عدي جوني
في تعريفه لمفهوم التاريخ يرى هيغل أن التاريخ عمليّة تراكمية تستند شرطيًا على مفهوم الوعي والإدراك؛ أي إن الفيلسوف الألماني وضع فكرة التاريخ في صلب العقل البشري. ربما يكون هذا التعريف مشوبًا بنوع من الغموض إن لم يؤخذ في إطار الفلسفة الظاهراتية (phenomenology) التي طبعت الفكر الألماني منذ كانط وهوسرل وصولًا إلى ديكارت الفرنسي، ومن ثم الظاهراتية الإنكليزية ممثلة براسل وهيوم. ومن باب التفسير، اتفق الظاهراتيون، مع بعض الفروق التفصيلية، على أن التاريخ هو الحدث الظاهر للعيان، للوعي الإنساني وقدرته على التحليل، أي التاريخ المادي الوضعي ليبتعدوا بذلك عن التفسير الغيبي الديني وأسطرة الحدث. وإن دل هذا على شيء، فإنما يدل على وضع فكرة التاريخ (وليس الزمن) في صميم العمليات الإدراكية للعقل البشري (الذاكرة، والتجربة المعاشة، والاستشراف). وتكفي نظرة بسيطة على هذه المعادلة للقول إن هيغل وضع الزمن بتقسيماته الثلاث (الماضي والحاضر والمستقبل) مقابل التاريخ، لكنه وفي الوقت ذاته فصل التاريخ عن فكرة الزمن (Time) وربطها بالزمانية أو الظرف الزماني (Temporality) ومن يعرف اللغة الإنكليزية جيدًا يدرك أن أصل الكلمة لاتيني وتعني “ظرفي مؤقت، عابر”. ما كان يقصده هيغل والظاهراتيون عمومًا، ومن بعده الفرنسي بول ريكور في كتابه الزمن والسرد (Time and Narrative) الذي تُرجم إلى العربية، أن الزمن تعاقب طبيعيّ لدورتي الليل والنهار، أما التاريخ فهو عملية ديالكتيكية بين الفعل ورد الفعل، فقد “بدأ التاريخ منذ أن هبط آدم من الجنة وتناسل”، أي منذ أن بدأ الفعل ورد الفعل، في حين كانت الأرض قبله محكومة بالزمن الطبيعي المجرد التي تسيّره قوانين المادة، وبالمعنى الدينيّ القدرة الإلهية.
إذن نحن محكومون بالوعي الإدراكي كشرط معرفي مسبق لفهم وقراءة التاريخ، الأمر الذي يضع التاريخ ضمن سياق الزمن في موقع متساوٍ مع فكرة السرد الروائي الذي يعود في جذوره الأولى لفكرة (الحكاية؛ والقصة: story) ولعل كلمة تاريخ باللغة الإنكليزية تشي بهذا المدلول لأنها أصلا تعود في جذرها اللغوي إلى كلمة (στορία) (historía) الإغريقية وتعني الاستفسار والكشف، والسرد والقص (والعبرة). ويبدو جليًّا للعيان هنا هذا التقاطع بين الأدب والتاريخ في فكرة السرد (التي استند عليها الإعلام) كتقنية لاستذكار واستكشاف التاريخ. هنا يحضرني كتاب بول ريكور (الزمن والسرد) عندما أشار إلى العلاقة بين السرد التاريخي والخيال الهرمنوطيقي (التأويلي) في تأرجحه بين فلسفة الشك عند نيتشه وماركس مثلا وبين قطعيّة الدليل المادي عند الوضعيين من أمثال مدرسة فرانكفورت (بنجامين فالتر، ماركوزه، وهابرماز). بالنسبة لريكور، يغامر في كتابه (الزمن والسرد) بإعادة التاريخ إلى المفهوم الأرسطي في التعارض بين الأدب والتاريخ من باب الحقيقة المستحيلة والحقيقة الممكنة. ولعل هذه الفكرة رغم غموضها تعطي فكرة عن اللغة المتعالية للأدب (المجاز)، واللغة الواقعية التقريرية للتأريخ استنادا إلى قول أرسطو إن التاريخ أقرب إلى ما حدث واقعًا من الأدب الذي قد يستعيد التاريخ كما يجب أن يكون في إطار الحكم الجمالي والأخلاقي. هذا لا يعني أن المؤرخين الحداثيين أسقطوا الحكم الأخلاقي، لكنهم اشترطوا جدواه بقرينة القطعية الوضعية للحدث (التوثيق)، أي إنهم لم يبتعدوا كثيرًا عن المفهوم الأرسطي باعتبار الشعر (ويقصد الأدب عموما) يقدم نموذجا بعيدًا عن الحقيقة، رغم أن الأدب كان واحدًا من الأدوات التي اعتبرها بعض المؤرخين كوثيقة تاريخية أو تعكس ظرفًا تاريخيًا (مثل حصار طروادة في ملحمة هوميروس) وإن كانت هذه الملحمة الشعرية لا تقدم وصفا تاريخيًا بل قراءة جمالية بلاغية للتاريخ.
