ظلت الاسكندرية مدينة بينية لموقعها الجغرافي بين الشرق والغرب، وشهد تاريخها الثقافي تحولات جمة، تواترت فيه الحركات الدينية والمدنية. والتحولات السياسية والديموغرافية التي طرأت على الاسكندرية، جعلت منها نقطة التقاطع/ الالتقاء لثقافات متعددة. أفضى ذلك الى وجود نزاع دائم بين الهوية والرغبة، بين القراءات التقليدية للاعمال التصويرية المستوحاة من موقع الإسكندرية الثقافي في رصد اسهام هذه الأعمال في تفعيل الوضع الثقافي للفن المصري الحديث والمعاصر. لذا أود اعادة قراءة بعض الأعمال التي مثلت الإسكندرية بين منعطف قرنين، وسوف يرتكز اختياري على نماذج من المحاولات لجعل التمثيل الثقافي فضاء بديلا، أو فضاء بينيا، يسمح بالمشاركة الجمعية في قراءة اللوحة، مما يهيئ سبلا لارساء علاقات متبادلة بين الفردي والجمعي.
في أواخر القرن التاسع عشر، تحولت الإسكندرية الى مدينة عالمية بفضل نظام الحكم الذي اتبعه محمد علي(1805-1848) فاجتذبت المستثمرين، والمغامرين، والفنانين، ذوي الطموحات، والفارين من التفكك السياسي في أوروبا، والصراع الطائفي في الشام، وقد ساعد الموقع البيني للاسكندرية، وتشكلها الثقافي على تكييف القاطنين بها على تقبل الوافدين اليها من سائر أرجاء العالم، كما اعتادوا التعايش مع الاختلاف، وتجنب الممارسات المؤسسة على ثنائيات قاطعة، وانتمت الجماعات النازحة الى ثقافات متغايرة، ولم يمل افرادها الى زرع العداءات القومية او الاجتماعية فيما بينهم، أو التمييز بين المصري والأجنبي (البير، 1996، 670)، غدت الإسكندرية مدينة الآخر، قومية وعالمية في آن، وقد ساعدها تاريخها الثقافي على ذلك.
فالتمثيل المرئي للاسكندرية في سائر العصور، لم ينقسم الى ثنائيات متباينة تفصل بين القومي والوافد، أو الأسطوري والدنيوي، بل تتآلف تلك الثنائيات في عملية استطرادية تتوازن بها الممارسة الدينية / الدنيوية بالرؤى المنظرة لها. والجماعات المتباينة النازحة عبر الازمنة المتلاحقة، أنتجت رن ى متعددة للماضي والحاضر، فجاء انتاجها الثقافي متجاوزا للحدود الفاصلة بين الثقافات والأطر المعرفية. لذا، غدت الإسكندرية في نهاية القرن التاسع عشر أرضا خصبة لظهور أعمال تصويرية تقدم تمثيلا مرئيا يتصدى للتقنيات الفنية التي تجيزها المؤسسات التعليمية والمعرفية النظامية آنذاك.
وفد النازحون الى الإسكندرية يحملون معارف وتقا ليد فنية مكتسبة من الاكاديميات الاوروبية. وقد تتلمذ الرعيل الأول من فناني الإسكندرية في مراسم الفنانين النازحين، ومن بينها مرسم جويلا بالنت (1884- 1956) مجري المولد، واستوطن الإسكندرية قرابة خمسة وعشرين عاما وهو يعد نموذجا للفنانين الذين لم يتأثروا بالبيئة السكندرية، فلا نجد لها أثرا في أعماله. فقد استلهم مناظره الطبيعية وصورة التشخيصية ذات الطابع الرومانسي من التقاليد التشكيلية الغربية السائدة في القرن التاسع عشر. فتشخيصه للنساء يمثل الرؤية الذكورية التي تقولب المرأة في اطار شهواني الطابع، سواء أفصحن عنه ام تسترن عليه. ويتجلى ذلك في لوحته صورة امرأة (دون تاريخ، 24×32 سم، مجموعة محمد سعيد الفارسي). فالاتقان الفني لجماليات اللوحة لا يخفي موقفه من المرأة بوصفها كائنا جنسيا يتخفى وراء قناع يرتسم عليه الخنوع والبراءة والخجل.
والمنظر الطبيعي في أعمال بالنت يختزن حالة التأمل، إحدى مميزات الرومانسية الأوروبية التي انتشرت كفعل مقاوم بأ للعقلانية، والمادية المسرفة التي. شاعت مع التقدم العلمي والثورة الصناعية، فمع انتشار العقلانية انصرف الجميع عن تمثيل الموضوعات الدينية، واتجهوا الى تصوير العناصر المادية المحيطة. وافتقد الكثير من الفنانين التجربة الروحية فترجموها في المنظر الطبيعي الذي، يمثل تجربة التأمل.
وعد لوحة لقاء الأحباء (دون تاريخ، باستيل على ورق، 25×25 سم، مقتنيات محمد سعيد الفارسي) بمثابة ترجمة للتجربة الروحية الفاجعة عن التأمل في اسلوب معاصر، والشخصان اللذان يتوغلان في المشهد الطبيعي هما بمثابة وسيط يساعد المشاهد على مصاحبتهما في اللقاء الروحي.
وقد راج تصوير المشهد الداعي للتأمل كتقليد فني بين المستشرقين في القرن التاسع عشر، وقد جاء نتيجة لعلمنة التجربة الروحية، في محاولة لاستقائها من المشاهد اليومية بدلا من القصص الديني. اجتذبت صحاري مصر والشام المستشرقين لايحاءاتها المقدسة، فهي تمثل الخلفية التي دارت فيها الأحداث الدينية في الماضي، فجاء تمثيلهم لها يغالي في المثالية. (ماكنزي 50- 1995) ولكن جورج صباغ (1887-1951) أضفى على الصحراء بعدا آخر، حيث تختلف مشاهده الصحراوية عن التقاليد الفرنسية الهيومانية، على الرغم من انه تدرب في مراسم ايطاليا، وباريس، حيث انضم الى حركة النابي. ولد صباغ في الإسكندرية لابوين هاجرا من الشام، واتاح له تنقله الدائم بين الشرق والغرب المشاركة في الحوار الثقافي القائم، والاسهام فيه برؤيته. فتختلف لوحة الصحراء في أسوان قبل الخماسين (1933، زيت على توال)، عن نظيراتها التي رسمها المستشرقون، الساعية الى تحقيق الرؤيا النبوئية وما يتبعها من خلاص روحي. فاللوحة قد يغمرها جو تأملي، وايحاءات بالأزل المهيب، ولكنها تبتعد عن المنظور الأحادي فلا تلتقي خيوطها في نقطة محورية، بالوصول اليها يصل المشاهد الى لحظة التجلي. بل على العكس، هناك علامات عدة تعمل على احالة منظور الرؤية حتى لا يتحدد المشاهد ببؤرة محددة في التكوين. فالمشهد قد يوحي بحالة من السكون تؤكده الصخور التي تتوسط التكوين لتقوم بمقام محور مركزي وهمي. الا ان الخطوط النصف دائرية المحيطة تبدد هذا الثبات، فتتحرك العين من الصخرة الامامية الى الخلفية دون الوصول الى نقطة ارتكاز عند الهضبة المركزية الكبرى، بل تتجاوزها مشبعة الظلال الملتوية الممتدة الى خارج الاطار. فالخطوط الملتوية التخيلية الماثلة في الامامية تتردد أصداؤها وتتشعب لتصل الامامية بخلفية المشهد، حتى يبدو الأفق قريبا وبعيدا في آن. هذه الحركة البصرية المتواترة تعد المشاهد لاستقبال العاصفة الخماسينية، وكأن المنظر الطبيعي غدا نظيرا عضويا عن حالة من حالات التأهب. فلا ينحصر اهتمام المشاهد بالصحراء لموقعها الجغرافي، أو لايحاءاتها الدينية، مثلما كان الحال لدى المستشرقين. فقد تحول المظهر الخارجي للمكان الى تجربة مشحونة بالتوقعات. كما تحول المكان الى سياق بصري تتصل عناصره في علاقات دالة، حتى يخوض المشاهد تجربة المكان بوصفه كيانا متحركا يختزن طاقة فاعلة متفاعلة مع من يجيد قراءة عناصره.
ويتمثل لنا نبض المكان في مناظر طبيعية أخرى لصباغ، فلوحة مراكب شراعية على النيل في مصر القديمة (1921، زيت على قماش، 73×92 سم). لها عنوان مرجعي يحيل الى موقع جغرافي معروف، ولكنه يتحول في اللوحة الى تجربة مرئية يصعب تعريفها وفقا الى مكان أو زمان بعينه. فبتوغل القارب المركزي في أعماق المشهد، نتوقع انحسارا في الرؤية، ولكن على العكس، تبدو المنازل الخلفية أكبر حجما بفعل تأثير الضوء. ويوحي التدرج اللوني بوميض الضوء على الماء، فتزداد الاضاءة كلما تسللت عين المشاهد الى الداخل. فيعمل التوزيع الضوئي على ارباك المسافات وخرق المنظور الاحادي، كما يخلق حركة دفع أمامي وارتداد للخلف، ليتأرجح التكوين بين بعدين: فالرؤية السطحية تقلقاه ثلاثيا، بينما توحي العلاقات اللاواقعية بين عناصره بأنه ثنائي الابعاد. ذلك الارتباك في التلقي تدعمه المراكب المصطفة على اليسار. فأشرعة المراكب على يسار المشهد تشكل تكوينا متوازنا من الخطوط المائلة، والأفقية، والرأسية، وهو تكوين نمطي ربما المقصود به اضفاء التوازن على الحركة دون تثبيتها حتى الجمود. فالأشرعة الممتدة لا توحي بالتباعد، فلديها أطوال متساوية على الرغم من امتدادها لمسافات الى الخلف. فهي وان تبدو طبيعية، يأتي توزيعها في الفراغ توزيعا يتعمد الغاء المنظور الواقعي.
والابتعاد عن الواقعية الصارمة كان تأكيدا لخصوصية التجربة، لذا جاءت أعمال محمود سعيد (1897-1964) متحدية للمركزية الغربية التي استخدمها المستشرقون في الصور التمثيلية لمصر، كما نقضت معطياتها الدلالية. طرحت المناظر الطبيعية المحلية التي صورها محمود سعيد رؤية جديدة تدحض ما سبقه اليه المستشرقون، رؤية تستلهم من المنظر الطبيعي فضاء يتشكل بالممارسة البصرية. فالمشهد الممثل لا يكتمل سوى بتفاعل المشاهد معه. ففي لوحة منظر من الريف (1929، زيت على ورق مقوى، 94×60سم، متحف الفن الحديث، القاهرة) يتحول المنظر التقليدي الساكن الى تكوين مفعم بالحركة، فيبدو الطقس الخريفي ساكنا، داكنا، منقبضا، ولكن يتسرب وميض الضوء عبر الغيوم في الفضاء العلوي، ومن النافذة التي تتوسط البناية، فمصدر الضوء هنا لم يقتصر على اضاءة اللوحة، ولكنه يرادف بين المصدر الضوئي السماوي والأرضي. ويؤدي ذلك الترادف الى التأليف بين الحمى الصوفي ومصدره الشعاع الضوئي الأثيري، والقياس العقلي المتجسد في البنيان المعماري المحكم للبناية في علاقته وعناصر المنظر الطبيعي الأخرى. ففي اعادة رؤية المنظر الطبيعي خارج النمطية التي فرضها المستشرقون، نجح محمود سعيد في التوفيق بين التجربة الصوفية والدنيوية، وهما تجربتان لم تتعارضا طوال تاريخ الإسكندرية الثقافي، ويعمل سعيد على تأكيد تلازمهما في صياغة جديدة.
كما مثل محمود سعيد الإسكندرية في لوحة المقابر (1926، زيت على قماش، 113×85 سم، متحف الفن الحديث، القاهرة) بصورة مغايرة لما مثله المستشرقون (حفر للمقابر الاسلامية في نهاية القرن 18م، من وصف مصر، العصر الحديث، الجزء الثاني). فالمشهد يجمع المقابر بالمدينة، ولكنه عند سعيد تحول من الواقعية ليغدو تجربة مركبة تمزج الذاكرة والوجود، وعالمي الماضي والحاضر معا. أما النسوة اللاتي في الأمامية فتقمن بدور الوساطة حيث تربطن الجبال بالسحب، والأرض بالسماء. فهن تنتسبن الى الجبال بفعل الترديد اللوني، كما تنتسبن الى السماء بفعل الشفافية التي تكسوهن، حتى غدون مصدرا للضوء كالسحب. فتجتمع في النسوة صلابة الصخور، وأثيرية الضوء، وتتجسد فيهن علامات الوجود والغياب، الحياة والموت، فهن تمثلن نقطة الوصل بين المقابر الواقعة في أمامية اللوحة والمدينة التي تتراءى في الأفق.
وحينما يمثل محمود سعيد المدينة، تغدو بدورها فضاء ثقافيا يثير الجدل حول أساليب التمثيل الثقافي لها فيما مضى. ولوحة المدينة (1937، زيت على قماش، 400×220 سم، متحف الفن الحديث، القاهرة) قد تبدو لأول وهلة وكأنها تمثيل يحاكي الواقع. فالتكوين قد نفذ في بنية ذات منظور هرمي تتوسطه بنات بحري (فتيات الإسكندرية)، ولكن لا تظل عينا المشاهد محصورة في اطار هذا التكوين الأحادي الرؤية. فالشخوص في اللوحة تنظر في اتجاهات متضاربة فينحرف انتباد المشاهد من البؤرة المركزية الى زوايا أخرى للرؤية، مما يقوض البنيان الهندسي الهرمي للتكوين. فبائع العرقسوس القادم من اليمين يختلس النظر الى بنات بحري، بينما يتجنبهم الأب القادم من اليسار ممتطيا حمارا مع ابنه. أما الابن فيتطلع فيما وراء اطار المشهد جهة اليمين. وفي المركز، تستجيب اثنتان من بنات بحري الى نظرات بائع العرقسوس، بينما تجول عينا الفتاة الثالثة باحثة عن المتلقي خارج اطار اللوحة – وتطلعها الى ما هو خارج الاطار بمثابة دعوة للمتلقي للمشاركة في عالم المدينة بالتفاعل مع عناصرها.
وصورة المدينة ونسائها تختلف هنا عما ألفه المشاهد في لوحات المستشرقين، فقد أسهم سعيد في تقديم رؤية جديدة للاسكندرية بالمشاركة في ايجاد آفاق جديدة تساعد على التخفيف من الارتباك الثقافي الذي نشأ نتيجة لاصطدام المعتقدات المألوفة عن العلاقات الاجتماعية بالنزعات الوافدة. فعلى عكس صور الحريم الماجنة التي فاضت بها بحري في المدينة لكل من يعترض عليهن الطريق بنظرة رادعة، نظرة تقرن الجنس بالمعرفة، نظرة تكسب المرأة موضعا في فراغ اللوحة، لتغدو عنصرا فاعلا، تحرك وتتحرك مع عناصرها، فبنات بحري تتخذن مسافات متقاربة بين بائع العرقسوس الذي لا يخفي مشاعره، والأب الذي يحجم عن الافصاح عنها. فالصورة السالفة للمرأة الخانعة، الخاضعة تتبدد في التمثيل الجديد لها. فتقف البنات صامدات، تتجاهلن غواية بائع العرقسوس، ولا تأبهن بالبنية الاجتماعية القائمة على الأبوية. فهن تتوسطن نظرتين متناقضتين للمرأة: المرأة بوصفها أداة متعة، والمرأة بوصفها جزءا من بنية أبوية، لتظهرن امكانية النظر اليهن برؤية جديدة، فهن تطرحن منظورا بينيا جديدا، يتحدى البنية السلطوية القائمة على علاقات هيمنة وخضوع. ومن ثم، تغدو قراءة اللوحة فعلا أدائيا يمارس التغيير الثقافي باعادة قراءة العلاقات التشكيلية فيما تجسده من دلالات، مما يدعو الى اعادة النظرفي المعتقدات السالفة.
