حلم على حجر إسفين1
منى محمد صالح
الصدى لا يصدر صوتًا، تمتم ياسين، وهو يسوق كلماته سبابًا يحاصر الأشباح، خفافيش الظلام، رُماة الحصى السهام، الملوثين بوسمِ الفجيعة، سوطًا يرتفع باعتدالٍ قاسٍ على أشلاءِ حياة مؤجلة، ومواسم لن تأتيَ أبدًا!
الواحدة بعد منتصف الليل، الصمت والهدوء ينسابان ببطءٍ كفحيحِ أفعى عمياء، في أرجاء الغرفة الصغيرة، التي تحف جدرانها البيضاء لوحات مائية عُلقت بإهمالٍ، وعلى الجانب الآخر من الباب الموارب امتدت أرفف خشبية عريضة اكتظت بالكتب، وصندوق فارغ من ورق الكرتون القديم، كان بجانب السرير الوحيد في الغرفة، وقد وُضعت بداخلة بعض الصور ورسائل قديمة، وثمة ضوء من لمبة النيون كان يتسرب من رواق الممر الطويل المؤدى إلى غرفة المعيشة.
لا شيء يتنفس حيّز المكان، إلا من مجموعة متفرقة من السناجب البريّة، تصدر أصواتًا متحشرجة بين الحين والآخر، تأتي من غابة الصنوبر الكثيفة التي تبعد بضعة أمتار من حديقة المنزل الصغير المعزول على سفح جبلٍ عالٍ في الساحل الغربي في بلدة ليون النرويجية، حيث برودة الشتاء تقتل حيتانها!
جلس ياسين على كرسي هزاز قرب سياج المدفأة الحديدية المتّقدة، باسطًا قدميه في تراخٍ فاتر يلتمس الدفء، ينظر من زجاج النافذة العريضة في عزلته المنتقاة، ولا نديمَ غير هذى السهول الثلجية البيضاء باتساعها اللانهائي، تمتد أمامه على مدِ البصر، وبقايا زجاجة قديمة يُعاقر مُرَّها، وغربة خشوعها الموحشة.
تأرجح في قعدته، يرقب حركة الريح بالخارج وهي ترمى بأوراق الشجر اليابسة التي كانت تتساقط على أرضية الحديقة المُشذّبة بعنايةٍ مُمِلة، وكأن نجارًا صقّل جيدها. كان ياسين مستعدًا للمساومةِ بخيباتٍ أخرى من إرثِ الشيطان، يخرج ماردًا أحوصَ، يرمّم الريح، يغطى يُتم القصائد، والاحتمالات المخفوقة بارتدادِ الذات المضطربة، تحفها يد المنون، دون وداع ندِىٍ، أو عوسجة تنبري كعصا موسى، تأتيهم من خلف البحر باليابسة.. عسى ولعلَّ!
كان الحزن يعاود صحوَه الطازج، بخدر ٍلذيذ، يغيّب ملوحة وحدته، والبدايات الاُولى تتزاحم في بذخٍ متألق كزهرِ الحقول الربيعية، يرخى لقاؤهما الأخير ظلًا من الدُفلى2
– آه… ليتها الآن هنا، نحقق مُعجزات الله في الأرضِ!
كان شفق ألفتها البرونزي يسرى كدفقٍ دافئ، يسترخي على تخومِ روح أنهكتها مواسم النزوح المنزلق، بحثًا عن محضِ مسافات، أو زمن يماثل في ضيائِه لون الشمس، من أولِ البحر إلى آخرِ الجبل، في بلادٍ يأسرها الفقد، انكسار الروح، وثنائية الوجع تتجمهر بين زمنين، تراود الأرواح، تمحو من العين والقلب بهجة الحياة.
بيني وبينُكِ آلاف القصائد
وارخبيلات3 المدافن
بيننا زمرة عسكر..
