منذر مصري*
سقط الشاعر محمد سيدة، في سوق الجمعة، عند حدود مدينة اللاذقية، تاريخ 15/ 8 / 2003، بكل هامته أرضاً، بين أقدام الناس. لكن أهله لم يعرفوا بموته إلّا بعد عشرة أيام، كان جثمانه خلالها يقبع داخل ثلاجة الموتى في مشفى الأسد الجامعي، بعد أن نقله إليها، أناس غرباء لا يعرف أي منهم من هو هذا الإنسان الطويل والعريض المنكبين الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة وهم يحملونه، بسبب أنه لم يكن في جيوبه أي شيء يدلّ على هويته. هو القائل:
[أعرِفُ بأنَّ فمَكِ مقفلٌ
كالبُرعمِ الصلبِ
في وجهِ قُبلتي
وأنَّ جميعَ أُمنياتِكِ لي بالدِفءِ
لن تحولَ دونَ موتي
من البردِ
بدونِكِ..]
عاش محمد سيدة (63) سنة، وحيداً، هجر بيت العائلة، وسكن في قبو رطب معتم ولم يكن قد تجاوز سن العشرين، كما أنه لم يتزوج رغم عدد من قصص الحب، ولكن ممارساً عشرات الهوايات، حتى وفاته. منها الشعر. بل أولها الشعر، حيث شارك الشاعرة مرام المصري والداعي منذر مصري، في المجموعة الشعرية (أنذرتك بحمامة بيضاء) وزارة الثقافة – دمشق (1984). ثم استغرق الأمر (16) سنة حتى يصدر مجموعته الشعرية الخاصة (إذا كنت وردة بيضاء) وزارة الثقافة – دمشق (2001).
وكان من الممكن أن أقول عن (إذا كنت……) مجموعته الخاصة الأولى والأخيرة، لو لم تصدر دار تكوين – دمشق، كتابا يتضمن أعماله الشعرية الكاملة، بعنوان (محمد سيدة هامش الهامش) 2019. مع مقدمة طويلة جمعت فيها ما لا يقل عن 15 مقالة ونصاً ودراسة عنه، كتبتها ونشرتها في مجلات وصحف عربية شتّى، تحت عنوان عريض: (محمد سيدة لن أدعك تموت بسهولة).
في سنة (2001) ابتعت آلة تسجيل صغيرة، ماركة (سوني)، بنية إجراء عدة مقابلات مع شخصيات لاذقانية، لاذقانية جداً وحصراً، تتمتع إضافة عن اهتمامها بالفن والأدب، بصفات إنسانية في غاية الفرادة والخصوصية، على أن أبدأ بأقرب صديقين لي، وهما الشاعر محمد سيدة، والقاص عبد القادر ربيعة، صاحب (التشويه من الداخل) المجموعة القصصية الوحيدة التي أصدرها طوال حياته، رغم اعتباره لنفسه أهم كاتب قصة قصيرة في سوريا، وأنه لولا محاربة (ح.م) و(ز.ش) و(س.ح) له، لكانت له مكانة زكريا تامر في هذا الفن، ولا أذكر من أيضاً!؟ غير أنه للأسف، مات عبد القادر ربيعة قبل أن تتح لي فرصة مقابلته، ليس بسبب أنه لم يتوفر الوقت، بل بسبب صعوبة ترتيب لقاء له هذه الغاية معه. أما مقابلة محمد فقد تمّت على دفعتين، أي على شريطين، ضاع الأول منهما سنينا طويلة، حتى صدفة، وأنا أعيد مكتبة أشرطة (الكاسيت) إلى المرسم بعد احتراقه، أول السنة الماضية، وجدته.
وزعت الأسئلة على ثلاث أوراق، الأولى منها، تبدو وكأنها إرشادات، كتبتها خشية أن لا أجده في بيته، أو لسبب أو لآخر لا يفتح لي، فأحشرها في فتحة الباب.
