في حوار أجراه عبدو وازن مع الكاتب سليم بركات سأله سؤالا أعتبره مفتاح هذه الدراسة التي أنجزها حول علاقة الرواية بالشعر عند (محمد علي اليوسفي) جاء فيه : «بين الكتابة الشعرية والكتابة الروائية هل يظلّ الكاتب هو نفسه؟ تُرى أيّة مواصفات تجمع التجربتين إلى بعضهما، أو تفصلهما الواحد عن الأخرى؟»
وكانت إجابة المبدع: «هنالك خصائص، لاتقاطع بين هذين النوعين الكتابيين، بين الصرامة الهندسية، والتسلسل المنطقي الذي للرواية، وبين الانفلات الشعري، لكن الرواية تحتمل امتداد الشاعر في الروائي، بينما لايحتمل الشعر امتداد الروائي في الشاعر، إلاّ في حدود ضيقة.
مدخل:
الشعر أنانيّ أكثر، وهو يستدرج الكاتب إلى انفصام شخصي في لعبته، إلى التماهي مع مجازاته المتعلّقة بالخفة. بينما الرواية تّتصف بأريحية كبيرة داخل بيانها الهندسي. إن بينهما إشارات عمياء تقودها اللغة..»(2)
هذه إجابة مبدع هو سليم بركات تمرّس بالكتابة شعرا وسردا وجرّبها تجريبا حتى صارت لغته بشهادة النقاد والباحثين كيمياء لغوية ترشح بمعنى المعنى وتحلّق بقارئها في عالم سريالي يعيد صياغة الواقع ويشكّل علاماته ورموزه في أفق البحث عن نصّ لا مرجع له إلاّ في خيال منشئه.
وفي حوار مع الكاتب محمد علي اليوسفي أجراه كمال الرياحي يسأل هذا الأخير الأديب:
يتداخل في شمس القراميد الخطاب الشعري بالخطاب الروائي. متى يصبح الشعر والشاعرية في الرواية مأزقا بالنسبة لشعرية الرواية ؟ ومتى يحقّق إضافة نوعية؟
فيجيب:
* هذا موضوع يهمّني كثيرا: ما أؤمن به وأسعى إليه هو كيفية جعل الشعر متأتيا من شعرية الأمكنة ومن علاقات الشخوص إنْ حبًّا أو كرها(جمالية القبح!) وليس من تدفّق رومنسي للغة. ثمة عنصر مهمّ في الرواية وإلا كفّتْ عن أن تكون كذلك – وهو الإيقاع؛ إيقاع الأحداث وسيطرة الحكاية بما يشبه الهاجس.(3)
وما هذه الإجابة إلا واحدة من عشرات الإجابات المحتملة لكتّاب آخرين شعراء روائيين أو روائيين شعراء.
إنّ سؤالنا الجوهري كيف يكتب الشاعر روايته؟ هو سؤال بدوره مفتوح على أسئلة وكل سؤال كما علّمتنا الفلسفة لا يتحدّد بجواب قطعي ونهائي.
هل يمكن للشاعر وهو يكتب روايته أن يعدل عن لغة الشعر وصوره وإيقاعه وأن يمحّض كتابته للسرد وأدواته ؟ كيف يتسلّل الشعر إلى الرواية وهل يقتضي هذا التسلّل أن يكون الروائي شاعرا بالضرورة أم أنّ الشعر في الرواية هو من نسيج اللحظة الروائية ذاتها التي تمتح من سجلات لغوية متنوعة وأوساع متخيّلة لا تحدّ؟
I. في مبررات الاختيار:
دعتني إلى تناول هذا المبحث دواع أهمها أنّ التداخل بين الشعر والرواية ظاهرة لافتة للانتباه سواء أتعلق الأمر بشعراء يكتبون الرواية أم بروائيين يكتبون الشعر.
وإن كانت أغلب الدراسات اهتمت بظاهرة تسريد الشعر في القصيدة الحديثة أو بتشعير الرواية،فإن هذه الدراسة تتوسّل قراءة الظاهرة من خلال أنموذج روائي يجمع كاتبه بين فني الرواية والشعر.فكأنّ المبحث يركّز على حقل اهتمام مخصوص لا يتعدّى رصد الظاهرة في تنوّعها والبحث عن سمات التبادل بين أسلوبية الشعر وأسلوبية الرواية دون أن يكون أي مظهر من مظاهر التداخل يفضي إلى إضعاف جنس الرواية السردي.
والراصد لهذه الظاهرة يمكن أن يلقاها في صنوف من الكتابة يمكن تحديدها كالآتي:
1-صنف من الروائيين يكتبون الشعر أي أن الصفة الغالبة عليهم هي كتابة الرواية(ادوار خراط)(4)
2-صنف من الشعراء يكتبون الرواية أي أن الصفة الغالبة عليهم هي كونهم شعراء (إبراهيم نصر الله)
3- صنف من الكتاب كانوا يكتبون الشعر ثم انقطعوا عنه لكتابة الرواية عبد الجبار العش، مسعودة أبو بكر..
4- صنف من الكتاب يراوحون بين كتابة الرواية وكتابة الشعر محمد علي اليوسفي(5)
وحيث أن ظاهرة الجمع بين كتابة الرواية والشعر متواترة تواترا ملحوظا في الأدب العربي الحديث مثلما هي ظاهرة كتابة الرواية والنقد أوالشعر والنقد أو الجمع بين أجناس من الكتابة مختلفة فإنّ اختيار النماذج الممثّلة لهذه الظاهرة يعسر لكثافتها وكثرتها ممّا يفضي إلى اتساع الحقل الدراسي وهو ما لا يناسب هذا المقام.
وعليه رأينا أن نسلّط الضوء على تجربة محمد علي اليوسفي الروائية من خلال روايته «دنتيلا»(6) بوصفها منطلقا مرجعيا لتحليل الظاهرة وتفكيك خصائصها والوقوف على أبرز قوانينها.
ولا شك أنّ الظاهرة التي نحن بصدد درسها تنتمي إلى ما يسمّيها النقاد بتضافر النصوص أو بالنصّ الجامع وهي مصطلحات تولّدت بفعل إذابة الحدود بين الأجناس الثلاثة الغنائي والدرامي والملحمي التي حدّدها أرسطو في كتابه الشعرية أو فن الشعر. وقد أولى الباحثون ظاهرة التضافر النصي ما تستحقّه من عناية التنظير والتطبيق وما السؤال الذي نحن بصدد البحث فيه كيف يكتب الشاعر روايته ؟ إلاّ متعلّق بوجه من وجوه التضافر النصّي ويتجاوزه إلى ضرب من التناص الداخلي والخارجي في آن.لأن النصّ الروائي هنا هو مركّب نصّي يفترض أن يكون جماع نصوص شعرية غائبة ونصّ سردي حاضر ولأن الكاتب محلّ الدرس هو شاعر وروائي ولا يمكن لهذا الكاتب، بأيّ حال من الأحوال، أن ينفصل عن هويّته الإبداعية مهما أوتي من جهد الانفصال.