واُغنيات الانتصار
حصار بلادٍ تُضمدُ جُرحها ليومٍ يأتي.. ولا يأتي!،
والليل هنا لا تومض أنجمه، ونحن ندور في فلكِ البقاء، تطحننا الرغبات الهاربة من مسالخِ الأجل المؤجل، والبحر يزحف نحونا، يملأ أعطافنا ماءٌ وطين، لغةٌ تفرُّ من صهيلها، تدوّن قائمة الأسماء في رتلِ المراثي ثم تهوى كجسدٍ في لُجّةِ القاع، يغطيها لزوجة الوحل الطحلبي.
أعرفُ أنني أسوق خيبتي بانكسار ينحدر مثلنا، خطًا استوائيًا دون تلفُّتٍ حنون، يكفّن أثر الغائبين في سديمِ الحصار، وجلّادوهُمُ يصطفون شاهدين على وزرهِم، يراهنون على إحياءِ موتاهم.
كيف نخرج من استوائية المكان المُحتقنة بالخرابِ، ويأس الهاربين من نبشِ الهواء طلقًا، يحتضنون رمقهم الأخير في ذهولٍ صامت، يتبعهم ظلهم كأخيلةٍ تبرز من هياكل اَلْعَسَس والمدن المقفرة، إلى غربةِ الحِداد، وأنت تسكنين البحر دوني، مرقدًا مخمليًا، يغطيك وشاحك المزركش الليلكي، لا جدوى من المحاولة الآن، والوخز هُنا يتصاعد بانبثاقٍ سافر للجرحِ!.
دعيني أغادر سجود مقلتيكِ
أطلق على سمائكِ الحمامات النوارس،
وفي القلبِ تنام اُغنيتي
يا مرآةً تشفُّ شغاف الوهن فيّ،
تغوص في سُرّةِ الجسد
كنواةٍ تنفلق إلى زُنبقتينِ مُختلفتين،
وتلتقيان في نزقٍ إلهىٍ
لينمو كل هذا الجلالُ في قلبي!
ليت على الجدرانِ الآن ظِلكِ، يقيني من لسعة هذا الجنون الآيل للسقوطِ، ضجيج السكون داخلي، الوخيزات الخارجة من الجسد، وكأن المسامات فيها تغيّر دورة فرزها من ماءِ الملحِ إلى دمٍ.!
وأهتفُ باسمِكِ؛
مريم،
من ليِّ غيرُكِ لـ أحِبّ،
وأعشقُ حُلمًا، انفلت عقيقة في ذاكرةِ لقائنا الحلو الأخير؟
حاملًا طعم رائحة الحقول البعيدة هناك، طمي التراب على ضفاف نهر عنسبا!
أعيدي لدمِي بذور الساحل والسهل،
لأنمو نبيًا أخضرَ في هدبِ عينيكِ
كيف أنبتنا الشوك بتولًا،
مجدلية الندى، فرحًا خرافيًا،
وامتطينا فرس الحلم،
ثم تركناه هُناك وحيدًا
يلد أنجمًا، لا يليق أن تنطفئ!
أحس، ياسين بقلبه ينسلخ من مكانه كقطنٍ مندوف، وتأكد أنه تأخر كثيرًا في وداعها الذي حملته الأمواج بعيدًا معها، لتبدأ الأشياء وتنتهي في مساحةِ زمنٍ واحد.
التقيا دون تخطيط مسبق، كانت الفكرة تنمو كعدوى محمومةِ السريان، تنتقل بسرعة إلى عُزلةِ الرؤوس المُطحونة بالشقاءِ، دون أن يدري أحد بأمر الآخر، أو بما يدور بخلدِه. الهروب من جحيم ساوا4 معسكر التجنيد الإجباري، السخّرة المطلية بالنكلِ العالق كنقّارِ الخشب في عقرِ الجحيم، عبودية الأقلقلوت5 اللحَد، التي تسحق إنسانيتهم، تحصد دنوَّ العمر على مهلٍ، أحلامهم أفراح الصبا، الخوف الذي يسبر أغوار القبور، يقرع دابر الحياة نحو حوافِها المُسنّنة، ولا أحد يأمن ظله هناك!