ـــــــــــــــــــــــــــ
الورقة الأولى:
العزيز محمد
1 – هذه مسودات أسئلة، كصياغة وكترتيب.. تستطيع تعديل ما تشاء
2 – أكتب أجوبتك بصراحتك المعهودة.. وبصدقك. المقابلة ستنشر في السفير.. إذا استطعنا انجازها بشكل جيد.
3 – لا تتكاسل اكتب الأجوبة بسرعة.. ولو أيضاً مسودات أجوبة,, أنا أبيضها على الكومبيوتر.
4 – تستطيع إضافة ما تجده هاماً على أجوبتك وعلى أسئلتي أيضاً..
صديقك
منذر مصري
8 – 5 – 2001
ملاحظة:
سوف تساعد مقابلة كهذه في التعريف بك أكثر، كما أنها ستمهد لمجموعتك الثانية. أما عن الصور فإذا لم يكن لديك .. آتي وأصورك.
ـــــــــــــــــــــــــــ
الورقة الثانية:
vv: محمد.. هل لك بالتعريف عن نفسك.. بكلماتك؟
ll أظنك تستطيع التعريف بي أفضل مني. أنا إنسان بسيط، بصعوبة أجد الكلمات الملائمة لهكذا مناسبة. تعلم كيف أجهد، وكم مرة أعيد كتابة القصيدة، حتى أنهيها. وغالبا ما تجدني غير راض عنها تماماً.
vv: إلى أي صف وصلت بالدارسة، وما سبب انقطاعك عنها؟
ll كنت تلميذاً مجتهداً، وأنهيت الصف الرابع، ولكن أبي، بعد موت أمي الباكر، أخرجني من المدرسة، وألقى بي في فرن أحد أخوالي (من بيت المسطو). الأمر الذي لم أسامحه عليه لليوم، رغم أني تصالحت معه، ورغم أنني أفكر، ربما لو تابعت دراستي بمرحلة أعلى، لعملت في وظيفة إدارية، ولما مررت بتلك الظروف والتقيت بأولئك الناس، ولما كتبت الشعر وصرت ما أنا عليه الآن.
vv: من أين إذن أتت ثقافتك؟ ماهي مصادرها.
ll من المجلات والكتب والصحف، لكني أعترف أن المجلات مصدر ثقافتي الرئيسي، أنظر إلى هذه المجموعات الكاملة من مجلة (المصور) و(روز اليوسف) و(الهلال)، لا شيء يقارن بالمجلات المصرية، ولكني لا أحبّ مجلتك المفضلة (المختار). أحسنوا صنعاً بإيقافها بعد حرب (1967), لا يمكن لدولة كمصر ألا تغلق مجلة تصب في خدمة أعدائها. أما الكتب، فتستطيع القول أني لم أتفرغ لها تماماً إلا بعد تقاعدي الوظيفي السنة الماضية.
vv: كيف بدأت الكتابة؟ وبأي دافع؟
ll تصور، أول قصائدي، كانت عن لينين والإتحاد السوفييتي، فقد قربني كوني عاملاً في مؤسسة الكهرباء، من الحزب الشيوعي، لا أنكر أنهم نقلوني إلى عالم آخر، عالم النضال الطبقي والأممي، وبسبب أنهم لم يستطيعوا تقبل صراحتي، وأنا لم أستطع أن أتقبل بعض أفكارهم، استمريت معهم كصديق للحزب، حتى دخول جيش الإتحاد السوفيتي أفغانستان. عندها قاطعتهم كلياً. ما عدا بعضاً منهم، كانوا مثلي ضد هذا التدخل، وإن لم يصرحوا بذلك علناً.