فمن هذه الجهة تكون طرافة المبحث كامنة في تعدّد زوايا القراءة.ومن هذه الزوايا اقترحنا زاوية نظر معلومة تتمثّل في تفكيك آليات الكتابة الشعرية في الرواية. وبمقتضى ذلك تنفسح أمامنا جملة من الأسئلة: هل في سيرة الكاتب محمد علي اليوسفي ما يشير من بعيد أو من قريب إلى هذا التداخل بين فنّي الرواية والشعر؟ كيف يمكن للكاتب أن يعبر من جنس فني إلى آخر دون أن يفقد الجنس خصوصيته حتى في ظل مبدإ تداخل الأجناس؟
دأبنا عموما تجنّب سرد سيرة الكاتب الأدبية،غير أنّ سياق هذا المبحث يقتضي منّا الوقوف على ما يمتاز به محمد علي اليوسفي كاتبا من تعدّد وظائفي كان القدامى يطلقون عليها الموسوعية الأدبية والفكرية. والناظر إلى هذه السيرة الكتابية يلحظ أنّ كاتبنا هو شاعر وروائي وناقد باحث وصحفي وترجمان(7)
إنّ هذا التعدّد المعرفي الكثيف بفنون الكتابة وأنواعها وهذا التنوّع الثقافي بمنحاه الإبداعي والفكري لا شكّ أنهما سيشكلان القاعدة الأساسية التي تغذي حدث الكتابة الإبداعية.ولا شك أيضا أن رحلاته غربا وشرقا وإقامته ردحا كبيرا من الزمن بين سوريا ولبنان وقبرص في أزمنة الجمر والنضال العتيّ والغربة الموجعة وتعرّفه إلى العديد من المبدعين في كلّ المجالات سيكون له الأثر الكبير في صياغة ذاكرته الإبداعية التي تترامى أطرافها من الطفولة إلى الكهولة ومن باجة إلى تل الزعتر..ومن أزمنة المنفى القهري إلى أزمنة الغربة الاضطرارية
II. المكوّنات الشعرية في رواية «دانتيلا»
من خصائص الكتابة الروائية عند محمد علي اليوسفي أنها قائمة على جدل الانفصال والاتّصال. فالقارئ لرواياته لا شكّ واجد بعض الخيوط الناظمة لهذه الأعمال وهي خيوط تتباين وضوحا وغموضا. وإنّ أكّد الكاتب في حوار له مع كمال الرياحي من خلال سؤاله «هل كانت شمس القراميد تتمّة لتوقيت البنكا ،إذ بينهما وشائج كثيرة ؟ عدم اعتقاده في هذه الأطروحة بقوله:
* لا أعتقد ذلك. ربما جاء التقارب من عدة عناصر منها التركيز على طفولة الشخصيات وطفولة المكان (أقصد القفز بين قرنين في مجريات الأحداث) يضاف إلى ذلك التركيز على المخيّلة الشعبية.»(8)
والسؤال نفسه يطرحه محمود طرشونة ويحاول الإجابة عنه بقوله:
«هل تكون رواية محمد علي اليوسفي شمس القراميد امتدادا لروايته الأولى توقيت البنكا؟ وليس معنى السؤال الإيعاز بأن الكاتب يواصل في الثانية ما بدأه في الأولى، فالامتداد المقصود هنا ليس في الزمان ولا في المكان بل في المادة الروائية المستعملة في بناء النّصيّن معا. وقد أضاف إليهما روايتين أخريين «مملكة الأخيضر «و» بيروت نهر الخيانات «. فقد تغيّر اسم الشخصية المحورية لامحالة وتحوّل من طارق إلى جابر، وتغيّرت بعض الشخصيات الأسطوريّة فظهرت أسماء شمس القراميد ومريم وامرأة المستنفعات وقمر البركة والعَريفة والأقزام المغاربة لكن بقيت أسماء العينوس والبنكا والجدّة، وبقيت شخصية المُعمّر الأجنبي لكن غُيِّرَ اسمه فتحوّل من جورج إلى بوسكو، وبقي التلاعب بالماضي والحاضر والمستقبل وبتعايش الحلم والواقع والمتخيّل والمعيش، وبالرموز والألغاز والمجاز»(9)
والناظر في رواية دانتيلاّ من جهة شخصياتها وإحالتها على أمكنة مختلفة وأحداث معلومة يلاحظ تواصلها مع روايتي شمس القراميد ومملكة الأخيضر(10). والذي يهمّنا أكثر هو أسلوب الكتابة الروائية الذي هو جماع أساليب تنزع عموما إلى شعرية السرد.وللتحقّق من هذا التداخل بين الشعر والسرد رأيت أن اسلّط الضوء التحليلي على «دانتيلا»، بالارتكاز على فكرة منهجيّة أساسية قوامها أنّ للناقد مجالات تفكير وتدبّر للنصوص لا تحدّ متى آمن أن النقد ليس علما بالمعنى الصارم و«أنّ علاقة النقد بالعمل هي علاقة المعنى بالشكل،ولا يستطيع الناقد أن يزعم أنه «يترجم»العمل،ولا يستطيع،خصوصا، أن يجعله أكثر وضوحا.وإنّ كلّ ما يستطيع أن يفعله هو أن «يولّد» معنى يشتقّه من الشكل.فالشكل هو العمل»(11).أمّا مستويات التحليل،فيمكن تبيّنها كالآتي:
1. في العتبات النصية :
من العنوان الجامع للرواية يبدأ الشعر لفظة مشبعة بالإيقاع. لفظة دخيلة نطقها في لغة الطليان والأسبان dantyla ولا يختلف اثنان على ما في اللفظة بوصفها دالا من إيقاع يزيدنا مدلوله شعرا على شعر إذا قلنا إن اللفظة موصولة في معجمها بالنسج والنسيج والتطريز حين تكون الخيوط متشابكة تزين الأجسام والأشياء دون أن تحجبها بل تجعلها تشفّ من وراء غلالة.
هكذا رواية دانتيلا لا تقرأها إلاّ من وراء خيوط مشبكة مطرّزة بالحكايا تنهال عليك من كلّ الأزمنة: ماض وحاضر ومستقبل حالم موهوم ومن فضاءات هي أطلال قرية ومدينة معفّرة بالضجيج وبالرماد تسكنها الأمكنة شقة تطلّ على حديقة البط البلفديرومنزل كولنيالي في حلق الوادي وبحر ومزرعة ودار الكاتب وهلم جرا من البيوتات والزقاق والحواري القديمة وغيرها من أمكنة الغربة في بلاد المشرق، طبريا ودمشق.. حيّزات تبرق بها الذاكرة وتومض بالوجع يتلو الوجع: وجع الذات والأمة والتاريخ. فكلّ شيء على خيباتنا شهيد. وبين هذه المدارات بوضوحها الغامض تتوالد الشخصيات من رحم حكاية خصيبة قطب رحاها سردا وشعرا جابرالطرودي، هذا الذي قدّ من شخص هو المؤلف المحتجب المرموز إليه وكأنّه المتكلّم الرئيس ينازعه شطره الثاني جابر وكأنّه يكسر جبره على مرايا الكتابة. هو شخصية روائية قدّت من تفاصيل الأمكنة ومن رحلة قزحية الحادثات رمزية الشكل واقعية المتن ولها عللها تزحف إلى اللامعقول فتستقيم لك معقولا ضاربا في الهوس والمخيال الشعبي وفانتازيا الحلم والوهم. ومن عجيب شخصية جابر الطرودي أنها منشقّة في البدايات، مشتقّة من شخص المؤلف، مهما خاتلنا واتّخذ من الحكاية مواقع سرد مخاتلة ومفاجئة تصل حدّ البوح المبحوح وكأنّ في حلقه حشرجات ما مغسولة بفرح طفولي مغمور.
رواية «دانتيلا» مرايا متجاورة ومنظورات متعاكسة تشتغل على فنّ الصورة مسرحا وسينما. تلعب على حركة العين وراء كاميرا الذاكرة والتذكّر لذلك فهي أقرب إلى سيناريو مركّب ومكثّف يومئ ولا يصرّح فوضوي النظام يعكس إلى حد كبير جنون كاتب شخصية ذات لسانين ولها روح واحدة ويعكس إلى حد كبير معقولية قارئ في كاتب يتذمّر من الغموض ويخشى على المتلقي أن يقذف روايته من نافذة قطار لتدوسها العجلات القادمة. ألم يدخلنا جابر نفق القطار في أوّل الرحلة ويخرج إلينا نطفة تكوين منقسمة تظل دائما تبحث عن شطرها الثاني لا في العالم العلوي وإنما في العالم السفلي المليء بالخرافات والأساطير ما دام الأب فداويا والإبن مسكونا بحكايا ألف ليلة وليلة.
وليس لهذه الرواية بداية في المعنى الكلاسيكي بوصفها لاحقا لسابق شمس القراميد وهي سابق للاحق مملكة الأخيضر. ومن حكاية سبع صبايا ينسج لنا الروائي امرأة ثامنة هي الأولى كما يقول ذلك ومن ندائه الآخر الساكن فيه تنفتح مسالك الحكاية لتكون منولوجا دراميا تحكي السيرة رؤية وسماعا هكذا ينبني نظام علامي للضمائر قائم على المخاطبة «ناديتك كثيرا/ وجدتك مازلت تهيم بالصوت المرئي /»
ويبدأ الميثاق السردي في نسج خيوطه لا بين القارئ والراوي وإنما بين الراوي والكاتب من جهة والراوي والشخصية التي هي إثنان في واحد. ومن هنا كان عنوان فاتحة الرواية الحياة مهلة بين قوسين توحي بوضع هذه الرواية التي هي قطعة من حياة الروائي نقلها على لسان شخصية متخيلة تحقيقا لمبدأ التبعيد البراشتي الذي يتيح له إمكانية قول ما يجب أن يقال، انفلاتا من سلطة الرقيب بأنواعه الظاهر والخفيّ ويتيح له في الوقت نفسه مساحة للتعليق وتوضيح الغامض من منظور خارجي وتبئير داخلي. لذلك كان الانتقال إلى الوجوه الهاربة الذي هو العتبة الحكائية الأولى بمثابة بداية مغروسة في أرض نهاية أخرى هي شمس القراميد تستطلع لعبتها على سطح النصّ ولا شعوره مقوّضة في أغلب الأحيان نظام الزمن السردي ما دامت الذاكرة معينا من العجائب والنوادر وحكايا الأجداد لا ينضب. ومن خلل التخاريم هذه الدوائر الصغرى والثقوب تتبدّى لنا الحكايا الصغرى والحكاية الكبرى بشخصيتها المزدوجة كمجرورة قطار لها وجهان وجه للذهاب ووجه للإياب،عود على بدء إلى السوابق السردية تلميحا وتصريحا في الوقت نفسه بالرحلة القادمة.
هكذا يمكن اعتبار الرواية نصّا مثقوبا نملؤه بالتأويل بعبارة «إيكو» ويملؤه الروائي بالتقطيع فنملؤه بالتركيب لعبة الإبداع والنقد. ومن ميزات هذه الرواية،من جهة هندسة فضائها، أنّ كاتبها شاعر جعل للرواية إيقاعا سرديا فقطّعها إلى مقطوعات سردية كبرى ومقطوعات سردية صغرى،إلى أقسام هي: «وجوه هاربة» و«قزم فالت في المدينة» و«نهايات محتملة» و«من أوراق المؤلف». وجعل الكاتب لكل قسم عناوين تراوحت بين 18عنوانا في القسم الأول و9عناوين في القسم الرابع وبينهما كان للقسم الثالث 14عنوانا وللقسم الثاني 10عناوين ولبعض هذه العناوين طرافة في الصياغة الإنشائية من قبيل «أمشي بحذائك وأتفادى البرك المائية؟» ومن قبيل أما زلت تحلمين ؟ماذا تفعلين يا مريم؟ وكأنّ بعض العناوين المهذبة صيغت من مرجع التراث والذاكرة والأدب الشعبي وأمثال المجتمع.فاستمدّت شعريتها من طقوس مرجعية حميمة ومن المتن السردي الذي هو بمثابة الخبر لمبتدأ هو العنوان. وكأن الرواية وهي نصّ منسوج هي شبكة من الخيوط.
2. في تشعير السردي:
لا يخفى على قارئ هذه الرواية أنّه أمام عمل تجريبي تتّضح فنّياته من خلال اللعب البنائي واللعب اللغوي حتى تستحيل بعض المقاطع السردية فيه إلى لعبة يديرها مهرج أو لاعب سيرك أو كوميدي من مسرح دلارتي أو فداوي فهلوي أو ساحر كلمات يجيد صنع الطلاسم وهي صفات ترقى إلى حذق صناعة الكلام وفنّ القص وجودة الوصف والقدرة على السخرية والفذلكة وتقليد فن السينما في نقل الحركة الضاحكة والملغزة في آن.وكل هذه الألاعيب هي التي تنشئ شعرية المشهد الوصفي المحمّل بطاقة سخرية حميمة تلامس الوجودي عن طريق اللعب السينمائي وتقطيع الحركة: «تلك المرأة تتعثّر مثل إوزّة.أمشي وراءها.تتوقّف أمام واجهة،أتوقّف.تواصل المشي تتوقف.تلتفت يمنة ويسرة… تقصد السوق.تشتري خضارا.لا أشتري.أتفرّج،ارى،أسمع،أشمّ،ألمس،أدخّن سيجارة…»(12)
إن كثافة الأفعال المضارعة وتعاقبها في متوالية سردية وصفية سريعة ومقتضبة هو الذي جعل الحركة مرشّحة لضرب من الشعرية قائمة على إثبات الحركة ونفيها وعلى فعل التناظر المتواتر والمعكوس»أمشي تتوقف/ أتوقف،تواصل/ أتوقف تتوقف/ أتوقف تلتفت /تشتري،لا أشتري، أتفرج /أرى /أسمع…
بهذا ينشأ ما نطلق عليه بالإيقاع السردي القائم على التوازي والتقابل والتداعي والتناسق وكسر التناسق والتوليد وتحفل الرواية بأمثلة لا تحصى ولا تعدّ دليل تواتر الظاهرة :اسمعه وهو يتلصّص على جدران يسترق السمع إلى فحيح أنثى:»ماذا كان ذلك ؟ خيط فحيح طارئ؟ صريفا هاربا،كشط العتمة والسكون، بحبل كتاني خشن،ثم تلاشى مع لحظته،ككلّ ما يتلاشى وراءنا،من دون فرصة للفهم؟ مرت تلك الليلة.وها أنذا انتظر صريف الكتان الخشن، ارصد تمزيقه للسكون والعتمة.بدائي،مبهم، ينبثق ممزِّقا ومتمزقا. يغزو الحواس فلا تتوصّل إلى فرزه وتصنيفه.يتكرّر.أخطئ،أخمّن.أجلب من ذاكرتي أصواتا تشبهه.سفليّ،قديم، يأتي من الحشرجة والهديل.يحدث صدعا غير مرئي في اسمنت الجدران…»(13)
3. في شعرية الأمكنة:
للأمكنة في روايات محمد علي اليوسفي وفي رواية دانتيلاّ على وجه الخصوص عبق خاص. للأمكنة أصوات وروائح وألوان وأضواء.لها السفليّ والعلويّ والمدى. الأمكنة أرواح تبحث عن جسد ومعمار. للأمكنة أسرارها وبهجتها ونزقها وأحلامها وأوهامها والأمكنة مدفونة بالسير وهي شاهدة على بواطن الشخصية وسطحها العارم بالبحث عن خلاص في عالم مسيّج بالحاضر المسدود وبالذاكرة المنفتحة على حنين أبدي وأبوي جارح موجع بعضه تلقاه في طفولة مغسولة بحمى الحكايات «أبي يبتسم ولا يلومني على شئ.يكلّمني.لا يكلمني.يسكت ويكلمني.هناك ما يتكلم فيه.هناك ما يتكلّم في داخلي!نتحدث ولا نتكلّم..»(14)
وبعضه يتراءى منسلاّ من رعب الحروب ومقاومة الموت في تجليه الأكبر. «من يصدّق الذي بشماله الألم وبيمينه الحياة؟…من يصدّق الذي شقّ السيول بشاحناته وتوغّل في دروب صحراوية لم يجد في محطّاتها من يهربه داخل صهريج ؟ (15)
المكان: الذاكرة والوجوه هو مدار الفيض والتئام المتشضّي.لعلّنا بهذا نقول مع سيف الرحبي «حتى حين ينزع الشاعر أو الكاتب إلى إيجاد ضالته في مكان ما يلوذ به من مكر الشتات ورعبه لا يلبث أن يفيض به الحال لأمكنة أخرى، ويطوح به دوارها وهواجسها، تؤرقه في يقظته ونومه كأنّها قدر حياته الذي لا مهرب منه إلاّ بالاستسلام إليه والحلول فيه..»(16)
يقول محمد علي اليوسفي في حوار له» للمكان تأثيره فينا دائما. هو المحمل بالذاكرة وبأحلام المستقبل التي قد تتكشف عن كوابيس لاحقا. وحتى في حال تحقّق مثل تلك الكوابيس سوف يظلّ محمّلا بالبراءة الأولى. لا أعتقد أن كاتبا واحدا لم يعد إلى أمكنته الأولى. الفارق الوحيد يكمن في طريقة العودة واختلاف أعمال الذاكرة في استدعاء الأمكنة. شخصيا لم أستدع مكانا واحدا إلا وانطلقت منه كما هو لأحوّله إلى ما ليس؛ أو إلى ما كان يمكن أن يكون. كلّنا نحمل مدنًا طوباوية ونسكنها متى نشاء أمام مرارة الواقع. وفي ذلك أيضا محاولات محتشمة لبناء مدننا المتخيّلة»(17)
من المكان يتوهّج السرد بالشعر حين يتحوّل الوصف رسما بالكلمات لمعمارية المكان وفضائية اللغة وحركة الشخصية في فضاء يملؤه الجسد وتصوّره العين /الكاميرا(18) النابضة بالرغبة.كلّ المشاهد المسكونة بشعرية المكان تتحوّل إلى لوحة مشهدية تأخذ من الفنون التصويرية والحركية ما يجعل المكان فضاء تعبير لغوي وتجسيد حركي (سينمائي ومسرحي)(19) هو الواسطة الحقيقية بين الكتابة السردية بمقوّماتها الدقيقة والكتابة الشعرية التي تسمو بالنثري إلى مقام تخييلي يحوّل التفاصيل المرئية إلى صورة كلّية هي بالضرورة صورة تشكيلية ومشهدية في آن. انظره – وما أكثر مقاطع الرواية التي تتوفّر على هذه الخصائص التي تتولّد من شعرية المكان – متلصّصا متساميا وهو يصف عبر العين النافذة «جسد امرأة تجلس على كرسيّ في الشرفة الجانبية» بقوله «نظرت في كلّ الاتجاهات.مدّت ساقين مجدولتين في فراغ يريد الامتلاء.أنزلتهما عن المائدة. أشعلت سيجارة.مالت بالكرسي إلى اليمين :فخذ وذراع، من هذه الجهة، تنغرزان في قضبان الشرفة،تدخّن بشراهة، ترفع رأسها وتنفث الدخان.»(20) من إيقاع الجسد وهو يتحرّك ومن زاوية العين الكاميرا وهي تتلصّص كاشفة شبقية المشهد تتولّد شعرية الصورة على ركح تؤثثه الشرفة ويشغل حيّزه جسد امرأة على كرسيّ «تضع ساقا على ساق،عريها يتمدّد.تتخلّله الظلال (بينهما)»(21).
وعلى هذا النحو أو غيره من تعالق الجسد بالمكان والشعر بالسرد يصف المكان ليلة الشموع حين اختلى بمريم في شقتها بقوله: «غرفة بالشموع هنا مريم.هنا روائحها :لغة صامتة تتمظهر بها ادواتها وبقايا نومها وآهاتها زهنا وقعت بجسدها ليسجل حضوره البهى في الدنيا…»(22)
يقول محمد علي اليوسفي» الكثير من الأمكنة في الرواية تفجّر فيّ الرغبة في الشعر. لذلك كثيرا ما يأتي المكان في رواياتي مسربلا بالظلال (خصوصا في رواية شمس القراميد). في الشعر بدأت قصيدتي منذ منتصف الثمانينات تعجّ بالأصوات والنداءات والأحداث والأجداد والكثير من الشخصيات التي تريد التعبير بطريقة أوسع، فاقتنعت أنّ مجالها الرواية بالضرورة.» (23)
4. في الشخصية:
أغلب الشخصيات في دنتيلاّ عجيبة واقعية وسريالية في الوقت نفسه لها تركيب روائي لا يخلو من شعرية وتمرّد ففضلا عن كون جابر الطرودي الشخصية المحورية شاعر يفجؤنا الراوي بشخصيات ظريفة،مرحة من قبيل القزم «هذا المتفلسف الذي قلب دار الكاتب رؤوسا على أقدام»(24) هذا «القادر على التغلغل في الثقوب الصغيرة لمهارة تخصّ خبرته وتناهيه في الصغر»(25) هذا الذي «يمشي وأصداء الأمكنة في أذنه الوسطى»(26) وعلى هذا نقيس شخصية «شاويش الجبس بوسطل» هذا القادم من الماضي يلقاه جابر عائدا من ألمانيا «كان يدفن النمل والجعلان. بوسطل المهووس بسد الثغرات وحراسة الثقوب»(27) المؤمن بفلسفة النسبية وقد انتدب لحراسة أرض جابر وهو الذي في غمرة سكرته يتحوّل إلى راو يسرد حكاية جابر مع مريم(28) وتنتهي حكايته بان تملّكه ذات يوم شعور بالإحباط من الإقامة في البلاد فعاد إلى ألمانيا يحلم» ببيع أعاجيب العالم..قلم يبكي، كأس يعزف، ساعة تتكلّم..»(29) ولبعض شخصيات دنتيلا ملامح واقعية تكشف ما يعانيه النازحون من قلق وريبة في منازلهم الاجتماعية ورغبتهم في الخلاص يكلّ الوسائل المتاحة وليس شخصية مريم الفنانة ذات القدرات الفنية المحدودة التي تسعى إلى النجومية بجسّدها فلا تلقاها في بلادها فتهاجر إلى الشرق وتعود خائبة ومريضة ومصمّمة على الانتحار إلاّ صورة من صور الشخصية المأزومة التي تعيش عالما متدهورا وترتبط بزوج مسرحي يدخل بها ومعها في عالم بوهيمي تختلّ فيه كل قيم الشرف. أمّا عمر الذي آواه واختار الراوي أن ينفصل عنه فليس إلا مجرّد بائع دجاج في مدجنة الأمل «يريّش أحيانا دجاحة من زبوناته»(30) ويغري جابر ببيع الروبافيكا بل يتحوّل عمر بواقعيته النفعية إلى شخصية معرقلة حين يدعو جابر إلى التخلّي عن الكتب والانتماء إلى الكتب الصفراء التي تدرّ عليه المال الوفير وتغري النساء فيه : يقول عمر موجّها كلامه إلى جابر:»مشكلتك أنّك تشعر كثيرا وتتحرّك قليلا.الكتب لن تجديك نفعا،تأخذ فلوسك وتبعدك عن الحياة. لكن من الأفضل أن تحافظ على علاقتك السابقة بالكتب الصفراء وتصدّقها، لابدّ أن تصدّقها لأنّها تجلب لك المال والنساء..»(31)
إن قوّة الشخصيات تكمن في تعدّد مرجعياتها من الواقعي إلى الرمزي إلى الخرافي إلى العجائبي.فـ«جانيت»، هذه الشخصية الخرافية مدفونه في سقف بيت كولونالي قديم يقع بضاحية حلق الواد «يقال أنّ تلك الفيللا مسكونة فعلا. ثمة اصوات في الليل وتحرّكات لا مرئية مشبوهة.. يقال أنّ المستوطن الفرنسي الذي بناها جعل لها سقفا مزدوجا..يقال أنه قتل عشيقته التي خانته مع ضابط فرنسي، ودفنها في السقف»(32). هكذا تتناسل الخرافات من «يقال». ومن يقال تنخلق سلسلة من الجمل السردية يخلقها المخيال الشعبي، يختلط العجيب فيها بالخرافي.ومن خلالهما يتسلّل الشعر حين ينتمي إلى فسحة الخيال تولّدها الأساطير والحكايا الشعبية تتناقلها الألسن مشافهة. والأعجب أن تتحوّل «جانيت» إلى معشوقة وهميّة وخرافية تناسلت منها دليلة الدلولة صاحبة الفيللا المسكونة التي أخذ منها «قدرة عظامها على هتكه وعصره»(33). إن هذا التنوّع في الشخصيات هو مصدر من مصادر تنوّع سجلات الخطاب التي تمتح من الواقع المعيش بطرف ومن الكلام المركّب تصنعه سريالية الواقع والسخرية منه بطرف ثان.أليس القزم الذي يسكن الراوي هو الرمز الحقيقي لكل تمدّد في اللغة وتكثّف لمعانيها وبهذا كان القزم هو الكائن الغامض الواضح المستتر والمعلن الغائب والحاضر بامتياز. فهو يقود اللغة السردية على لسان الراوي إلى فضائها التخييلي المركّب ويضفي عليها شعرا منثورا»والآن سر بالطول وبالعرض،عندك أشياء تدخلها،وأشياء تخرجها.من يلمس طولك لا يجدك، ومن يلمس عرضك.من يشهد عريك، ومن يشهد قزمك. وحدك تراك»(34)
وليس من مظاهر شعرية السرد في رواية دانتيلا اللغة الشعرية المسرّدة فحسب وإنّما الكيفية التي بها تركّب اللغة حيث تلعب العناصر التركيبية والبلاغية عن طريق التخييل والتجريد والتجنيس والتصوير دورها في تشكيل المختلف من مكوّنات الصورة والعدول بها عن المألوف والسائد من الصور التي تلتقطها العين ويألفها السمع. ولذلك أمثلة لا حصر لها نكتفي ببعضها دليل حضور الشاعر في الروائي يقاسمها اللغة والمقام حتى كأنّ الكاتب ذو لسانين في صوت واحد. اسمعه وكأنّه مهيار يخرج من أشعار أدونيس:
«أنا ملك، أنا الواحد،الفحل،الفرد، المبتدأ.أنا الاثنان، الظلمة والنور،المرأة والرجل..»(35)
واسمعه شاعرا حقيقيا يقرأ:
ها أنذا،بعد رحيلها، جذع موحش
تأتيه الرياح بطلع أخير
ميناء يؤمّه الإعصار(36)
وصانعَ صور مركّبة ومكثّفة، في قوله: «أجوب شوارع أخرى وأقول: قدري أن أجوبها لأنّ امرأة سبقتني إليها وتركت عليها آثار خطاها..امرأة هربت مني وفي حقيبتها الشمس»(37)