الموت له شكلٌ واحد، تتعدد روائحه، فاختارا موتًا أرحم، مسكونًا بالغياب، مرهونًا بالموتِ وعطاياه، في رحيلٍ أحادي دون إياب.
وتدور كرنفالات الريح كأنها موسومة بالقدرِ، وجدا نفسيهما في حافلةٍ صغيرة، مكدّسة بالأجسادِ البشرية، المتراصة في تلاصقٍ محموم، والإعياءُ البادي على سيماءِ الوجوه الصغيرة ينطق بالقهرِ وفواصله المُوجعة، خواء الصمت العاوي في ضجة الرؤوس المثقلة، يهوى كوتدِ إسفين بين الحُلم واحتضار اللحظة الآتية.
تقاربت المسافة بينهما منذ الوهلةِ الأولى. كانا يقفان معًا على عتبةِ اُفقٍ، يبدو بعيدًا بينهما، يبحثان عبثًا عن نهايته حيث التقيا في مركز الاحتجاز المؤقت، في مدينة طبرق6 إلى حين ترحيلهما من جديد إلى سجن أجدابيا7 على مشارف الحدود الصحراوية الليبية، بعد أن تمَّ اصطيادهما في رحلةِ بحثهما اليائسة عن سفينة نوح، ليلحقا بركبها من كلٍ زوجين اثنين، تعبر بهما مياه البحر المتوسط، حيث جنة الله الموعودة بغربة الروح في غيبوبةِ تمَامِها السحيق.
وسّع لها مكانًا بجانبه، والأجساد تتدافع بتعبٍ واضح مع حركة الحافلة وهي تشق سكون الطريق الساحلي الليبي المقفر في طريقها إلى سجن أجدابيا.
ألقى عليها نظرة حانية، مُرحبًا بها في حسرةٍ لم يفلح في إخفائها، راعه هول اليأس الذي يلفُّ ملامحها الوديعة متسائلًا:
– ما الذي أتى بها إلى هذا المكان اللعين؟
ابتلع مرارته، وكأنه يشفق على نفسه.
احتضنت عيناها الزهريتان ابتسامته الصغيرة التي ارتَّسمت على وجهه الأسمر النحيل، رغم مرارة المشهد:
– مرحبا، اسمي مريم.
ردّت عليه بصوت منخفض، أضاءت عيناها من جديد، وهِىَ تعدّل من وضع وشاحها المزركش الليلكي على خصلاتِ شعرها الناعم. نبضٌ رفيف علق بين الأنفاس المُتصاعدة بالقلقِ والخوفِ.
جلست بقربه والشبح يغادر ظله بينهما، إستوائية المكان تحفر أخاديدَ تخفف وطأها مثل نسيمٍ رطبٍ، يفلت نبض اللغة الصامتة حدّ الاحتواء، ليبقيا معًا في حضرةِ غربتهما الموعودة بدلافين الختام.
استبدَّ بهما اليأس في رحلة المتاهات المسيجة بحصادٍ يتتالى عليهما بالتقسيط، وغيمٌ حزينٌ يطارد سرب فراشات المساء:
– لو كان لنا أجنحة!
وتابعت مريم التحديق في سماءِ العدم، بعينين دامعتين لن يحس بهما إلّا الإنسان المهدود داخلها. تراخى الانكسار بأسداله السوداء عليها، لم يكن هُناك سوى الريح تحمل صدى صوتها الحزين في ارتدادٍ مقهور، وقبل أن تكمل دورة حزنها تجاسرت بالسؤال:
– ما الذي يجبرهم على القيامِ بهذا العمل البائس؟
وأضافت في تحدٍ جميل:
– إن اصطيادنا بهذا الامتهان المرهون بالقنصِ سوف يزيد بؤسهم شواهق من الإثم، ويُوحّد اُسطورة الجُرح الأصيل.
