l المدينة الأولى : تاونات
كل شيء يقودك إلى تاونات :
الأشجار
الطرقات
رائحة الماعز الذي سرقه فرانكو في عزّ الليل
ولأنه يحب الجبل مثلنا أو أكثر منّا
فقد قفز إلى البحر ببسالة
لكنه لم يمت , إنه مازال هناك يثغو
وينتظر أيدينا …
المرأة ذات الفستان الضاحك
والنهدين الحلوبين اللذين تسيل منهما
أجمل قطرات الحياة …
القطار الذي لايذهب إلى تاونات ,
لكنه كلما اقترب من جبالها يتلجلج ,
ويصفّر , ويحمحم …
وكأنه يريد أن يشعل فيك اللهب ,
والعناق , والموسيقى …
ربما كان يفعل ذلك ليذكرك بما اقترفت قدماك,
لقد تخطّيتا كثيرا حدود الجبل
والأصح أنه كان يقوم بذلك ليرشدك
إلى المحجة الملائمة …
المناجل التي لا تتعب من الصرير
كي لا يجوع أحد في القرية :
النمل , والجداجد , والدجاجات الغاضبة
لأرملة غاضبة في قصة غاضبة لكاتبة غاضبة …
طبعا المناجل صنعها الجوع والغضب .
أنت أيضا مازالت آثار الجوع والغضب تقدح بين أسنانك .
الفرق الوحيد أنك لا تصرخ عندما تنكسر ,
فقط تنتقل إلى مكان آخر
وقبل أن تنام تفتح ذراعيك عن آخرهما لاستقبال المعجزة …
القمر الكامل كوجه كامل لامرأة كاملة :
المرأة التي ابتسمت لك ذات ثلج
فأضاءت كل سمائك …
المرأة التي يسكنها الغزال , والغابات , والأوقات الجميلة ,
والنجوم التي تدخل نومنا مهما ضجرنا ,أو كبرنا , أو أخطأنا …
المرأة التي لا تستوي على حطب سوى حطبك ,
بينما رائحتها الأشبه برائحة الحياة , تعبر تخوم البلاد
غير عابئة بالحراس , والجدران , وأنياب الغول
التي تتقوّى كل يوم بأجبان القبيلة …
المرأة التي لا تخشى شيئا
وكلّما عسعس الليل تضمك إلى صدرها أكثر ,
وتحدّثك عن الحب بعين صقر حدس خدعة الفريسة …
أغنية الغروب التي تفتح لك الباب كل ليلة ,
كي لا تتيه حين تشتدّ الرياح والعتمات أمام ريشاتك …
وها أنت الآن بعيدا ووحيدا كبذلة وحيدة على حبل وحيد
في صحراء وحيدة , تواجه رياحا كثيرة ,
فماذا أنت فاعل ؟ تضرب أم تهرب ؟
تندفع وتكتب, أم تكتفي بالمقارنة بين ما ربحت وما خسرت ؟
تدفن رأسك في الرمل , أم تشرع في حفر البئر, وترك بصمتك على الرمل ؟
تصبر وتنتظر , أم أنك تدعو حبيبتك المشاكسة لتشاطرك رحلة البحث
عن الإجابة الصحيحة ؟
وأخيرا لابد لك من تاونات كي لا تتعثر
أو يجرفك التيار أكثر…
لابد لك من قصبها لتوقف هذا الرمل ,
هذه المجزرة …..
l المدينة الثانية : جرسيف
من هنا مرّ الوقت
والخيول المعقود على نواصيها الخير
الرسائل التي كسّرت زجاج القلب
والمياه التي تتدفق كل يوم كي نراها أكثر
ونحبّها أكثر …
الريح التي تعرف ما تريد
والسماء التي استجابت لنداء الراعي
فأتلفت عواء الذئب ، وغيّرت وجهة الصحراء …
وميض الليل المذعور
والمرأة التي مازالت تمسك بيدي
كي لا ننغمس في حب مألوف ،
أو في شمعة لا تعد بليلة كبيرة …
الضحكات الطويلة
والأغاني التي أبكت الرجال والحجر،
وفاضت لها الأنهار
وأقداح الرب …
من هنا مرّت القوافل
والأزهار التي استعرنا منها النساء
والقصائد
وشذا المطلق …
الملاك الذي كان يراقب أصواتنا
والطيور البيضاء التي كانت تقودنا
إلى سهول الغزل
والورود التي تبتهج خارج السياج
فرحا بقدومنا …
من هنا مرّ السحرة ، والعصي المعقوفة
التي امتثلت للشفاء وهي تلمس حصى الأرض …
البخور الغامض كليلة غامضة
والمعادن الثمينة التي هيّجت أصابع النساء
وجيد الجهات …
السيوف ،والعجلات ، والمدن المأثورة …
الأزير، والشيح ، ورعاة الحياة …
العطش ،والجوع ، وما لا يحصى من المسرات والموائد …
البذرة ، والنملة ، وحديث الضفادع
الذي لم يكن يكلفنا أكثر من السهر قرب تلاله …
الأشجار،والبرابرة ،والمواويل الحيّة
التي كانت تبسط أمامنا ما نشاء
من لحم وخبز وحياة …
( أتذكّر ذات ليلة ، جلبت لنا قطيعا كاملا من الأبقار والغيوم والملاحم ،
دون أن تطلب منّا أي مقابل ، أو تدعونا للمعركة).
