م . أ
لكل أديب عالمي أرشيفه الخاص من المراسلات الأدبية التي تعكس بلا شك أرشيف حياته الإبداعية وتؤصل علاقاته الثقافية والاجتماعية والسياسية بمحيطه الوطني والقومي والعالمي، وارشيف المقالح من المراسلات الأدبية على تعدد مساراتها الموضوعية المتنوعة تحت واحدية الأدب الإنساني، واسع وجدير بأن يكون محل دراسة وبحث وتحليل مضمون، لا أن يختزل في قراءة عابرة كهذه المادة، غير أننا سنقرأ بعضا منها وبما يزودنا برؤية حول أسباب تميز علاقات الدكتور المقالح مع رموز الأدب القدامى من جيله، وأجيال الحداثة التي واكبت زمنه وكان قطبا محوريا في صناعتها وتوجهها الإبداعي.
قبل الدخول إلى عوالم صداقات المقالح التي أنتجت كمّا هائلا من المراسلات الأدبية بينه ورموز الأدب والفكر الخارجية وبالأخص العربية، ارتأينا ضرورة التعريج على الإشارة الخاطفة إلى حضور المقالح النضالي مع رموز النضال الوطني وقامات الثقافة العميدة، أجيال الحداثة والأحدث في البلد، على المستوى المحلي، حيث شكّل المقالح وجهة صداقة وإخاء لكل مجايليه، وأبوية روحية لأجيال الحداثة، فبين أيدينا مراسلات كثيرة ومتعددة من أصدقائه الوطنيين، سواء تلك التي من الفضاء الأكاديمي والثقافي المتفاعل على الساحة الوطنية فكريا وثقافيا وسياسيا، أم تلك التي بعث بها أصدقاؤه المناضلون من السجون حيث كانوا مكبلين بالأغلال لتُهمٍ تمس الفكر والتوجه فقط، ولعل أهم تلك المراسلات، رسالة موجهة إلى الدكتور المقالح من سجن القلعة بصنعاء، خطها صديقه الأثير والمقرب الشاعر الكبير محمد عبد السلام منصور في عام 1972م، وكان مسجونا مع مجموعة كبيرة من مثقفي ومفكري اليسار بتهم انتمائهم الفكري والسياسي لأحزاب اليسار ومنها الاشتراكي الحاكم في جنوب الوطن والمتهم يومها بحادثة بيحان التي راح ضحيتها عشرات المشايخ من بينهم الشيخ الغادر..
هذه الرسالة التي تحمل عنوان: «جوانب إيجابية في السجن» لخصت برصانة واقع البلاد برمتها من داخل الزنزانة، مؤصلة قدرة المثقف والمفكر الثائر دائما على التكيف مع الظروف وموصلة مسيرة الحياة وفق كفاح يبني الذات ولا يستسلم لليأس والإحباط، وفق سياق جبري يؤكد مفارقات التاريخ في رموز عالمية قادت التحولات في العالم بمجرد خروجها من خلف القضبان، ويقول محمد عبد السلام منصور في رسالته: «أخي العزيز الشاعر العربي الكبير عبد العزيز المقالح، في هذا الزمن الذي يسعى سدنة ماضيه إلى تسفيه ما كان لدينا من إصرار على التمسك بجوهر فعلنا الثوري، أجدني مضطرا إلى أن أحييك تحية الفعل الثوري ذاته: فتحيةً ثوريةً نقيةً تتمنى عليك وعليَّ الوقوف، من أجل اليمن، موقفا أخلاقيا يلفت إلى قيم ثورتنا الإنسانية، التي كفلت حقوق المواطنة اليمنية المتساوية، حتى لأعدائها، ومدى أهمية التمسك بجوهر هذه القيم كونها هي الأسس التي لابد أن ينبني عليها مجتمعنا اليمني الحديث، الذي استهدفه قيام الثورة ذاته، مجتمعا موحدا يحكم نفسه بنفسه، من أجل أن يحقق لأفراده الكفاية والعدل والحرية، وهو مؤمن، في الوقت نفسه، أنه جزء لا يتجزأ من وطن عربي كبير، يجب أن تتوحد إمكانياته الاقتصادية والبشرية والثقافية».
لقد عكست تلك الرسالة المطولة التي تزيد على 4000 كلمة، جيلا مميزا يبنى داخل السجون، خصوصا عندما تتعلق أسباب سجنهم بتهم موصولة بالفكر والتوجه والثقافة الإنسانية العالمة، وأهمية السجون في هذه الحالة تكمن في تفجير طاقات الإنسان وإصراره على مواصلة حياته الفكرية والاستشرافية لمستقبل الشعوب، فتستوي عند تلك النفوس جدران السجن وفضاء الحرية المطلقة، فالجدران لا توقف حياة الإنسان بل تمنحه الإصرار على البقاء حرا في فكره ورؤاه، وفي هذا السياق يقول محمد عبد السلام منصور في تلك الرسالة: « إن هذه الرسالة لا تريد التحدث عن موضوع هذه التحية الثورية، قدر ما تتمنى عليك وعليَّ، أن يكون موضوع الثورة، مجالا لأحاديث طويلة قادمة تثوِّّرُ النسل وتحيي الحرث، ثورة وحياة دائمتين، وأن يكون موضوعها- وهو الأهم- مجالا لإبداعات جمالية وأدبية وفنية خفاقة الروح، داعية إلى استمرار سريان الحياة في جوهر فعلنا الثوري، وإلى ضرورة التمسك بهِ، والنظر إليه بكونه، في كل مرحلة من مراحل تطورنا، منطلقا حاميا لحكم الشعب، ومجددا لتطور المجتمع، وأن تبقى أهدافه داعية إلى مزيد من العمل الدؤوب حتى تتحقق كاملة، في واقع حياتنا، وبخاصة منها الجانب الاجتماعي، الذي كان إصرارنا، على التمسك به، والسعي إلى تحقيقه، هو سبب الخلافات، التي اشتملت اتجاهات القوى الجمهورية، وأفضت إلى الزج بأهم المدافعين عنها في سجون تتالت على كثير منهم، حتى قيام دولة الوحدة، تم ذلك بحجة نزوعهم اليساري المتطرف».
المقالح وجهة للأدباء العرب
إن الأساس الأهم في إحراز عبد العزيز المقالح مثابة أن يكون حاملا راقيا لهموم مجايليه، تتمحور حول السمة الشخصية المقالحية التي تتميز بسجايا الاستماع للآخرين والتفاعل مع مشاعرهم الوطنية والقومية، وقدرته على الحديث عما يجيش بأفكارهم ونفوسهم، وهي سمات صقلت عبر مسيرته الإبداعية منذ نهاية الخمسينيات وعلى مرور عقدي الستينيات والسبعينيات اللذين اتسعت فيهما علاقات المقالح، عربيا وعالميا، وقد انفتحت تلك العلاقات أكثر بعد وصول المقالح إلى رئاسة واحدة من أهم الجامعات في الوطن العربي وهي جامعة صنعاء، في بداية الثمانينيات ليحيل الجامعة إلى حراك ثقافي وعلمي وورشة عمل دائمة لانعقاد الندوات العلمية والأكاديمية والثقافية والفكرية التي أثرت المشهد الثقافي اليمني والعربي، خاصة وأن تلك الندوات حظيت بحضور كبار الساسة والمثقفين والمفكرين العرب والعالميين..