عطفًا على ما سبق، أستعير من كتاب إم إتش كار “ما هو التاريخ؟” الفكرة القائلة بأن “التاريخ هو الماضي الذي يجري في عقول الناس” أي وبلغة هيغل وهوسرل، وحتى ريكور، استحضار الماضي إلى واقع التجربة الراهنة من باب (الخيال الهرمنوطيقي) أي التأويلي بغض النظر عن الأدوات المستخدمة في هذا التأويل. قد نجد فارقًا مهمًّا عند ريكور في منحاه التأويلي لإشكالية توظيف التاريخ في إنشاء المتخيّل الاجتماعي والسياسي الطوباوي الذي يصل إلى حدّ التقديس والأسطرة لخلق مثال نقي متجانس لهوية المجتمع والفرد، مثلما نجد في التفسيرات التلمودية عن الشعب المختار، وتأليه الفرد (ستالين، بونابرت)، وهنا تتدخل الأيديولوجيا والتراث في موضعة التاريخ في إطار المطلق المثالي (المجتمع الأفلاطوني النقي)، (بالمناسبة عندما كنا صغارًا، كنا نرى الفدائي الفلسطيني تلك الشخصية المثالية المقدسة التي لا تخطئ، بنفس الطريقة التي يقدم فيها الإعلام العربي في تصوير الحكام والزعامات).
حسناً أين تكمن إذن إشكالية المنهجية في قراءة التاريخ؟
للإجابة على هذا السؤال، يتعيّن أولا العودة إلى التعريف الظاهراتي للتاريخ على أنه رد فعل محكوم بالظرفية الزمنية، أو كما يقول ريكور وهايدغر(فيلسوف ألماني) التزمين (TEMPORALIZATION)، في إشارة إلى أن الحدث التاريخي كواقعة جرت وانتهت (بالتفسير المادي للفعل الماضي قياسًا إلى الحاضر الراهن)، منفصل عن الزمن لأن الزمن بمعناه الفلسفي الشمولي لا يتوقف في واقعة، ولا يقتصر على دورة طبيعية، بل إن الفلسفة الماديّة ذهبت إلى القول إن الزمن يجري (بالنسبة للأرض) عكسًا من الأمام إلى الوراء. فكل ما لم يحدث بعد هو غيبٌ مستقبلي، وكل ما حدث واقعٌ انقضى، أما الحاضر فهو فترة معلقة دائمًا كنقطة فاصلة (بحسب ريكور) لا زمن لها بين الاثنين. وفي إطار هذه القراءة، يمكن القول إن تأريخ حدثٍ ما بعام أو شهر أو فصل هو مصادفة طبيعية نشأت من دوران الأرض حول نفسها وحول الشمس (تعاقب الليل والنهار)، وعلى المنوال، يعتبر التأريخ (لا التاريخ) اختزالًا توثيقيًا بالمعنى الكمي للواقعة التاريخية في إطارها الظرفي وهو ما يستخدم في الإعلام بصيغة الإخبار (سقطت طائرة على متنها ثلاثة وخمسون راكبًا أمس الأول في المحيط الهادئ قرب جزيرة غوام). هذه اللغة وهي تجسيد عملي لمفهوم التأريخ تتبع مفهوم اللغة (الفعل والزمان والمكان)، وهذا يقودنا إلى تعريف الظاهراتيين للتأريخ بأنه (تدوين لواقعة في إطار العلاقة بين الزمان والمكان)، وهي نفس الفكرة التي اعتمدها الناقد الروسي باختين في اصطلاح تعبير “الزمكانية” في حديثه عن القص الروائي (chronotope). أما التاريخ، فهو أشمل وأوسع من فكرة التأريخ وصولًا إلى إعادة الزمنية التاريخية إلى تجربة إدراكية مُعاشة وكأنها تُستخرج من إطار الكم التزميني نحو خيال هرمنوطيقي لا يقف عند حدود الماضي بل ويربطه باستشراف المستقبل، وهنا تحديدًا نلحظ ما يسميه بول ريكور بهرمنوطيقيا الشك، على أساس أنه من الاستحالة بمكان الارتكان على قطعية الدليل في تفسير التاريخ، وكأني أراه يعيد استنساخ مقولة أرسطو عن الحقيقة الممكنة (الأدب) والحقيقة المستحيلة (التاريخ). ومن خلال تجربتي الشخصية في تعليم مادة تاريخ الأدب لطلاب الأدب الإنكليزي في الجامعة، وجدت نفسي اصطدم بإشكالية التأريخ والتاريخ. إذ اكتشفت خطأ تسمية المنهاج بهذه التسمية لأنه وبكل بساطة لا يوجد شيء اسمه تاريخ أدب. نعم هناك تأريخ للأعمال الأدبية وكُتَّابِها بالمعنى الزمني (مثل القول إن مسرحية “العاصفة” هي آخر مسرحية كتبها شكسبير المتوفى عام 1616). أما الأدب كعمل إبداعي، فهو يتجاوز التأريخ ليكون جزءا ومحركًا للتطور التاريخي للمجتمع البشري. مثلما هو الحال مع روايات نجيب محفوظ التي يمكن استحضارها بفعل القراءة (بحسب تعبير الناقد الألماني ولفغانغ آيزِرْ صاحب نظرية التلقي) إلى تجربة إدراكية معاشة راهنًا دون أن تفقدها تاريخيتها الماضوية، كما فعل كتاب “تل الزعتر”، لكن شتان ما بين المقاربتين، فنجيب محفوظ قدم الحقيقة الممكنة التي سيقبلها الجميع، أما الكتاب فيقدم الواقعة كحقيقة يستحيل أن يصدقها الجميع.
