….، ثم أوقفتني أولى العتبات وقالت حسبك فلكل مقام معلوم من جاوزه دون حقه فقد هلك..!!
قلت هل لي أن أتبعك على أن تعطيني من كل شيء خبرا..؟؟
قالت إنك لن تستطيع معي صبرا.. ولكن ان اتبعتني فاسألني عن كل ما لم تكن تعرف له ذكرا..!!
وان لي تسعة وتسعين بابا من دخلها فقد عرف ومن تغلقت أمامه فقد جهل، واعلم بأنك كلما سألت تجيء اليك الأجوبة تسعي. فإن بدأت فلا تصمت فتمت…!!
فظللت مكاني واقفا دهرا أو يزيد أفكر بقولها ثم فضت كالنبع الدفاق:
من أنت..؟ أينك..؟؟ فوق أم تحت..؟؟ أم فوق الفوق وتحت التحت..؟؟
أأنت هناك أم هنا..؟ وما هو اأ هنا.. واأ هناك..:؟
أأنا ذاهب اليك.. أم قادم من عندك..؟؟ أم أن المفارقة لم تحصل قط..؟؟
أأنت دليلتي.. أم مضيعتي في المهالك..؟؟
هل الجوى الذي يتلجلج في منك..؟؟
هل الهم الذي يغلفني من فيض احزانك..؟؟
هل الضياء الذي يشع
حولي من شموسك..؟؟
هل الرغبات التي تشعلني من نارك..؟؟ من مر عليك من قبل..؟؟
من سألك.. وماذا أعطيته..؟؟ أأنا ميت أم حي..؟؟
نائم.. أم يقظان..؟؟
أأنا ذاهب نحو الولادة.. أو الموت..؟؟
متى أراك..؟؟ وأين..؟؟ وكيف..؟؟
وكنت كلما سألت سؤالا تنفتح لي الأبواب واحدا واحدا وكل باب يسلمني للآخر.. فدخلت من الباب الأول فاذا خلفه وصيفة جمالها يبهر واذ رأتني قالت: مرحبا بك في فضاءات التكوين…!! ورأيت هناك الجبال والأنهار والبحار والوديان والكواكب والأفلاك محلقة وغير مخلقة في طورها الأول وميزت بينها النور والظلمة والبريق واللهيب والبخار والدخان والغبش واللمعان والاشعاع والاشراق والبصيص والانطفاء والعتمة كلا في درجاته..!
ثم طويت بين يدي المسافات كما تطوى الصحف حتى وصلت مغرب الشمس فوجدتها تفطس في بحيرة حمئة فتبعتها عبر الظلمات حتى طلعت من بحر الضياء ووجدت عندها قوما جبارين ذوي أجنحة يحملونها الى كبد السماء ثم يأتي غيرهم فيجرونها بسلاسل ومقامع وكلاليب نحو المغيب..! وشهدت ولادة الغيم والرعد والبرق والمطر والثلج والبرد والرياح والأعاصير والزوابع…!
ثم دخلت باب الخلق فوجدتهم أطوارا أطوارا.. منهم النطفة أو العلقة أو المضغة.. أو الطفل.. وحتى أرذل العمر من الذكور والاناث ومن شتى الألوان والأجناس، الأبيض والأسود والأحمر والأصفر وما هو مسمر أو مشقر وما دون ذلك وما هو أكثر..!!
ثم اذا أنا في باب الحيوانات والطيور والزواحف والأسماك والحشرات من كل صنف.. ثيران وأسود وفيلة ونمور وثعالب وقردة وذئاب وضباع ودببة ووعول وكنا غر وسنا جب وأيائل وديناصورات وأكباش وزرافات، وسحالي وعظايات وحيات وحرباوات، وضفادع وحيتان واخطبوطات وقروش وانقليس ودلافين وعجول البحر وكلابه وأفراسه،.. وصقور ونسور وشواهين وعصافير.. وعناكب وجراد وقمل ونمل وخنافس وديدان ونحل وزنابير… منها ما يخرج منه البيض أو ما مفقس،.. أو يسفد أوا ما يلد أو ينفق….!
فلما نبئت بأسماء المخلوقات كلها ووعيتها قلت حسبي.. ! فانفتح أمامي باب آخر تقوم عليه وصيفة جمالها يقهر وقالت أهلا بك في باب المتع والملذات وانه لينفتح على سبعين قصرا في كل واحد منها سبعون لونا من ألوان الشهوات منها ما يلمس أو يبصر أو يسمع أو يذاق أو يشم..
