياله؛ إلا أن مقرن بن زامل الجبري مع وصول الغزو البرتغالي لسواحل عُمان وقف وبجانبه الجبور، ضد البرتغاليين بمجرد اقترابهم من الشواطئ والموانئ الجنوبية لعُمان عام 1507. وكما ذكرت مذكرات (البوكيرك)، فإن «بن جبر» أرسل حوالي 10 آلاف مقاتل من الصحراء مزودين بالرماح والدروع والسيوف والخيول، لمساعدة ميناء مسقط. ولم تقتصر المساعدة والوقوف ضد الغزو البرتغالي عند هذا الأمر فقط؛ بل إن حاكم صحار الهُرمزي استعان بقوة من الجبور تُقدر بألفي فارس وحوالي خمسة آلاف راجل من المشاة -إن صح التعبير- في مواجهة البرتغاليين.
إلا أن الصراع والنزاع بين القوتين المسلمتين الرئيستين في الخليج آنذاك، شكل فائدة كبيرة للغاية للبرتغاليين فاستغلوه من خلال انحيازهم مع هُرمز ضد مملكة الجبور، مما أدى بالنتيجة، لإرسال قوات برتغالية وهُرمزية عام 1521م، إلى جزر البحرين للمساعدة في استعادة سيطرة هُرمز عليها، والإطاحة بحكم العرب المسيطرين عليها، ومن ثم تعزيز سيطرة البرتغاليين على المنطقة.
* لعل من النقاط التي يمكن وصفها بالمسكوت عنه قضية تجارة الرقيق في المنطقة تحديدًا في العصور الحديثة، ففي حين تربط الباحثة الإيطالية باتريسيا ديلبيانو في كتابها «العبودية في العصر الحديث» انتعاش هذا الفعل بقيم الرأسمالية وأخلاق السوق التي ارتبطت بدورها بالتحولات الأوروبية التي خلقتها حركة الكشوف الجغرافية والاستعمار، ويجادل آخرون حول أن محاربة هذا الفعل غربيًا لم يكن منشؤه معاني إنسانية نبيلة أكثر من المصالح كما هي دراسة الدكتور إبراهيم التركي «غزاة باسم الإنسانية» ودراسات أخرى في نفس السياق، نجد دراسات قاربت المسألة بصورة أوسع مثل كتاب «تاريخ العبيد في الخليج العربي» لهشام العوضي. ما هي رؤاكم حول هذه القضية؟
– لا أدعي المبادرة في هذا المجال؛ لكنني قد فصلت في هذا الموضوع كثيرًا ضمن ندوة قدمتها في جمعية تاريخ وآثار البحرين عام 2017م، بعنوان (الرق في الخليج بين الوثائق والروايات)، تناولت فيها تجارة الرقيق الأفريقي وغيرهم للخليج، قبل أن يتطرق البعض لموضوع الرقيق في الخليج بسنوات، في الإمكان الرجوع إليها. وخلاصة القول: إن موضوع الرقيق، أو العبيد، كما يحلو لبعض الكتاب تسميتهم؛ شائك قديمًا وحديثًا، بين حقوق الإنسان وتجارة الأيادي العاملة التي أضحت اليوم منظمة ولها مكاتب وقوانين معينة. لكن الأمر الأخطر في التاريخ هو تجارة الرقيق الأوروبية بين القارة الأفريقية وأوروبا والقارتين الأمريكيتين، التي كان للبرتغاليين والإسبان قدم السبق فيها، عبر ما سُمي حينها بتجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي. تلك التجارة التي كانت تقوم على اصطياد الناس كالحيوانات، ونقلت بشرًا من موطن إلى آخر، بل خلقت بهم دولًا وكيانات سياسية بعد ذلك. ولا أريد استعراض تاريخ هذه القضية، لكن عند البحث عن أسباب تلك التجارة في البشر وانتشارها في القرون الماضية، نجد الأمر يعود لعدة جهات مشاركة في تلك المأساة البشرية منها: جشع تجار هذا النوع في كل زمان ومكان، ولا فرق بين عربي وأجنبي. وأهالي بعض المجموعات والقبائل الفقيرة الذين كانوا يضطرون لبيع بعض أولادهم أو أفراد قبائلهم. وحكومات بعض الدول الكبرى الأوروبية وغيرها ممن سمحوا بل وساعدوا في بروز هذه التجارة وفتح الباب على مصراعيه لها والاستفادة منها بأقصى درجة، وإن كان باستخدام مسألة حقوق الإنسان لتنظيم ذاك الاستغلال، والسماح أو السكوت عنه في جهة ما، والوقوف ضده ومنعه في جهات أخرى.
* كان مستفتح الحوار حول آخر أعمالكم البحثية ونود أن نختم بالنبش في الذاكرة، ماذا في مكنون حس المؤرخ الذي جايل أوضاع المنطقة عامة والحقل المعرفي والاشتغال البحثي منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين عما بقي من خصائص تلك المرحلة وما طرأ من تطورات في راهننا؟
– الإجابة باختصار شديد: دوام الحال، كما هو، ضربٌ من المحال. وما كنا نعيشه في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين ونُطلق عليه اليوم أيام الزمن الجميل؛ لم يكن كذلك بالفعل حينها حتى تكون لتلك الحقبة خصائص معينة، وإن كانت ما تزال تُشكل في الذاكرة الشعبية جزءًا من الأيام التي لم نعشها بعد. إذ عانت الطبقات المتوسطة والفقيرة في المجتمعات الخليجية عمومًا آنذاك، مع بعض الخصوصيات هنا وهناك في بعض كيانات هذه المجتمعات -وحتى مع وفرة النفط- من شظف العيش وقلة التعليم والتجهيل الفكري الثقافي. والسبب هو عدم وجود هيئات ومؤسسات، سواء أكانت حكومية أو أهلية، للتخطيط الحقيقي والمستدام في تلك المجتمعات. فأن تعيش على ما يتوافر لك كل يوم فقط، دون التفكير في المستقبل بتخطيط وإدارة واعية لزمن القحط والبؤس في أكثر من مجال؛ لهو عين الخطأ الذي سارت عليه الأجيال والحكومات هنا. مما أدى في النهاية لمخرجات في معظمها: شبه تعليم، وشبه ثقافة، وشبه تطور، وشبه حرية، وشبه حقوق إنسانية. لذلك فإن بلوغ الحقيقة الفكرية الكونية الراقية في كل مجالاتنا ما زالت بعيدة المنال، ولا يمكن الركون لضجيج المجاملات والتبييض الإعلامي الممارس حاليًا من أجل حفنة دنانير يبتغيها البعض لتعديل وضعه المادي على حساب الحقيقة الكبرى؛ لنُصدق بأننا نسير على الطريق الصحيح والقويم الذي حلُمنا به منذ الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي.