احترت كيف أصنف هذا الكتاب الجديد للكاتب المقدسي محمود شقير، لأني لا أستطيع أن أضعه تحت أي مصنف أدبي حيث أنه في رأيي تجربة أدبية جديدة بالنسبة لقراءاتي، وفي الوقت نفسه أجدني منبهرة ومأخوذة به من الغلاف إلى الغلاف، حيث سكنتني مدينة القدس كما سكنت الكاتب فأجدني أراها في كل صفحة من صفحات الكتاب رغم أن شخوصا كثيرة تحتل الصفحات إلا أن المدينة تطل في كل قصة وكأنها تلوح للقارئ معلنة الوداع في وقت احتضارها. الكاتب محمود شقير ابن المدينة المقدسة المحتلة هو كاتب غني عن التعريف، وفي إصداره الحادي والثلاثين نجد أن القدس هي محور كتابه فأبحرنا معها وغصنا في مشاكلها اليومية والاعتيادية التي يواجهها أي إنسان في فلسطين أو مصر أو اسطنبول مثلا فهناك الحب والكراهية وهناك الخوف الإنساني والذكريات والبعد والفراق، ولكن القاسم المشترك في النهاية أن شخوص القصص القصيرة جدا تجمعهم الخيوط في نقطة واحدة هي مدينة القدس التي تتعرض لأكبر هجمة يهودية في الوقت الحالي من محاولات التهويد وهدم ومصادرة المباني ، ومنع البناء، وقتل المواطنين المقدسيين لأسباب واهية. القدس هي مدينة كل عربي ، ومدينة المسلم والمسيحي، ومدينة الأحلام لامرأة في غزة محاصرة لا تستطيع أن تذهب إليها لتصلي في الأقصى أو لتلتقي بحبيب غائب، كما هي أصبحت في الزمن الغابر مدينة امرأة من أصل روسي أو زوجة لإمبراطور ألماني. قسم شقير كتابه إلى ثلاثة أقسام زيادة عن كتابه قبل الأخير « قالت لنا القدس» حيث قسمه لقسمين، ويفسر شقير تقسيم الكتاب على هذا النحو فالفصل الأول ينتهي بعد عودة المقدسي للقدس بعد اختفاء ميرال ، ويبدو الفصل الثاني كما لو أنه غوص في تاريخ المدينة وسردا لقصص ذكرها المقدسي لميرال ، وبعد انتهاء هذا الفصل نعود إلى الفصل الثالث كما لو أنه استكمال للفصل الأول. وفي القسم الأول نرى حليم ومريم بطلان في مجموعة من القصص القصيرة جدا، حيث تطل القدس في كل قصة تجمعهما، ونشعر بمأساة المدينة العتيقة، ولأننا نقرأ لشقير فمن الطبيعي أن نبتعد لفترة عن القدس ونسرح مع مشاكل الأبطال ومعاناتهم الأصلية، وفجأة نقفز بأفكارنا وخيالاتنا نحو نقطة البدء والنهاية، القدس، فحليم ومريم عاشا قصة حب فوق جدران المدينة العتيقة الحزينة، هي ترسم وهو يتابع رسوماتها ويتعلم منها، وشيئا فشيئا وبالكثير من القرب والليالي الجميلة التي يقضيانها معا يكتشف حليم أنه أصبح مغرما بالرسم كما هي مغرمة بالسياح حيث يثري جعبتها حول أضواء الشموع بما يحفظه عن القدس. مريم تلك الفتاة التي تجاوزت سن الزواج تمسكا بالمدينة وبتاريخ جدها المناضل الذي قضى عمره في أقبية السجون دفاعا عن المدينة أيضا. أما قصة الولد والبنت فهي من أجمل الأيقونات التي صفت في الكتاب، حيث أخذني الولد المتخلف عقليا «سرحان» والذي يتزوج بالفتاة الكفيفة نسرين، ولكن رغم ممانعة الطرفين والظروف حولهما فهما يبنيان غرفة قد يهدمها الاحتلال ذات ليلة، وذلك في إشارة لسياسة منع البناء والتوسعات في البيوت القديمة بالقدس، وبزواجهما هناك إشارة للبقاء العربي في المدينة الجريحة حتى بعد استشهاد الزوج والد الطفل الوليد برصاصة طائشة وهو يبحث عن بعض الخشب في الأزقة ليبني قنا للدجاج. في اسطنبول يأخذ الكاتب البطل القدس في قلبه ، فيما يجدها في قلب الصديقة ميرال والتي تجوب به في معالم العاصمة التركية حيث قصر الملك عبد المجيد وتقارن بين المدينتين وتروي له الأساطير الغريبة التي حيكت حول القصر في سرية تامة وهي بذلك تخصه بمعلومات تريد من خلالها أن تعرف مبلغ حبه لها. روكسلانة والتي ظلمها التاريخ يتحدث عنها الكاتب في مجموعة من قصصه حيث يظهر مدى حبها لمدينة القدس وخوفها عليها، وحبها لزوجها السلطان سليمان القانوني، والكاتب هنا لا يتحدث عن روكسلانة التي تحدث عنها التاريخ بأنها المرأة التي تستطيع بأنوثتها وجمالها ورقتها أن تحطم كل القيود، وتقفز على كل النظم، بل وتصل بنفوذها إلى عزل واختيار السلاطين. وهي بدأت كواحدة من حريم السلطان حيث اختطف النخاسون روكسلانة من وسط أهلها في بلاد القوقاز، وكانت ابنة احد رجال الدين ولم ترض بحياتها في القصر كمجرد جارية، وهي التي حباها الله – علاوة علي الطموح والذكاء – الجمال والرقة وخفة الروح، ورهافة الشعور لدرجة أن تبكي المدينة كما تبكي أبناءها. في القسم الثاني من الكتاب يعرض الكاتب قصصا لكل من أحبوا القدس وزاروها أو قضوا شطرا من حياتهم فيها وأجمل ما جذبني من هذه القصص رغم أن جميعها تصب في معنى واحد أن القدس هي مدينة الرغبات والخسارات أيضا، قصة غرام فتاة مقدسية مع جندي بريطاني ممن جاءوا مع جيش الانتداب، شعرت لحظتها بأن الكاتب كالساحر فالمدينة تسحر حتى المحتل ليعشق فتاة من فتياتها ويظل يركض في أزقتها بحثا عن حبيبته التي رآها ذات مرة بزي مدرسي بسيط. في القسم الثالث من الكتاب يتطرق الكاتب لحصار غزة ويربط بينه وبين ما يجري في القدس ليؤكد على أن فلسطين كلها مستهدفة ضمن خطة صهيونية عالمية، وهو يتحدث عن حب امرأة غزية لمقدسي وأمنيتها الخروج من غزة حيث الحصار والفقر والمستقبل المجهول، وبما أنها لا تتمكن من فعل ذلك فهناك قصة حب متطورة وحديثة تقوم بينها وبين المقدسي في غرف الدردشة والمواقع الالكترونية حتى أنهما ينجبان أطفالا في ذلك المكان الخرافي أو الوهمي. في القصص القصيرة جدا الست الأخيرة من الجزء الثالث من الكتاب نجد العتاب ولقاء الكاتب مع بعض أبطال قصصه الذين عاتبوه أو جاءوا لزيارته واسترجاع الذكريات بما حدث معهم بعد أن سرد حكاياهم على هواه، فالحكواتي الذي مات دون أن يهنأ بزوجته يأتي معاتبا الكاتب لأنه كان لديه الكثير من الأحلام ليحققها في المدينة الحزينة على فراقه حيث كان ينثر حكايايه في المقهى، ويعود لزوجته لتشبع من حبه، أما سكينة الغزية المحاصرة فهي تأتي له لتتلمسه وتتأكد أنه من لحم ودم وليس من كلمات وخطوط وأسهم حيث لم يلتقيا إلا عبر الشبكة العنكبوتية، ففي هذه القصة أي في ختام المجموعة نرى أن غزة والقدس تلتقيان « وجها لوجه» ولا شيء يوقف لقاءهما سوى مشهد الجنود الغزاة.. لغة الكاتب وأسلوبه هو ما أطلق عليه قديما بالسهل الممتنع، فأنت تحتار وتشعر بالخيلاء حين تقرأ ، فتعتقد لوهلة أنك تستطيع أن تكتب قصصا قصيرة جدا مثل تلك القصص، ولكن حين توغل في القراءة تعرف أن ذلك أصعب من الخيال، فعبارات شقير مقتضبة حينا وتحمل ألف معنى، هناك تساؤلات وحيرة ونهايات مفتوحة، وهناك إيجاز وإيجاز ثم تفصيل ثم عودة للإيجاز وفي النهاية تخلص إلى أنك أمام أسلوب صعب ورائع في الوقت ذاته.