تجرع، ياسين ما تبقى من زجاجته الفارغة دفعةً واحدة، ومسح شفتيه الجافتين بطرفِ كمِ قميصه، كان دفء مريم الآسر يعمه، يتكاثف بالوجع المتبّل، مُلوحة تجتاح الداخل المُنهك، يتبعثر دون ترتيب، وهُوَ يتابع بحْلقته من زجاج النافذة العريضة.
كانت الريح تكنس آخر ما تبقى من أوراق الشجر المصفرّة اليابسة على أرضية الحديقة المسفْلتة، لتبدو أكثر لمعانًا وبؤسًا من ذي قبل. وسفينة نوح تنوء بثقلها، تحتطب بالأسماءِ العابرة من تحت التراب، ولا دخان سوى ظلام العالم الطافي من حولهما.
وكأني أسمعُ مطرًا بالخارجِ يهطل، صوتُكِ الشجي، يأتيني حُنُوًّا عاريًا:
– لا تفلتني… لا تفلتني!
يستنهضُ بُعدًا مفقودًا، يشبه نُطفة الذكريات الغارقة في حميميتها كثيرًا، وأنتِ تلوذين بى، أبعد من العينِ وأقرب إلى القلبِ.
كُنّا في عزلةٍ تامة، الماءُ يعلو نُواح الريح في تصادمها مع الأجساد المتناثرة على حوافِ الشهيق الأخير، ونحن نفتش عن أسماء من رحلوا، جثثًا تواجه قاتليها، غربان السماء السوداء تحلق فوقنا، تنعق في انتظار اللحظة الحاسمة للرقصِ على إيقاعاتِ العُرس الجماعي.
ترتادني الآن أسماء مُدني الحزينة
ثقوبًا من الضوء،
تحاور عينايَ صورًا من الذاكرة..
تشبه اسمَكِ،
والراحلون إلى دَمِي،
يستعدون الآن للرقص بين موجةٍ وأخرى!
بدا ياسين مرهقًا في ارتخاء الجسد المسجى داخله، وصفير الريح بالخارجِ يعصف به من كل الاتجاهات، لا بحر يتنفس فلق الصباح، أو طائر أسطوري يرفرف ببيارقِ الأعلام البيضاء إيذانًا بعبور جنة الله الموعودة بغربةِ الروح.
احتضن جسدها المرتعش في آخر لحظة وداع قصير لم يكتمل، جرفته المياه بقوة معها، في محاولة يتيمة لإنقاذها والصعود معًا إلى خواءِ العالم المثقوب.
كان هذا مثل كابوسٍ حيّ ينوص في غيمةٍ عمياء، ويعود بهما إلى مخارجِ الأرواح لتخترق السماء والأرض، عباب البحر يكتسح اليابسة ليقبر الأخضر.. ولا أثر لعصا موسى!
ارتفع صوت مريم مرفرفًا في فضاءِ الغرفة الصامتة، بتشابكٍ صافٍ نضر، مثل عينيها الزهريتين، رؤى تبلورت داخله مُوحّدة وشاملة، لتتكوّر بجلالها تحت نير الدهشة التي اعترته.
بدأت أمامه أشجار الصنوبر من بعيد، وكأنها تحمل لونًا من ذهبِ الشمس، ساطعًا يشق ظلام عُزلته.
أحس ياسين بالنبضِ الرفيف يحبو إليه دافئًا من جديد، وكأنها مريم، هُناك، قد أقبلت والصباحُ في يدها.
