رولا حسن
لا يبدو أن رغد السهيل تريد أن تكتب رواية عادية ولا تريد لنصها السردي أن يشابه النصوص السردية بل أرادت الاختلاف، وهذا الاختلاف لم يكن والحال كذلك إلا سردا ميتافيزيقيا تستثمره بذكاء لنصرة القضايا التي تؤمن بها كالحب والجمال والحرية.
كتبت رغد السهيل القصة القصيرة فصدر لها: ضحكة الخاتون، سايكو بغداد، كلكوش، وأخيرا “بانت سعاد”، أما في الرواية فصدر لها ثلاث روايات “أحببت حمارا” التي تؤكد فيها على التحرر من قيود التقليد باعتمادها تقنيات سردية تجريبية تجعل الميتا سرد والأساليب الجديدة للرواية منحازة بذلك إلى جماليات السرد المعاصرة التي تخلط بين الفنون والأساليب والمعارف، أما في روايتها “منازل 17” فقد نحت بالتجريب منحىً آخر فيه الكثير من الغرائبية، فكانت الرواية بحد ذاتها مغامرة جريئة على مستوى الكتابة التاريخية المعاصرة إن صح التعبير، حيث حاولت فيها أن تتجاوز الإطار الرسمي للتاريخ المدون والميثولوجيا الأسطورية المتداولة، وتجترح تاريخا بديلا مجردا من الإسقاطات الصوفية والدينية والميتافيزيقية، تنتصر فيها للمرأة وحقوقها وحريتها عبر التاريخ، ذلك كله عبر لعبة سردية متقنة مما يجعلها قابلة للتأويل المتعدد لفك رموزها ودلالاتها.
تتابع صاحبة “سايكو بغداد” في روايتها«محنة كورو» الصادرة حديثا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر مهمتها في الكشف عن الوجه القبيح في المجتمع، حيث قدمت جائحة الكورونا في العراق، والتي قضّت مضاجع العالم برؤية مختلفة وبلعبة سردية مغايرة تستثمر فيها. لغتها الساخرة واختصاصها في علم المناعة والأحياء لتقدم نصا سرديا ممتعا، وغنيا بالمعرفة من حيث اللغة والحوار، والمعلومة العلمية الدقيقة، مؤكدة ذلك بقولها:
“أشعر أن لدي ميلًا إلى الفانتازيا، وهناك روح من التهكم والسخرية، نحن نعيش في عالم غريب، والغرابة ليست الأشياء التي تحدث، وإنما الغرابة في أننا فقدنا الدهشة في كل ما يحصل حولنا.”
ومن الجدير بالذكر أن روايات كثيرة كتبت عن أوبئة اجتاحت العالم منها “الحب في زمن الكوليرا” لغارسيا ماركيز، ألبير كامو وروايته الطاعون، ورواية “حصان شاحب، فارس شاحب” للأمريكية كاثرين آن بورتر، موثقة للخراب الذي خلفته الإنفلونزا، وذلك تماشيا مع الوضع الذي يعيشه العالم إبان الجائحة، الضعف الإنساني والهشاشة العالية في مواجهة عدو غير معروف حيث يقسم التاريخ إلى ما قبل الجائحة وما بعدها.
ما يميز “محنة كورو” أن الكاتبة جعلت الراوي العليم هو “كورو” الجرثومة التي تسبب الكورونا، حيث يبدو عالما بدواخل الأشخاص حالما يدخلون مساحة الكتابة.
أما عن محنته، التي تمثل بؤرة الرواية، فتبدأ عندما تعرضت الغابة التي يعيش فيها إلى حريق مدمر ولم ينج منه إلا الطيور التي هربت بعيدا عن النيران، كان الفيروس السارد يعيش في أنف هورشو، ذلك الطائر الذي ينام معلقا بالمقلوب، والمقصود به هنا الخفاش. نجا كورو بأعجوبة بينما، ضيفه طار بعيدا، والمحنة بحد ذاتها كانت في هذا الفصل عن المضيف، لذلك ظل كورو يبحث عن هورشو أثناء تواجده في عالم البشر ويحن طوال الوقت الى الغابة وإلى بقية الهورشات التي لم تحترق، وذلك من خلال انتقاله إلى أنف العملاق “حاكم” رمز الفساد والانتهازية الذي قرر السفر بالطائرة والهروب.
يتعالى الراوي”كورو” في الرواية على البشر ويعتبرهم أشبه بالجيفة، فلهم روائح وتنتج عنهم فضلات، الأمر الذي جعل كورو يشعر بالتقزز، هذا بالإضافة إلى أنه صنفهم إلى عمالقة، وحقراء، وأنذال بحسب قدرة كل منهم على القضاء عليه، فالعمالقة هم البشر بشكل عام أما التصنيفات الأخرى الحقارة والنذالة والخبث فهي عائدة لدرجة أو لقدرة كل منهم على القضاء عليه.
ومع ذلك وقع كورو في الحب، حيث عشق غزلان وعاش معها وكاد يسبب لها الموت لولا مساعدة عمتها الدكتورة خلود.
