حاوره: محمد جليد *
لم يركن الكاتب والمفكر وأستاذ الفلسفة محمد المصباحي للراحة والاستجمام، مثلما يفعل كثيرون بعد التقاعد. بل تحولت عنده مرحلة ما بعد العمل إلى فسحة تأنٍّ ورحلة تأمل في الذات العربية المفكرة، أفرزت كتابا بعنوان «الذات في الفكر العربي الإسلامي»، الذي صدر في نحو خمسمائة صفحة عن المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات. في هذا الحوار، نستعيد برفقته التصورات التي أنتجها الفكر العربي حول الذات، وكذا المفاهيم والقضايا والتمثلات التي يطرحها هذا الكتاب.
l يقدم كتابك الأخير «الذات في الفكر العربي الإسلامي» قراءة تسعى إلى التخلص من الفهم الميتافيزيقي للذات وإيجاد بديل لها. هل كانت الغاية هي تحقيق ذات مدنية سياسية؟
uu إذا قصدتَ بسؤالك المعنى المحترف للسياسة والمدنية كما تمارسان اليوم، فليست غاية الكتاب تحقيق هذه الذات السياسية المدنية، الذات أغنى من هذين البعدين؛ لكن إن قصدت بالسياسة المبحث الذي يُعتبر غاية الفلسفة لأنه بالسياسة يحقق الإنسان السعادة والعدالة، وقصدت بالمدنية الإشارة إلى تعريف الإنسان بأنه حيوان مدني بالطبع وليس مجرد عبد لأحد، فإن الغاية من الكتاب هي بالفعل تحقيق الذات السياسية والمدنية. كان اهتمامي بالذات، في علاقاتها بالوجود والماهية والعقل والهوية وحتى بالعرض والعرضية، هو الخيط الناظم لجل كتاباتي منذ بداياتها الأولى (في كتاب إشكالية العقل، وفي كتاب دلالات وإشكالات). أما كتاب «الذات في الفكر العربي الإسلامي»مأفقدفف فجاء ليوسع دائرة هذا الاهتمام لإجراء حوار مع جملة من تصورات الذات المتباينة لدى صفوة من الفلاسفة والمتكلمين والمتصوفة القدامى (كابن باجة، وابن طفيل، وابن رشد، ابن خلدون، الغزالي، وابن رشد، والمكلاتي، وابن ميمون). كان لكل واحد من هؤلاء المفكرين تصوره الخاص للذات وزاويته المعينة للنظر إليها، ومع ذلك، ما كان يجمعهم أقوى مما كان يفرقهم، وهو التطلع في نهاية الأمر إلى التشبه بذات ميتافيزيقية مستحيلة التحقق على مستوى الإنسان بما هو إنسان يعيش في مدينة بأبعادها الطبيعية والمدنية والسياسية. فنجد مثلا ابن طفيل لم يقنع بأن يكون العقل ذاتا له بالرغم من تجرده عن المادة، فبحث عن قوة فوق طور العقل لتعبر عن ذاته التي لا يصل إلى تحقيقها إلا عبر فنائها في موضوعها. هذا البحث عن الذات الميتافيزيقية الذي يضحي بالذات الوجودية كان ضربا من الجنون الذي تكلم عنه فوكو، «جنون غياب فعل» الذات الفردية… جنون استحالة أن تنتج الذات نفسها في فعلها». طبعا، لا ننكر أنه، في ثنايا هذا البحث الجنوني عن ذات مستحيلة التحقيق، كانت هناك محاولات تنظر إلى الذات البشرية ليست شيئا آخر سوى أنها «إدراك للعالم» (ابن رشد)، أو بوصفها «ذاتا فردية» قادرة على الاستغناء حتى عن العيش المشترك في المدينة إذا ما خلا منها العلم والعلماء (ابن باجة)، أو باعتبارها «ذاتا عمرانية» غنية بأبعادها الطبيعية والإنسانية والإلهية، أي الذات المتطورة من الجسم فإلى العقل ثم إلى القلب (ابن خلدون)… ما نقدّره في هذه التصورات وغيرها أن الفكر العربي الإسلامي اهتم بالذات البشرية، بالرغم من طغيان الذات الإلهية على الفضاء العقائدي والفكري في ذلك الزمان. ويمكن تصنيف مناهج إدراك (إثبات) الذات إلى ثلاثة: إدراك الذات بالله عن طريق نفيها (التصوف والفلاسفة المتأثرين به)، وإدراك الذات بإدراك العالم (ابن رشد)، وإدراك الذات بالذات (ابن سينا).