ولأن فترة أواخر السبعينيات وبدايات عقد الثمانينيات اتسمت بنزوح ثقافي وفكري من القاهرة، إلى عواصم عربية وكانت صنعاء أبرز تلك العواصم بفعل علاقات كبار الأدباء والمفكرين بالدكتور عبد العزيز المقالح، وفي هذا السياق يقول الأستاذ عبد الرحمن بجاش – رئيس تحرير صحيفة الثورة الأسبق- عن أهم قصص مراسلات المقالح الأدبية: في مطلع ثمانينيات القرن الماضي تزامن صدور الملحق الثقافي لجريدة الثورة -الذي تزينت صفحاته بـــ : عبد العزيز المقالح أولًا، أبو بكر السقاف، يوسف محمد عبد الله، عبد الودود سيف، عبد الباري طاهر، علي حمود عفيف- وأقلام تدفقت من مصر بفضل الأب الروحي د. عبد العزيز المقالح الذي كان يطلب منا (أنا والأستاذ إبراهيم المقحفي) عمل حوارات صحفية ثقافية مع أبرز الرموز النخبوية من أصدقائه المصريين في صنعاء ومنهم أحمد دحبور، وفاروق خورشيد، وغيرهما.. كان ذلك عقب ذهاب السادات إلى القدس في تلك الزيارة التي لم نزل نتجرع ويلاتها إلى اللحظة، تدفقت القاهرة إلى صنعاء، وفيما بعد بعث الناقد العربي الشهير الدكتور عبد القادر القط رسالة إلى الدكتور عبد العزيز المقالح يقول له وهو يشْتَمُّ رائحة حبر حروف ملحق الثورة الثقافي الصادر من صنعاء: “لم أكن أتخيل أن القاهرة ستنتقل إلى صنعاء”.
من عبد الوهاب البياتي
كثيرا ما ارتبطت مدن العالم بأسماء أدبائها وأعلامها، لكن ارتباط المقالح بصنعاء ذات صبغة استثنائية، حيث تشكل ظاهرة ارتباط مكاني أزلية قل أن تتكرر، ربما لما غمرها من قصائد كتبت وستكتب عبر الأجيال القادمة بماء الذهب، صحيح قد نذكر قامات كثيرة عند الحديث عن صنعاء، لكن الوجه الأول الذي يحضر هو المقالح، وبصورة تعكس عمق واستثنائية انتمائه لعالم صنعاء الحضاري والتاريخي والبشري، إلى درجة أن تكون صنعاء والمقالح وجهين يعكسان اليمن جغرافيا وإنسانًا.
لا مبالغة في ذلك، فهذا ما حملته رسالة خطية من مدينة مدريد الاسبانية إلى صنعاء، وهي بين أيدينا برائحة الحبر والورق، من زمن الخط الجميل، وحضور القلم في كل التفاتات حياتنا قبل أن تطغي التكنولوجيا والهواتف الخلوية على سلطة القلم، وقد خطها الشاعر العراقي العربي الكبير عبد الوهاب البياتي في 27 يونيو 1983م يقول فيها بعد التوطئة الخطابية إلى الشاعر الكبير عبد العزيز المقالح: وصلت مدريد، كما يصل الطير المهاجر حاملا غصن زيتون حبكم وصداقتكم واخوتكم، ان اللغة تعجز أحيانا عن التعبير عما في قلب العاشق المتيم، خاصة إذا كان عاشقًا لصنعاء ومآذنها وشمسها وقمرها وشعرائها وحكمائها وقديسيها ولأناسها الطيبين الصدِّيقين الواعدين والمبدعين والكادحين.
ويواصل البياتي في رسالته الدافقة بالمشاعر الدافئة: لم أشعر بسعادة في حياتي مثلما شعرت بها وأنا أزور صنعاء النور والمطر والفجر العربي الصادق، صنعاء الحب والإنسان، صنعاء عبد العزيز المقالح، والبردوني وسواهما من الشعراء ورجال الشمس الطالعين من أرض الله والشعر والإنسان …. إلى آخر الرسالة المضمخة بالأشواق الصادقة، التوقيع عبد الوهاب البياتي.
رسالة بلغة باذخة
ومن أرشيف المقالح الأدبي يتجلى زخم الثراء التواصلي المفتوح على رموز الأدب والثقافة والمعرفة في الوطن العربي، ففي رسالة وجهها الأديب البحريني الدكتور كمال أبو ديب يتحدث بوجدان مفتوح دافق بنسق الحداثة، عنونها بــ : «صنعاء.. ذاكرة الحروف والخطوط والألوان- في رسالة من كمال أبو ديب إلى عبد العزيز المقالح» يقول فيها: عبد العزيز، أخي وصديقي، وعزيزي، مثلما تسعى قصيدة للولادة، تلوب من أجل أن تجد إيقاعها القادر على تجسيد النبض واللهفة والعشق، ولغتها التي في مستوى الألق المجهد في الروح، تحاول رسالة أن تكتب نفسها عني إليك، وإنني لأجد الرسالة على صعوبة القصيدة في هذا الفضاء الروحي، الفكري، الأسطوري الذي قذفتني إليه اليمن. لأسبوعين ما زلت ألهث بحثًا عن اللغة التي تستطيع بحثا عن جسدٍ من الورق والكلمات يكون في مستوى العظمة-السحر-الفتنة-الفيض-الدخول-الاحتواء-التيه، التي جميعا هي اليمن: اليمن وأنتم- هذا التكوكب المضيء من الوجوه الحبيبة الألفية النائية الدافئة الفياضة بالحياة، التي هي وجوهكم جميعا.