من هذا التمهيد النظري الممل، أرى أن الكتاب قيّد نفسه في التأريخ وهو يحاول أن يستعيد التاريخ المسكوت عنه، أو على الأقل استعادة تفاصيل تجاهلها الجميع، لسبب ما غالبًا ما يتبع خطيئة توظيف التاريخ، وإعادة قراءة الحدث من زاوية أخرى قد توضح معالم الصورة، أي وبعبارة أخرى، إعادة تركيب الصورة لكي تبدو أكثر وضوحًا وإقناعا وإنصافًا كما يشير ريكور إلى العملية الإبداعية “للتجديد الدلالي” (Semantic Innovation) وهذا تحديدًا ما كان يقصده ريكور عندما يقول في كتابه “الزمان والسرد” (Time and Narrative) :
إن فعل التشكيل أو الصياغة (configuring act) للبوطيقا الذي يقوم به الخيال الإبداعي في النص، هو ما يفترض فعل ما قبل التشكيل (prefiguring act) للتجربة الزمنية اليومية، ويبلغ ذروته في فعل إعادة التشكيل (refiguring act) الذي تعيدنا بمقتضاه النصوصُ السرديةُ إلى عالم الفعل. فعندما تنتهي القصة، نعاود دخول عوالم حياتنا بشكل مغاير، وإن لم يكن ذلك ملحوظًا. هذا الاستدعاء الأخلاقي الضروري لرحلة العودة من السرد إلى الفعل يمثل الفكرة المركزية1.
استنادا إلى التأسيس النظري لمفهوم التاريخ والتقاطع الزمني مع فكرة التأريخ، يستدعي الكتاب إشكالية المنهجية لا من جهة البحث الاستقصائي للواقعة بالتفسير الأكاديمي، أو حتى يمكن الذهاب مع فكرة الوضعية التجريبية للتحليل المادي التاريخي التي نادى بها أنصار مدرسة فرانكفورت تيمّنًا بالجدلية الماديّة عند الماركسيين التي قاربت التاريخ مقاربة الاستقصاء الجنائي القانوني القائم على فكرة القرينة التاريخية (المخطوطات، الوثائق، الشهادات) كما جاء في الكتاب، بل من جهة التحليل التاريخي الذي كان إلى حد ما موضوعيا ودقيقًا. لذلك إن كان الكتاب يتبع نهج التحليل الاستقرائي للوثيقة التاريخية، وهو بالفعل أقرب إليه، فما هي أدوات هذه المقاربة. صحيح أن المقدمة أشارت إلى هذه الأدوات “شهادات العيان، المراجع، الإعلام والمنشورات والتصريحات الإعلامية”، غير أن النص لم يربط هذه الأدوات بخلاصاتها الاستقرائية، أي لم يوضح الطريقة التي وُظفت من أجل الوصول إلى الاستنتاجات التي ورد ذكرها في الخلاصة، علما بأني وجدت الخلاصة -كما وصلتني- لا تتفق مع أدوات البحث، بل ويمكنني القول إنها لم تتضمن ما يسميه ريكور إعادة التشكيل الذي يربط بين الواقعة وامتداداتها الاستشرافية لما بعد أحداث تل الزعتر، وسأعود إلى الخلاصة في موقع لاحق من هذه الورقة.
لا شك أن الكتاب إشكالي ليس من جهة تناوله معلومات جديدة وحسب ، بل أيضا من جهة إعادة قراءة الحدث من زاوية ما يسميه كارني “هرمنوطيقا الشك”ـ ونزع الأسطورة التقديسية ليس عن الخطاب السياسي الذي كان سائدًا حينذاك وحسب، بل حتى عن الرمزية البطولية المطلقة المثالية للمقاتل والقيادات. وهذا تحديدا يستدعيني لاستحضار مقولة ريتشارد كارني في معرض رده على “نقد أيديولوجيا الوهم التاريخي وفكرة كبش الفداء (escapegoat) عند رينيه جيرارد كما وردت في كتاب هذا الأخير (The Escapegoat) عام 1982، بقوله متسائلًا: ” هل يجب أن يكون النقد نفسه معفيا من النقد؟” ويُعزى نقد النقد إلى طبيعة وأدوات المقاربة النقدية للنص النقدي الأول، وهذا يعيدنا إلى مربع المنهجية الأول، وإن كنت بالتأكيد لا أقطع يقينًا بصوابية مثالية لأية مقاربة نقدية، وقد يكون هذا التشكيك في صوابية النقد مقبولا في الأدب أو الفلسفةـ لكن عندما يتعلق الأمر بإعادة التاريخ، أو تحليل وقائع مزلزلة مثل مجزرة تل الزعتر في إطار كشف المسكوت عنه، لا شك أن الأمر سينظر إليه بعين الاستهجان، وسأتطرق هنا من باب الصياغة الاستفهامية عن موضوعين أساسيين في ما يتعلق بتاريخ تل الزعتر وهما إنشاء المخيم في وسط مسيحي، وطريقة تعاطي القيادات الفلسطينية مع كارثة المخيم ومفرزاتها على القضية الفلسطينيةـ أي تبعا لقانون الفعل ورد الفعل.
إنشاء المخيم:
ذُكِر في بداية الكتاب ظروف إنشاء المخيم في أعقاب نكبة الـ48 وتدفق موجات اللاجئين إلى لبنان من بوابة الجنوب، وأُشير بشكل ذكي إلى التركيبة الاجتماعية التي ميزت الدفعات الأولى من اللاجئين وما تلاها مع التنويه بالظروف المعيشية القاسية، والعقبات التي اعترضت سكّان المخيّم ودور الحكومة اللبنانية ومن ثم المنظمات الدولية. في هذا التوصيف الزمكاني لبداية تاريخ المخيم (مثل هبوط آدم من الجنة، وإعمار الأرض)، يؤسس الكتاب لبذرة الحدث الجينية الأولى التي يسميها ريكور التشكيل، أو ما يشير إليها عادة أنصار الظاهرة التاريخية بالفعل الأول أو مؤسسو المذهب المدرسي بالسبب المباشر الأولي، وكلها بالمجمل تعبر بشكل غير مباشر عن فكرة الزمكانية. بيد أن ما يجعل التوصيف التاريخي أكثر تعقيدا أنه لا يعتمد العموميّات الاختزالية، رغم أهميتها، مرتكزًا أساسيًا، بل على العكس تمامًا لجهة التزامه بالتفاصيل التي تشكل اللوحة التاريخية انطلاقًا من مبدأ المنظور الثلاثي الأبعاد “الزمان، المكان، الفعل”. هذه التفاصيل التي تشكل الواقعة التاريخية هي من تؤسس القاعدة التأويلية للحدث (ريكور: إعادة التشكيل) وصولًا إلى ذروة الحبكة بالمعنى السردي (حصار المخيم، والمجزرة).
كانت المنطقة التي أقيم فيها المعسكر منطقة ذات أغلبية مسيحية في دولة تتبع نظام المحاصصة الطائفية، تكون فيه الهوية تمييزًا يحدد الواجبات والحقوق في إطار توازن هش أصلًا بين مكونات المجتمع اللبناني المحكوم أصلًا بعدة عوامل شكلت أسس التناقضات التناحرية التي قامت منذ البداية على الإقطاعية السياسية التي رسختها الدولة العثمانية، والنظام الرأسمالي المنفعي الذي رسم العلاقة بين مكونات المجتمع لا من باب العقد الاجتماعي (جان جاك روسو)، وإنما من باب التراتبية الطبقية المحكومة بالطائفة السياسية وحكم العائلات، وامتيازات السلطة. أنا لا أنكر أنه تمّ التنويه في الكتاب إلى هذه الظروف وطبيعتها وتفصيلاتها التي شكلت الحلقة التأسيسية الأولى، لكن برأيي المتواضع، غفل الكاتب أو ربما فضل ألا يدخل في التفاصيل التي من شأنها أن تحرّف الكتاب عن مساره المعد له بحسب رؤيته البحثية له كما تخيلها مسبقًا.
ما أقصده بالتأسيس الأوليّ للخيال التأويلي، كما يراه ريكور في كتابه (الزمن والسرد)، هو تخيل المشهد البصري للواقعة في “زمكانيتها” وتحديد مساحة التأثير للفعل ورد الفعل. وهنا أسجل للكاتب هذا التأسيس؛ لكنه لم يستكمل بالتفاصيل التي ساهمت في أن يكون مخيم تل الزعتر فالقًا انهداميًا في الوجدان الفلسطيني وحيثية جوهرية في ملابسات القضية برمتها وتحديدًا الحرب اللبنانية وكواليس السياسات العربية والأمريكية والإسرائيلية.
وأورد هنا أمثلة على هذا التأسيس الزمكاني في إطار الفعل ورد الفعل كشاهد على رسم خلفية المشهد التأويلي.
لبنان بتعقيداته السياسية الطائفية:
“….وارتبط سلوك الزعماء الموارنة في تلك الحقبة، بتوصلهم إلى قناعة، لخصها القيادي الكتائبي جوزيف أبو خليل بأمرين: أولهما أن الدولة التي يعتبرها المسيحيون دولتهم باتت في خطر، وأنهم معنيون بالدفاع عنها أكثر من غيرهم لارتباطهم بها بـعلاقة مصير”. والثاني بأن نصف اللبنانيين -أي المسلمين وأحزاب اليسار- باتوا يقفون بمواجهة الدولة ونظامها السياسي، واستقبلوا الثورة الفلسطينية كحليف لهم ضد هذه الدولة وهذا النظام”. (ص 42)
هذا التفصيل يعتبر التشكيل الأول في صياغة التأويل التأسيس للواقعة في استقراء مفاعيل تلاقي عوامل التأثر والتأثير من جهة الانتهازية السياسية لتوظيف الفلسطينيين في صراع داخلي انطلاقًا من وثيقة عام 1943، أي قبل النكبة، التي أراها في منظور التشكيل الخطوة الأولى نحو العلاقة المتبادلة بين الفعل ورد الفعل “تفسير هيغل” وصولا إلى ذروة الصراع في السرد التاريخي. هذه الوثيقة التي رسمت ” شخصية لبنان على أنه ذو وجه عربي، يستسيغ الخير النافع من حضارة الغرب”. في هذا السطر كلمتان مفتاحيتان للتخيل الهرمنوطيقي وصناعة كبش الفداء وهما “وجه عربي” و”الخير النافع من الغرب”. باستخدام فكرة الخيال التأويلي لإعادة تشكيل الواقعة سرديًا، وضمن إطار الخصوصية اللبنانية التي أقامت دولتها بمساعدة الاستعمار الغربي وفكرة حماية المسيحيين (ليس كل المسيحيين، بل المسيحيين الغربيين) من المحيط الإسلامي “شيطنة الآخر”، تعبر أولى هاتين الكلمتين “وجه عربي” أي “إسلامي” عن الأكثرية العددية، والثانية “حضارة الغرب” تشير إلى الثقافة الغربية المسيحية ونظامها الرأسمالي المفتوح “المضاد للشيوعية التي كانت يومها “العدو الأول للغرب”، أي توفيق شكلي بين متناقضين لكنه في الوقت نفسه يجتمع مع فكرة هيمنة الإقطاع السياسي والاقتصادي على تركيبة الدولة في إطار الهوية الطائفية التي يمكن التعبير عنها “في إطار الهوية الاجتماعية اللبنانية “الاقتصاد السياسي الذي يستند على الطائفة التي تنتمي إليها البرجوازية الوطنية”، والدليل ورد في الكتاب أن جنبلاط كان يدعو إلى إصلاح النظام اللبناني بما يخدم جميع مكونات المجتمع، لكن رأس المال كان وما يزال العصب الأساس في تشكيل الدول على المقاس الغربي. فجنبلاط نفسه سليل عائلة برجوازية تمتلك حصة في السوق الرأسمالية، ولعل من أبرز الأسباب العميقة التي أدت إلى حروب لبنان الطائفية بدءا من 1886 -إن لم تخني الذاكرة- هو الصراع على مصالح الطبقات المالكة لأدوات الإنتاج.