وعوامل الازاحة التي شهدتها الإسكندرية، منذ نهايات القرن التاسع عشر، فتحت آفاقا جديدة لتشكيل ثقافة عبر قومية تتصدى للفوارق الثقافية. ويتجلى ذلك في أعمال اونيج افيديسيان (مواليد تركيا، 1898-؟) الأرمني الأصل، الذي تدرب في الاكاديميات الاوروبية قبل النزوح الى الإسكندرية، ولم يتدخل تأسيسه الأوروبي في توجهاته الفنية مثلما كان الحال في انتاج المستشرقين. فانتاجه لا يقدم تمثيلا للغيرية، وهو الاتهام السائد الموجه للمستشرقين (لندا نوتشلن، 1991، 12-15). بل تتطلب لوحاته قراءة تتعدى الفوارق الثقافية، لصعوبة احالتها الى مرجعية ثقافية محددة، واستيعابها لأسباب عدة، الى جانب مراجعته للتراث البيزنطي لايجاد موضع للذات بعد تعرضه للتر حال المتكرر.
ولوحة العائلة (1946 – 48، زيت على قماش، مقتنيات م. تشاكدجيان) تتناص ولوحة من الفسيفساء ترجع للعصور الرومانية (اكتشفت في ثمويس، ومعروضة في المتحف اليوناني والروماني، الإسكندرية) كما تتناص ولوحة المدينة لمحمود سعيد. والوعي بهذا القناص يؤكد ضرورة قراءة التمثيل المرئي السكندري بوصفه تمثيلا لمدينة أو سياقا ثقافيا تتنازع / تتفاعل فيه الهوية / الخصوصية والرغبة / الغيرية. والعائلة لأفيد سيان تحتفي بمثاليات الترابط الاجتماعي المتمثلة في الأسرة التي تتوسط اللوحة، كما تستدعي ما يختزن في الذاكرة من معارف تتمثل في ألواح بين يدي شيخ حكيم يمارس دور المعلم ويشغل الجانب الأيسر من التكوين. ولكن هناك ايضا وقتا للمرح والرقص او الاحتفاء بالزمن الآني تمثله الفتيات في أقصى يمين التكوين. ويمكن قراءة اللوحة كوحدة كلية او كثلاثية يجمعها اطار واحد. وان كانت العائلة تتناص وما سبقها من تمثيل مرئي سكندري فهي تسهم بقراءة جديدة للطقوس الحياتية والروابط الاجتماعية في سياقاتها العامة والخاصة. والتشكيل يضع الشخوص في الأمامية، ويمتثل بالتساوق المعماري الى حد تجميد الحركة لتنسيق الايقاع. فالتساؤلات الاجتماعية التي تشغل أفيدسيان فيما يخص علاقة الأسرة بالتاريخ، وموازنة الحياة بين الجد والهزل هي تساؤلات تثير إشكالا فنيا، يستلهم الفنان حلولا له من التقنيات الفنية المستخدمة في الايقونات البيزنطية، فهو يطرح واقع العلاقات الاجتماعية في صراعها بين الجد والهزل في تكوين يكاد يكون ثلاثي الأجزاء (مثلما المعتاد في الايقونات البيزنطية) مما يتيح للمشاهد حرية ايجاد العلاقات بين الاجزاء التي تمثل تكو ينات مستقلة ومترابطة في آن.
وقد تبدو لوحات افيديسيان وكأنها تتناول موضوعات سرمدية لافتقادها البعد التاريخي الآني. ولكنه يهدف الى احياء صور من ماض ولى، يرى ضرورة ادماجها في حاضر ذي موضع تاريخي وجغرافي. وربما استلهم رؤيته المتخطية للازمنة والامكنة من التجربة السكندرية التي مزجت الثقافات على مر العصور، مما شجع الفنانين النازحين اليها على التجريب في التقنيات الفنية بالاستفادة من كافة الثقافات متجاوزين الامس الجمالية الكلاسيكية. ولوحة السباحة (1949، زيت على قماش، متحف الفن الحديث، الإسكندرية) هي تمثيل لامرأة لا تنتمي بمظهرها الى مكان أو زمن محدد، كما يبتعد المشهد المحيط بها عن التمثيل الطبيعي. وقد توحي اللوحة بأنها تمثل الإسكندرية – حورية البحار- وهي كانت تمثل في الفن البطلمي في صورة امرأة البحار، مع اختلاف التقنية المستخدمة هنا، والتي تصور الإسكندرية بوصفها مكانا يتعدى حدود الامكنة، فالسباحة تمثل تزامن الحقب التاريخية، بمزجها لتقنيات الحداثة والقدم في التشكيل. فملامح السيدة توحي بأنها عصرية، مقدمة على الحياة، بينما تضفي عليها انحناءة الرأس – وهي مستمدة من الايقونات البيزنطية – سمة التروي، فهي مقدامة دون مجازفة. أما زيها فيمزج الملس المصري القديم في غطاء الوسط، بعباءة الاساقفة والنبلاء في العصور الوسيطة، لتبدو في علياء يدحض النظرة الذكورية المتلصصة للمرأة كما مثلها المستشرقون. وتعد السباحة جزءا من المعالجة التشكيلية واللونية للمكان المحيط، فهي معالجة تبتعد عن التمثيل الطبيعي. كما يصعب تحديد مصدر الضوء في التكوين، مثلما الحال في الايقونات البيزنطية، ووظيفة التظليل هنا ليست للايهام بالواقع، بل لربط المرأة بالأرض، وتوثيق العلاقة بينهما. وفي استخدام التظليل – وهو تقنية واقعية – في تكوين لا واقعي، مفارقة تاريخية المقصود بها تخطي الأزمنة والامكنة لا لمجرد الخروج عن التاريخ، بل لاظهار الطبيعة المركبة للمرأة / الإسكندرية، مما يدحض الآراء التقليدية للانثوية / الهوية، أحدى القضايا الرئيسية التي تناولها الفنانون في العالم آنذاك.
تبارى فنانو الإسكندرية وفنانوالفرب في معالجة الهموم المعاصرة، بالاستفادة من التجربة السكندرية – فيما تمثله من تعددية السياقات التاريخية والجغرافية – ببعث العناصرا لمرئية المحلية التراثية لتوظيفها في التحديث التقني. وتوصلوا بذلك الى حلول جديدة تبتعد عن التقنيات الاوروبية الاكاديمية، ولذا ظل انتاج السكندريين مهمشا الى عهد حديث، فهم يختلفون عن فناني المركز الاوروبي، ومبعدون من قبل القاهريين لاتهامهم اياهم بالولاء لخلفيتهم الأوروبية، وهذا الخلاف مثار للجدل حتى يومنا هذا. وربما نجد في اعمال مارجريت نخلة (1908- 1979) ما يعيد النظر في تلك الاحكام المطلقة، ففي مجموعة لوحاتها التي تمثل باريس في الخريف ما شجع النقاد على ربطها بالانطباعيين، بينما لم يكن الانطباعيون المصدر الوحيد الذي استوعبت مارجريت تقنياته. ففي لوحة بورصة باريس (1945، زيت على قماش 99× 80سم، متحف الفن الحديث، القاهرة) تبرز لنا الفنانة امكانات تصويرية هائلة كامنة في مشهد يومي يمثل تكالب البشر على المال في رؤية كوميدية ساخرة لملهاة الحياة. فالمشهد مفعم بالحركة التي نتتبعها في ضربات من البقع اللونية المتكررة في تكوين دائري. وتتكدس الشخوص الممثلة في ايقاع متسق وتشغل فراغا ضيقا حول مركز غائب. والحركة الدائرية المتلاحقة للجماعة تحجمها المسطحات ذات الخطوط المستقيمة التي تشكلها الحواجز الحديدية في الخلفية، وكذلك الحوائط الجانبية. فعلى خلاف الانطباعيين، لا تقدم مارجريت نخلة رؤية لحظية، بل حالة استمرارية تتولد عن حركة تبادلية متكررة. ففي داخل السطح الدائري تمتد الأذرع في حركة جاذبة نحو المركز. وتنسلخ بضعة شخوص عن دائرة الحشد لتتجه نحو حواف التكوين، مما يوحي بحركة طاردة من المركز. وتتراءى لنا الحركة التبادلية بين الجذب والطرد المركزي من منظور علوي، يستخدم امكانات المنظور الثنائي في تحقيق المنظور الثلاثي الأبعاد.
