صدر كتاب "مدارات العزلة" للكاتب العُماني مبارك العامري عام 1994 لأول مرة، فتناولته الأقلام في عروض صحفية هنا وهناك، اتفقت جميعها على أنه مجموعته من النصوص لا ترقى الى الرواية كنوع أدبي، وفي الوقت نفسه ليست قصصا قصيرة بالمعنى المعروف لهذا المصطلح. وليس هذا الاتفاق في واقع الأمر دليلا على صحة هذا الحكم النقدي، لأنه مبني على رؤية مسبقة تنظر الى المؤلف على أنه شاعر أقحم نفسه في مجال ليس من حقه أن يقتحمه، فكيف يتأتى الشاعر ان يكتب الرواية أو القصة القصيرة ؟! هذا من ناحية أما الكتاب نفسه فيشير إشكالية النوع الأدبي، فنحن أمام نص خارج على إطار الأشكال السردية التقليدية، مما يصعب على الكثيرين تصنيفه، ومن ثم استيعاب قيمه الجمالية. وهو ما حدث مع الذين تناولوا مدارات العزلة.
وتهدف هذه القراءة الى رد الاعتبار لهذا الكتاب، الذي أراه – أي مدارات العزلة – رواية قصيرة تستعين بتقنيات القصة القصيرة والسيرة الذاتية، والشعر، ثمة تداخل لأنواع أدبية متباينة، تشكل في الأخير بنية النصر السردي، وعلينا أولا أن نوضح مفهوم الرواية القصيرة، فهذا المصطلح يعني "ذلك العمل النثري الفني الذي يحقق التوازن الواعي بين الايجاز الدقيق والتوسيع المطلق، وهما العنصران اللذان يسمح بهما فن الرواية القصيرة بشكل واضح. وهو فن يستفيد بأحسن ما في القصة القصيرة والرواية معا من عناصر ومقومات" وهي فوق ذلك – أي الرواية القصيرة – متصلة بطريقة موحية بالتراجيديات القديمة، فيما يخص بساطتها وحتى طولها، ويحدد لها النقاد عدة خصائص تشكل مزيجا من خصائص الرواية والقصة القصيرة، مثل وحدة الانطباع والوصف الموجز وحرية الزمن واللغة الدالة العبرة والفكرة الجادة الثرية وتناول نوعية خاصة من الأبطال.
تندرج – إذن – مدارات العزلة تحت فن الرواية القصيرة، فعلى مستوى الشكل يقسم المؤلف الكتاب الى خمسة فصول، يأخذ كل منها رقما ما وعنوانا في ذات الوقت هي: تخوم الصمت – الشرارة الأولى – انكسار الضوء – عنق الزجاجة – جمر السلالات، ثم تذيل هذه الفصول الخمسة بثلاث لوحات، تأخذ كل لوحة عنوانا خاصا أيضا: الخروج من الشرنقة – اغتيال حلم – احتضار. وواضح أنها جميعا عناوين ذات صياغة شعرية ورمزية تلائم القصة القصيرة أو القصيدة الشعرية وتشكل النصوص الخمسة الأولى بناء روائيا متماسكا، يلعب فيه الراوي وهو أيضا الشخصية الرئيسية دورا مهيمنا في الأحداث، فيختزل من خلال وجهة نظر ذاتية الشخصيات الأخرى والأحداث في رقعة ضيقة هي في الأساس ذاته، رغم تعدد الأماكن الجغرافية في النص.
يأتي الفصل الأول (تخوم الصمت) بمثابة التمهيد للأحداث والصراع، فنتعرف بالكاد على بعض الملامح الداخلية للراوي، البطل، فثمة رجل يصل الى مبنى المطار قبل موعد إقلاع الطائرة بوقت طويل نسبيا، يتأمل كل شيء حوله يكبله الصمت، رغم ضجيج المدينة حوله تلك المدينة التي سئمها، لكن صوتا داخليا يدعوه أن يمزق جدار الصمت، فيستغيث بمقولة الروائي الياباني ياسوناري كاواياما "أما الصوت فلا يمكن أن نلاحقه" ولا نستطيع أن نقبض عليه.. يتعذر الامساك به قبل الزمن، مثل الحياة ذاتها.. وتستدعي الذاكرة الجدات العُمانيات في بعض قرى عُمان وهن يأخذن كتلة الرصاص المنصهر في إناء الماء فيخرج في شكل غريب يشبه الوحش أو الطيور أو البشر، ثم تعلق على صدر الطفل المريض، وذلك لطرد المرض، لأن سبب المرض خوف الطفل من ذلك الكائن الذي تشكلت قطعة الرصاص على هيئته ويبدو لنا أن الراوي باستدعائه هذه الأسطورة يحاول أن يطرد الصمت أو يخرج من مدارات عزلته واغترابه (ذات مرة أحسست بوميض غريب ينبثق من أعماقي وكان صوتا يشبه ذلك الصوت الذي غادرني أن أعود لأعب هواء ناقصا في ردهات الضجيج.. ذلك الصوت كان يحثني على اغلاق أبواب الصمت والوحدة وفتح نوافذ جديدة مشرعة على فضاء مدينة لا تعرف الهدوء) ص 23. الراوية.