هذا يقودنا إلى تفصيل آخر في تشكيل الواقعة من زاويتها الاقتصادية كما ورد في الكتاب:
“…..أما الذين لجأوا إلى تل الزعتر والمخيمات الأخرى، فكانت غالبيتهم الساحقة من الفلاحين والعمال غير المهرة، وممن يصنفون ضمن الفئات الدنيا من الطبقة الوسطى حسب التراتبية الاجتماعية والاقتصادية. وكانت نسبة الفلسطينيين من سكان القرى في تل الزعتر توازي86.9 % من عدد سكانه مقابل 13.1 % من أصول تنتمي إلى المدن. ثمة سبب إضافي لتفضيل العيش في المخيم. ففي فترة لاحقة تلت إنشاء وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين (أونروا) عام 1950 بات العيش في المخيمات ” مرتبطا أكثر بالاستفادة من خدماتها التعليمية والصحية، إلى جانب الرغبة في التجمع من قبل الأهل والأقارب بعضهم مع بعضهم الآخر” (ص60)
إن النسبة الغالبة من الفقراء ومحدودي الدخل والعمال غير المهرة الذين لجأوا إلى مخيم تل الزعتر كانوا -بحسب منهجية تفسير التاريخ عند إم إتش كار- التجربة المُعاشة في الوعي كحدث راهن يعانون تبعاته فرديًا وجمعيًا، وأشرت إلى ذلك:
اعتاش سكان مخيم تل الزعتر في سنواته الأولى، من العمل في الأراضي الزراعية الواقعة حوله وفي محيطه، والتي تمتد من أنطلياس شمالا حتى جسر الباشا والحازمية جنوبا. واشتغلوا في زراعة الحمضيات والخضراوات. ومع نمو صناعة المفروشات والنسيج والبلاستيك في الخمسينيات والستينيات، وانتشار معاملها في منطقتي المكلس والدكوانة المحيطتين بالمخيم، استقطبت تلك المشاغل سكانه الفلسطينيين. كما استقطبت لبنانيين أتوها من مناطق عرسال بعلبك شرقي البقاع في إطار الهجرة من الريف إلى المدينة، وأقاموا بدورهم في المخيم . علما أن معامل المكلس” مثلت عام 1972 29 % من معامل لبنان و23 % من مجمل الرساميل الموظفة في صناعته”، كما اجتذبت الأعمال اليدوية التي وفرها نمو تجارة الترانزيت والمرفأ، وقطاعا الخدمات والعقارات اللبناني في الستينيات والسبعينيات….” (ص 62)
أي إن الفلسطينيين في تل الزعتر كانوا مضطرين بحكم الظروف إلى البحث عن مصدر رزقهم من أجل البقاء، لكن”…. القانون اللبناني عاملهم كأجانب. ففي نهاية عام 1951 أصدر وزير العمل اللبناني إميل لحود قانونًا يصعب على اللاجئين العمل بدعوى أنهم “يعملون بدون إجازات، وينافسون اليد العاملة اللبنانية” وأتاح لهم القانون منذ ذلك الحين العمل فقط في المؤسسات التي لا يحتاج العمل فيها إلى إجازة، والتي تضم أقل من خمسين عاملا. غير أن ذلك مثل بالمقابل وصفة للاستغلال والفاقة…” (ص63)، الأمر الذي يعني أن قبول الوسط المسيحي بالوجود الفلسطيني في جوارهم لم يكن سوى تعبيرًا عن انتهازية الرأسمال اللبناني في الحصول على يد عاملة رخيصة تُعامل كعبيد أُجراء من دون أية حقوق، وبالتالي تحقيق الأرباح عبر تعديل كفة النفقات لمصلحة الإنتاج (حسب تعبير منظري الاقتصاد الرأسمالي والذي وصفه ماركس في كتابه (رأس المال) بـ”فضل القيمة”، حتى إنّ العديد من المؤسسات اللبنانية كانت تشتكي من أن الفلسطيني يسرق لقمة العيش من اللبنانيين بقبوله بأجر أقل. هذا التفصيل هو من يرسم خطوات شيطنة الفلسطيني “تهديد المصالح” معطوفة على استعلاء الهوية الدينية والاجتماعية، وهنا بات الفلسطيني هو “كبش الفداء” على مذبح تناقض المصالح الاقتصادية والسياسية. وبحسب تعبير رينييه جيرارد: شيطنة الغريب لتحميله جميع عيوب ونواقص الهوية الاجتماعية الخالصة وتناقضاتها الداخلية التي لا يمكن تسويتها إلا بقتل الغريب:
في الفصل المعنون “ما هي الأسطورة؟” في كتابه “كبش الفداء”، يعدد جيرارد أربع سماتٍ أساسيةٍ للسرديات الشفهية والمكتوبة للاضطهاد الجمعي: (1) أزمة ثقافية أو اجتماعية (“تشابهات مُعَمَّمَة”)، (2) جريمة تُعتبر سبب هذه الأزمة، (3) فاعلٌ يوجَّهُ له الاتهام ليس لعلاقته المباشرة بالجريمة، بل لصلته ببعض علامات أو ميزات الضحايا، (4) (des signes victimaires)، عنفٌ غالبًا ما يُمنَحُ صفة القداسة. (من كتاب ريتشارد كارني “بوطيقا الحداثة”).