تذكّر ظل الأرض في عينيها، مُلوحة ضحكهما تذوب بين أزقة الرمال والصدى، التماسهما للدفء معًا، عصافيرُ صغيرة تفرد أجنحتها، تحلق باهية في عُلوِ سماءٍ زرقاء، مثل قلب ينضح نبضًا جديدًا، يرشده إلى قبرِ شهيد، وحلم ينبت حبقًا على حجرِ إسفين!
عـند حـافة الحُـلم
محجوب حامد
المساء الجميل الممزوج بعبق الأصيل وحركة الغيم المتناثر في الفضاء يثير فيك الفضول لولوج المدينة.. حركة الناس في الشوارع الأنيقة تحتم عليك الالتزام بأن تكون مرتبا في هندامك وحتى في طريقة مِشيتك على تلك الأرصفة الملونة بالجمال الفاتن والبنات الجميلات.
والمساء في أسمرا ليس كسائر المساءات التي اعتدت عليها في مدن تهرب شوارعها من بعضها من شدة الزحام الخانق والطقس الحار الذي يحاصر خطوك بالضجيج، لذا لا تفكر سوى في الهروب بنفسك إلى أركان المدينة، التي تتحايل فيها الكافتيريات المتناثرة هنا وهناك بمكيفات الهواء والمشروبات الباردة والديكورات الصارخة التي تذكرك بالنساء اللواتي يبالغن في العطر والمساحيق.
*****
ترتدي سترتك العنابية.. وتلمع حذاءك وتمشي تلك المشية التي تصطنعها دائما وأنت تتجول في شارع (كمبشتاتو).. تشيع بناظريك الرصيفين بذاك الألق الطاغي علي محياك ويحلو لك أحيانا أن تشاكس البنات الجميلات وتملأ خياشيمك من لفح الزمهرير والمساءات الندية.. نظرت إليك إحداهن خلسة وهي تضع على شفتيها ابتسامة بريئة.. اهتزت جوانحك وسرت فيك تلك الرعشة التي كانت تباغتك أثناء مرضك بالملاريا.. ضحكت.. ضحكت وحدك كثيرا كون الرعشة تباغتك الآن في مدينة أخرى وفي موضع مختلف وبفكرة مختلفة لا تتعدى كونها ابتسامة بريئة.
يهتز جيب بنطالك فجأة بفعل الجوال الذي رن لتوه.. تضحك ثانية كون الرعشة جاءت من جيب البنطال هذه المرة…
– ألو….
– حمدا لله على سلامتك
يأتيك الصوت عميقا.. عميقا…..
يتغلغل في أقصى الذاكرة حميميا كما الأغنيات العذبة.. تتراءى أمامك داخل غيمة من دخان البخور المعتق بالصندل، وطعم القهوة بالزنجبيل.. وذات الصوت الرخيم
(أتغيب طويلا..؟)
حينها كنت تحلم ألا تطول غربتك.. وأن تعود محملا بما يكفى لزاد السنوات القادمة وما يفرش طريقكما بالحب وبالأمنيات.
– ربنا يقبل حمدك
– غبت أكثر من الحلم..؟
– بل غبت في صمتي وحلمي أشيد وأهدم حتى صار الحلم سرابا!
– لكن كنت أنا… (يقاطعكما صوت طفل يبكي)….عفوا سوف أتصل لاحقا
– لاحقا ؟؟ (تستغرب كثيرا).
******
لاحقا كنت.. ولاحقا صرت الآن.. وبين تلك الهواجس يغوص صوت الطفل الباكي في بحيرة أحزانك فتبكي وحدك موقنا أنه طفلها.. تبكي ثانية، لكن هذه المرة تبكي خيباتك وانكساراتك .. الرصيف يجف من الناس، بل يجف من البنات الجميلات.. البرد يهبط حثيثا على الطرقات، كثيفا كالدخان وماطرا أحيانا كالندى، وأنت تمشي هائما، تنكمش وتنقبض أحيانا، وتتكور أحيانا أُخَر حتى صار وجهك عنابيا كما لون سترتك، وتضيع الألوان في يبابك إلا من بنفسج كانت ترتديه حين تتقابلان.. كانت تتعمد ذلك حتى تستفز إلهامك،لأنها يقينا تعلم أنك من هذا البنفسج تستمد مداد حروفك، ومن ضحكتها تنسج أغنياتك الضائعة في غضاريف الذاكرة.