l في مقدمة الكتاب، تستفاد فكرة قوامها أنه مساهمة في وعي الذات بأزمتها الراهنة؛ أي بما يعيشه العالم العربي اليوم من انتكاسة على جميع الأصعدة. لكن مقاربة ذلك تعود إلى أصول فكرية تعالج الموضوع نفسه. في نظرك، لماذا لم تعالج أزمة الذات الفردية في زمنها الراهن؟
uu موضوع الكتاب، كما تعلم، هو الذات في الفكر العربي الإسلامي (القديم) وليس في الفكر العربي الحديث. ولإبراز مدى أزمة الذات في الفكر العربي المعاصر كان لا بد من الإشارة في المقدمة إلى فتوحات الفكر الحداثي وما بعد الحداثي فيما يتصل بالذات. عموما، بالرغم من أن إنسان اليوم مختلف جذريا عن الإنسان الكلاسيكي، فإن أزمة الذات الراهنة تمتد بجذورها إلى أزمة الذات في فكرنا الكلاسيكي. لكن ليس معنى هذا أنه لا يمكن فهم أزمة الذات الراهنة إلا بالرجوع إلى الأزمة السابقة، فلكل زمن أزماته وأسئلته الخاصة به. وكتاب «الذات» لا يكتفي بالإشارة إلى بعد الأزمة في تصورات المفكرين القدامى، بل يسعى إلى التنويه بالأبعاد الإيجابية في تلك التصورات، وبخاصة العناية بالإنسان وبالذات البشرية بالرغم من هيمنة الذات اللاهوتية على مجامع تفكير القدماء من مفكرينا.
إذن، لا تعود الأزمة الشاملة للذات العربية المعاصرة فقط إلى أزمة الذات في الماضي، بل إلى عدة عوامل حديثة، نكتفي بذكر ثلاثة. أولها الأصوليات الإسلامية التي تعمل كل ما في وسعها لتدمير الذات البشرية، وتعبئتها بروح الكراهية تجاه كل ما هو جميل في الحياة لنشر الخراب في كل ما يحيط بها، وذلك من أجل أن تتمكن من إثبات أن لا وجود إلا للذات الإلهية.
العامل الثاني الذي ساهم ويساهم في تأزيم الذات العربية وحرمانها من امتلاك زمام أمرها، منها هو المسخ الذي حل بالفعل السياسي، حيث أمسى الشغل الشاغل لأهل الحل والعقد في العالم العربي هو الإجهاز على مكامن الحداثة والتنوير بقص أجنحة الأدباء والمفكرين، وتقليص فضاءات الكتاب والمسرح والموسيقى والسينما، وتصفية كل ما هو جميل من حدائق وفضاءات عمومية، هذا فضلا عن التحكم عن بعد في الأحزاب والجمعيات المدنية وفي فضاءات التواصل الاجتماعي… كل هذا من أجل خلق الأرضية الخصبة لانبثاق الأصوليات وانتشارها.
العامل الثالث الذي أسهم في إفراغ الذات العربية من مضمونها، هو تطور التقنيات المعاصرة وبخاصة الثورات الرقمية (كالمعلوميات والميديا ووسائل الاتصال…)، التي وإن كان لها وقع محمود في فتح آفاق مذهلة أمام تطور الذات في غياب عن رقابة المراقبين، فإنها حملت في طياتها أسباب سلب الإنسان أناه وتبديد ذاته.
أعود إلى مقدمة الكتاب، التي كانت الغاية من رصدها لتطور فكرة الذات عبر الأزمنة الثلاثة (الكلاسيكية والحداثية وما بعد الحداثية) التنبيه إلى تاريخية الذات التي أدت إلى انقلاب جذري: من البحث عن فناء الذات في الموضوع، إلى البحث عن فناء الموضوع في الذات. إننا نعتقد أن تلافي تدمير الذات البشرية لصالح الذات الميتافيزيقية، أو تدمير الطبيعة لصالح الذات البشرية، يهدد الكينونة والبشرية معا، وأنه يتعين إعادة التوازن بين الذات والموضوع.
l إلى أي حد يمكن القول إن أزمة هذه الذات هي نتاج المعضلة التي أغرقنا فيها الفكر الشرعي، الذي يغلب الذات الجماعية على الذات الفردية؟
uu هذا ما أشرت إليه في الإجابة السابقة. لكن أقترح تعديلا، فبدلا من عبارة «الفكر الشرعي» أفضل استعمال تعبير «الأصولية الإسلامية» أو «الإسلام السياسي» الذي أصرّ أصحابه على إفقار ذاتنا بإفراغها من كل مكتسباتها الحضارية والثقافية ومنعها من الانفتاح على الحياة وعلى مكتسبات الإنسانية. وكانت الحيلة الأساسية لهؤلاء القوم لإنجاز مهمتهم التخريبية للذات البشرية خلق الالتباس في كل قضية يتناولونها. وأول شيء فعلوه منذ قديم الزمان تلاعبهم بمفاهيم العقيدة والعلم والحقيقة، حيث حولوا العقيدة إلى علم، والعلم إلى حقيقة، الأمر الذي وفر لهم الذرائع للانتقال من الحقيقة إلى التنكيل بعلماء الطبيعة والشريعة في نفس الوقت. بعد أن تم لهم هذا الخلط، قاموا بجعل العلم الديني، القائم فقط على النقل والتقليد، هو العلم الحقيقي والكامل في مقابل العلوم العقلية الطبيعية التي وسموها