ويضيف كمال أبو ديب: أنتم الأهل والصحب والآل والرفاق، عبق تاريخ من القات والجبال والوديان والخطوط البيضاء التي تتسلق جدران صنعاء الكامدة بألقها الخافت البهي والذرى الشمّ الصمّ التي يتمجد في امتدادها وشموخها الصخر والحجر كما لا يتمجد صخر أو حجر في أي مكان من العالم (….).
ويواصل الدكتور كمال أبو ديب في رسالته ذات اللغة الشاعرية الباذخة: كيف أقدر أن أكتب لك ما يسمو إلى جلال العالم المذهل الذي كنت إليه دليلي، ورفيقي ومضيء دربي!؟ كيف أقدر أن أشحن الكلمات بكل ما فيك أنت من عطاء ودفء ومحبة وفيض وصلابة وتفنن ومهارة في منح كل شيء نعمة تويجات الياسمين وصلابة صوَّان الجبال!؟ كيف أقدر أختصر هذه الكينونات التي تعج بالحياة والخصب فأحيلها إلى كلام، ووجوهكم تطغى تزاحم الكلمات تفرقها من بين يدي لتمثل مكانها على الصفحات!؟ عبد السلام صبرة، عبدالله صبرة، فأرى عالما ينهار، وعالما أبيا معتزا يتلهف لعجن المستقبل بصورته: صورة الحياة الواعدة الفياضة بدم الأرض التي تتعطش- كما بلقيس في معابدها- لألف إله جديد يجدد خصبها وبذرة العطاء في ذرّاتها. عبد العزيز المقالح، فأرى وداعة تنبع من ليونة التربة في الجبال الخضر، وأرى شموخ الصخر اليمني على الذرى الشاهقة، وتوحيد اليد التي تشق الأرض بالتربة التي تبدعها من بين يد ثنايا الصخور لتكون يمن القهوة والقات والزهور البرية و(الصعتر) وزهو الأرض بألف لون وعشبة وشجيرة (…..).
ويستعرض الأديب والمثقف المبدع كمال أبو ديب في تلك الرسالة حلقات من سلسلة لا متناهية من الأسماء العابرة لتاريخ ماضي الحضارة اليمنية، من قلاع وجبال ومدن وشخصيات ذات قداسة دينية، وأخرى ذات حضور تاريخي حاكمي توزعت على مناطق الزمن اليماني، وأخرى من أسماء الحاضر اليمني الثقافي والشعري والإداري والدبلوماسي والنضالي والإنساني البسيط، وفي سياقات غاية في الإبداع الصياغي التي تتكامل فيه فتنة الكتابة التشكيلية التصويرية، حيث يقول: عبد العزيز، يا أخي وعزيزي، وصديقي. قد أظل أكتب عنكم، عن اليمن، عن الأسطورة التي عشقها الشماليون، فاكتشفها قلبي اللاهف إلى الغرق في أسطورة جديدة حية، وقد أظل أتلمظ أسماءكم وأحاديثكم إلى أن يتلمظ جسدي التراب، لكنني دائما سأفعل ذلك بمتعة متجددة، وثراء غير عادي. والأسطورة، والاكتشاف، وأسمائكم، ووجوهكم، وتاريخكم، وتاريخي الجديد، أنا مدين بإطلاق لواحد فقط: أنت.