فتوازن ايقاع الترددات اللونية التي تمثل الشخوص في فراغ التكوين يتولد عنه ايقاع زمني يوازن بين الحركتين الدائريتين الجاذبة والطاردة معا. فالتوازنان اللوني والحركي يفضيان الى ترابط زماني ومكاني في تجربة مرئية تقيم علاقة تبادلية بين المنتج والمشاهد، او الفاعل والمفعول به. تلك التقنية تتحدى مركزية المنظور الغربي من جانب، ومن جانب آخر تتصدى الى لامركزية الوحدات المتكررة في الفن العربي، التي تمثل شكلا من أشكال حلقات الدوار مثلما في رقصة التنورة، الرقصة الصوفية المؤدية للهذيان. فتلك الموازنات تبرز التفاعل بين الحركة والثبات، دون ادماجهما او نفي احداهما.
وهناك تكوين دائري آخر في لوحة الحمام (1948، زيت على قماش، 100× 80سم، متحف الفن الحديث، القاهرة) وهي تعتبر محاكاة ساخرة للوحة الحمام للفنان الفرنسي انجر (1859- 63)Ingres زيت على قماش 42سم، متحف اللوفر، باريس) فلوحة انجر تمثيل لا واقعي وشهواني، يعمل حمام مارجريت نخلة على نقضه حيث تقدم ملهاة ساخرة للحمام الذي ظل مثيرا للتلصص الذكوري. فالأجساد النسائية عالجتها مارجريت بالمبالغة في الشكل لابراز القوى العضوية الكامنة في النسوة، وتكاد تكون التقنية التشكيلية المستخدمة هنا أقرب الى التلقائية لاظهار بساطة تلك الشخوص، فا لنسوة قد تحررن من القيود الاجتماعية المتمثلة في الملبس، ولكن لا تتعمدن الاثارة الجنسية. ففي هذا السياق يفد ونزع الملابس تحررا من القيود، ويفد والحمام مكانا للابتعاد عن المراقبة والاستجمام وهو حق مكفول لهن. فالغرض هنا ليس تعريض أجساد النساء لمتعة النظرة الذكورية التي استباحت استرقاق النظر اليهن في خلوتهن. فالتكوين الدائري يعترض على الرؤية المركزية الملازمة للذكورة، ويتيح لرؤية أكثر تشعبا عبر المسطحات الدائرية، يتوسط التكوين حمام مستدير، وتعمل الاقواس الخلفية على ترديد الحركة الدائرية، وتتوزع المستحمات في تشكيلات ثنائية لضبط الايقاع في المشهد الذي يوحي بالارتباك ويضج بالحركة.
وان كان التكوين لا يمتثل بالقيم الجمالية الكلاسيكية فذلك لا يعيبه، فالمقصود ليس دعم المفهوم الاوروبي للجمالية بل تقديم رؤية محلية تبرر التقنية المستخدمة. فهي تتجنب الرؤية الذكورية الغربية التي تضعف المرأة بجعلها مثارا للشهوة، ومن ثم قمعها، وتعمل مارجريت على دحض تلك الرؤى بتمثيل القوى الفطرية الكامنة التي تظهر عند تحررها من العوائق الاجتماعية. والقدرة على التحرر من القمع الاجتماعي عادة ما تتوافر لدى الطبقات المهمشة، وهي طبقة غير ممثلة في الخطاب المهيمن، ومن ثم لم يهتم أحد بتمثيلها وبالتالي قد تم تنميطها في قوالب اجتماعية تتكيف مع المفاهيم السائدة. وقد أدركت مارجريت نخلة خصوصية المهمشين التي جهلها المصورون الغربيون، وترتب عليها اخفاقهم في استيعاب الاختلافات الثقافية واكتشاف امكاناتها التشكيلية. فمارجريت تعيد صياغة الحدود التي رسمتها الثقافة الغربية الرفيعة بتمثيلها لمشاهد ومواقف من الحياة اليومية للعاديين أو المهمشين بأسلوب الملهاة الساخرة لتتجنب حصرهم في منظور أحادي يطمس خفايا وجودهم.
لم تكن التحولات التي طرأت على الأساليب الفنية السكندرية – في بدايات القرن العشرين – مجرد محاولات لمحاكاة الغرب في تقنياته المتنوعة، بل شكلت التقنيات الجديدة تحديا للنزعات الغربية حيث تجاوزت الخيارات القائمة على النزعة الذاتية التي تدعم النسبية المطلقة، والشائعة في الفوب آنذاك. ويتجلى ذلك فيما قدمته ايمي نمر، السورية الأصل، حيث يتحدى انتاجها ذاتية التعبير، والانغماس في الحسية المفرطة، التي ازدادت شيوعا. فهي تشكل تكو ينات جمالية ذات ايحاءات صوفية بها عبق الشرق، ومستلهمة من الجماليات القبطية والبيزنطية، وهي جماليات تزخر بها منطقة الشرق الاوسط. (للمزيد انظر اندريه جرابار (1953) في دراسته عن العلاقات بين فنون البحر المتوسط قديما).
وفي لوحة الميلاد (1930، زيت على قماش، 78×78سم متحف الفن الحديث، القاهرة) تعيد ايمي نمر تمثيل الأيقونة الشرقية ذات المسحة الصوفية، فعلى عكس وجوه الغيوم التي ترمقنا شخوصها بنظرات ثاقبة، تسبل الشخوص الممثلة هنا عينيها وكأنها في تأملها للطفل، وهو موضع الاهتمام الرئيسي في التكوين، تتأمل ذواتها. وقد تم تحديث التقنية المستعارة من الأيقونة الشرقية في توزيع العناصر في الفراغ، واستخدام الاضاءة، ومزج الألوان، مما له الأثر على التأثير الكلي للوحة. يتسم التكوين بالتساوق لوجود محور مركزي ستمثل في الطفل، يوازن العناصر المحيطة به. وقد يوحي التكوين بمنظور ثلاثي الأبعاد لظهور طيف مدينة قابع في الخلفية، ولكن المنظور الثلاثي ليس المقصود به تجسيد الشخوص الممثلة تجسيدا طبيعيا، بل لتكتسب حيزا في الفراغ يقربها الى مخيلة المشاهد الذي اعتاد الشخوص الممثلة في بعدها الثلاثي. فغدت الشخوص أكثر ألفة للمتفرج من شخوص الأيقونات المسطحة، دون أن تمثل تمثيلا طبيعيا، وتكتسب الشخصيات الممثلة في اللوحة طابعا صوفيا يعيد انتاج الايقونة الدينية ليس بهدف اعادة تأسيس مفهوم القدسية. فالروحانية التي تتسم بها الشخوص لا تفرض كيانات سامية / متعالية، بل تدعو المشاهد لتأمل حالة السكينة النابهة من رهافة / بساطة الحس. ويتساوى موضع الشخوص في التكوين مما ينقض الترتيب الهرمي السائد في الأيقونات الشرقية التقليدية، فالأم والابن يتساويان بالحشد الملتف، ولا يتمايزان بهالات من النور تحيط برأسيهما. أما هنا فينبع الضوء من صدور كافة الشخوص دون تمييز، وان زادت مساحة الضوء المنبثقة من صدر الطفل. وهناك تساوق في تشكيل الصدور المنيرة ليتجلى عبر ذلك التناسق التواصل المشترك بين الشخوص التي تؤلف بينها محبة الطفل الوليد. فالتراسل المتبادل بين الشخوص في صمت يصعب تعليله وفقا للتصنيفات الدنيوية أو الدينية، فهو يمزجهما/ يتجاوزهما معا.