بالعلوم المذمومة غير النافعة بل اعتبروها علوما ضارة ولو أنها هي التي تنتج الخيرات المادية للإنسان وتبتكر الآلات وتعالج المشاكل وتجد الحلول للمعضلات؛ وبناء على هذا التمييز الجائر قام علماء الرسوم بتكفير وتبديع وتضليل كل من اشتغل بالعلوم العقلية حتى ولو كانت متعلقة بالشريعة واللغة والنحو والأنساب والشعر. هكذا أمست كل معرفة خارجة عن «الحقيقة الدينية» باطلة، وكل ممارسة لا تخضع لطقوس الممارسة الدينية ضالة، مما أفقر الذات فصارت ذاتا بعد واحد، فلم تعد حرة في تفكيرها وسلوكها ولا حتى في رؤيتها ومشاهدتها ولباسها. وبسبب حصر الحقيقة في نطاق العقيدة، تمت مصادرة عقل وحرية وإرادة الذات البشرية، فغذا الإنسان كائنا قاصرا، ينتظر إذن الأوصياء، وهم «أشباه الفقهاء»، ليعتقد في «أشباه الحقائق» ويعمل «بأشباه الأفعال الفاضلة». من هنا نستخلص أنه إذا أردنا بناء ذات حداثية متعددة الأبعاد والآفاق، وجب علينا أولا فصل اللاهوت السياسي عن الفلسفة السياسية، وهو ما يسمى بالعلمانية، التي تعطي الحق في التشريع إلى ممثلي الأمة في البرلمان الذين يستمدون مشروعيتهم من المواطنين ويستنبطون قوانينهم من الواقع ومن حاجيات الناس بآليات قانونية، ولا تعطي هذا الحق إلى الفقهاء الذين يكتفون باستنباط فتاويهم من النصوص غير القابلة للتغيير. كما أنه من أجل بناء الذات الحداثية يجب علينا، ثانيا، تشييد دولة الحق على أساس الديمقراطية التي تستمد شرعيتها من الشعب، وتنظر إلى الأفراد لا كمؤمنين أو رعية أو عبيد، وإنما كمواطنين مطالبين بالولاء السياسيأأ للدولة فقط. والواجب الثالث الذي يتطلبه منا بناء الذات الحداثية هو الكف عن الخلط بين العلم الديني والعلم البشري، بين الحق الشرعي والحق الفلسفي، لا لكوننا نرفض الكلام عن طب إسلامي وفيزياء إسلامية وفلك إسلامي وبلاغة إسلامية… أو لكوننا نرفض ترويج ثقافة شعبوية تجعل كل الفتوحات العلمية موجودة مسبقا في القرآن، ولكن لأنه في مجال العقل العملي لم يعد ممكنا اعتبار فكرة «وحدة الحق» صالحة دائما، لأن الحق الشرعي أحيانا قد يخالف، بل قد يضاد الحق العقلي، أي البشري، كالحال في حقوق العبودية والإرث وقطع يد السارق الخ. هذه هي إذن شروط ترميم ذاتنا كيما تصبح ذاتا متحدية، منفتحة على كل ما يثري وجودها.
l تفترض أن شرطا من الشروط الأساسية لتحرر الذات هو تحرر العقل والاعتراف بالتفكير العقلاني، الخ. لكن هذا العقل يعيش الآن محنة قاسية. كيف تنظر إلى دور العقل وموقعه داخل الحقبة التاريخية الراهنة المحكومة بصراع قوي ومحتدم بين الخير والشر، بين الدين والفلسفة، بين الأصولية والحداثة، الخ؟
uu العقل بطبيعته قوة صراع لأن من أهم وظائفه ممارسة النقد والشك والتساؤل وإعادة النظر باستمرار، ومتى تخلى عن وظيفته الخلاقة هذه تلاشى وجوده وخان رسالته. طبعاً، لا يمكننا إنكار وجود أزمة العقل على صعيد الفكر العلمي والفلسفي في الأزمنة الحديثة إلى درجة دفعت بعض الاتجاهات إلى انتقاد مركزيته، وبالتالي مركزية الأنا أفكر، في مقابل الإعلان من شأن فاعليات أخرى للذات البشرية كالخيال والأساطير الخ. لكن مثل هذه الأزمات الإبستيمولوجية التي تقوم في وجه العقل من حين لآخر يخرج منها أقوى مما كان. أما بالنسبة لنا، فلم نُبوِّئ العقل مكانته المركزية السياسية والفكرية التي يستحقها حتى نتصدى له ونجعله يفقد وظيفته ومركزه. لقد فقدنا قيادتنا للتاريخ، وضاع منا زمام أمرنا لمّا تخلينا عن العقل وأنكرنا حتمية الطبيعة وضرورة الوجود. عندما تخلينا عن ابن رشد لصالح حنابلة الزمن الغابر انتهى أمرنا. الحنابلة اليوم اتخذوا ألوانا شتى: سياسية وعلمية وإيديولوجية وحتى صوفية. خطر حنابلة اليوم هو خطر داخلي وذو رؤوس كثيرة، لأنهم بمحاربتهم اليومية للعقل وتجلياته الرائعة (العلم، التقنية، الحضارة، الأخلاق العلمانية الخ) ينهكونه. مع ذلك، لا مناص للعقل من مواجهة خصومه الذين يسعون إلى نشر ثقافة اللاعقلانية والتقليد والامتثال للأوصياء. فإذا سلّمنا بأن تحديث الذات هو أساسا تحديث للعقل، فإن هذا التحديث لا بد أن يمر عبر النقد وعبر مواجهة القوى المضادة له وذلك بالقيام بثلاث مهام.