vv: من هم الشعراء الأشد تأثيراً في كتاباتك الأولى؟
ll قرأت أيام الحزب قصائد لبوشكين، لم أحبها، وأخرى لمايكوفسكي، تصور يا رجل، شاعر الثورة دفعوه للانتحار. ولكني وجدت ضالتي في شعر نزار قباني، قرأته أولا كعاشق، ثم رحت أكتب، وفي ظني أنني أجاريه وأكتب على منواله، ولكن فشلي في هذا، جعلني أكتب بأسلوبي الخاص، على منوال لا أحد.
vv: ما هي ظروف مشاركتك في مجموعة (أنذرتك بحمامة بيضاء)، كيف جاءت الفكرة، وكيف أعدت؟
ll الفكرة كانت فكرتك. قبلت بها لثقتي بك وقتها. وأنت من أعدها وكتب مقدمتها، في الحقيقة لا أعتبرها، رغم أنها عرفت عددا أكبر من الناس بي، مجموعة تخصني.
vv: قوبلت المجموعة عموماً باستحسان كبير، ومدحت من قبل العديد من الكتاب، داخل سوريا وخارجها، قل لي بصدق ما هو رأيك بها بعد كل هذه السنين.
ll قلت لك، لا أعتبرها مجموعة تخصّني، كنت وما زلت.
vv: هل ما زلت ترى أن انتقاء عنوان المجموعة (أنذرتك بحمامة بيضاء) من إحدى قصائدك المتضمنة داخلها، بمثابة استغلال لك؟
محمد: نعم؟؟ كنت أفضل لو كانت هذه العبارة عنوان القسم الخاص بي، بدل (أزهار من حجر).
vv ولكن في الوقت ذاته يمكن أن يعتبر هذا تكريماً واحتفاء بسطر من شعرك. ألا يمكنك رؤية هذا؟
ll كما قلت لك.. أفضّل لو أنها كانت عنوان قسمي الخاص، لأنه سيعرف وقتها دون أي التباس أنها من شعري.
vv ترى هل هذا وحده سبب ذلك الرفض الشديد الذي واجهتها به، حتى إنك أحرقت العشر نسخ التي أحضرتها لك، أم لأن البعض لم يستطع أن يلتقط الزاوية التي يجب أن تقرأ بها تجربتك، بسبب فرادتها لا بسبب أي شيء آخر، فكتب عنها على نحو سلبي؟
ll لا يهمني أي شيء كتب، أنا أصلاً لم أقرأه. أزعجتني الأخطاء الكثيرة الواردة في قصائدي. تصور لو ذهب الكتاب بهذا النوع من الأخطاء، للهند، ماذا سيقولون عنه؟ كما أزعجني أنه مرة وضعوا اسمي ثانياً ومرة ثالثاً، وكأنهم لا يعرفون كيف يتعاملون معه!
الورقة الثالثة:
vv صديقي، قلت لك، لم ترسل لنا، كما هو معتاد، التجارب الطباعية للتدقيق. الكتاب طبع بدون تدقيق، الأخطاء كثيرة في جميع القصائد، وربما في قصائدي أكثر بمرات مما هي في قصائدك أو قصائد مرام. وبعضها مخجل لأنه لا يبدو أنه خطأ مطبعي، كما حين وضعوا تاء مربوطة لكلمة شعر فصارت: « كريح تعبث بشعرة شجرة»! ولكن لنعد للمقابلة، من هم الشعراء الذين تقرأ لهم، سوريين أو عرب أو حتى شعراء أجانب مترجمين؟
ll قليلا ما أقرأ الشعر، قليلاً جداً. وذلك لسببين، الأول، تحسباً لأن أتأثر بما أقرأ وأصير دون أن أنتبه أشبههم. والثاني لأنه، صدقتي يا أخي، لا أجد في كل ما أقرأه ما يعجبني. فهل كانت شعراً حقاً تلك القصائد التي قرأتها لي لأنسي الحاج! أم القصيدة عن الشمس حمارة بالحساب لذلك الأهتر الذي نسيت اسمه!