في الفصل الثاني (الشرارة الأولى) يحاول الراوي أن يخرج من عزلته فيتم له ذلك فيكون لقاؤه بامرأة يراها لأول مرة أثناء صعوده الى الطائرة، التي يعود بها الى الوطن وهكذا تكون هذه المرأة بمثابة الشرارة التي تشعل نار الصمت في داخله فيخرج عن مدار عزلته "باريس مليئة بنساء رائعات، ملكات جمال حقا، ولكن لا أتذكر أنني شعرت نحو احداهن بأي انجذاب كهذا، ولم تتمكن أية واحدة منهن أن تدخل عالمي وتخوض في دمي مثلما يحدث لي في هذه اللحظات وأنا على وشك الرحيل" الرواية ص 32.
وفي الفصل الثالث "انكسار الضوء" صارت الشرارة ضوءا، فتم التعارف بين الراوي البطل نبراس الغزوي والمرأة الجميلة ذات النكهة الشرقية عروب كانت عائدة في نفس طائرة نبراس الى أرض الوطن، إنها في باريس تدرس الأدب الفرنسي حيث تقوم بإنجاز بحث عن بودلير الشاعر الفرنسي المشهور:
– سأكون مسرورا لو تعرفت على اسمك.
– اسمي عروب، وانت ؟
– نبراس.
"أيها الأسلاف الرابضون في أغوار النفس، آن لي أن أطيح برؤوسكم، وأن أتحرر من سجونكم وأقبيتكم. أن لي أن أنفض الغبار المتراكم، على صدري وأحلق كالعصافير في الفضاء بملء إرادتي" الرواية ص 32. ولكن الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن، إذ ينكسر هذا الضوء في نهاية المطاف، فهروب التي واعدته على الاتصال الهاتفي، واللقاء لم تف بوعدها، طوال ثلاثة أشهر مما اضطر نبراس الى العودة الى باريس مرة أخرى وهناك يبحث عنها دون جدوى، ثم يقع مريضا.
وفي الفصل الرابع (عنق الزجاجة) يعلم نبراس من صديقه العُماني الذي كلفه بالبحث عن عروب، إنها أي عروب تزوجت مرغمة من شخص لا يرقى الى مستوى تفكيرها وثقافتها وروحها وجمالها.. حاولت الفرار بجلدها ولكنهم تكالبوا عليها كتكالبهم على القصعة وسدوا أمامها كل الطرق، والأنكى من ذلك أن عروب انتحرت ليلة زفافها، نعم وتحول جسدها الى نافورة من الدماء، هكذا تصف سطور الصديق مأساة عروب أما نبراس فيقف بجواره الأصدقاء الذين تعرف عليهم في باريس، كريم العراقي ومصطفى وابراهيم المغربيان، فينجحون في إخراجه من أحزانه وساعدته على الشفاء من مرضه، ثم يأتون له بسوزان الفرنسية التي تدرس الأدب العربي أيضا، فيشتعل الحب في صدره: "تأملت سوزان، وجه مضيء كالقمر، ساعدان بضان، عينان نجلا وان وجسم يميل قليلا الى الامتلاء، كانت عيناي تتحاوران مع عينيها، تقولان كلاما هامسا عذبا ودافئا عجز اللسان أن يقوله، أعقل يا نبراس الغزوي، أعقل، شد اللجام حتى لا تجمح بك الخيل وتقع، هل نسيت ذلك الألق الشرقي..؟ هل نسيت عروب ؟ وهل نسيت يا نبراس.. هل نسيت". الرواية ص 47.
وفي الفصل الخامس "جمر السلالات" يعود نبراس الغزوي بسوزان الفرنسية يرافقها في ربوع ظفار حيث تدرس اللغة الحميرية موضوع بحثها، وأثناء العودة الى مسقط تفلت عجلة القيادة من يد نبراس، فتسقط السيارة في حفرة محاطة بالرمال، ويدخل نبراس المستشفى وتحيطه سوزان بحنانها، ولكن تحين لحظة الوداع فتسافر وحدها الى باريس، ويعود هو الى منزله ليفاجأ بصوت عروب مسجلا على مسجل التليفون (آنسر ماشين) وعند ذلك يشتعل جمر السلالات في دمه، فيذهب الى البحر لائذا، مثل مسعود المحصي الذي قابله ذات يوم في هذا المكان، ولكنه يجد صديقه عزان فيطلب منه أن يدله على قبر عروب ليضع عليه باقة من ورد حمراء ملفوفة في ورقة. "وفي الطريق سألني عزان:
– ما سر تلك الوردة ؟
– كتبت فيها مقاطع شعرية وأهديتها لعيني عروب.