المهمة الأولى تتمثل في تحرير العقل من تاريخه كي ينفتح على المناهج والمقتربات الحديثة التي تمارس في المختبرات والمجامع العلمية والجامعات، وتحريره من الوثوقية والتبعية للإيديولوجيات السياسية والدينية.
المهمة الثانية تقضي بمواجهة هجوم الأصوليين والعدميين الذين يسعون إلى محاصرة العقل وتقويضه وتصوير أخطاء مستعمليه بأنها عيوب ذاتية له. ومواجهة مغتالي المعرفة والحقيقة لا تعني البحث عن أرض مشتركة بين الشريعة والحكمة، بل العمل على أن يبقى عقل الشريعة في حيزه الخاص وحسب وألا يتعداه إلى حقول العلوم العقلية والطبيعية، مع العمل على دفعه إلى تجديد نفسه بالاستفادة من الفتوحات المنهجية التي حققها عقل العلوم الطبيعية والاجتماعية والإنسانية. فكما أن العقل الفلسفي تحرر وتطور عندما أقر بحدوده (مع كانط)، فكذلك على العقل الشرعي (وليس على الفكر الشرعي) أن يعترف بحدوده لأنها هي الوسيلة الوحيدة لكي يصبح قويا في مجاله الخاص. وفي المقابل متى تعدى حدوده سقط في متاهات مثيرة للسخرية.
المهمة الثالثة تحثنا على أن نبقى يقظين وحذرين إزاء العقل الرقمي الذي وإن غمرتنا ثوراته الاتصالية والمعلوماتية والصورية بخيرات لا تحصى، صار يهدد كيان الإنسان. ذلك أنه بحكم طابعه «ما بعد الحداثي» أفسح العقل الرقمي المجال لظهور ذات جديدة هشة هي الذات الافتراضية (التي توجد بين الوجود والعدم)، التي بسبب طبيعتها الشبكية والبينية والعلائقية، صارت مهددَة بالتشظي والتبديد والتبعية لمحركات الإنترنت العملاقة، هذا عدا التعرض لعمليات التسخير والخداع والغش الأوهام والأكاذيب والمغالطات عن الذات وعن الآخر، الأمر الذي يؤدي إلى سلب الإرادة ونشر ثقافة اللامبالاة إزاء الحقيقة والواقع. غير أنه أنأإن كانت المواجهة مع الأصولية تُلقي بنا في قعر الماضي الباعث على الاطمئنان، فإن مواجهة العقل المعلوماتي، على العكس من ذلك، يقذف بنا إلى أحضان المستقبل المليء بتقلباته المذهلة وغير المتوقعة. إن تجاوز المضايقة الأصولية والمعلوماتية لا يمكن أن تكون ناجحة إلا بانخراط الذات الفعال في إنتاج التاريخ.
l يقودنا الحديث عن مواجهة العقل الأصولي من جهة، والعقل المعلوماتي من جهة ثانية، إلى وضع الفكر الفلسفي في العالم العربي، خصوصا في المغرب اليوم. كيف تنظر إلى هذا الوضع اليوم؟ وهل ترى أن الفكر الفلسفي يتجه إلى غد أفضل؟
uu أتوقع أن يحصل ذلك، ودليلي على ذلك أن الكتابة الفلسفية المغربية ما فتئت تعبر عن حيويتها وقدرتها على تجديد أسئلتها وآفاقها. فبعد أن كان جيل الستينات تستغرقه إشكالية النهضة في علاقتها مع التراث والحداثة إلى درجة دفعت الخطيبي إلى وصف هذه المرحلة بنسيان الفلسفة: «لقد نسينا ألفباء مسألة الوجود والموجود، ومسألة الهوية والاختلاف، وما زلنا نتكلم دون حياء عن الهوية والنهضة العربية»، تحرر قسم من الجيل الثاني من هذه الإشكالية، وتوقف عن اعتبار «التراث» ذات الإنسان العربي العميقة، ليكتفي بالنظر إليه فقط موضوعا للبحث العلمي. وقاده هذا التحرر إلى البحث عن قضايا فلسفية بالمعنى الخاص للكلمة.
أما الجيل الثالث وما تلاه من أجيال فقد انطلقت للبحث عن قضايا وموضوعات جديدة عن طريق الاحتكاك بأسئلة كبار الفلاسفة الغربيين. لذلك فأنا لست متشائما من الوضع الفلسفي بالمغرب. صحيح، قد لا تجد القضايا الفلسفية التي تطرحها الأجيال الجديدة جمهورا يتعاطف معها لأن الجمهور العربي أصابه ما يشبه الإدمان على قضايا النهضة التي لم تنهض، ولكن الانخراط في تناول القضايا الفلسفية الكونية من شأنه إحياء تقليد النظر الفلسفي الذي يخاطب الإنسان بعامة، لا هذا الإنسان أو ذاك.