vv آخر مرة زرت بها وزارة الثقافة، سألت عمّا آلت إليه مجموعتك الجديدة لديهم، قال لي نزيه أبو عفش: «محمد شاعر مظلوم» هل تشعر بذلك حقاً؟
ll إذا كنت كذلك برأيه، فلماذا لا يصدرون المجموعة، أرسلتها بعد أن أجريت عليها ما طلبوا من تعديلات منذ سنة، ماذا ينتظرون؟ نعم أشعر بالظلم، شعراء بنصف عمري، يكتبون أي شيء، طبعت لهم مجموعات وصاروا من الأعلام. لماذا أنا لا.
vv ما هو دافعك الآن للكتابة وقد تخطيت عمر الستين؟ أما زال الحب المحور الأول والأخير لقصائدك؟
ll تعلم، لا شيء يدفعني للكتابة أكثر من الحب، أو ربما سوى الحب. مع أني كتبت عدداً لا بأس به من القصائد بموضوعات أخرى. ولكن حتى وإن بلغت هذا العمر فالحب بالنسبة لي الدافع الأساسي للكتابة، واسمح لي بقراءة هذه القصيدة التي كتبتها منذ أيام:
[يتوهُ الحُبُّ كطِفلٍ مُشرَّدٍ
على قِمَّةِ جبلٍ تتساقطُ عليهِ الثلوجُ
وتتنادى في أعماقِهِ الذئابُ
إلى وليمةٍ غامضة..]
vv بالنسبة لي أعتبرك شاعر حب بامتياز. ولكن الحب أشقاك كثيراً. وها أنت ما زلت وحيداً، فهل أنت نادم على هذا النحو أو ذلك؟
ll لا.. ليس في حياتي، رغم تعدد الخسارات والخيبات، ما يستدعي مني الشعور بالندم على الإطلاق. بالعكس أشعر بأني ممتنّ لكل اللواتي أحببتهن، فلولا منهن، لولا من المشاعر التي أحسستها تجاههن، ولو من طرف واحد، والآمال التي عللوني بها، لما كتبت أيّاً من هذه القصائد. أما الأصدقاء الذين خيبوني، وأداروا ظهورهم لي، عندما كنت أحتاجهم، فلا أظنهم يستحقون ندمي ولا حتى اعتذاري.
vv ولكن ماذا يعني، تكرار عملية حرقك وتمزيقك للكتب، في زيارتي لك، منذ سنتين ربما، بعد وفاة أخيك (مصطفى)، وجدتك أمام كومة كبيرة من الكتب الممزقة، أكثرها دواوين شعرية، لمحمود درويش وناظم حكمت وبول شاؤول! في الوقت الذي كنت تستطيع أن تبيعها؟
ll بالتأكيد كانت ساعة غضب شديد، موت أخي كان الضربة الثانية بعد موت أمي. ولكن، نعم أردت التخلص السريع منها، لأنه إذا لم يكن شعري أفضل من شعرهم، فلماذا أكتبه؟ أتذكر قصيدتي التي كتبتها إثر وفاته:
[منذُ قليلٍ تركتُ أخي
قلادةَ أمّيَ النفيسةَ
مسجىً
كأنقى ذكورِ الحمامِ بياضًا
وفوقَ شفتيهِ
المغلقتينِ على سرٍ الألمِ الدفين
تبتسمُ خصلةٌ من النجوم..]
vv بالتأكيد قصيدة رائعة. أنت شاعر حقيقي يا محمد. ويسرني أن أنهي مقابلتنا بقراءتك لقصيدتك عن اللاذقية، مدينتنا الأحب.
ll
[عندما أموتُ
وتمتلئُ عينايَ بالتُراب
ويحرقُ الصقيعُ
كلَّ الغاباتِ التي
نمَت على جسدي
سأصبحُ موجةَ بحرٍ زرقاء
تمسحُ برفقٍ
قدمَي مدينتي (اللاذقية)
إلى الأبد..]