وباضفاء مسحة سحرية على الشخوص الممثلة، تسعي ايمي نمر الى تجاوز الغيرية، ذلك بتجنب تنميط الشخوص بدلالات قاطعة. فالملامي خالية من التعبير وتمتنع عن البوح بمعنى كامن بها. فالاحتفال بالميلاد هنا يصعب صياغته عبر انساق اللفة المتداولة لأنه يمثل تجربة لا يتباين فيها البوح والكبه. وليس الهدف بتلك المراوغة هو اعاقة فهم اللوحة، بل اطلاق آفاق التفسير لاتاحة امكانات متعددة للروية، والاعتراف بتعدد الرؤى هو خطوة لتقبل الغيرية.
كما تستخدم ايمي نر تقنية تجمع بين الشفافية واللاشفافية في تمثيل الصور الشخصية، والطبيعة الصامتة، والمناظر الطبيعية. ففي صورة شخصية لامرأة (1929، زيت على قماش، 70×58 سم، متحف الفن الحديث، القاهرة) تظهر تفاصيل واقعية توحي بملامح وجه أحدى السيدات، دون مراعاة تجسيد الكتلة، او الاهتمام بتنفيذ الشكل على وجه أكمل. فالصورة الشخصية هنا تستعيد التقنية المستخدمة في الايقونات البيزنطية والقبطية، ويظهر ذلك في انحناءة الرأس، والعيون المسألة، وأحادية اللون المستخدم، الى جانب انبثاق الضوء من الصورة الشخصية عينها. والتجديد التقني في اللوحة يتمثل في عملية الازاحة التي تبدلت بموجبها الخامات المكونة لنسيب اللوحة. فالشعر والملبس يتجليان في شكل نتوءات وبروز ليخلقا تباينات بين المساحات المضيئة والمعتمة. ويختلف ذلك الاسلوب عن تقنية التكعيبيين التي تقحم التراكيب الهندسية على موضوع التمثيل، حتى صارت محصورة في أشكال هندسية صارمة. اما الانقطاعات المرئية في لوحات إيمي نمر فهي تنبع من سطه اللوحة وليست مقحمة عليها. فالتعارض بين المستوى الواقعي لتفاصيل الوجه، وعناصر الازاحة التي اضفيت على النسيج ليغدو بعيدا عن الواقعية يفضي الى اللاحسم بين المنظور الثنائي والثلاثي الابعاد، والتناوب بين النسبي والمطلق. فتفاصيل الوجه تمثل رؤية واقعية بينما تعمل تعاريب النسيج الى ازاحة العناصر الأخرى لتبدو غير واقعية. ويعمل هذا بدوره على تجنب تأكيد هوية الوجه المشخص او اختزال ما يمثله في دلالة ثابتة. فلا تنتهج ايمي نمر خطوات تحليلية في معالجتها للصورة الشخصية، بل توحي لمساتها بقسمات الوجه دون التركيز على الانفعالات النفسية المألوفة، متجاوزة بذلك حدودية الصورة الشخصية التقليدية التي ارتبطت بالقدرة على التمثيل الدقيق لشخصية فعلية.
ابتعدت ايمي عن الواقعية المفرطة، واجتذبتها خفايا النفى فتجنبت الوقوع في مأزق النسبية المطلقة الذي حفلت به الأوساط الغربية والنابهة من لذة الانغماس الذاتي. فجاء استخدام ايمي لتقنية الايقونة في أعمالها مفعما بالحس الذي يستشعر التداخلات القائمة بين حاستي البصر والملمس. ذلك الحس ينبئ عن معرفة بالتقنيات التمثيلية المتوعة، وذلك ليس بهدف تنميطها في شكل يحقق التجانس اللاارادي. فالتمثيل المرئي يستخدم هنا بوصفه فضاء يتيح اللقاء الثقافي، لاجتياز النقطة الفاصلة بين الذات والغير.
وقد استفاد الأخوان سيف وانلي (1905-1979) وأدهم وانلي (1908-1949) من التجارب التقنية الغربية في أعمالهما، حيث استوعبا تنويعاتها المختلفة واستخدماها في مراحلهما الفنية المختلفة، حتى يصعب تتبع تطور العلاقات التصويرية في أعمالهما لتبدل الأساليب الفنية المستخدمة. فقد يسود الفراغ في بعض اللوحات دون التركيز على التفاصيل، وفي لوحات أخرى قد يقترب سيف وانلي من الذات المشخصة لتشغل الفراغ بأكمله، متجلية من منظور أمامي يخلو من أية أبعاد. وبينما تفتقد لوحات سيف وانلي اية خصوصية تاريخية حاول ابتداع أسلوب يجسد المشهد الطبيعي لمدينة الإسكندرية. وتفتقد راقصات الباليه في لوحات أخيه أدهم وانلي أية علامات للهوية، ولا تتمثل في سياق سردي. كما تفتقد لوحات أدهم وانلي أيضا المرجعية التاريخية والاجتماعية. فلوحة المحكمة (دون تاريخ، زيت على أبلاكاش، 36× 54سم، متحف الفن الحديث، القاهرة) تمثل مشهدا يلمس خصوصية اجتماعية تتناول مشكلة الطلاق. ولكن اللوحة لا تفيض بحمى مأساوي، ولا تتجلى فيها وطأة الحياة، انحصر اهتمام الأخوين وانلي في استملاك التقنيات الأوروبية لمحاولة اكتشاف لغة مشتركة بوسعها التعبير عن البيئة المحلية، مما أدى الى اتهامهما بمحاكاة الغرب. فلم يتفهم البعض أن الحوار التقني الذي تداول به الأخوان مع محدثات الغرب قد تم عبر لغة أجنبية، وقد يكون ذلك مرفوضا من بعض النقاد، ولكن ينبغي تفهمه في السياق الثقافي الذي تم فيه.
ظل الوضع الثقافي في الإسكندرية مهيأ لتفاعل الثقافات، متجاوزا التعصب للغة القومية، ويشهد على ذلك انتشار المجلات الثقافية في لغات متعددة، وان فاق عدد المجلات الصادرة بالفرنسية ما يصدر باللغات الأخرى، ولم يكن في ذلك انكار للهوية القومية، بل تأكيد على أحد أوجهها المتعددة، وهوا لوجه المنفته على العالم، فمفهوم الحداثة ما كان ليتحقق سوى عبر وسيط حيادي، لفة غريبة على الجماعات النازحة الى الإسكندرية والمقيمة فيها، ولكنها لغة تتيح لتلك الجماعات الاتصال بعالم الحداثة، ظلت الجماعات المتعددة الجنسية التي تقيم بالإسكندرية حتى منتصف القرن العشرين تتبنى موقفا ليبراليا يرفض التقيد في اطار ثقافة رسمية تفرض عليه. ويرجع ذلك الى تجنب تلك الجماعات اثارة النعرة القومية التم. مزقت البلدان الأوروبية الفارين منها، او الفتن الطائفية التي حاصرت النازحين من بلاد الشام. (للمزيد انظر البير، 1996/ 69- 94). باتت الإسكندرية موضعا بينيا بين الأمم يسمح بالتعددية. ولكن بعد تأميم قناة السويس، يفشل التضامن الجماعي الذي نما في الإسكندرية في الصمود للتغيرات السياسية لقصور في توجهاته. فقد اقتصر التضامن الجماعي على ابناء الحضر، وتأسست مفاهيمهم الثقافية على رفض تسييس الدولة، ومع ذلك، نجحت تجربة الإسكندرية في تشكيل مرحلة انتقالية بين النظام العثماني ومصر المستقلة. (البير، 1990، 736).