تتعثر خطاك بمدرجات الكاتدرائية العتيقة فتفيق من هذيانك وتسوى خطوك.. تتذكر موعدا مع أصدقائك فى (كازا ديلي إيتاليا) مضت عليه ساعة كاملة.. تهمهم، وأخيرا تقرر (أن تأتي متأخرا خير من أن لاتأتي).
*****
تستقبلك رائحة الشواء التي تعطر فضاء المكان.. يحتفي أصدقاؤك بقدومك.. تجلس على الكرسي بفرح مكابر.. يضحك أحدهم على سترتك العنابية، ويضحك آخر على وجهك العنابي، وتضحك أنت من العشاء المُعد من بعض أجزاء لحم الضأن الذى لم تتوقعه في مدينة يعاف أهلها تلك الأجزاء، واللحم المشوي بطريقة أقرب إلى الحريق.. ويضحك آخركم ساخرًا من المشهد المرتب بطريقة تشبه الموت الدرامى.. تتذكر (لاحقا) فتبكي فى صمت!!
– هذا العشاء يذكرني بأيام القحط، (أحدهم قال).. ضحك الجميع.
نظرت إليهم وأنت تخفي ابتسامتك بخبث بين ثناياك.. كانت أسنانهم سوداء، وكان الليل جميلا مضاءً بالنيون.. وكانت أسنانهم ليلًا بلا نيون.. وصوت أغنية تستهويك تتسرب من مكبرات الصوت الموضوعة بأناقة فائقة على زوايا (الكازا) ورائحة الشواء تفوح كثيفة، لكنها لا تعطر فضاء المكان.
يرن الجوال في جيبك.. تنظر إلى شاشته بحياء لتتأكد من الرقم المتصل، فتسري في أوصالك تلك الرعشة.. لكنك لم تضحك هذه المرة، لم تضحك.
الظل .. صورة زنكوغرافية
لاستراحة المحارب
جمال هُمَّد
في الزمن الباهت، عندما وضع رجليه على رأس البرزخ المدبب، الفاصل بين عالمين، رغم وحدتهما في تضاد مبهم عند اقترابه من وضوح الرؤية والرؤى، وبيده المرتجفة الممتدة لقبض الراهن: دوت الصفعة.. أتى الدوي مكتوما.. قادما من الجو.. اقترب بخفةِ وسرعةِ (المُغِيرات صبحا) وهوت كانفجار.. نصل حاد انشك داخل جمجمته.. الآن الجسد أصبح خفيفا مرنا. صفا الجو كصباح خريفي.. شفافية عذبة سربلت روحه.. الأرض تميد تحت رجليه، يفقد توازنه.. تدفق سائل لزج من هامته، غشيت عيناه وغام كل شيء.. أذرع كثيرة امتدت إليه.. تتنازعه كادت تمزقه، مد يده يمسح اللزوجة المالحة المتسربة لفمه، فلم يقوَ.. القصف يتباعد، أصوات آليات ومجنزرات يتردد صداها في منعرجات جبال (بارنتو)(8).
صور مشوشة تتداخل.. تتباعد.. تتقارب.. تتضح معالمها.
(حدث ذلك منذ زمن بعيد… لا..إنه قريب جدا..)
البيانات العسكرية تتوالي.. فترات إرسال إذاعة صوت الجماهير تزداد
إنه شهر مايو… يقتربون من العاصمة.. فرار جيش العدو عبر البحر إلى جيبوتي. الأناشيد تتقد حماسة.. إنهم ينتظرون عودة الأمين العام من لندن ليعلن كل شيء بنفسه…
الإصابة يا إلهي أين هي؟!) مسح رأسه لا أثر!!!.