بل ويتوهّج الشعر بالمكان /الأمكنة حتى يصير السرد قصيدة نثر لاينقصها إلا توزيع بصري على البياض يكسر التتابع السردي، مادامت الجمل الإنشائية في صيغة الأمر تتواتر تواترا موقّعا ومادام الأمر صار فعلا كيميائيا به تتشكّل العناصر والكلمات في انبيق ملتهب هو الصيف: يقول «سرْ في صيف الكائنات متسلّلا إلى البريق المعتم،/ إلى بريق العري مشعّا من البيوت الخائفة ذات النوافذ الأرِقة والغرف المتثائبة خارج كوى الحرارة./ سرْ من أجل عينيك باحثتين عن الأعضاء المندلقة.اقطعْ الشارع وانعطفْ ! توارَ لترى زندا. اكتمْ أنفاسك لتسمع حفيف نهدين عاريين. عدْ إلى مراصدك، إلى منزلق ظهر الحادية عشرة، ووركيْ منتصف الليل.اعرفْ جحورك واضبطْ توقيتك. اجمعْ برق النهد إلى نصل الفخذ في الساعة الثانية.احملْ ما جنيت من بريق،آلاء متّقدة في إنبيق ملتهب.إنّه الصيف.وأنت في أعضائه. اقطفْ بريق النساء لتصنع امرأة !عدْ إلى جحرك» (38) وعلى هذا اللعب باللغة والصور في صيف حلق الواد ينحت جانيته في مونولوج يرشح بالشعر «امض صيفك لاهثا في النهار، صيّادا في الليل. ولك في بيتك أنفاسُ المرأة الفراشة، غمّازة ُالمرأة القطة،ردفُ المرأة البطّة.في بيتك زغبُ المرأة الرضيع، خفرٌ ومجونٌ.. في بيتك عصارة بشرة حليبية تحت نور خافت،من نافذة المنعطف الثالث..هي ألقك وآلاؤك.فتنة الأصابع نائمة..»(39).. هكذا تنصهر النصوص الغائبة والحاضرة صلاح عبد الصبور وأدونيس وقاسم حداد وسعدي يوسف والكلّ يلتئم في نص الكاتب يمتصّ رحيقها ويصنع شذاه شعرا على شعر بالعين الساكنة فيه.ألم يسأل شعرا؟
«عزيزي أللعين أيضا يد.
تتسلّل دوما إلى الخصر والأجمة؟
اللعين أنف، وأذْن؟
عجزتُ،وبي قد كبتْ فرسُ الكلمهْ.(40)
بالعين المرايا يصنع الراوي عالمه البصري والسري: «لأنّك لم تعد عينا ترى فقط، بل صرت العين التي ترى أنّها ترى،فتتمرأى فيك , وتتحوّل إلى عين ترى أنها ترى نفسها فيك..»(41)، العين حين تلتحم باللغة النابضة، باكتظاظ المعنى والذاكرة» هذا الرجل تحرّكه عين في الذاكرة»(42) تصير فضاء صورة وتكون اللغة مدار انبثاق حين نملكها ولا تملكنا: «اللغة تريد أن تستريح، وهي الشخصية الوحيدة التي تخفي بطولتها عنك..لك الأحداث، وللعين الصورة، ولي اللغة»(43)
بالعين الذاكرة تحوّلت حكايات المؤلف جابر إلى كتلة ملتئمة من شظايا مبعثرة تستنطق الواقعات وتنزاح عنها بلغة هي ليست منها وبصور مركّبة حدّ الغموض تارة، حدّ الوضوح طورا ما دام من يحكي يلبس أقنعة يغيّرها متى يشاء على ركح فسيح يمتد من طفولة غائمة إلى كهولة متفجّرة بالحكايا:
لهذا كان الراوي المنقوع بماء الحكي المسكون بالمخاتلة يردّد منذ الفصل الأول لروايته: «سكنت الحكايات حياتي فصرت أنا الحكاية»(44) «أنا الآن مع جابر آخر، الآخر سيقتلني لأنّني لا أنوي قتله مهما حصل»(45)
– لأنك حكّاء مثلي، كل ما هنالك أنّك تكتب حكاياتي!
– حكاياتك؟ ألأنّك علمتني ذات اليوم؟
– لأنّني تبنيّتك أيضا!
– ومن الذي وافق على ذلك ؟على أية حال،أنا الذي أتبنّاك الآن!» (46)
«- لكنني بحثت عنك، ثم جئتك، ألم نتفق؟
-علام اتفقنا؟
-لى أن أروي وتكتب…
-لم لا تكتب أنت؟
-بدأت بالكتابة فتوقّفت بي عند حدّ اخترقتْه ذاتي.لذلك أمزّق ما أكتب.»(47)
«على كل حال لابد أن يكون الحكي في كلّ الاتجاهات..»(48)
هكذا يحلّ كل شئ في العنوان: عود على بدء ما دام للعنوان كثافة الحكي ورسومه، يشير إلى تلاوينه: إيقاع بصر، وبلاغة سرد ينضحان شعرا لهما وشم الذاكرة:
يقول جابر :
«-لأنني أجد أن حكايتي هي حكايتك.
– أنا أفضل أن يكون عنوانها دانتلاّ
– لماذا؟
– لكثرة التخاريم التي تنادي العيون.(49)
هكذا تكون العين الكاتبة آسرة وعين القراءة أسيرة إذا ما استعرنا قولة الراوي: «أتكون العين، في المدينة، آسرة أم أسيرة ؟ تستكشف الاتجاهات والرغبات ثم تأنس إلى قاعدة حلّ الألغاز، وفكّ الرموز، وقراءة الإشارات، من أجل خضوع دائم»(50) وبالعينين الاثنتين تكون القراءة الناقدة كتابة على كتابة لأنّها بقدر ما تأسرها الرواية تفيض بالحرية الممكنة التي هي التأويل.
العين عيون(51) عين ترى وتحكي ماتراه وعين اخرى ترى ما تريه العين الأولى وعين ثالثة هي العين الحيّة(52) حسب تعبير «ستاروبانسكي» عين القراءة التى ترى ما تراه الأولى وماتراه الثانية. هي لعبة المرايا بامتياز:»تربكني المرآة»(53)
هكذا تتشكّل الصورة المسرّدة من كمونة الشعر وسرديّة الوصف،بل ومن هذا التعالق بين الواقعي والمتخيّل الذي يرقى إلى التجريد واللامعقول(54)
إنّ الحديث عن العين بتعدّد وظائفها البصرية لا ينفصل عن الصورة بأنواعها وعن لعبة التلصّص التي صارت تقنية فنية للروائي في كشف المستور والوصول إلى ما لا يرى عن طريق استراق النظر : لعلّ هذا ما ذهبت إليه «مي باسيل» متحدّثة عن دانتيلاّ: «علاقتنا بالصورة، علاقتنا بوسائل الإعلام. التلصّص التكنولوجي نسبة إلى التلصّص البدائي الذي يمارسه جابر عبر الثقوب. كلّها موجودة. ويحكي الكاتب علاقة التلصّص الجماعي كما الفردي (المجتمع على الفرد والفرد على الفرد) ولكن كلها بدائية بالنظر إلى التلصّص الحاضر. وظننا أننا نستعمل وسائل الإعلام وهي تستعملنا. وظننا أنها تدعنا نتلصّص على الآخرين،وهي التي تتلصص علينا (تدجّننا،تغسل أدمغتنا وتخترق خصوصيتنا. فمن الرائي ومن المرئي..»(55)
إن اللغة عند محمد علي اليوسفي أداة مخاتلة للمرجع.(القاموس، الواقع، الذات، التاريخ إلخ) فلا هي واقعية ولا هي تجريدية. لعلّها أقرب إلى التصوير في مقام الشعر وإلى الوصف في مقام السرد. وهي في النهاية «كوكتال» معتّق من التراث الشخصي والجماعي ومن فلسفة الوجود والموجود بسخرية مرة وعذبة في آن.