أما القومية المصرية فنشأت عن تحالف طبقة الريفيين المتمسكة بالتقاليد، والطبقة البرجوازية المقيمة في الحضر. وقد أدت التغيرات التاريخية والاجتماعية في الخمسينات والستينات الى تنامي الشعور القومي: كما تولدت الحاجة لانتاج فن يتميز بخصوصية تاريخية. ويجسد محمد حامد عويس (مواليد 1920) تلك الطموحات القومية في انتاجه، ولوحة خروج العمال (1953، زيت على قماش 98×79سم متحف الفن الحديث، القاهرة) تمثل التضامن بين القوى العاملة، ويتراءى لنا الحشد جامعا للهوية الريفية والحضرية معا، يتقلص الفراغ في اللوحة ليتجسد فيه العمال بوصفهم وحدة تشكيلية متكاملة والعمال الشاغلون أمامية اللوحة يرتبطون تشكيليا بمداخن المصانع المتصاعدة في الخلفية، لربط مفهوم التقدم بالانتاج، وان كان المثقفون الاوروبيون قد اكتشفوا آنذاك الآثار المدمرة للتصنيع، فالقوميون، وأنصار الحركة الشعبية في مصر لم يتنبهوا الى ذلك، وكان التصنيع بالنسبة اليهم مفتاح التقدم.
وازداد الاهتمام بتحرير المرأة المصرية والسل على الحاقها بالتعليم لتحقيق المجتمع العصري، فبدت لحامد عويس صورة المرأة التي شخصها محمود سعيد في لوحة المدينة لتتلاءم وصورة المرأة الجديدة. فقدم حامد عويس لوحة بنات الإسكندرية (1967، زيت على قماش، 135×110 سم). لتحاكي لوحة محمود سعيد المدينة محاكاة ساخرة. فقد استبدلت أحدى الفتيات الثلاث الزي الشعبي بزي المرأة العصرية الذي لا يعوق خطواتها المتقدمة نحو الامام، وقد اتسمت على ملامحها الجدية الملازمة للمرأة المتعلمة، فلم تعد هناك حاجة للنظرة الساحرة المرتسمة على وجوه بنات الإسكندرية، مثلما في لوحات محمود سعيد.
اما الفتاتان اللاتي لم يتعلمن فتمكثان في الخلفية، تتهامسان في قلق، ربما كان عويس يتطلع الى التقدم بينما ادرك الانقسام الداخلي المعوق له.
ويتجسد هذا الشقاق الداخلي في معالجة الفراغ في لوحة البطالة (1989، زيت على قماش، 60×55سم، متحف الفن الحديث، القاهرة لم فالشكل الرابض يكون كتلة صلبة في فراغ يكاد يكون ثنائي الابعاد، ويعد فراغا متخيلا، لا يرتد الى أفق يتراجع الى الخلف، بل يدعم الشكل الذي يحتل المقدمة. وليست هناك حدود قاطعة تفصل ما بين مقدمة اللوحة وخلفيتها، كما ان الوضع الغريب للرأس المرفوع البارز من الجسم الرابض، يكسب التكوين منظورا علويا وسفليا، وبذلك فالتكوين يجسد عزيمة قوية للنهوض حتى في حالات التوقف عن العمل، فيبدو الشكل وكأنه رابض ومسترخ في آن. وبينما يتراءى لنا الشكل عبر تقنية واقعية، نظل على وعي بأن موضع الشكل في الفراغ، تحقق على نحو غير مألوف، فيما يمثل معالجة جديدة للشكل تكسبه رؤية خاصة.
بات تمثيل الفراغ يثير معضلة للمصورين السكندريين. فقد ارتبط ارتباطا وثيقا بمحاولة انتاج تمثيل مرئي للهوية المحلية بتجاوز المفاهيم التقليدية للهوية بوصفها اختلافا. ولكن مع تغير الظروف التاريخية بعد تأميم قناة السويس، فجرت الشعارات القومية المتشددة خطابا كولونياليا معكوسا. وحفل هذا الخطاب بمزا عم توحيد الكلمة من اجل التضامن مما ترتب عليه ظهور نظام هرمي جديد كان من شأنه الهيمنة على الممارسات الثقافية. تراجع هذا الخطاب بعد واقعة 1967، فحرب الايام الستة أثارت التساؤلات حول المفاهيم الخاطئة عن الذات مما يتطلب أيضا، مراجعة الاعمال التصويرية التي تمثلها. وعصفت السبعينات بالاحتجاج على التراتب القيمي المفروض من قبل المؤسسة الفنية والمؤسسات التعليمية. فالتجارب البصرية لدى جيل السبعينات تغايرت بشكل ملحوظ عما قدمه أسلافهم، وعما قدمه الفنانون الذين تصدروا الساحة الفنية آنذاك. فقد سادت مدارس فنية تبتعد عن الحياة الاجتماعية للطبقة العاملة والوسطى، كما تغترب عن ثقافتهما، واحتجت الأجيال الشابة على الفصل بين الثقافة الراقية والدونية، وهو فصل لم يكن موجودا في تاريخ الإسكندرية الثقافي. (ستيوارت، 1996، 238). وقد دعم هذا الانقسام الثقافي جيل من الاكاديميين كان قد استملك الأسس التشكيلية الذائعة في الاكاديميات الفنية الغربية التي وفدوا اليها للتدريب، وقاموا بفرضها على الاجيال الصاعدة بعد عودتهم الى الوطن. وعادة ما تقترن تلك التصورات الخاطئة ببنية اجتماعية ترفض الفن المحلي بكافة اشكاله، حتى تغدو الثقافة المحلية مغتربة في تربتها. ويأتي ذلك مخالفا لثقافة الإسكندرية التي ظلت في كافة مراحلها تتجاوز الحدود الفاصلة بين الفن المحلي والوافد. بعد 1967، تنبه جيل السبعينات الى وجود شقاق داخلي في الهوية القومية. وأفضى ذلك الى قيام عدة جماعات معارضة منشقة لتؤكد ان الثقافة القومية تقوم على الاختلاف، أي تتعدد امكانات تمثيلها لتنوع آفاقها.
واحتدم الجدل حول تلك المراجعات الذاتية في مجلة الصحوة (1975)، وهي دورية ثقافية محلية اصدرها شباب السبعينات المنشق عن أسلافه. شنت الصحوة حملة نقدية شعراء على فن المؤسسة فاتسعت الممارسات الفنية آنذاك، حيث قام بها أفراد ينتمون الى سياقات اجتماعية متعددة، كانوا قد استفادوا من مجانية التعليم، وعلى الرغم من ان التعليم المجاني قد وظف لخدمة النظام الشمولي، الا انه – للمفارقة – جاء بنتيجة عكسية حيث أتاح الفرصة للمهمشين المستفيدين من المجانية، استخدام اللغة المكتوبة والمرئية للتعبير عن احتجاجهم، وترتب على اشتراك فئات شعبية متعددة في صنع الثقافة احياء الاهتمام بالتراث الثقافي السكندري الذي لم يميز بين الثقافتين الرفيعة والشعبية. (هناك عدة مقالات تعبرعن ذلك في الفن والحياة، 1993).