(إذا.. أنا.. لماذا هذا الاحتفال من أين أتى (أرعدوم)؟
أرعدوم يرسل مفرداته التي شوهتها الخطابة عبر مكبر الصوت فوق رؤوس الجميع. (أرعدوم الـ… أرعدوم أصبح قائدا…. ها ها)!!.
ودوت الصفعة.. انتزعت المدية الصدئة التي انشكت ذات يوم في جمجمته، فاشتعل الذهن
بصور شتى أتت متوالية واضحة حافلة بتفاصيل يومية.. كانت تأتي من جب سحيق..
من ذاكرة أكد الطبيب أنها تهشمت وفقدت خاصية تنظيم وترتيب الزمن والحدث.
(أرعدوم…دوووم…م م م).
كان يرنو إلى الطريق المتعرج الصاعد إلى الجبال في طريقه إلى المدينة (بارنتو)، المدى رصاصي ساكن، والهواء الجبلي ثقيل، الخوف الأبدي الذي يسبق الاشتباك يسيطر عليه، أعصابه متوترة وإبهامه خلف الزناد يحس به ضخما وصلبا. ودوي الانفجار، صحو استثنائي سيطر علي ذهنه وشفافية عذبة تملكته. بغتة خرجت كتلة دامية من وسط هامته وغام كل شيء. الصورة جرفت صور الحاضر.. أرعدوم ببزته الرسمية يتصدر الاحتفال، اقترب أكثر، دعك عينيه بكلتا يديه.. أفسَحُوا له ممرا ضيقا في وسطهم، اقترب اكثر، انشك ظله بين الأرجل، طبل قرع بصوت نشاز.. تحفزت حواسه… انشدت.. تراجع.. لم يتراجع ظله.. تقدمت ريح هوجاء عصفت برأسه. تفكك ذهنه المتكلس..دخان حار مشبع ببارود قديم يخرج من فَوْدَيْه. (أرعدوم.. أرعدوم….دووووم……م م م).
صرخ.. وانقسمت الأبصار بين أرعدوم ببزته الرسمية وبين الرجل (صاحب الظل) الذي أرعد وأزبد بنعوت واضحة وقاطعة، وسري الاكتشاف لماهية الرجل الذي عاش بينهم كسريان الحياة في الأجساد الواقفة علي مضض تحت لهيب شمس الضحي.
وحسم الأمر… مفرزة من الجنود بملابسهم الجديدة انتزعت الرجل الذي لم يقاوم إلى حيث سيارة ذات ماركة TATA تلتمع تحت أشعة الشمس الصباحية. تكوم تحت الأحذية ذات الأعناق الطويلة واللامعة وتابع وقائع المهرجان الذي يتباعد، وهو يتأمل لمعان الأحذية الجديدة، وصفير حاد تحدثه الأحجار الصغيرة تحت وطاة الدواليب المسرعة في الطريق الترابي الصاعد.
أما المدينة فتحصنت خلف ذاكرتها، وسردت الوقائع الآتية عن حياة الرجل الذي تجذر في حياتها:
عندما ظهر لأول مرة في المدينة، استشعر الناس الخطر وأحسوا بضيق ينتابهم. وتصرفات بلهاء تصدر عنهم. نزق شديد يحكم علاقتهم مع الأشياء، وعداء أخرق يعكر صفو حياتهم. ذلك شأنهم مع كل وافد، ينكبون علي ملفاتهم، يعيدون حساباتهم، سيراجعون عقود الشراء، والمستأجرون يعودون لفواتير التوريد للبلدية، اما السماسرة فيبحثون عن المداخل المناسبة للتعرف علي القادم الجديد، عسى أن يفوزوا بصفقة رابحة.