وهذه اللغة بمكوّناتها اللسانية والأدائية هي التي تخلق الصورة التي تبدو لي بأنّها الفضاء الرحب المفضل الذي يصرّف فيه الكاتب كل ما يملك من طاقة إنشائية شعرية ومن طاقة توصيف سردي ترفدهما عينه السينمائية،ولا بأس المسرحي الكامن فيه. لعلّ الصورة في كتاباته هي أم الدلالات التي تحوم حولها معان كثيرة. فكأني به منجم من صور قديمة وحديثة في ألبوم يؤشر لذات أخرى ليست هي بالضرورة ذات من لحم ودم وإنّما هي من ورق يسري دم الأجداد فيه.
الخاتمة:
هكذا تتبيّن لنا خصائص الكتابة الشعرية في رواية دانتيلا التي اتخذناها نصّا مرجعا.وممّا لا شك ّفيه أنّ هذه المقوّمات الشعرية هي وليدة روح الكتابة النثرية والشعرية في مؤلفات محمد علي اليوسفي. فقارئ هذه المؤلفات واجد الشعر في السرد مثلما هو واجد السرد في الشعر. لذلك عدّ محمد علي اليوسفي كاتبا من كتاب قصيدة النثر وهو من بين كتابها الحقيقيين في تونس.وهو في مجال الرواية كاتب تجريبي بامتياز. ولعلّ رأيه في مظاهر تحقّق العلاقة بين الشعر والرواية هو أحسن ما به نختم هذه الورقة. يقول محمد علي اليوسفي في حوار معه : «يرى البعض من القراء والنقاد أنّ الشعر يثقل الرواية؛ والحال أنني لا أسعى إليه بقدر ما يتأتّى من العلاقات، بعض العلاقات بين الشخوص، وبعض الأمكنة. وأنا في الحقيقة أحاول قدر الإمكان جعل اللغة الشعرية متأتية من تلك العلاقات وليس حبّا في التدفق اللغوي. أنظر إلى الرواية باعتبارها «مشروعا أدبيا» لا مجرد حكاية طويلة. ففي الحكايات بوصفها كذلك، كثيرا ما أقول إن جداتنا وحتى الكثير من الناس العاديين قد يتفوّقون علينا بحكايات أغرب وأجمل. لذلك يهمنّي أمر اللغة والفنون الأخرى في الكتابة.
ولا أشعر أنني، أنا نفسي، أثناء كتابة كل من الشعر والرواية؛ الشعر لحظته أجمل، فيها تدفّق ونصف غياب، حتى لا أقول «غيبوبة». الرواية ورشة دأب واشتغال. قد يلتقي الشعر بالرواية في مرحلته الثانية؛ أي مرحلة المراجعة والتنقيح.
أمّا في النتيجة فإن الكثير من القراء وجدوا روابط عديدة بين كتاباتي الشعرية وكتاباتي النثرية. وأنا أرى أنها تأتي فعلا كذلك، عندما يتعلّق الأمر بالأمكنة وببعض الشخصيات؛ أي المصادر الأولى للكتابة، وبالمعنى الجغرافي تحديدا.»(56).
الهوامش
1 – الأعمال الشعرية، شوقي عبد الأمير، ط1 المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2000، ص131
2 – صحيفة الحياة في 6 شباط 1990
3 – حوار كمال الرياحي مع محمد علي اليوسفي انظر موقع كمال الرياحي
4 – وُلد إدوار الخرّاط بالإسكندرية في 16 مارس عام 1926، ونشأ فيها وحصل على ليسانس الحقوق من جامعتها في عام 1946. عمل في عدة وظائف، وشغل منصب الأمين العام المساعد لمنظمة تضامن الشعوب الأفريقية الآسيوية، واتحاد الكتاب الأفريقيين الآسيويين، ثم تفرغ للكتابة.
أصدر أكثر من خمسين كتابًا، من بينها ستة كتب شعرية, منها: (تأويلات)، و(لماذا)، و(صيحة وحيد القرن)، وخمسة عشر كتابًا في النقد الأدبي التشكيلي, منها: (الحساسية الجديدة)، و(أنشودة للكثافة)، و(ما وراء الواقع)، و(مهاجمة المستحيل)، و(أصوات الحداثة). وترجم سبعة عشر كتابًا عن الإنجليزية والفرنسية، ونحو عشرين مسرحية طويلة وقصيدة.
كتب عشرين عملاً قصصيّا وروائيّا، منها: (حيطان عالية)، و(ساعات الكبرياء)، و(حجارة بوبيللو)، و(مخلوقات الأشواق الطائرة)، و(أمواج الليالي)، وثلاثية (رقرقة الأحلام الملحية)، وثلاثية (رامة والتنين)، وثلاثية (الإسكندرية)، و(صخور السماء
5-محمد علي اليوسفي من مواليد مدينة باجة بالجمهورية التونسية 3 مارس 1950
متزوج وله أنسي ودانية.
درس المرحلتين الابتدائية والثانوية بتونس ثم سافر إلى الشرق العربي حيث أتم دراسته الجامعية في جامعة دمشق وتخرج في قسم الفلسفة والعلوم الاجتماعية.
تابع الدراسات العليا في الاختصاص ذاته بالجامعة اللبنانية خلال الحرب الأهلية.
وفي الأثناء مارس الترجمة والكتابة والصحافة الثقافية في أبرز الصحف والمجلات السورية واللبنانية والفلسطينية.
عاد إلى تونس ليستقر بها بعد عشرين عاما أمضى ثمانية منها في جزيرة قبرص.