واذ ولجت القصر الأول رأيت فيا رجالا ونساء عراة يتباضعون في هيئات ما رأيت مثلها قط، ولمحت إذ مررت قربهم ثغورا مكنونة متهيئة للثم ورقابا شهية واثداء ناضجة وأفخاذا ريانة وأردافا عميمة وكان منهم ومنهن من يرتشف الرضاب أو يتمسح بالبطون…، ونظرت فإذا السراري والاماء والجواري من كل جنس ولون يجربن فنون الباه، والرهز والخاق باق.. واذا سحاقيات وبغايا ومحصنات خبيرات غير مسافحات.. واذا خلعاء ومخانثة ومؤاجرون ومتهتكون وغلمان بمؤخرات معطوبة..!!
قلت حسبي قد خبرت كل هذا وضروبه من الفجور والفحش والفسق والمجون..!! فانفتح أمامي حينها باب متع الأطعمة واذا فيه من كل صنف من الخضار واللحوم والبقول والفاكهة والتوابل والأشربة ولمحت الخمور المعتقة والأنبذة الرائقة والعسل المصفى وزيت الزيتون والهيل والقرفة والزنجبيل والقرنفل والنعناع ومن الثمار الكرز والدراق والتين والعنب والتمر والأجاص والموز… ورأيت ما يعجن من الطبائخ والحلوى عجنا وما يشوي شيا أو ما يتقلى بالسمن أو ما يسلق أو يجفف أو يبخر أو يملح أو يسكر أو يخلل في أبهي الأشكال مما تتمناه الأنفس ويسر الناظرين من تشهده وجده حاضرا أمامه..!!
ثم قلت حسبي مما تذوقت، فانفتح لي باب متع السماع واذا بأصوات من كل الطبقات تتشربها الآذان بالبهجة والحبور للطبول والدفوف والنا يات والأبواق والمزامر والأعواد والقيثارات والربابات والمندولينات ولكل ما ينفخ أو يوتر أو يطرق أو يدق من المعازف أو ما يلحن ويغنى من أصوات البشر..!
ثم خرجت بعد كل ما سمعت ووجدتني في باب الزينة واللباس من كل لون وقياس… من الصوف والقطن والديباج والقصب وريش الطواويس أوشحة وثياب وحلل وأردية ومآزر وشواشي وقلنسوات ورأيت الجواهر والحلي من كل نوع وشكل: أقراط وأطواق وقلائد وأساور وخواتم وخلاخيل من الذهب والفضة مطعمة بالعقيق والياقوت والزمرد والجزع واليشب والزبرجد وعين الهر وحجر الدم والفيروز والعاج واللؤلؤ والماس…
وكان ثمة بسط وزرابي ونمارق وألحفة ومفارش وثيرة من يلامسها لا يرغب المفارقة..!!
ثم دخلت بعدها مقاصير مثيرة مزدحمة بالمتع والملذات نسيت أغلبها.. حتى وصلت أبوابا عظيمة تخبيء خلفها العلوم والحكمة والفلسفة والآداب فيها رفوف لا تنتهي من الكتب والمخطوطات والصحائف من جلود الغزلان والبرديات والألواح والأختام وهي تزخر بعلوم الأولين والآخرين مما ينفع الناس أو يبيدهم..!!
ورأيت علماء الخيمياء منهمكين في التجارب وبين أيديهم القوارير والمخابير والموازين والمنافيخ والأنابيب وقد امتلأت الرفوف والخزائن خلفهم بالمعادن والأحماض والأملاح: وصاص وخارصين وصوان ونحاس ونفط وبلور وقطران وفحم وفخار وجلين وملح وأحجار مغناطيس… وأدوية وسم زعاف..!
وظهر لي ما لا يعد من العلماء والفلاسفة والحكماء والمناطقة والمتكلمين والمؤرخين والفقهاء والجغرافيين والحكائين.. فمنهم من كان يكتب أو يقرأ أو يجادل أو يرسم أو يقيس أو يفصل أو يضع السنن أو يشرع النواميس ومنهم من كان يميز بين شعب العلوم والسحر والأباطيل والأسرار والشطحات والعلامات والأحابيل والزندقات والملل والنحل ولم يكن أحد منهم ينتبه لأحد فلكل شأن يغنيه..!