لقد حقق الجيل الأول، جيل الستينات، من المفكرين المغاربة (الحبابي والعروي والجابري والخطيبي وأومليل) عودة الفلسفة إلى رحاب الثقافة المغربية بعد أن تم تغييبها قسرا زهاء ثمانية قرون. دشن محمد عزيز الحبابي عودة الفلسفة بالتأليف الفلسفي لا بالتأليف في تاريخ الفلسفة. اتسمت كتابات هذا الجيل بالاشتراك بنسب متفاوتة في سمات كالعقلانية والتاريخانية والنقد والالتزام والنزعة الإيديولوجية، مما يدل على أن إشكاليتهم كانت واحدة، أو على الأقل متشابهة. لكن هذه الوحدة في الإشكالية لم تمنعهم من الاختلاف في الطرح والسبل والمقاربات والمفاهيم والمتون المعتمدة في صياغة أقوالهم. إن اقتسام جيل الستينات من الفلاسفة الشعور بالفشل التاريخي للأمة العربية، أي بإخفاق المشروع الحداثي الديمقراطي على صعيد الدولة (استحالة الديمقراطية)، والاقتصاد (أزمة النمو)، والفكر والعقيدة (إخفاق محاولات الإصلاح والاستنارة والتحديث)، دفعهم من جهة إلى البحث عن أسباب هذا الفشل الشامل في استنبات نهضة ثانية، ومن جهة إلى التفكير في إصلاح العقل والسياسة والإيديولوجيا. وهذا يد على أن رهان الكتابة لدى غالبية مفكري هذا الجيل لم يكن أكاديميا يدخل في نطاق العقل النظري، وإنما كان رهانا تاريخيا يندرج في مجال العقل العملي، مما أضفى على تفكيرهم طابعا إيديولوجيا ملتزما بإرادة تغيير الوجود التاريخي نحو أفق حداثي وتنويري، لهذا نجدهم يتنافسون على وصف مقاربتهم بالتاريخية أو التاريخانية. لكن طرق الوصول إلى الحداثة كانت لديهم متعددة: فبعضهم كان يريدها بالقطيعة مع التراث، والبعض الآخر باستثمار ما في التراث من بذور التنوير. وقد مكن انغماس الرعيل الأول من المفكرين في إشكالية التغيير من وضع الأسئلة الجريئة والشاملة، والمواقف الأصيلة، والتحليلات العميقة، والانتقادات اللاذعة التي تبشر بميلاد أفق حداثي وتنويري. ونعتقد أن جاذبية الجيل الأول (باستثناء الحبابي بوجه ما) تعود أساسا إلى تبنيهم للمقاربة الماركسية بأبعادها الأربعة: الجدلية، والتاريخية، والنقدية، والطوباوية. ومعنى هذا أن المنتسبين إلى هذا الجيل تمكّنوا من تحقيق استقلال إشكاليتهم الفكرية عن الإشكالية المشرقية والإشكالية الاستشراقية، وذلك بفضل استثمارهم الذكي لجملة من المفاهيم الإبستيمولوجية (البنية، التطور، الجينالوجيا، الإشكالية، القطيعة، التاريخانية، الإيديولوجيا، الكتلة التاريخية، العقل المستقيل، الخ) المقتبسة من الفلاسفة الغربيين (خاصة هيغل، ماركس، نيتشه، فوكو، ألتوسر، باشلار، غرامشي، مانهايم…). وبفضل هذا المجهود الجبار، والسمات الأصيلة التي تحلت بها كتاباتهم، لم يعد المغرب مستورِدا للأسئلة والأفكار والمناهج والرؤى والمواقف الفلسفية الجديدة بل صار مصدّرا لها. وقد سار إنتاجهم في توجهين متقابلين: توجه نهضوي تحديثي يعمل على الخروج من المأزق التاريخي (العروي، الجابري)؛ وتوجه يحلق في سماء الكونية، ويهتم بالشخص والاختلاف والازدواج والهجانة، لا بالوحدة والهوية كما فعل التوجه الأول (الحبابي في مرحلته الأولى والخطيبي…).
أما الأجيال الموالية فتتوزع اهتماماتها توجهات لا يجمع بين أعضائها خيط مذهبي ناظم، حيث تشق دراساتها الفلسفية طرقا جديدة تنتمي إلى مجالات أونطولوجية وإبستيمولوجية وفينومينولوجية وجمالية وأركيولوجية وتفكيكية… ويبقى المطلوب من الأجيال الحالية للفلاسفة المغاربة أن تعمل على تكريس الفلسفة في الفضاء الثقافي المغربي كيما تصير مكسبا نهائيا للذات الثقافية المغربية، وتصبح حاضرة في مختلف تخصصات العلوم والمباحث في الجامعة المغربية، في الطب والهندسة والمعمار والفن والشريعة، وأن تغدو الفلسفة جزءًا بنيويا من المدينة.