الأنهار، والحياة التي كانت تسقط على أكتافنا كل ليلة
كالنجم ، والماء ، والنعاس ، والكلمات الكبيرة …
الشعراء ، والقصائد التي كانت تطوّح بنا كالمفاتيح
خارج خطوط الطول وخطوط العرض
كي لا نعود بسرعة
وكي لا نكبر بسرعة …
فهل مررت أنا ؟
أم أنّي ما زلت هناك
كزجاجة عالقة على أطراف النهر
تنتظر الموجة المناسبة
واليد المناسبة ؟
شكرا لك جرسيف لأنك آويتني
ولأنك وضعت الطريق أمامي
والقصائد التي تفتتح سهرات المساء
بالهديل ، والبجع , والكثير من الماء
وتختتمها بالغابات ، وكأس الوداع اللاذع …
( أمّا العربات والقوارب وغيرها …
فقد أحرقتها بالكامل
بينما نحن نتابع المشهد مذهولين ،
ونحن ننقر على الخشب . )
الرجال الذين لا ينكّسون الأعلام أبدا
وإن كانوا على شفا حفرة ،
أو على شفا امرأة جميلة …
الرجال الذين لا يرضون سوى بالهواء النقي ،
والماء الصعب .
وكأنّ الحياة الحقّة لا تكون
سوى بين الطيور والأسماك …
الرجال الذين شيّدوا المدينة ،
وأضرموا النار في القحط …
رجال الليل ، والزناد ، وساعة الحسم ،
والاندفاع بهدف ، أو من دون هدف …
الرجال الذين اقترفوا الأخطاء كثيرا
لكن أبدا ما اقترفوا الخطأ الفادح …
الرجال الذين لا يتوقفون عن الحب ،
ولا يهزّون رؤوسهم سوى للحقيقة …
الرجال الذين لا يملّون من الذهاب يمينا ويسارا
بحثا عن الثمار ، واللعبة السعيدة …
أحدهم وضع الليل في جيبه ،
ونشر الضوء .
وقبل أن يذهب كلّ واحد منّا إلى صباحه ،
ساق البحر إلينا ، وأجلسه على الكنبة
ليدلي بأسماكه ، وسفنه ،وحورياته …
وآخر ما تعهّد به ، أن لا يعرّضنا لامتحان العطش بعد الآن
ومهما ساءت أحواله ، أو تعكّر مزاجه …
الثاني توغّل بعيدا في الحقل
دون أن يتأثّر بلسعة القراص ،
الأكثر من ذلك أنه فاض على باقي القرى كالنهر …
الثالث لم نكن نفهم ما يقول ،
لكننا كنّا نفهم دموعه التي جاءت من أجل الحب
لا من أجل القتال …
الرابع كان أقرب إلى طبيعتنا ،
كان يهجم على الحياة دون تلكّؤ ،
وكنّا نتبعه فرحين ، ودون تلكّؤ أيضا
ولكي لا نستغني عنه أبدا
كان يضحك كالشمس
ليذكّرنا بالمسافات الطويلة
التي كان يقطعها من أجل الوصول إلينا …
الخامس كان يشبهك كثيرا
ذلك أنه لم يتأثر بالحروب ،
ولا ببطش الجفاف ،
أو بحيل اليعسوب الذي كان يهاجمه
كلّما نضجت غلّة نهره …
السادس كان أقوى منّا جميعا
لقد أخذ عنك الشيء الكثير :
قفزة الوحش بحثا عن حبل الأفق ،
أو عن نجمة تليق بفضوله .
الإدمان على الليل ، والمجهول ، واللون السعيد .
السفر البعيد خلف ما يجول في
خواطرنا من طرائد
وصرخات عظيمة …
آخر ما قام به , مباغتتنا بالصباح
وبرؤوس الأعداء وهي تتدلى على كتفه …
السابع كان لامعا كنجمة
أو كغصن طري يطل علينا من نافذة الحلم
لدرجة أني كنت أتساءل أحيانا عما يفعله
في هذه السفوح المظلمة ؟
ولكي لا يشتبه البقر علينا ،
ربّى الماعز
وزرع اللوز قريبا من ليلنا
وفوق ذلك حرّر أيدينا
وأرخى حبل القارب …
وفي الأخير لابد لي من هذا السؤال ،
وإن ظلّ من غير إجابة :
ما معنى أن أقرع بابك في جوف الليل
وما معنى أن تفتحي لي دون تردد
ودون أن تسألي من الطارق ؟ …
——————————————
إبراهيم ديب