– لم نعهدك شاعرا بل باحثا انثروبولوجيا. متى نزل عليك الالهام". الرواية ص 58.، ثم يكتب رسالة الى سوزان وأخرى الى الأصدقاء في باريس، ثم يسافر الى باريس وهناك تكون المفاجأة التي تنتظره حيث تدعوه سوزان الى حفل صغير بمناسبة حصولها على الماجستير، لتفجر مفاجأتها عندما تقدم له وللأصدقاء خطيبها الشاب عازف الجيتار "جان" فما كان من نبراس إلا أن قرر العودة الى عُمان في اليوم التالي:
"… لم تمر إلا أيام قليلة على مجيئك – إنه قرار نهائي لا رجعة فيه
سأل ابراهيم:
– ما السبب؟
– الوطن أولى بنا "
ترانا أطلنا المعروض وما هذا الا لنثبت أننا أمام نص متماسك يشكل في مجموعه بناء سرديا معروفا هو فن الرواية القصيرة. وقد طعمه مبارك العامري بتقنيات الشعر.
وعندما نقول مغنيات الشعر لا نقصد استعانة الكاتب بلغة مجازية تصويرية فحسب بل اننا نقصد هنا تداخل الشعر بوصفه بناء استعاريا تقوم بنيته على مبدأ المشابهة فثمة مقاطع في الرواية توقف حركة السرد الخطية أو تتحرك بحرية في إطار زمني متغير مما يقربها من بناء القصيدة القائم على التداعي، فالعلاقة بين المشاهد السردية ليست علاقة سببية، بل علاقة كيفية، ولهذا فالبنية الغنائية (الشعرية) الأساسية بنية مكانية، نلحظ ذلك بوضوح فى الفصل الأول "تخوم الصمت" حيث يقل السرد وتتجاوز المشاهد الوضعية والشعرية. على أن أهم التقنيات الشعرية في مدارات العزلة أن للراوي مؤدي الكلام حضورا طاغيا وتأثيثا للأشياء عبر مصفاته الخاصة وعبر علاقة التأمل الجمالي التي تربطه بالعالم، انه لا ينقل لنا الأشياء في وجودها الخارجي الموضوعي بقدر ما يلونها بعاطفته حتى تتحول أعماقا وتدخل في سياق بنية مجازية.
ومع ذلك يبقى تأكيدنا أننا أمام رواية قصيرة تتبدى فيها بوضوح الخصائص الجوهرية لهذا النوع، فثمة وحدة انطباع يتمثل في هذا الجو المأساوي الانعزالي الذي يشعرنا بغربة الانسان أو البطل على الأقل وثمة أبطال غير عاديين، نبراس الغزوى ذلك المثقف المغترب داخل الوطن وخارجه وكذلك أصدقاؤه الثلاثة كريم العراقي المسكون بألم الشعب العراقي ومصطفى وابراهيم المغربيان حيث يجسدان الاغتراب الجسدي والنفي عن الوطن. أما عروب فما هي إلا وجه الورقة المقابل لنبراس الغزوي، بل اعتقد أن انتحارها بديل لانتحاره.
أما سوزان الفرنسية فلا نستطيع أن نقول إنها بطلة غير عادية، لكن يكفي أنها أشعلت جمر السلالة في نبراس فأسهمت في عودته الى مدار العزلة وثمة حرية في استخدام الزمن، فرغم أن الأحداث تسير سيرا خطيا في النهاية، فإنه يمكن القول أن الراوي كان يعتمد كثيرا على التداعي، فيعود بالزمن الى الوراء بل كان يستبق الأحداث أحيانا وقمة وصف موجز دقيق يغني عن صفحات، وثمة لغة معبرة دالة تكاد تكون شعرا، توسع بمجازاتها فضاء اللغة مما يثري الدلالة وأخيرا تعالج الرواية فكرة جادة هي عزلة المثقف، رغم أن العالم أصبح قرية صغيرة، ولكن تبقى العزلة اختيار أو قدر كل مثقف جاد وحقيقي.
وإذ نصل الى هذه النقطة أو العنصر في الرواية، نشير الى أن اللوحات الثلاث الأخيرة (الخروج من الشرنقة واغتيال حلم والاحتضار) التي ذيل بها الرواية، تبدو لنا شديدة الالتصاق بها، حيث تؤكد على فكرة العزلة والاغتراب، وتشترك معها في الايقاع والجو والنغمة.
وفي ختام هذه القراءة نود أن نؤكد أيضا أن مبارك العامري على وعي فني بما يفعله في مدارات العزلة وأدبه عامة من تجريب وفن، وهنا أقتبس الفقرة التالية التي جاءت على لسان السارد في روايته التالية "شارع الفراهيدي"، وذلك من خلال استحضاره لرأي صديق مهتم بالأدب، لعله المؤلف – مبارك العامري – نفسه إذ يقول إن الأعمال الروائية المتميزة اليوم هي تلك التي تستشرف آفاق التجريب، فتناغم وتتفاعل مع أنواع فنية وأدبية أخرى، وتسري في شرايينها دماء جديدة آتية من منابع الفكر والعلوم الانسانية والتطبيقية – لتجسد في النهاية كيانا جميلا تتناغم في جنباته شتى الألوان، والأصوات والحركات، وهذا ما رأينا الكثير منه في مدارات العزلة.
محمد عبدالحليم غنيم (كاتب من مصر)