l هل تستشعر التفاؤل نفسه، فيما يتعلق بخلف كبار أعلام الفلسفة، أمثال الحبابي والجابري والعروي والخطيبي، الخ، الذين أغنوا الفكر والدرس الفلسفي في المغرب؟ هل هناك خلف واع وقادر على حمل تحديات الدرس والفكر الفلسفي خلال العقود المقبلة؟
uu نعم أشعر بتفاؤل كبير، لكن بشرط إذا حققت الأجيال الحالية بعض المطالب. صحيح لا يمكن أن ننكر أن كتابات الجيلين السابقين انبثقت من أتون نضال الحركة الوطنية والحركة التقدمية اليسارية، مما أضفى على إنتاجهما طابع الرسالة المنقذة للعالم العربي، وخلق تعاطفا معها. في المقابل ما يميز الأجيال الحالية أنها تحررت من التزام الزمنين الوطني واليساري، مما قد يمكّنهم من حرية أكبر لإنتاج قول أكثر انغراسا في الفلسفة. ذلك أن خروج الأجيال الحالية من نفق إشكال الهوية والنهضة، جعلهم يُقدمون على تناول قضايا فلسفية محضة تتصل بفلسفة الوجود والفلسفة السياسية وفلسفة الأخلاق والإيتيقا، وفلسفات الحق، وفلسفة الجمال، وفلسفة العدالة والإنصاف الخ. من ثم، لم يعد مخاطَب الأجيال الحالية هو أعلام التراث الفلسفي العربي الإسلامي، بل صار كبار الفلاسفة الغربيين من كل الاتجاهات اليمينية واليسارية، الإنسية واللاإنسية، العقلانية والتفكيكية… أمثال سبينوزا ونيتشيه وهيدغر وليفيناس وهابرماس ورولز ورورتي ونانسي فريزر وحنا أرندت وفوكو وديريدا وكارل سميث وأمارتيا صن…
لكن ما أتمناه هو أن يأخذ الجيل الحالي العبرة من العيب البنيوي الذي طبع أفراد الجيل الأول (باستثناء محمد عزيز الحبابي) الذين كانوا يتباهون بعدم اعتراف أحدهم بالآخر، والتظاهر بأنه لا يقرأ له، مما حرم الفضاء الثقافي من نعمة الحوار المباشر والصريح والبناء بينهم. حبذا لو تغلب الجيل الحالي على هذه الآفة وأقبل على قراءة زملائه والكتابة عنها وانتقادها وإثارة النقاش علنيا على صدر صفحات الجرائد والمجلات لخلق فضاء فلسفي عام من شأنه أن يشكل مناعة ضد ردة فلسفية. كما أنه من واجب الجيل الحالي أن يخرج من نطاقه الأكاديمي، ومن عزلته عن زملائه الآخرين، والإقبال على الاعتراف المتبادل مشفوعا بحوار إيجابي وخلاق يحقق الطابع التواصلي للعقل الفلسفي والانغراس في المدينة. وبهذا يمكن أن تشكل الفلسفة استثناء بالنسبة للفعاليات المغربية التي لم تستطع لحد الآن الانتقال الديمقراطي القائم على الحوار والاعتراف المتبادل وترسيخ المجتمع المدني.
l في المغرب والعالم العربي اليوم، يقتصر النقاش حول العقلانية والتنوير على الفلسفة وحدها. هل ترى إمكانية تحقق العقلانية والتنوير عبر بدائل أخرى وحقول أخرى غير الفلسفة؟
uu إذا أمعنا النظر في وضعية الثقافة في العالم العربي فإننا سنجد أن الفلسفة لا تحتكر الدعوة إلى التنوير العقلاني، بل هناك أجناس الكتابة الروائية والشعرية والمسرحية والسينمائية والفنون التشكيلية… كلها تسهم بطرقها الخاصة بالدفاع عن التنوير، والدليل على ذلك أن عمليات التضييق والتنكيل، التي تصل إلى حد القتل، شملت رجالات من الأدب والفن. وأشير من باب التذكير إلى أن أكثر من مفكر مغربي وعربي لم يقنعه السرد الفلسفي في مخاطبة الجمهور بسبب صعوبة المفاهيم والاستدلالات العقلية التي ينقل بها أفكاره، ولجأوا من حين لآخر إلى الرواية والشعر للتعبير بالصور الخيالية عن رؤيتهم للعالم كالحبابي والخطيبي وسعيد بنسعيد…
l إذن، مازال أمام الفلسفة أن تطرح سؤال التخلص من القيود التي تفرضها الغيبيات والإيديولوجيات الأصولية والتعبيرات العنيفة…
uu بالفعل، نلاحظ بكثير من الاستغراب أن أبعد الناس عن العقلانية هم المتخرجون من كليات العلوم النظرية والتقنية. إنها مفارقة مؤلمة: يتعلمون العلوم العقلية دون أن يدركوا معناها. ولعل السبب في هذه المفارقة هو غياب تدريس الفلسفة في الكليات والمعاهد العلمية والمدارس التقنية. فإذا قلت لطبيب مغربي (ليس كلهم لحسن الحظ) إن الطب، كما يقول ابن رشد، هو صناعة الصحة، وأنك تصنع الصحة، فإنه سيرفض ذلك ويقول لك إن الرب هو الذي يصنع الصحة. فإذا كنت أيها الطبيب لا تؤمن بعلمك، فلماذا تمارسه إذن؟ إن من يجيب بمثل هذه الإجابة لا أمل فيهم لأن العلم لم ينغرس في نفوسهم، وأن يصبحوا علماء حقيقيين، لأنهم لا يملكون وعيا بطبيعة العلم الذي يمارسونه والقائم على السببية الطبيعية، ويتقمصون علما آخر لا يتقنونه هو «علم الكلام» الذي مهمة بعض اتجاهاته (الأشعرية) إنكار السببية لأنها في نظرهم تزاحم القدرة الإلهية. والحال أن الأمر ليس كذلك، لأن القدرة الإلهية تطرح على مستوى آخر، مستوى أعلى، لا على مستوى المجالات الطبيعية التي استخلف الله فيها الإنسان ليقوم بأمانتها. إن الطبيب إذا لم يكن يؤمن بأن الدواء الذي يعطيه للمريض بمقدار محدد سيخفض الحمى ويبرئ المريض في أيام معدودة، ليس طبيبا.
