تعكس الاسطورة بيئة بظروف خاصة تؤدي فيها الأسطورة دورا أخلاقيا مثاليا يتضمن اعراف وعادات الناس عبر تاريخ طويل من التفاعل مع الحياة الملغزة بالمعرفة اليسيرة للمجتمعات القديمة "فالأسطورة هي التعبير عن الحقيقة بلغة الرمز والمجاز"(6) وتتراكم الخبرة الانسانية وتنطق عبر علاقات مترابطة مع الكائنات خاصة تلك التي يكون لها دور هام واساسي في المعيشة أو لعلامة ما، فتسبغ مظهرها الانساني على الاشياء وخاصة الحيوانات . "واتحاد الانسان مع العالم الحيواني الطبيعي حقيقة وجودية هي "الطوطمية " التي تقيم اوامر قرابة ما بين جماعة بشرية وحيوان معين "(2) فالأسطورة أداة تفسير وصوت الخبرة الانسانية ترسي قوانينها بفم مقدس ، تتفوه بالقانون الذي يحافظ على الحياة من منظور اخلاقي، والرواية ، كرؤية فنية للحياة ، تعكس واقعا اجتماعيا في ظروف محددة ، تستلهم من الاسطورة المبادىء الاخلاقية في الواقع الروائي ، فتتبدى الاسطورة مصدرا للوحي يلزم باحترامها وتقديسها ، وتظهر من خلاله اقدار «الكون الروائي» المغلف بالطقوس السحرية ، وبالمعرفة العميقة الجذور للارث الانساني الذي يتشبث بدور المتحكم في المصائر بفاعلية الجذور البعيدة في الزمن ، المؤثرة في التكوين الانساني ذي المخيلة الخصبة القادرة على الاقتراع والتأليف بلغة تحل اشكالات الواقع الانساني والحضاري الكوني.
تتشابه الاساطير احيانا بفعل تشابه تساؤلات البشر، وخاصة لك التي تتقارب في المعتقد والجغرافيا، والبيئة الاجتماعية والثقافية . وسوف نحاول هنا التعرف على ملامح اسطورة من خلال رواية «نزيف الحجر» للكوني، والسفينة البيضاء لآيتماتوف . الاسطورة تدور حول الغزالة الام ، ام القرون في رواية "السفينة البيضاء" لجنكيز آيتماتوف وتسمى المارال ، ويبدو انها نوع من الايل او الردان يعيش في غابات قزقيزيا.
وتدور الاسطورة في رواية نزيف الحجر لكوني عن الغزالة الأم تتداخل مع الردان في تبادل القداسة والمكانة والرباط الانساني "الطوطمي".
وتشغل الأسطورة في الروايتين النقطة المركزية التي تدور حولها الاحداث ، فهي لا توظف جزئيا او هامشيا انما تؤسس العالم الروائي بكل تفاصيله ، فالأسطورة هاجس الشخوص وراسمة اقدارهم .
رواية "نزيف الحجر" فضاؤها الصحراء الكبرى ، وأبطالها «أسوف » الشخصية الرئيسية والاب والام وعدد قليل من الوافدين في حياة رحل يعيشون عزلة منقطعة عن العالم .
وفي رواية "السفينة البيضاء" الشخصية الرئيسية طفل يتيم والجد والخالة والملاحظ والعامل المساعد وزوجته ، وبيئة الرواية محمية جبلية نائية ومنعزلة .
ينظر بطلا الروايتين لبينتهما نظرة واحدة ، فهما يتفاعلان مع محيطهما بإنسانية عميقة .
السفينة البيضاء: (قال وهو يركض "للجمل الراقد" هكذا سمي ذلك الحجر الجرانيتي الاحمر الاحدب الغائص في الارض حتى الصدر ٍ].(3)
["وكان لديه ايضا حجر «السرج » حجر نصفه ابيض ونصفه اسود ابلق به مجلس كالسرج يمكن الجلوس عليه وكأنك على ظهر حصان ، وكان لديه كذلك حجر "الذئب " الذي يشبه الذئب الى حد كبير وهو حجر اشيب ذو لبدة قوية وجبهة ثقيلة "].(4)
نزيف الحجر:
(ثم أصبح يطلق على الاودية والشعب والجبال أسماء الاشباح الموسومة على صخورها، فهذا وادي الغزلان ، وكك شعبة الصيادين ، وذلك جبل الردان ، وذلك سهل الرعاة حتى اكتشف الجن الاكبر العملاق المقنع المنتصب بجوار ودانه المهيب ].(5)
السفينة البيضاء:
تدور الاسطورة في "السفينة البيضاء" حول الغزالة الام _أم القرون التي تتبنى طفلين بشريين وتنقذهما من مصير مهلك .