وكل ما ورد في توصيف جيرارد لمفهوم كبش الفداء ينطبق على الفلسطيني: تناقض الهوية، سبب الأزمة، صلته بجريمة ما، تنميط الشخصية الفلسطينية على أنها متطفلة، ولا ننسى أن السلاح الفلسطيني أسبغ على كبش الفداء صفة “المحتل”، انطلاقًا من رمزية الفلسطيني “المسلم” “أسلمة لبنان”، رغم أن هناك العديد من الفلسطينيين المسيحيين. لكن التعميم كان مقصودا لشيطنة الآخر على يد الطبقات الاقتصادية والسياسية الحاكمة لأنه يهدد مصالحها، أي إن التنافس على الربح وتراكم الثروات هو من حشر الفلسطيني في زاوية الاتهام “عامل اقتصادي” ليصبح المتهم الذي يتم استغلاله في كل شيء حتى في إعادة تشكيل الواقعة التاريخية في إطار التوظيف السياسي من جميع الأطراف من دون استثناء.
هذا التحليل السوسيو-الاقتصادي للحالة الفلسطينية في تل الزعتر تتماشى مع التحليل الوضعي التجريبي ومع منهجية البحث الاستقصائي الميداني التي اتبعتها مدرسة فرانكفورت، على سبيل المثال لا الحصر، عند دراسة معاداة السامية حيث تبين أن هذه الظاهرة لا تقتصر على تجمعات البروتستانت الألمان الريفيين الذي كانوا الرافعة الشعبية للحزب النازي في انتخابات عام 1933 وبروز هتلر، بل تعداها حتى إلى الكاثوليك الألمان الذي كانوا مناهضين للنازيين ويدعمون الحزب الديمقراطي المسيحي. وكان هذا الكشف مفاجئًا لجهة الدعاية الفرنسية أن البروتستانت الألمان معادون للسامية.
على نفس المنوال نرى العينة البحثية تتكرر في الكتاب ولكن ليس من باب الإحصاء، وهذا أمر لا غبار عليه، بل من التحليل الوصفي الذي وضع توصيف تل الزعتر في إطاره الاجتماعي الاقتصادي من باب استغلال اليد العاملة الرخيصة.
تستكمل الصورة في تغذية صورة كبش الفداء -كما ذكرت- عندما أشرت إلى انفراج الوضع الفلسطيني في عهد الرئيس فؤاد شهاب (1958-1964) وتحديدًا في ما يختص “في جوانبه القانونية من وثائق وتسجيل مواليدهم بصورة قانونية، قابلها تشديد للرقابة الأمنية على المخيمات” والتعرض للمضايقات والممنوعات من رجال الشعبة الثانية وهو ما أدى إلى “تنامي مشاعر الخوف والكبت والنقمة، على الدولة اللبنانية، وأجهزتها وممثليها”. يأتي ما سبق في إطار الفعل الأولي الذي لابد وأن يتبع برد فعل حيث “أتت تدابير الأجهزة الأمنية اللبنانية بمردود عكسي”. هنا تحديدًا تتبدى العلاقة المنطقية الرابطة بين تسلسل الأحداث لا بصفتها تأريخًا بل تاريخًا يتدفق في إطار الوعي المعرفي، إذ لا يهم متى وقع ذلك بل إنه جرى وقاد الحالة إلى نوع من تحول الفلسطيني إلى لاجئ ضعيف، إلى مقاتل يرى أن “الطريق إلى القدس يمر من بيروت”:
فقد شكل القمع ذاته حافزًا للشبان وبعض العاملين في الأونروا على الانخراط في التيارات السياسية العاملة في الوسط الفلسطيني، وبينها حركة فتح عند ظهورها أواسط الستينيات،إضافة إلى حركة القوميين العرب وفرعي حزب البعث المواليين للعراق وسوريا التي شكلت نواة للجبهتين الشعبية والديمقراطية، لذا فما إن حدثت انتفاضة المخيمات الفلسطينية لعام 1969، حتى كان نشطاء الخلايا السرية لهذه التشكيلات ينقضون على مركزي الشعبة الثانية والدرك في تل الزعتر، ويستولون عليهما، بعد أن طالت حملة تأديب الفلسطينيين الذين سبق لهم العمل كمخبرين. (ص65)
لو اتبع الكاتب حرفيًا منهجيّة التحليل التجريبي -وإن كان هذا متعذِّرًا بسبب غياب الاستقصاء الإحصائي- لكانت الصورة باتت أوضح لجهة ربط الفعل ورد الفعل بالنسبة لمسألة منقضية تاريخيًا، لكن مفاعيلها بحسب نظرية الدومينو التتابعية كانت، في حينها، ولا تزال برأيي مستمرة لكننا لا نلتفت إليها إلا بعد وقوع الحدث الذي يُعاد استقراؤه تاريخيًا بمقاربة استشرافية شرطية تقوم على معادلة السبب والنتيجة. فالمقطع المقتبس أعلاه يشير بالتحليل الاستقرائي إلى نقاط في غاية الأهمية:
