أعدّ الملف: إدريس الخضراوي*- محمود الرّحبي**
تقديم
ينتمي محمد برادة إلى جيل الستينيات(1938)، وهو جيل مخضرم كانَ المغربُ في المراحل الأولى من حياته يَشهدُ وعيا وطنيا واسعا يتطلعُ إلى تحرير الوطن من ربقة الاستعمار، كما عاش فورة ما بعد الاستقلال، وظلّ قريبا من الأسئلة والهموم الشائكة التي يواجهها المجتمع المغربي في رحلته المتعثرة نحو الحداثة.
استطاع برادة بغزارة إنتاجه وفرادة إبداعه، أن يحفرَ لنفسه موقعا رفيعا في الثقافة المغربية خاصة، والعربية بصورة عامة. وليس في الأمر أي تزيّد إذا قلنا إن هذا النسيج الفريد الذي يمثله منجزه، يجعله من بين أولئك الذين أسهموا أعظم الإسهام في تحديث الثقافة المغربية وإعطائها بعدا كونيا.
بدأ برادة الكتابة منذ أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، وخلال هذه المعاشرة الممتدة للحقل الأدبي العربي، أنتج عددا من الأعمال الإبداعية والنقدية التي نال بها جوائز عديدة، بحكم ما انطوت عليه من إضافات نوعية للثقافة العربية، ومن إلهام للمبدعين والباحثين إلى بعض منابع الكتابة والنقد. فمن القصة إلى الرواية والنقد الأدبي والثقافي.. لم يكف محمد برادة عن البحث عن الجديد، مكسّرا الأنماط والأشكال القديمة في التفكير والكتابة، مؤمنا بأن الأدب الحقيقي الذي لا يَحتملُ التكرار والاستنساخ، والقمين بتشخيص الجدلية الاجتماعية والنهوض بدوره الأساس في بلورة عناصر التغيير في المجتمع، يتخلق في مناخ الحرية والديمقراطية والإنسانية.
لا يُمكنُ اختزال عطاء محمد برادة في حقل بعينه، فهو يَتميزُ بالموسوعية التي تَميزَ بها كثير من مجايليه. فهو المثقف، والناقد، والمبدع، والمترجم، والأكاديمي… وبرادة بين هذه الاهتمامات والحقول ترك بصمة خاصة تتميز بالقيمة والنوعية. ففي كلّ حقل من الحقول الآنفة على حدة، اجتهدَ بإخلاص للإضافة فيه إضافة غير عابرة، إنما اضافة مسؤولة تنمّ عن وعي قيمي واشتغال وبحث عن الاختلاف. إن روح الشاب الماركسي القديمة، تلك الروح الملتزمة أنطلوجيا وذاتيا، كانت تَهجسُ في الآن نفسه بشق طرق جديدة في كل حقل. ففي مجال النقد خرج برادة بحثيا ونقديا من عباءة المدرسة الواقعية المصرية التي تعرّف إليها أثناء إقامته التفاعلية في القاهرة، فلقح معارفه لاحقا بجديد الدرس النقدي الفرنسي الذي كانت حمى وطيس النظريات تموج فيه. لقد تفاعل مع النقد الغربي تفاعلا منتجا، ونقل إلى الثقافة العربية رحيق ذلك الجدل عبر الترجمة وذلك من خلال ريادته للدرس التأسيسي في كلية الآداب بالرباط. وإذا كان الدرس النقدي قد ابتدر طريقه في الجامعات المصرية واقعيا وتاريخيا، فإن امتداداته الشكلية والبنيوية كان للمغاربة الفضل الأساس فيه، نظريا عبر الترجمات الأولى التي كان للأستاذ محمد برادة دور فيها، وعمليا عبر الدرس الأكاديمي الذي نهضَ فيه بدور محوري، ليخرج بالتالي الدرس النقدي من عتبته الأولى ومن عزلته وقطيعته، ويدمجه في أفق الثورة النقدية والنظرية الأدبية العالمية. ومن ثمار ذلك في منجز برادة النقدي اهتمامه الرّصين بالكتابة وبمفهوم الأدب حيث جَعلَ منهما موضوعا للتحليل والتأمل والتساؤلِ عن جدواهما وعلاقتهما بالمجالات المعرفية الأخرى. وإذا كان عطاء الأستاذ برادة في سياقه البحثي والعملي يَتعدّدُ فهو كذلك في سياقاته الإبداعية قصة ورواية، كما في ترجمته للإبداع الأدبي والنظرية النقدية، ليضعنا أمام كاتب متعدد ذي رؤية وجودية ملتزمة تجاه الذات والعالم. ففي القصة القصيرة قدم عملين متميزين هما: «سلخ الجلد» (1979)، و»ودادية الهمس واللمس» (2003)، وفي الرواية كتب منذ منتصف الثمانينات عددا من الأعمال الوازنة التي اتسمت بالنزوع إلى التجريب، والريادة في اقتراح جماليات جديدة غير مألوفة في السرد المغربي من قبيل الانشطار، والتعدد اللغوي، والتذويت والميتاسرد.. وغيرها من الجماليات التي يعدّ برادة ليس فقط من أبرز ممثليها في الرواية المغربية الحديثة، وإنما كذلك من أكثر الكتاب المغاربة الذين أسهموا في صياغة رؤى الأجيال اللاحقة. ومن أعماله الروائية: «لعبة النسيان»(1987)، «الضوء الهارب»(1993)، «مثل صيف لن يتكرر»(1999)، «امرأة النسيان»(2001)، «حيوات متجاورة»(2009)، «بعيدا من الضوضاء قريبا من السكات»(2014)، «موت مختلف»(2017)، «رسائل من امرأة مختفية»(2019). أما في حقل النقد، فأبحاثه ودراساته العديدة تشغل موقعا رفيعا بين الأعمال النقدية المغربية والعربية التي فتحت أمام الأدب العربي الحديث منافذ إلى مسارات جديدة في القراءة والتأويل. ويكفي في هذا السياق أن نشير، على سبيل التمثيل، إلى أعماله التالية: «محمد مندور وتنظير النقد العربي(1983)، «أسئلة النقد أسئلة الرواية»(1996)، «فضاءات روائية»(2003)، «الرواية العربية ورهان التجديد»(2011)، «الرواية ذاكرة مفتوحة»(2008)، «تخييل الذات والتاريخ والمجتمع»(2018)..إلخ. ولا شكّ أن تجربته في اتحاد كتاب المغرب الذي أدار شؤونه لثلاث دورات متتالية(1976-1983) تعدّ من أقوى اللحظات في تاريخ هذه المؤسسة العتيدة، ومن أكثر تجاربها دلالة على معنى الاستقلالية في العمل الثقافي.
في هذا الملف يَجدُ القارئ العربي مجموعة من المساهمات لنقاد ودارسين كبار عن مثقف ومبدع كبير. ونصّ كتبه محمد برادة حديثا، يتضمن إشارات ضافية إلى علاقته بالكتابة ومفهومه للكلام الروائي. هذه المقالات لا ترمي فقط إلى إبراز جوانب مختلفة من إنجاز برادة في الثقافة والنقد والكتابة الإبداعية، وإنما تَكشفُ كذلك عن المواقع والطرق التي انبثق فيها إبداع هذا الكاتب وفكره النقدي.