6 -محمد علي اليوسفي :دانتيلاّ، دار الفارابي، بيروت 2005
7 – : لمحمد علي اليوسفي من الأعمال في الشعر «حافة الأرض، دار الكلمة، بيروت 1988./ امرأة سادسة للحواس، دار الطليعة الجديدة، دمشق 1998./ ليل الأجداد، وزارة الثقافة السورية، دمشق 1998/.ليل الأحفاد وقد صدرت جميعها بين 1988 و2009
وفي الرواية له: توقيت البِنْكَا[جائزة الناقد للرواية] رياض الريس للكتب والنشر، لندن 1992./ شمس القراميد،[جائزة كومار:الريشة الذهبية] دار الجنوب، تونس 1997./ مملكة الأخيْضَر، دار الطليعة الجديدة، دمشق، سوريا 2001./ بيروت ونهر الخيانات، دار الفارابي، بيروت 2002 / دانتيلا، دار الفارابي، بيروت 2005. / عتبات الجنة، دار الفارابي، بيروت 2007 وقد صدرت جميعها بين 1992 و2007.وله في النقد: أبجدية الحجارة، بيسان برس، نيقوسيا، قبرص، 1988.
أما في مجال الترجمة فقد ترجم الشعر: حرية مشروطة، أوكتافيو باث، الدار العالمية، بيروت 1983. /مدائح النور، مختارات من الشعر اليوناني، دار الملتقى، ليماسول، قبرص1994.وترجم الرواية:حكاية بحار غريق، غابرييل غارسيا ماركيز، دار ابن رشد، بيروت 1980/. خريف البطريرك، غابرييل غارسيا ماركيز، دار الكلمة بيروت1981 /. خريف البطريرك، طبعة جديدة، دار المدى، دمشق 2005./ البابا الأخضر، ميغيل أنخل استورياس، دار التنوير، بيروت1981 /. ناراياما، شيتشيرو فوكازاوا، دار التنوير، بيروت 1982 / مملكة هذا العالم، أليخو كاربنتييه، دار الحقائق، بيروت 1982 / البيت الكبير، ألفارو سيبيدا ساموديو، دار منارات، عمان 1986 / ليلة طويلة جدا، كريستين بروويه، دار الجنوب، تونس1994 / بلزاك والخياطة الصينية الصغيرة، داي سيجي، المركز الثقافي العربي، بيروت الدار البيضاء، 2004
وترجم أدب السيرة :المنشق، سيرة نيكوس كازنتزاكي بقلم زوجته، دار الآداب، بيروت 1994.
وله دراسات مترجمة من قبيل :بدايات فلسفة التاريخ البورجوازية، ماكس هوركهايمر، دار التنوير، بيروت1981 /بلزاك والواقعية الفرنسية، جورج لوكاش، المؤسسة العربية للناشرين المتحدين، تونس 1985./ نظرية الدين، جورج باتاي، دار معد، دمشق 2007 .
وفي مجال السنما ترجم الثورة الفرنسية في السينما، المؤسسة العامة للسينما، دمشق، 2003 /
قرن من السينما الفرنسية، المؤسسة العامة للسينما، دمشق، 2005
و في ترجمة كتب الرحلات له: من تونس إلى القيروان، غي دي موباسان، دار المدى، دمشق، 2004
8 – حوار مع كمال الرياحي (انظر موقع كمال الرياحي عن طريق الأنترنت)
9 – محمود طرشونة : أعاجيب السرد في شمس القراميد لمحمد علي اليوسفي د. محمود طرشونة مجلة عمّان،منشور في الموقع الالكتروني «الكرمة لمحمد علي اليوسفي
10 – يقول محمد علي اليوسفي في حوار له مع الباحث «روايات «دانتيلا» و«شمس القراميد» و«مملكة الأخيضر» تعتبر ثلاثية (غير معلنة على الغلاف).»
11 – رولان بارط : نقد وحقيقة، ترجمة منذر عياشي مركز الإنماء الحضاري ط1،1994، ص 101 .
12 -دنتيلا ص 91
13 – دانتيلا ص 49
14 – دانتيلا ص 106
15 -دانتيلا ص 282
16 – سيف الرحبي :حوار الأمكنة والوجوه،كتاب نزوى،العدد الأوّل،نوفمبر 1999،ص 12
17 – حوار مع محمد علي اليوسفي أجرته خلود الفلاح بتاريخ 15 مايو 2007 (انظر موقع محمد علي اليوسفي)
18 – أنظر لمزيد التوسّع كتاب : François jost : L’œil -caméra .Entre Film et roman, Presses universitaires de Lyon, 1987
19 – المرجع نفسه يقول» : François jost «يكون الانتقال من الإبصار إلى التبصّر، أيسر في عالم الرواية منه في عالم السينما ،ذلك أنّ الرواية لا تستطيع إلاّ أن تقترح النظر بواسطة الكلمات» ترجمة الباحث (ص 17 من كتاب العين/الكاميرا) .
20 – دانتيلاّ ص 48 .
21 – دانتيلا ص 48 .
22 – دانتيلا ص 68 .
23 – من حوار مع محمد علي اليوسفي أجراه الباحث لم ينشر بعد.
24 – دانتيلا ص145
25 – دانتيلا ص 146
26 -دانتيلا ص 147
27 -دانتيلا ص 166
28 دانتيلا ص 177
29 دانتيلا ص 240
30 دانتيلا ص 8
31 – دانتيلاّ ص 42
32 – دانتيلاّ ص 98
33 -دانتيلاّ ص 134
34 – دانتيلاّ ص 128
35 – دانتيلا ص 89
36 – دانتيلا ص 82
37 دانتيلا ص 96
38 – دانتيلاّ ص ص 128-129
39 – دانتيلاّ ص 130
40 – دانتيلاّ ص 169
41 – دانتيلاّ ص 190
42 – دانتيلاّ ص 173
43 – دانتيلاّ ص 250
44 – دانتيلاّ ص 13
45 – دانتيلاّ ص 70
46 – دانتيلاّ ص 122
47 – دانتيلاّ ص 123
48 – دانتيلاّ ص 251
49 – دانتيلاّ ص 290
50 – دانتيلاّ ص 47
51 – يقول فاليري «¨Je suis comme l’œil qui voit.Son moindre mouvement change le mur en image ¨Valery
« أنا كالعين التي ترى ما ترى.وإنّ أدنى حركة من حركاتها تحيل الجدار إلى صورة ».
52 – Starobinski(Jean) : L’œil vivant, Ed Gallimard, Paris,1961
53 – دانتيلاّ ص 70
54 – لعل هذا ما عناه محمود طرشونة في مقال له بعنوان أعاجيب السرد في شمس القراميد لمحمد علي اليوسفي «بقوله «إلاّ أنّ التمازج بين الواقع والمتخيّل يبلغ أحيانا مستوى سرياليّا تختلط فيه الصّور فتتحوّل إلى مشاهد يقف العقل إزاءها عاجزا عن الفهم، ويفقد منطق الفصل والوصل منطقه، وتغيب عنها المقاصد، ويعسر التّفكيك والتّحليل، فيكتفي القارئ بالتّسجيل والتعجّب.
55 – دانتيلا، للتونسي محمد علي اليوسفي… رواية التجريب الرمزي مي باسيل الحياة – 11/05/06/
56 – حوار أجراه الباحث مع الكاتب.
خــــالد الغـــريبي
كاتب من تونس