عسكرة المخيّم وخضوعه لتجاذبات التحزب السياسي كما ورد في النص تماما بالإشارة إلى قيام معسكرات التدريب والتسلح وخلخلة التراتبية الهرمية في قلب التكوين الاجتماعي الفلسطيني العشائري نحو (قيادات جديدة تجاوزت القيادات التقليدية كبيرة السن “وهذه فكرة أرى من وجهة نظري أنها في غاية الأهمية لكونها رسمت المسار التصادمي ليس مع الجانب اللبناني وحسب، بل أيضًا في العلاقات الفلسطينية- الفلسطينية والنزوع نحو الشخصيات الكاريزمية ذات الخطاب الحماسي الآسر” وتوفير “العمل المسلح” كعمل مقابل أجر)، وهذا ما دفع بسكان تل الزعتر إلى الوقوع في مطب الخلافات الحزبية وهو ما أشار الكتاب إليه بوضوح بالقول بشأن توقيع اتفاقية القاهرة التي “نظمت العلاقة بين الطرفين في القاهرة في نوفمبر/تشرين الثاني 1969″ و”أخرجت هذه الحركة المخيمات منذ ذلك الحين عن سيطرة الدولة ووضعتها تحت سلطة التنظيمات الفدائية” لتجلى العلاقة بين الزمان والمكان كرابطة سببية مهدت لاستفحال الصراع مدعوما بفكرتي “الهوية النقية الخالصة لدى الجانب المسيحي” و”شيطنة الآخر”.
البعد الاجتماعي/السياسي:
مع اختلال ميزان القوى داخل المخيم لصالح الشباب الثوري وفكرة العمل المسلح، انعكس هذا الأمر سلبًا على أصحاب المهن والعاملين بسبب خشية الجانب اللبناني من استخدام الفلسطيني “المسلح”. هنا أفلت الرابط بين الفعل المادي “العسكرة والتحزب السياسي” ونتائجه “الاقتصادية” وبروز العمل الفدائي كعمل بديل عن العمل المدني كونه يقدم “راتباً شهريا”، لا سيما أن النص أشار في مقطع واضح وصريح إلى ما يدل على هذا التحليل قائلًا: “وقد أقر تقرير رسمي لبناني أثناء تناوله اتفاقية القاهرة بعد 29 عاما من إلغائها، أن بنودها ذات الصلة بالشؤون المدنية، كحق العمل والتنقل، وإنشاء لجان داخل المخيمات” لم تلق الاهتمام” والفلسطيني اللذين وقعاها”. لماذا لم تفسر عدم اهتمام الجانب الفلسطيني وهو المعني الأكثر بهذا التنظيم؟. ألا يمكن القول أن تفسير هذه الحالة ينطبق على ثلاثة عناصر رئيسة:
1 – عدم اكتراث الجانب اللبناني بسبب حرص المؤسسات التجارية على أسر الفلسطيني في لقمة عيشه بأجر محدود لأن قوننة حق العمل تعني مساواته مع اللبناني في الأجر على الأقل.
2 – حرص القيادة الفلسطينية على اجتذاب الخزّان البشري لفصائلها المقاتلة من الشباب داخل المخيم من دون أن أنكر أن الأيديولوجيا وفكرة التحرر كانت ركيزة أساسية في جذب ليس الفلسطينيين فقط؛ بل أيضا وشبانًا من مختلف أنحاء العالم.
3 -هذه العسكرة كانت السبب الذي دفع المخيم -الذي كان محاطًا بوسط مسيحي معادٍ منذ نشأته- كي يكون عرضة للاستهداف.
ما قصدته بهذا الكلام أن الكتاب وقف عند التوصيف ولم يشر إلى العلاقة السببية بين الفعل ورد الفعل، لننتقل بعدها إلى الحكم الأخلاقي فجاءت الصورة سردية بحتة. وهذا لا يعني تبرير ما جرى، بل تأكيد التسلسل المنطقي للأحداث في إطار ما يسميه ريكور إعادة التشكيل كما يجري في مونتاج الأفلام السينمائية، لأن التاريخ يأتي متفرقا وليس بالضرورة متواليا، لكن إعادة قراءته تحتاج إلى “خيال تأويلي” يعيد تشكيل الحدث متراتبًا على مبدأ السبب والنتيجة والفعل ورد الفعل.
هذه العوامل كلها مجتمعة تلاقت “بفعل التراكم التاريخي للأحداث” مع شرخ في البنية الاجتماعية داخل المخيم، وبروز الخلافات الحزبية الداخلية وتعدد الانتماءات الفصائلية التي تبين أنها كانت من الأسباب التي ساهمت في سقوط المخيم، ناهيك عن استخدام الورقة الفلسطينية في الخلافات العربية العربية والمزايدات السياسية الداخلية للأنظمة العربية، لا سيما أن تمويل هذه الفصائل كان يأتي من دول عربية كانت أصلا مختلفة فيما بينها، وجاءت أنظمتها إلى السلطة إما بانقلابات عسكرية “سوريا، مصر، العراق” أو عائلات ملكية ورثت الحكم لم تكن بالأصل ترى في الفلسطيني إلا ستارًا تخفي وراءه عدم استقلالية قرارها السياسي إما بسبب ارتباط مصالحها الشخصية بالغرب، أو هشاشتها وعدم قدرتها على الدفاع عن نفسها.