لا يمكن القيام بالبحث العلمي وخلق معرفة جديدة بالاستناد فقط إلى النصوص. فالنصوص تحجب الوجود. علينا أن نرى الوجود مباشرة لا من خلال حجاب النصوص. إن أمثال الأطباء الذين أشرت إليهم هم حنابلة هذا الزمان لأنهم ما زالوا يخلطون بين العلم الديني والعلم الطبيعي. بهذا الخلط يتم إغلاق باب الابتكار والإبداع. نحن، طبعا، لا نقلل من شأن وشرف النصوص الدينية إن استعملت في مجالها، مجال الإيمان.
l على امتداد هذا الحوار، وردت الإشارة إلى ابن رشد أكثر من مرة. إن الملاحظة التي تتبادر إلى الذهن تكمن في أن الفكر الفلسفي استنفد طاقته في دراسة فكر الرجل. بوصفك أحد المهتمين القلائل بابن رشد، هل مازالت هناك مناطق ظل في الفكر الرشدي؟ ما هي؟
uu ليس صحيحا أن الفكر الفلسفي استنفد كل طاقته في دراسته لفكر ابن رشد ولا في دراسته لأي فيلسوف أو مفكر آخر من أية ثقافة كانت. قيل فيما مضى إن ابن رشد قُتل بحثا، ولكن الحقيقة هي أنه قُتل «تسخيرا» للإيديولوجيا، وفقط بالنسبة لحيز صغير جدا من إنتاجه، وهي ثلاثية كتبه «فصل المقال» و»مناهج الأدلة» و»تهافت التهافت». والحال أنه ما زالت مناطق شاسعة وكثيرة في الفكر الرشدي لم تكتشف ولم تسلط عليها أضواء البحث العلمي. تم تسليط ضوء جزئي على كتابات ابن رشد التي تفاعلت مع العلوم الإسلامية، أما كتاباته التي تفاعلت مع العلوم الفلسفية، أي التي تبحث في الوجود الطبيعي، فالدراسات التي أُنجزت حولها تعد على رؤوس الأصابع. مثلا الدراسات التي أنجزت حول شروح ابن رشد حول كتب وعلوم الطبيعة والكون والفساد والسماء والعالم والآثار العلوية وكتب الحيوان والكليات في الطب وكتب المنطق الستة قليلة. هناك بعض الكتب حظيت بالاهتمام الكبير مثل كتاب النفس وكتاب ما بعد الطبيعة وكتاب الشعر، ومع ذلك ما زالت هناك قضايا حتى في هذه الكتب تتطلب البحث لأول مرة أو تتطلب تجديد النظر فيها. كيف نقول بأن البحث الفلسفي في ابن رشد قد استنفد طاقته وبعض أعماله الطبيعية الهامة كشرحه لكتاب الطبيعة وشرحه للمقالة الثانية من السماء والعالم ما زالت لم تترجم إلى العربية في حين أنها ترجمت إلى الإنجليزية. هل أنجزت دراسات وافية لخطابة او جدل أو سفسطة ابن رشد مثلا. إن التنوير الحقيقي يأتي من بحثنا في أعمال ابن رشد التي تعامل فيها مع الطبيعة وليس تلك التي تعامل فيها مع الغيب. لماذا نقول عن ابن رشد بأنه قُتل بحثا ولا يقول الأوروبيون ذلك عن توما الإكويني أو القديس برنار أو الميتر إيكارت أو عن فلاسفة اليونان التي ما زالت تتجدد الأبحاث حولهم؟ إن الغرب، الذي يكشف أسرار الطبيعة كل يوم ويجرؤ على تعديل أنواعها وتغيير بنائها، وربما يخلق ظواهر وكائنات جديدة، هذا الغرب هو الذي ما زال يُعنى بالدرجة الأولى بتراثنا العلمي والفلسفي، ويترجم نصوص هذا التراث من العربية واللاتينية والعبرية إلى الإنجليزية أو الألمانية أو الفرنسية. لكن إذا كان من الواجب أن ندرس تاريخ الفلسفة والعلوم العربية، فليس لأن نجعلها بديلا لعلوم اليوم وفلسفات اليوم، فالمسافة شاسعة جدا بين طب ابن سينا وابن رشد والرازي والطب الحديث. إننا ندرس تاريخ العلوم العربية لتتبع آليات انبثاق النظريات الجديدة في الرياضيات والفلك والفيزياء والطب، ومعرفة العوائق والأزمات المعرفية التي قد تسد الباب أو تفتحه لانطلاقة جديدة في هذا العلم أو ذاك.