وكان عصمت داوستاشي (مواليد 1943)، من بين كتاب الصحوة، كما لم تفلح الدراسات الاكاديمية التي تدرب عليها في ترويض خياله، وقد استلهم داوستاشي محاولاته التجريبية من الفن الشعبي. ويعد الفن الشعبي سجلا يحمل تراثا متنوعا من الطرز الفنية، تتراكم فيه آثار لا حصر لها، عمل داوستاشي على صياغتها في سياق معاصر، فقد استمد من الفن الشعبي امكانات جديدة لمحو الفواصل بين التصوير، والنحت والفنون الحرفية، فباتت الصورا لتي استمدها من الفن الشعبي صورا مركبة مهجنة تتألف من أشكال آدمية وحيوانية مركبة، ففي مجموعته قراءة فنجان القهوة (1998، زيت على قماش، 70×100 سم) يحاكي المواجهات بين الآدمي والاسطوري محاكاة ساخرة، كحلم كيخوتي لخوض المغامرات الناجحة. وأحيانا يقدم تشكيلات حروفية تفتقد بعدا سرديا. وهناك بعض القراءات لاعمال داوستاشي قد استخلصت رموزا ذات دلالات خفية من التمثيل البصري في اللوحة. (عالم داوستاشي، 1993، 89) ولكن من الاحري قراءة تلك الصور المرئية بوصفها علامات تثري السطر، وبالتالي، يصعب تفسيرها من منظور ثابت.
وان كانت أعمال داوستاشي تقدم تجربة بصرية ذات قيمة زخرفية فذلك لا ينتقص من فحواها العاطفي، فهو غير معلن، ولا يتكشف لنا بسهولة. فالتكوين في لوحاته يخلو من نقطة مركزية او خط محوري فاصل، وخلوه من الاتساق لا يفقده توازنه، ولكنه يحول دون التحديق عبر منظور أحادي. كما يخالف الجماليات التقليدية فتغدو القوى المتعارضة في اللوحة، المتمثلة في الثنائيات اللونية – الأزرق والبرتقالي- متوازنة. ويعج فراغ اللوحة الضئيل بالحركة مما يثير الاهتمام في علاقات التساوق واللاتساوق. وتكراره لبعض عناصر اللوحة لا يكون مجرد نسخ، فهناك دائما تنويعات في الأسلوب، أو على الحجم، او الشكل في النسق التكراري. ويمتزج التكوين بتكرار الأشكال، والأنماط الزخرفية، والتنويعات اللونية، مما يتيح قراءات متعددة للوحة، فالأشكال المستخدمة تنتمي لحقب ثقافية متغايرة، وتنويعاتها انما تدل على التماثل في الاختلاف، ومحاولة التعرف عليها هي محاولة للتعرف على هوية متعددة الثقافات عمل الاعلام على حصرها في قالب واحد. فالمراوغة البصرية تحد من الرؤية الثابتة كما توفر قراءات بديلة لإشكالية الهوية، التي تخضع لخطاب طائفي في الوقت الراهن.
فلاعادة صياغة الهوية ينبغي مقاربة الذات بوصفها نقطة التلاحم بين الهوية والاختلاف. فالتعرف على الذات هو وعي بالآخر الذي تحتويه، والوعي بالأوجه المتعددة للثقافة التي تشكلها، فالفهم الذاتي يتطلب الابتعاد عن الذات لتجاوز المحلية المفلقة، كما يفضي الى تجاوز المصادمات مع خطاب الاستشراق واتاحة الفرصة لانماء خطاب يتجاوز الحدود الفاصلة بين الثقافات.
وعند اعادة النظر في علاقة مصر بأوروبا ينبغي تقييم العنصر الرئيسي الذي تقوم عليه الثقافة الاوروبية، الا وهو العلم. فالعلم التجريبي قد ازاح الفائية الكلاسيكية مرجعا اياها الى القرون الوسطى، مما أفضى الى قمع الآفاق الثقافية الاخري. كان لذلك الرفض المؤس على العقلانية المطلقة ردود فعل متفاوتة في مصر، مثلما في مناطق أخرى من العالم. فظهرت الحاجة الى مناقشة علاقة العلم بالآفاق الثقافية الاخري. والتجربة الشخصية في مصر تغلفها أزمنة عديدة، وتتداول مع ثقافات متعددة، خاصة في الإسكندرية. فالثقافة التي تشكلت فيها عبر التأريه، عملت على تشكيل البيئة المحيطة، وتشكلت بها في آن. ومن ثم، يصعب تقييم طبيعة المكان بمعزل عن تاريخه. فالكائنات العضوية والجماد يشكلان جزءا من البيئة الحية في التمثيل البصري للاسكندرية. فالمدينة التي نما فيها خطاب ثقافي ألف الشتات وتجاوز التناقضات، يصعب عليها الانغلاق في اطار أنساق معرفية يفرضها خطاب أحادي يتأسس على العقلانية البختة.
ومع ذلك ففي أزمنة التحول قد يفضي التنوع الى مأزق عاطفي وثقافي، وفي مصر، يشتد هذا المأزق بالانهيار التدريجي الذي أصاب الوضع الثقافي منذ الثمانينات، مما نتج عنه بلبلة فكرية عرقلت المسار الطبيعي للتراث السكندري، والممارسة الفنية التي ارتبطت به، فالتمزق الثقافي تنبى عن مناظرات حامية بين الأصوليين والحداثيين جاءت نتيجة صعوبة استيعاب التكنولوجيا او العلوم الحديثة لدى البعض، لابتعادها عن المعارف الحياتية التي تعود وها، مما أفضى بهؤلاء الى رفض كافة مبادئ الفكر العقلاني والاستسلام للتفييب. هذا الجدل المحتدم بين العلم والواقع، او العلم وما وراء الواقع، أفضى الى الفصل بين التجربة الصوفية والعقلانية، وبين الفن والعلم، مما اصاب الفرد بشقاق داخلي. ويجوز رأب هذا الصدع الداخلي لدى الفرد في حالة معاودة صياغة علاقة الذات بالثقافات الأخرى، فمحاولة التعرف على الذات لموازنة نزعاتها المتضاربة يستلزم على المفاهيم الخاطئة نحو الفير وكأن مصالحة النفس تفضي الى مصالحة الآخر. فالتمزق الداخلي على المستوى القومي له مردود في التعاملات على الصعيد العالمي.
ويتصدى عبدالسلام عيد (مواليد 1943) الى هذه الاشكالية في أعماله المركبة، المدينة 1 (1982، خامات متنوعة، 212×62 سم، بينالي فينسيا الدولي) هي تمثيل بصري لكوكب منقسم، والفرد فيه هائم تتقاذفه دوامة تدفع الى حافة الهاوية. والعمل المركب يتكون من مخلفات قديمة، ومواد منتقدة من البيئة ويتخذ طابعا مرحيا. فالمدينة1 اقيمت على حامل به آنيتان من النحاس، في وضع أفقي ثبتت واجهاتهما نحو الخارج، ربما لتوحيا بفجوة سحيقة على وجهتي الكرة الارضية وتفصل الآنيتان أشكالا عمودية ممتدة الأطوال، وقد تمثل حلقات وصل او فواصل، والعواميد الفاصلة / الواصلة من الخشب القديم، واشكالها قد توحي بمبان معمارية صناعية او ناطحات سحب، مثبت على احداها شكل مصغر لانسان هائم في الافق.