ويواصل أبو ديب ضمن مقام آخر من رسالته المطولة مخاطبا الدكتور عبد العزيز المقالح: ستلاحظ دون أدنى شك أن ثمة وجها غائبا من الكلام، وستدرك لماذا !؟ لأنه الوجه الحاضر في القلب حضورا ناصعا مجللا بالأسى، محترقا بالدمع، كأنني أخاف أن أتركه ينبثق على الورق فيحرق يدي التي تحاول أن تكتب ويشل قدرتها على قول أي شيء آخر سوى تقيس الحزن. إنه وجه عبد الفتاح عبد الولي، كأنما اليمن أبت إلا أن تدمغ تاريخها الجديد بسمة تاريخها الأولي: ازدواج الفرحة والدمعة، اقتران القلاع التي هي سجون للأحرار، بقلاع الصخر التي هي مساكن للبشر الطيبين في ذرى جبالها الشامخة، اتحاد تاريخ الدم والعذاب والمأساة بتاريخ الغبطة والمجد والتمكين، كأنما اليمن أبت إلا أن تمنحني أصالة وجودها، وصدق تجربتها، فأصابت عبد الفتاح بما أصابته قبل يومين من سفري لكي تغمرني أنا العاشق الحقيقي، بماء جسدها الحقيقي. عبد الفتاح الذي ترك دمغته في حياتي لمئة سبب وسبب كان آخرها هذا الثراء الإنساني الباهر الذي تدفق من شفتيه حين قال لي مودعا ليلة سفري: لقد أحببناك.. وإنني لآسف لأن زيارتك انتهت بمأساة».
ويضيف كمال أبو ديب مخاطبا المقالح: تصور! عبد الفتاح المضروب بالفاجعة، يظل قادرًا على أن يرى ويتحسس أسى الآخر بهذه الطريقة المذهلة. لو كان مقاله ختاماً لقصة كتبها لاتهمته بأنه يختلق إنسانًا مذهلا غير عادي، لكنها لم تكن قصة، كانت نبضًا فذًا بإنسانية الإنسان. يظل عبد الفتاح معي، وسأصلي من أجله، من أجل أن يمنحه الزمان رقة أنامله فيمسح جراحه.. ويتطرق كمال أبو أديب إلى قائمة من الأسماء التي قابلها في جامعة صنعاء في حارات صنعاء القديمة، وفي مجالسها ومقايلها، و و و (….) إلى آخر تلك الرسالة التي لم أجد أعذب من كلماتها، وأحدث من الصور الشعرية التي تجري في سطورها مشكلة مشاهدَ من المخيال المشحون بطاقة هائلة من صدق المشاعر.
بين الجغرافيا والأدب السردي
الأديب القاص والأكاديمي الجغرافي العراقي شاكر خصباك يبين هو الآخر في رسالته المطولة عن تفاصيل تاريخ أدبي عربي عريق معرجا في رده على استفسار المقالح: لقد سألتني عن علاقتي بالمجلات الأدبية خصوصا والأدب عموما، ولكن قبل أن أحدثك عن ذلك أود أن أطرح سؤالا يتردد في أعماقي دومًا: هل الفن بمختلف أشكاله- إحدى غرائز الإنسان، شأنه شأن غرائزه الطبيعية الأخرى..؟ أم أنه من نزواته العاضة؟ أنا شخصيا لم أصل إلى جواب، ولعل غيري وصل إلى الجواب (….)»
لقد استرسل شاكر خصباك في رسالته المطولة منطلقا من جدل فن الكتابة بين النزوة والغريزة، معرجا على قضايا سياسية وأدبية في الوطن العربي ومحطات تاريخية موصولة بالمجلات الأدبية والثقافية وعلاقتها بمسار الثقافة العربية وبناء العلاقة الاجتماعية بين الجمهور والنخب والحكام، والقضايا الخلافية التي كانت تعكر صفو حرية الفكر والتعبير والأدب، متطرقا لظروف فصله من جامعة بغداد في مطلع الثمانينيات وكيف ظل حبيس منزله على مدى خمس سنوات وُجِّهَت إليه خلالها طلبات مختلفة من الجامعات العربية، للالتحاق بها، وكانت تلك الطلبات تصد بسياج من تجاهل السلطات المعنية، حتى استجابت السلطات العراقية لطلب رئيس جامعة صنعاء الدكتور عبد العزيز المقالح في عام 1985م بأن يلتحق بها شاكر خصباك (المولود في مدينة الحلة العراقية في عام 1930) والذي يعد من أبرز علماء الجغرافيا في الوطن العربي وصاحب إسهامات بارزة وعالية المستوى في الفنون السردية المختلفة من رواية وقصة قصيرة ومسرح، وقد صدرت أعماله الكاملة في دمشق في ثمانية مجلدات تحت عنوان «المؤلفات الإبداعية».