ومررت بمداخل أخر عجبت لأنها أقيمت للحزن والهم والشروع والحروب والشقاق وكان عددها يزيد على أربعين بابا خلف كل باب أربعون مقصورة قد عرضت فيها ألوان العذاب كالحرق والخرق والخزق والخلع واللسع والكسر والسلخ والسمط والمط والشق والشرم والدق والفقأ والسحل والتفتيت والسحق..!
وبعض المقاصير قد خصصت لأدوات الحرب والقتل هما يذهل فرأيت أكداسا من السيوف والرماح والتروس والنبال والخناجر والفؤوس والدبابيس والدرقات والسكاكين والجنازير والأقواس والحبال والمنجنيقات..!
فكدت أهرب من هول كل ما رأيت واذ بصوت دليلتي يأتيني أن قد أكملت التسعة والتسعين بابا واعطيت من المعارف ما لم يعطه أحد فامسك الآن عن الأسئلة وعد من حيث أتيت واستقر فيما ترغب من الأبواب والطبقات فهي لك خالصة وأنى شئت أقم…!!
قلت لقد أتيتني من كل شيء حكمة مقطرة غير إن لي سؤالا واحدا لا أسألك بعده أبدا..؟
قالت ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا..! ولكن إن سألته فلا تلوهن بعد ذلك أحدا..! فظللت صامتا دهرا أو يزيد أفكر بكلامها حتى ما عدت أطيق السكوت فرحت أصرخ بصوت كالرعد:
– وماذا بعد كل ما رأيت وعرفت… وماذا بعد..؟
فاذا الأبواب كلها قد انفلقت دوني ورأيتني واقفا مكاني زمنا طويلا انتظر ردها اذ جاءني صوت خفي لا أدري من اين أن أنظر خلفك فاستدرت الى الوراء فاذا سور مهيب ليس له اول ولا آخر ولا يحاط بعلوه أو انخفاضه واذا له باب ما رأيت أهمله في كل ما سبق فبهت وقيل لي هو الباب الـ 100 لم يدخله أحد من قبل، وجاءني صوت دليلتي بعد ما قلتني طويلا أن عد الى الأبواب التسعة والتسعين أشرعها لك من جديد ولكن لا تسألني عن أشياء إن تبد لك تضلك..!
وجاءني الصوت الخفي مرة أخرى أنه ما نهتك عن الباب الـ 100 الا تكون سيدها وهي خلفه تنتظر من يقدر على الولوج ولسوف تحوز إن دخلته من الكنوز والمعارف فوق كل ما قد عرفت وتكون من بعد ذلك مخلدا.. فأكثر من الأسئلة حتى ينفتح لك الباب بأسرار ذلك…!
فبقيت أسعى بين الأبواب أحقابا طويلة صامتا حائرا ثم صرت أصرخ بصوت هائل:
تعالي الي… أو قودي خطواتي اليك..!
أين أنت فقد عذبني الانتظار والتخفي..؟
ألم يئن الأوان كي تكشفي لي الحجب فأراك…؟
أنا ظاميء رغم كل ما شربت… جائع رغم كل ما اكلت
عريان رغم كل ما لبست.. تائه رغم كل ما دريت… أريدك أنت أنت فقط وليست ظلالك..
فأينك.. وأيني.. وأين الاين…!
ثم ماذا بعد كل ما رأيت أو لم أر.. وماذا بعد…
م…ا…ذ…ا…ب..ع..د…؟؟؟
فاذا الباب الـ 0 10 قد انفتح لي رويدا رويدا فرحت أركض الى الداخل وقد أكلتني اللهفة… وطار بي براق الشوق فانغلق الباب خلفي ونظرت فاذا أنا في خلاء لا يحد وقد هبطت علي ظلال الخسارة واليتم والخذلان والندم والبوار والهجران والفجيعة… واذا أنا جاهل لا أكاد أفقه شيئا قد انسيت كل ما علمت… فنظرت ورائي كي اعود فلم يكن غير الرمال تجر أذيالها باتجاه الأفق والعماء ينشر جيوشه في الفضاء فجلست مكاني وحيدا الى اليوم أبكي…!
يحيى القيسي (كاتب من الأردن)