وبالدوران حول البنية المعمارية، قد يتحول هذا العمل المركب، المتنوع الاشكال والخامات الى عملية دالة، فبدلا من رؤية الآنيتين المثبتتين كوحدتين منفصلتين تتعارض اتجاهاتهما، فتبدوان منفتحتين لكافة الجهات، لتصبحا في حالة تكامل وليس تضاد. اما العواميد الفاصلة، فهي تمزج القديم والحديث، الاسطوري والصناعي، الطبيعي والثقافي، مما يوحي بتجاور الأزمنة وتلامس الاضداد. فالخامات المنتقدة تحمل ايحاءات بأزمنة ولت، وثقافات تبدلت وتنوعت، فهي تذكرة بالطبقات الثقافية المحفورة في تاريخ الإسكندرية تساعد المشاهد على تقبل تنوعها الثقافي. فالعوائق الفكرية التي تظهرني ازمنة التحول تدفع الافراد الى الارتداد الى حقب ثقافية تتفق وتكوينا تهم الايديولوجية، مما يصيب التكامل الثقافي بالتفكك. ويسعى هذا العمل المركب الى تجاوز الشقاق الثقافي بتجسيدا للمدينة بوصفها فضاء تمتزج فيه العناصرا لطبيعية والثقافية لتستوي علاقة الفرد ببينته.
وقد قامت مؤخرا عدة مشروعات لتنمية الوعي البيئي لدى الافراد، بتمويل من هبات مالية تبرع بها افراد ومؤسسات، ذلك لتجديد مدينة الإسكندرية، وقد نفذ عبدالسلام عيد العديد من الجداريات، من بينها الجدارية التي تعتلي مدخل كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية (1997، خامات متنوعة، 200متر) وهي تجسد صورا تستوعب اساليب فنية متنوعة، فتمتزج فيها فنون الايقونة، والفنون البطلمية والاسلامية، والشعبية، وكلها اساليب فنية تبتعد عن التجسيد الطبيعي. وفي تجاور الصور والزخارف المستمدة من سياقات ثقافية متغايرة، تحمل دلالات ذات خصوصية في ذلك التجاور ما يثري تلك العلامات الدالة. فاستخدامها خارج اطارها الثقافي المحدود يكشف عن امكاناتها في الحوار مع عناصر تصويرية مغايرة، بتكوين ترددات ومتوازيات تشكيلية تدعم توازن التكوين. والسيدة التي تنتصف التكوين تتقدم الى الامام وتنظر الى الخلف، وكأنها تتوسط للتوفيق بين الماضي والحاضر. اما العجلة الزجاجية الدائرة والخاصة بالمركبة التي تقودها السيدة، فتعمل على تحويل التجربة البصرية الى حركة فعالة، فالألوان القوية المستخدمة تقرب العجلة الى صدر الصورة، والدرجات اللونية المستخدمة تقترب من الاستخدام اللوني في الفن الشعبي. وتنجح تلك التجربة في اظهار امكانية دمج فن الايقونة بفن الخط، والفن الشعبي بالتصميمات الحديثة. فالدوران الممتد للعجلة تردده الكتابات الحروفية الدائرية التي تعبر عن الاستمرارية، أما النافذة الوسطى فهي تصور بحرا، او امكانية استيعاب ما هو خارج الحدود في الحاضر، مثلما أمكن تمثيل الماضي في عالم الجدارية. فالتشكيل الجداري لا يتوقف عند حدود الزخرف لتجميل المكان، بل يساعد المشاهد على اعادة النظر في المحيط البيئي، والتعرف على الملامح الثقافية المتنوعة للمدينة، وتفاعلها مع خصائصها الطبيعية،ألك حتى يتسنى للمشاهد تغيير رؤيته المحاصرة بالتجاوزات التي نالت من تاريخه المتنوع، وانقضت على الأماكن العامة التي يرتادها، وهي تجاوزات تحركها اما مصالح ايديولوجية أو استهلاكية. فيغدو التشكيل الجداري فضاء للتجربة البين ذاتية، حيث يتيح الممارسة الجمعية، والتفاعل المشترك.
حينما تنخرط التجربة الفردية الذاتية في الممارسة الجمعية تغدو تجربة بين ذاتية، مما يوفر امكانات لانماء حوار بين للثقافات. ويتطلع عبدالسلام عيد الى اقامة ذلك الحوار في جداريته المدينة 2(1993، 11×22مترا، متحف توني جارنييه، ليون، فرنسا). ففي هذه الجدارية تتجسد ثلاثة عواميا منقوشة بلغات بصرية متعددة، فهي تتكون من جزئيات تشمل ايقونات، واشكالا اسطورية، ورسو مات بيانية في أشكال حر وفية، حتى يصعب تفسير تلك النقوش تفسيرا واحدا، ينسبها لثقافة بعينها. فالعلامات تشكل نسيجا بصريا يعيد صياغة ثقافة مصر والعالم بقراءة العلاقات التبادلية بين مفرداتهما الثقافية. وبتمثيل عناصر المزاوجة والتفكك التي تربط الثقافات وتفرقها في آن، يثير هذا التكوين التساؤلات لصعوبة تصنيف علاماته في اطار تراث ثقافي بعينه، فقد يمثل واجهة معبد او صورة خائلية (Virtual image وفقا لترجمة نبيل علي للمصطلح (2001))، يبثها جهاز الكتروني فالمشاهد بصدد بضع علامات قد تكون ذات مرجعية تصويرية، او الكترونية وعليه التعاطي معها دون تثبيتها في نقطة مركزية، او محاولة التوصل الى صياغة نهائية لها. هذا العمل المركب يلمس العلاقات بين العلم والفن، الشرق والغرب، وهي علاقة تكاملية تتجاوز الثنائيات المتعارضة، فهناك حاجا لاضفاء مسحة روحية على التكنولوجيا. فالتكنولوجد ليست وليدة الفكر العقلاني وحده، بل ولدتها الارادة الصلبة أو الإيمان القوي الناشئ عن الميتافيزيقا الشرقية، تلك المسحة الروحية ألهمت الغرب في عصر الأنوار لتتحول الى دافع للعمل أشعل الثورة الصناعية. فهناك حاجة لفهم روح العلم، وعلم الفن، وحاجة لمساءلة الحداثة عبر الذاكرة ولإعادة تقييم الماضي عبر المخترعات الحديثة حتى يتسنى للفرد ايجاد موضع في عالم الغد.
يظل التمثيل المرئي لمدينة الإسكندرية يجسد تساؤلا متجددا حول التحولات الدينية والمدنية، كما يجسد الصراع القائم مع المفاهيم الشمولية عن الجمالية، التي تتناقض مع الخصوصية المحلية. والمخاطر الناجمة عن الدعب المتعسف مع الثقافة الغربية دفعت بفناني الإسكندرية الى تجديد عنصري الزمان والمكان، حتى يتسنى البقاء على الخصوصية في ظل التعددية الثقافية. وفي اعادة قراءة تمازج من التمثيل المتنوع لمدينة الإسكندرية ما يفسح المجال لاقامة حوار متوازن بين الشرق والغرب في الزمن الراهن.
المراجع
Grabar, Andre. (1953). Byzantine Painting. Swizeland. Skira. (1996). Alexanrie, 1830-1930: Histoire d’une communaute citadaine.
Ilber, Robert.
Le Caire: Institut Francais d’archeologie Orientale.
Orientalism: History. Orientalism in Art. Mackemzie, Hohn M. (1995).
Theory and the Arts. New York: Manchester UP, 1995: 43-69.
And Femal Imagery in Nineteenth Century Art,. (Nochin, Linda. 1996 Women, Art & Power. London: Thames & Hudson: 136-144. Eroticism
The J. The Alexandrian Style: A Mirage?. Stewart, Andrew. (19996). & Alexandrianism. Symposium J. Paul Getty Museum. Califrornia:
Alexandria
Paul Getty Museum: 231-46.
عالم دوستاشي: الفن والحياة، كتابات نقدية خلال ربع قرن: 1967-1993 (1993) الاسكندرية: كتالوج 77.
علي، نبيل (2001) الثقافة العربية في عصر المعلومات، الكويت المجلس الوطني للثقافة والفنون والاداب، سلسلة عالم المعرفة، عدد 265.
ماري تريز عبدالمسيح (ناقدة واكاديمية من مصر)