هموم الحروب
الحروب الأهلية التي نشبت بين الحَينَة والأخرى في أكثر من بلد، لتمثل تلك الحروب واحدة من أهم ما اتسمت به الشعوب العربية في العصر الحديث، ولم تكن تلك الهموم الإنسانية في منأى عن مراسلات المقالح وبالأخص الحرب الأهلية اللبنانية خلال (1975-1990م)، وتداعياتها التي أثارت معاناة مريرة لدى المفكرين والكتاب، وفاضت شكواهم من أوضاع وطنهم، فكتبوا حول ذلك أعمالا إبداعية مميزة، كما عبروا عن تلك المعاناة برسائل لأصدقائهم وزملائهم، وكان المقالح وجهة لعدد من تلك الرسائل التي من أهمها رسالة الدكتور «معن بشور» وهو مفكر وسياسي عربي من لبنان وناشط في القضايا العربية من خلال مؤلفاته ومواقفه، وقد حملت الرسالة المعنونة بـ«الحصار الأقسى» يقول فيها: الدكتور معن مخاطبا المقالح، صباح الخير ! وأقول: صباح الخير لأنني أكتب في صباح يوم جديد من أيام لا يعرف فيها الموت التعب، ولا القصف المجنون الراحة، ولا الحصار القاسي حتى التثاؤب… ولأن صباح الخير في بيروت كلمة باتت اليوم مثقلة بالمعاني والدلالات، فالصباح منشود بعد ليالي العبث بالحياة والمصير، والخير مفقود في زمن ينبت فيه للشر ألف مخلب ومخلب، ولقد عشت حصارات كثيرة، مع أطفالي ورفاقي وشعبي، لكن دون شك أنه الحصار الأقسى والأدهى، لأنه مطوق بألف التباس والتباس، لأنه مطوق بألف عجز وعجز عن سؤال يقول: من يقصف من ؟! ومن يساعد من ؟!
وأضاف معن بشور: عزيزي الدكتور: لقد كنا مندفعين في حركتنا الوحدوية اللبنانية والعربية، وكان نشاطنا يملأ ساحات عراضا في البلد الصغير، حتى فوجئنا بهذه الحرب التي تعددت أسبابها وأشكالها، لكن يجمعها دون شك شأن بارز: أن للحرب في لبنان مصالحة ضالعة، وقوى مستفيدة، وأدوات بات مصيرها مرتبطًا بديمومة هذه الحرب دون شك، ولا أدري كيف سننتزع لبنان الجميل من براثن هؤلاء جميعا… أرجو منكم أن تهتموا بما يجري في لبنان، وأن تطالبوا بالضغط أولا وأخيرًا على «عماد» اعتمد الجنون وسيلة للوصول، وأصر على أن يكون نيرون عصره الجديد… مستفيدا دون شك من أخطاء وتجاوزات وممارسات لنا جميعًا عليها ملاحظات.. ولعل في تجربتكم اليمنية ما يجعلكم تفهموننا أكثر؛ فكل الأخطاء لم تكن لتبرر عودة الحكم البائد، وفي لبنان ما من شيء في الدنيا يجب أن يبرر حكم التواطؤ مع العدو الإسرائيلي والغرب الاستعماري، تحت شعار: الامتيازات … مع هذه الرسالة جملة مواقف وبيانات ونشاطات لنا أرجو أن تطلع عليها مع إخوتنا هناك، وأن تساعدنا في إيقاف هذه المجزرة الملعونة المستمرة.