لم يهدأ كل ذلك القلق الذي يخفونه عن عيون بعضهم والذي ينسل من بين أيديهم، أو من تلك الاستفسارات الماكرة أو الإجابات الغامضة. لم يهدأ كل ذلك إلا عندما عرف الرجل وتناقلت الألسن اسمه الذي لم يعرف من أطلقه عليه (صاحب الظل) ظله يتابعه، أم هو يتابع ظله لا فرق، ظل يمتد متطاولا أمامه وخلفه. ظل بكامل تقاطيعه يمتد بيسر وسهولة يتسلق الحيطان، يتمدد في الطرقات، في منعرجات الخيران الصغيرة، في خرائب الدور المهجورة.. ظل مميزا، مستفزا ونابضا بالحياة، ظل يرتدي بزة عسكرية عند الكتف منها يبرز أخمص الكلاشنكوف.
يلوب الرجل أنحاء المدينة، يلاحقه ظله بإلحاح، فيزداد توتره وتتسارع حركة فكيه. ريح صرصر تمور في داخله.. تصل حلقه فتخرج كلهيب يشوي العينين الصغيرتين فتزدادان اتقادا.
عند انتصاف النهار يلوذ الرجل بحجر الرحى الذي ينام أمام المبني العتيق للطاحونة ذات محرك الديزل، يجلس ساهما وقد تصلبت عضلات الوجه، وركزت العينان باتجاه اللاشيء بالتياع حزين. يختفي الظل إلي حين، فتتوقف هزات الرأس التي تصاحب حركة الفكين، يسرع إليه عامل المقهى الأصم، يربت علي كتفيه وهو يمد إليه (الجبنة)(9) بسعادة بالغة، فتنبسط أسارير الوجه المتعب.. تسري بين الاثنين حياة مرحة، في هذه الساعة التي تموت فيها الظلال ويهجر الناس الدروب. ومع هدير ماكينة الطاحونة يستقبل شوارع المدينة لينبعث الظل كعنقاء.. ويظل يلوب أنحاء المدينة التي اشتهرت بمعابثات ومداعبات مخابيلها، إلى أن جاء الاحتفال ليعكر كل ذلك.
توقفت السيارة بصرير حاد أمام المبني العتيق للأمن العام، ترجلت الأحذية ذات الأعناق الطويلة واللامعة.. انتزعته أياد كثيرة… صداع حاد يعصف برأسه دون أن يشل تفكيره.. ألم يمتد من الرقبة إلى المتن ليهبط الى بقية أنحاء الجسم. بحث عن ظله متلفتا، فتحسس أحدهم مكمن مسدسه. ابتسم في وجه العسكري..
فتمتم الأخير وأشاح بوجه حزين.. دار بعينيه يبحث عن ظله اللعين فألفاه هرما.. هزيلا مجردا من بزته العسكرية.
الهوامش
1 – إسفين: الجمع أسافين، خشبة أو حديدة على شكلِ وَتدٍ غليظ الرأس تستعمل لفلقِ الخشب.
2 – الدُفلى: زهر نباتي من فصيلة الدّفْلِيات.
3 – أرخبيلات: إشارة إلى أرخبيل – الغولاغ، معسكرات السخّرة التي كشفت فظاعة المعتقلات السوفيتية.
4 – ساوا: مدينة تبعد 315 كلم عن العاصمة الإرترية أسمرا ومعقل لمعسكر الخدمة العسكرية الإجبارية.
5 – أقلقلوت: اسم يُطلق على الخدمة الوطنية الإلزامية.
6 – طبرق: مدينة ليبية تبعد عن طرابلس بمسافة تقدر بِـ 1500 كلم.
7 – أجدابيا: مدينة تقع شرق ليبيا يتمركز فيها سجن أجدابيا الجنائي.
8 – بارنتو : مدينة إستراتيجية في غرب إرتريا.
9 – الجبنة : إناء من الفخار أوالصفيح تصنع فيه القهوة.