الخلاصة:
للأسف لم تأت الخلاصة على مستوى العرض الذي تميز به مضمون الكتاب رغم افتقاره لمنهجية واضحة ربما أعزوها إلى أن الكاتب قارب المسألة بأدوات الإعلامي لا الباحث الأكاديمي. ومع تقديري العالي للحيادية المهنية التي تمتع فيها الكتاب بتسجيل الشهادات، والمصداقية التي تحلى بها العرض من دون الانجراف إلى أسطرة الهوية وتقديس الشخصية الفلسطينية، أرى أن غياب منهجية التحليل التجريبي كانت سببًا في غياب التحليل الاستقرائي لخلاصة تل الزعتر التي كان يفترض بها أن تبرز المسكوت عنه ولا تكتفي بالإشارة إليه، وقد يكون هناك أسباب أخرى ربما ارتآها الكاتب عملاً بمبدأ “ويل لكل من يقول كل ما يمكن أن يقال”.
قراءتي للكتاب دفعتني، شخصيًا إلى استخلاص ما يلي:
أولاً: إن القيادة الفلسطينية الموحدة شكلًا بمنظمة التحرير، والمنقسمة مضمونًا إلى مرجعيات مختلفة، كانت تعلم علم اليقين أن المخيم لا يمكن أن يصمد، ومع ذلك قررت القتال حتى سقوط المخيم وحدوث المجزرة، ويكفي على ذلك دليلًا أن الاتفاق مع أمين الجميل لم يعط ضمانات حقيقية لخروج المدنيين، في حين هرب المقاتلون المسلحون عبر الجبال فكانت الحصيلة الأكبر من الضحايا مدنيين من نساء وشيوخ وأطفال، بل حتى إن الكتاب أشار إلى تقاعس بعض المقاتلين عن الدفاع عن المخيم.
ثانيًا: لم تكن القضية الفلسطينية يوما “ولن تكون” إلا قناعًا تتستر من وراءه الأنظمة العربية بتوظيف البعد الإنساني وقدسية فلسطين في الوجدان السياسي والديني لشرعنة وجودها وتبريرًا لبقائها.
ثالثا: العامل الاقتصادي وتحكم رأس المال في صناعة الأيديولوجيا التي تلاقت مع الفكر الغربي القائم مع فكرة الوطن اليهودي “وعد بلفور” وتحالفه مع الرأسمال العلماني الغربي الطامع بمصادر الطاقة مع حلف غير معلن مع أمراء النفط.
رابعا: توظيف الهوية الدينية في خدمة المصلحة الاقتصادية، واعتماد الهوية الدينية مرجعا وجدانيا في الوعي الشعبي لاستخدامه في حماية المصالح للطبقات الحاكمة، ولا أدل على ذلك من أن الدول ذات النسيج متعدد الهويات الدينية والقومية (سوريا، العراق، مصر، لبنان) لطالما كانت عرضة في تاريخها الطويل لهزات عمودية مدمرة تشرخ المجتمع إلى نصفين متضادين، وبالتالي فإن فكرة التعايش كانت ولا تزال الورقة التي تجترها النخبويات العربية الحاكمة في استمرار الحال على ما هو عليه طالما أنه يخدم مصالحها، وتحديدا العائلات البرجوازية المالكة لوسائل الإنتاج، التي تعتمد على فساد إدارة الدولة في تسلطها على المجتمعات وتوجيه سياساتها لما يخدم غاياتها وإن كانت تعني قبول إسرائيل.
بعبارة أخرى، وقفت الخلاصة عند حدود المخيم وآثار الدماء على الطرقات الموصلة إليه وفي الجبال، لكنها لم توسع دائرة الخيال التأويلي، ولا يعني الخيال هنا الشطط والانفلات من ضوابط التحليل المنطقي بقدر ما يعني إعادة تشكيل الوقائع بطريقة تخدم السردية التاريخية من منظور مختلف، ولا أجامل إن قلت بأن الكتاب نجح في أكثر من موقع وتحديدا الشهادات التي أخذتها من فلسطينيين عاديين كانوا هم الضحية الأولى والأخيرة ويتحمل الجميع بلا استثناء مسؤولية ما جرى لهم.
يقتضي التوضيح أن أشير إلى إن هذه القراءة تعود في خلفيتها إلى الأدب وليس إلى الإعلام، لذا تجدني أتكئ على مصطلح السرد لقناعتي أن التاريخ (كتتابع زمني عشوائي للأحداث بدون رابط سببي متوالٍ بطريقة مباشرة) لا يكون تاريخًا إلا من خلال السرد الذي يشكل ويعيد تشكيل الواقعة لخدمة فكرة ما أو هدف مرتجى. وبعبارة أخرى، لا وجود لشيء خارج السرد طالما أننا مخلوقات محكومة بالزمن الذي يصبح تاريخًا أولا من باب التشكيل (الفعل ورد الفعل) وثانيا من خلال إعادة التشكيل (السرد).
الهوامش
1 – من كتاب “بوطيقا الحداثة لريتشارد كارني، وهو من ترجمتي، وسيصدر قريبًا.