أخوك: «معن بشور»
الصداقة الممتدة عبر الزمن
ومن الرسائل المهمة المتبادلة بين الدكتور عبد العزيز المقالح والأستاذ عبد التواب يوسف أحد أعلام العرب المشهورين في مجال الكتابة للأطفال، تؤصل رسالة الأخير إلى الأول امتداد الصداقة بين المقالح ورموز الأدب العربي إلى حقبة الستينيات، حيث تحمل الرسالة عنوان: «عمق الصداقة الإنسانية، وطول العهد بصداقة طويلة» يقول فيها عبد التواب يوسف: «العزيز عبد العزيز، خالص تحيتي ومحبتي ومودتي… ما تلقيت دعوة منك لليمن ولصنعاء إلا وعلى الفور قبلتها، دون تفكير أو تدبير، ومن غير أن أتطلع إلى أجندتي فقد يكون هناك ما يمنعني من تلبية كريم الدعوة على اللقاء بك؛ لأنك منذ غادرت القاهرة، وكنت غائبا عنها، وعدت لليمن، قررت ألا تغادرها، وأضحى ما من سبيل إلى رؤيتك والالتقاء بك غير أن آتي إليك، تغلبني عاطفة الشوق الجارف. أقول هذا، رغم أنه يدلل على ضعف شديد، لكنني أعترف به، ولا أجد في ذلك غضاضة: لسبب واحد. وهو عمق الصلة الإنسانية بك، وطول العهد بصداقة امتدت ما يزيد على الأربعين عامًا، وهي حالة أراها نادرة على مثل هذه الصلة الحميمة، الودودة الطيبة، فقد أرجأت رحلة إلى جامعة أمريكية في الثمانينيات، من أجل القدوم إليك، ولا أظنني ذكرت لك هذا؛ إذ لا فضل لي في ذلك على الإطلاق، ولست أنسى يوم حدثني د. عز الدين إسماعيل، يوم اثنين فقال لي: إنه في طريقه إليك يوم الخميس، وسألني مداعبا: هل تأتي معي.؟ وإذا بالدعابة تصبح حقيقة جادة، ووجدت نفسي معه في الطائرة حقًا وصدقًا؛ وبدون دعوة ما من سبيل للقائك غير مثل هذه الجرأة، وأنت تعلم أن الفلاح المصري –بداخلي- لا يحب السفر والتنقل، ويرتعد من ركوب الطائرة؛ لكنني هذه المرة أخالف هذه القاعدة غصبًا، مضطرًا، مع أنني أعلم أنني قد أحْرم من لقاء أراه في كل مرة «الأخير». وإذا بالأيام تحقق وتدبر جديدًا أحمد الله عليهن وأذكر فضله؛ والسبب واضح، هو أنني وقد بلغت اليوم بالذات، أول أكتوبر ، يوم ميلادي الماسي، بعد أن مد الله عمري، ومنّ عليّ بهذه السنين الطوال…. آخر الرسالة.
التوقيع عبد التواب يوسف
مفارقات العصر القاسية
زمن الإعلام والتطور الفضائي أفرز جملة من المفارقات الكبيرة والقاسية على ذاكرة الأمة العربية التي غدت مستهلكة وقابلة لكل ما يأتيها من الغرب، من رسائل إعلامية وتغطيات لحروب لا صلة لشعوب أمتنا بأسبابها سوى أنها المفعول به دائما، قتلا ودمارا من قبل الفاعل الظاهر كالشمس في رابعة النهار، وهو آلة الحرب الغربية، التي تحاربنا على مسارين، حروب الفكر والإرهاب الإعلامي، وحروب الدماء بأفتك الأسلحة المتطورة في العصر الحديث. وفي هذا السياق لفتت انتباهي رسالة نادرة واستثنائية للأديبة والمفكرة اللبنانية الدكتورة يمنى العيد، وتكمن استثنائية هذه الرسالة في كونها جاءت بمناسبة زمن تعرضت فيه العراق لأولى غارات طيران الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الـ34 دولة مطلع عام 1991م وهي البداية التي فتحت حروبًا وحصارًا استمرت 13 عاما حتى سقوط بغداد العاصمة العربية الأكثر حضورا ثقافيا واقتصاديا وعسكريا في الوطن العربي والشرق الأوسط، وكان سقوطها الأليم تحت مبررات طويلة معلنة ذابت جميعها، وظهر للسطح بعد سقوطها مبرران جديدان لا ثالث لهما : الاستيلاء على النفط، والدفاع عن الكيان الصهيوني الحليف الأقرب والحميم إلى قلب الإدارة الأمريكية (….).