تنتهي محنة كورو، في إشارة إلى أن محنته انتهت أخيرا بحلم العودة إلى الغابة والالتقاء بأصدقائه الهورشات التي تعودت أن تنام بالمقلوب .
لا شك أنه ثمة غرائبية واضحة في عملية السرد مغلفة بروح السخرية، فمن خلال رحلة كورو في محنته في البحث عن مضيفه “هورشو” والمآسي التي سببها، تقدم الكاتبة العراق والحرب المدمرة التي مرت عليه والحصار القاسي، والويلات، والغزو الأمريكي، عبر بانوراما شاملة تتقاطع فيها الكثير من الأحداث والشخصيات على اختلاف مستواها الثقافي والاجتماعي، بغداد بشوارعها وناسها، لتتطرق إلى ثورة تشرين وأبطالها الذي قضى بعضهم بالرصاص وبعضهم مختنقا بالقنابل الدخانية، والعلاقات القوية التي كانت تربط التشرينيين ببعضهم، العلاقات التي تتسم بالاحترام والود والحب بالرغم من قسوة الواقع وصعوبته.
العراق حاضرٌ في الرواية من خلال الأمكنة، بغداد وشوارعها وساحاتها ومعاناة شعبه منذ الحصار، وحتى تاريخ الجائحة الأمر ذاته الذي أصرت عليه في روايتها “أحببت حمارا”، حيث عملت بجد على إيصال صورة العراق ومعاناة شعبه بأسلوب تراجيدي ساخر في كلتا الروايتين، الأمر الذي يدفع بالقارئ للتأمل والبحث لفهم طبيعة الحياة السياسية والاجتماعية في العراق في الحقبة التي أعقبت الاحتلال الأمريكي عام 2003 التي اتسمت بهيمنة قوى طفيلية وفاسدة وبلا أخلاق على العملية السياسية فضلا عن هيمنة الظروف السوداوية التي عاشها المعارضون لتلك القوى.
وإن انتهت محنة كورو فإن محنة البشرية لم تنته لأن الفيروس راح يفتك بالملايين، وهنا استثمرت الروائية اختصاصها العلمي في علم المناعة والأحياء المجهرية فترسم خريطة لمواجهتها، ففي حوارها مع غزلان تقول الدكتورة خلود التي تتماهي مع شخصية الروائية: “لقد تصورت أن هذه الجائحة ستتوجه نحو توحيد البشرية وتدفع بسفينتها إلى بر الأمان، لكن يبدو أنها ستتوجه إلى المزيد من البطش… إنه صراع مقيت بين العلم والأيديولوجيا، كل يريد فرض سلطته”.
تستثمر الساردة ضمير المتكلم، حيث يتقمص الفيروس قناع السارد ويتكلم من خلاله في محاولة من الروائية لأنسنة الفيروس فهو يكره ويحب ويستغرب، وفوق هذا كله يبدو قادرا على التوغل ليس في الأجهزة التنفسية لشخصيات الرواية، وإنما إلى العوالم الشخصية والداخلية لشخوص الرواية التي تعيش على اختلاف ظروفها نوعًا من التراجيديا القاتمة في محاولة ليست سهلة لنبش الأحزان واستحضارها في تاريخ كل من شخوص الرواية.
تنتصر صاحبة “منازل 17 ” للمرأة في معاناتها وبحثها عن وجودها وتحقيقه وتجاوز الماضي المتعب والمضي قدما إلى الأمام، ولا توفر في ذلك استثمارها التاريخ أو الأسطورة، فأغلب بطلاتها أنثوية، في “منازل 17 ” كانت الطاهرة قرة العين وفي “أحببت حمارا” كانت الدكتورة سعاد، وفي “محنة كورو” كان العدو الأكبر للفيروس هي الدكتورة خلود التي تعمل بجد لتوعية الناس ومساعدتهم لعدم وقوعهم كفريسة لهذا المرض.
بطلاتها على اختلاف أسمائهم ومواقعهم وأزمنتهم يمنحن السرد نعومة فائقة ويضفن إليه جرعة معرفية عالية في ظلال شجرة الفانتازيا الوارفة التي تمنح السرد إيحاءاته، وتفتح بواباته على التأويل الذي يجعله مكتنزا ودسما بالإضافة إلى تنوع الأساليب في الرواية لإيصال خطابها أو مقولتها.
لا تبدو البطولة المحورية دائمة في الرواية التي ينتقل السرد فيها بين الكاتبة والفيروس حد التماهي، وإنما كان تركيزها على عدة شخصيات في الرواية تختفي وتظهر بحسب درجة أهميتها في تشكيل فسيفساء السرد الغرائبي، يمكنها هذا التلاعب من الإضاءة على تفرعات سردية تتداخل فيها الذوات الأنثوية والذكورية في حضور قوي وجماعي يبتعد عن الفردية بالرغم من الحضور غير المكتمل أو السلبي للرجل ضمن الظروف الراهنة. وهذا يعود إلى اختيار السهيل الكتابة عن مجتمعات يبدو فيها الحضور الأمومي بمفهومه الممتد، ضاربا في جذورها.