l نختم هذا الحوار بالعودة إلى مسألة الذات. يلاحظ أن الفكر الفلسفي اليوم، سواء في اهتمامه بالقضايا المعاصرة أو بانكبابه على نقد التراث الفكري والفلسفي العربي لا يعنى بالذات الأنثوية إلا نادرا، وخاصة عند ابن رشد…
uu لنبدأ بابن رشد الذي يمكنه أن يفيدنا في قضية المرأة التي لم تكن المرأة غائبة عنده، بدليل أنه بالنسبة إليه لا يمكن الكلام عن «الذات الأنثوية» كما فعلتَ أنت في سؤالك، لأنه لا توجد سوى ذات واحدة بالنوع هي الإنسان، أما الاختلاف بين الذكر والأنثى فليس اختلافا في الذات، أي في الماهية والنوع، وإنما هو اختلاف في العرَض، وهو كالفرق بين العدد الفردي والعدد الزوجي، فكلاهما عدد لكنهما يختلفان في صفتي الأحدية والزوجية، كذلك الرجل والمرأة فهما واحد في الإنسانية، أي متساويان في انتمائهما للعقل البشري. وقد تردد هذا الموقف الفلسفي النظري على موقفه العملي، حيث نجده في شروحه على كتاب الخطابة لأرسطو وكتاب السياسة لأفلاطون يعتبر المرأة ندا للرجل، وأنها قادرة على ممارسة قيادة الدولة، وإن كانت تختلف عنه في حذق بعض الفنون والفعاليات. إذن، على المستوى الفلسفي النظري والعملي لا تختلف المرأة عن الرجل في النوع والذات. لكن عندما ينزل إلى مستوى المعاملات، أي على المستوى الفقهي، يجد نفسه عموما أسير رؤية فقهية تقليدية تعطي المرأة حقوقا أقل من الرجل وتعتبرها خاضعة له.
نجد نفس الازدواجية تقريبا عند محيي الدين بن عربي. فهو عندما يكون متصوفا، أي ينظر إلى العالم من زاوية الذوق والعرفان، يُعلي من شأن المرأة جاعلا إياها تلك الزهرة التي تخرج برائحتها الرجل من كمونه لكي يتحقق بالفعل، وكأن المرأة بالنسبة له هي حقيقة الرجل. لكنه عندما يلبس لباس الفقيه، يطبق عليها قوانين الفقه.
نحن لا نطالب ابن رشد، ولا غيره من المفكرين المسلمين الذين عاشوا في القرون الوسطى، ولا فلاسفة اليونان الذين عاشوا في عمق العصور القديمة، بآراء تجعل المرأة مساوية للرجل على مستوى المعاملات. لم يكن ذلك ممكنا في تلك الأزمنة، لأن تحقيق مطالب المساواة في الحقوق بينها وبين الرجل هي من ثمرات الزمن الحداثي.
المشكلة التي تعاني منها المرأة في ثقافتنا الإسلامية هي أن الأصوليات منهن يتنكرن لوضعيتهن، إلى حد أنهن يحولن الظلم الذي يعانين منه إلى أعلى مستويات العدالة والحق. هذا الاستلاب العقلي الذي يصادر ذات الأنثى، ويجعلها مجرد موضوع للرجل، أو مجرد موضوع شرعي، هو نوع من العبودية المختارة. عندما تختار المرأة الأصولية أن تكون مسترَقّة للرجل لأن النصوص قالت ذلك، فإنها تبرهن أن العبودية صارت جزءًا من شخصيتها، وأنها تتكلم بلسان أوصيائها لا بلسانها هي. كيف يمكن اقتلاع العبودية من شخصية المرأة الأصولية، كيف يمكن علاج استلابها واستعادة الإنسانية إليها وبخاصة استعادة العقل إليها؟ هذا هو السؤال الذي ينبغي أن تعكف عليه الفلسفة اليوم. العلمانية تقدم وصفة ممكنة لعلاج مرض العبودية لدى المرأة، لأنه عندما نخول حق التشريع للإنسان بالنسبة لعلاقة المرأة بالرجل، يمكن العثور على توافقات في هذه النازلة. كما تقدم العلمانية حلا ممكنا للازدواجية بين الموقف الفلسفي والموقف الفقهي التي عانى منها ابن رشد، وذلك بإلحاق الفقهي المتصل بالمرأة بعلمي السياسة والأخلاق، ويتوقف اعتبار المرأة نصف الرجل من ناحية الماهية والذات.
إننا إن أردنا اختصار الأزمة، أزمة الإقلاع نحو الحداثة الإنسانية، التي تعاني منها معظم بلدان العالم الإسلامي، فسنقول بأنها تعود إلى تردي وضعية المرأة، وما لم نصلح الوضع التشريعي للمرأة، ونرد لها كرامتها الإنسانية بالتشريعات البشرية، فإننا سنبقى تلك «الأمة التي ضحكت من أجلها الأمم».