تقول الأديبة والمثقفة يمنى العيد في رسالتها التي عنونتها بـ : «لقد غدونا ألمًا صافيًا» : الأخ الصديق الدكتور عبد العزيز المقالح أود أن أكتب لك، لكني أجد الكلام صعبا لأنه معلق بين ما نرى وبين ما نود أن نرى، أجلس ساعات طويلة على غير عادتي، إلى الشاشة الصغيرة، الأقمار الصناعية تنقل لنا مباشرة ما يجري، من محطاتهم الأمريكية ( CNN) والفرنسية (TEY) والإنكليزية (SKY NEWS) تنقل لنا، هم يفعلون ويصورون، ونحن نرى، نشاهد كل ما يجري، الحرب في الخليج، الآراء، المواقف، التظاهرات… وفي كل العواصم العربية والغربية، يقدمون لنا المشهد بعيونهم، ولكننا ننظر إليه بعيوننا وقلوبنا، نرى؛ نتألم أكثر من الألم، لقد غدونا ألمًا صافيًا. الحرب، الفضيحة، المأساة…. ماذا أقول؟ فالكسور تملأ قلوبنا، لكننا نعي أن علينا أن ننهض من تدمير إلى تدمير.
وتطرقت الدكتورة يمنى العيد في رسالتها المحروقة بالألم والتي كتبتها فجر 28 فبراير 1991م: كأن علينا أن نكرر البدايات، هل علينا حقا أن نكرر البدايات! ألا تعتقد أن علينا أيضا، الآن وأكثر من أي وقت مضى، صياغة أسئلتنا حول مفهوم التحرر الوطني في تعقدها !؟ من الصعب عليّ القبول بفهم لها يضعها في حدود علاقة ثنائية بسيطة؛ علاقة بين قطبين، كما هو سائد في معظم الخطاب الثقافي العربي، أو المركز والأطراف…. ذلك أني أرى في مثل هذه العلاقة تغييبا لطبيعة الطرف/القطب، بل إن الطرف/القطب، وخاصة «أنا» «شرق»- «طرف يبدو في هذه العلاقة، أو قد يبدو واحدًا مما هي هذه الـ«أنا» ومن هو هذا الشرق، أو هذا الطرف؟ هل هو الكل أم هو النظام أم هو المجتمع أم هو الثقافة أو السياسة أو التاريخ.. ؟ وهل تتساوى في الطرف التيارات أو المواقف… من حيث علاقتها بالمركز ؟!
وقالت الدكتورة يمنى العيد مخاطبة المقالح: ألا تعتقد أننا بحاجة إلى فكر نقدي (أقول إلى نقد أدبي) ؟ ألا ترى إلى أهميته، وأهمية تأمين شروط لممارسة مثل هذا الفكر، فلا نقع في الارتجال ونسمي ذلك ديمقراطية؟ ذلك أن ممارسة الفكر النقدي هي في الواقع، ممارسة المعرفة؛ المعرفة في متغيرها الذي هو أيضا متغير معرفي، ولئن كان للمعرفة طابع القناعة، أو كانت المعرفة تؤدي إلى القناعة فإنها ليست ثابتة، ليست مساحة أبدية بل وظيفية تاريخية، ونحن معنيون بإنتاجها كي لا نقع في سهولة القبول وفوضاه أو عفويته، نحن معنيون لإنتاج متغيراتنا المعرفية وفق خصوصية تركيباتنا الاجتماعية، وهذا عمل شاق وطويل ويحتاج إلى إخلاص حقيقي، وجهد معرفي جماعي، وتضحية، و… إلى آخر الرسالة الأكثر حزنا وألما..
التوقيع: يمنى العيد