[المارال : لقد قل الناس ابني التوأمين ، انني ابحث عن اطفال لي ].(6)
[عندما يكبران لن يقتلا ابنائي فسأكون لهما اما وهما سيكونان ابني فهل سيقتلان اخرتهما واخواتهما؟].(7)
نزيف الحجر:
في هذه الرواية يتربص عطش الصحراء برحالة جوال وطفل وامه فتتدخل غزالة ام لتفتدي حياة الصغير:
[كافأ الخالق المخلوقات فأوجدها في الحياة ، ثم رأى ان يمتحن صبرها فأوجدها في الصحراء، وجعل سره في الماء المعدوم ، وجعل سرا آخر في القربان القاسي . من ضحى بنفسه في سبيل انقاذ حياة أخرى وقف على السر وكسب الخلود، ابن آدم يموت عطشا ولن ينقذه الا الدم ].(8)
[ القربان سيفتح عهدا ما بين نسلك وبين ابن آدم سيحرم عليه دم ابنتك وابناء ابناء ابنتك * الى ابد الابدين ].(9)
[نحن الآن وابن آدم اخوة بالدم . هذا الحصن اشتريناه بثمن قاس ].(10)
فهل ينجح القربان والتبني في اتقاء خطر الانسان ، وانقاذ الكائنات المسالمة المضحية ؟
السفينة البيضاء: تحدد المصير كالتالي :
(ومن ذلك اليوم بدات المصائب وحل بنسل الغزالة الام . ام القرون بلاء عظيم ، راح كل واحد تقريبا يصطاد المارال الابيض فى الغابات واعتبر كل بوجي لزاما عليه ان يضع على قبرابائه قرون مارال].(11)
[وكانوا يبيدون المارال جملة ويقتلونه قطعانا، وكانوا يتراهنون حول من يحصل على قرون بها افرع اكثر].(12)
نزيف الحجر: تباد القطعان ايضا ولا تراعى حرمة العهد المقدس :
[ في السابق كان يصطاد في الغزوة الواحدة غزالة واحدة . اثنتين اذا ابتسم له الحظ ، اما الآن فانعكس الوضع . اصبح يصرع كل القطيع في غزوة واحدة . ولا تنجو سوى غزالة واحدة او غزالتين اذا حصل الحيوان المسكين على ابتسامة من الحظ ].(13)
[فى تلك الليلة لم يفكر قابيل ابن آدم اخته * فقط ، ولكنه .. لحمها
ايضا] .(14)
في الروايتين نجد من يسفه العهد الموروث ويتحلل من تبعاته ويهزأ من معتنقيه في اشارة الى حياة كاملة مهددة بالانقراض والذوبان . السفينة البيضاء:
(كان الناس يؤمنون بالغزالة ، كم كانوا اغبياء وجهلة ، اولئك الناس ، شيء مضحك ، اما الآن فالجميع متعلمون ! من بحاجة اليها حكايات الاطفال
هذه ).(15)
مثل هذا البائس تسعده حتى حكاية ، ما ان رأى المارال في الغابة ، حتى طفرت الدموع من عينيه ، وكا نما رأى اخرته الاشقاء الذين ظل يبحث عنهم مائة سنة ).(16)
نزيف الحجر: (عجوز النحس ارني كرامك واهرب الى الجبل في جلد ودان . اين كراماط يدولي الله يا عبد العبيد).(17)
وتنتاب ابطال الروايتين احزان عميقة ويقضون تكفيرا عن الذنب لاجبارهم على خرق العهد المقدس ، او احتجاجا على هذا التحول . فبطل السفينة البيضاء يلقي بنفسه في النهر، وفي نزيف الحجر يصلب ولا يبوح بسره ، اما الاب والجد (آخر اسلاف العهد) فهذه صورتهما:
السفينة البيضاء: دان مامون العجوز كان ممددا هنا تكفيرا عن حكايته عن الغزالة الام ، ام القرون وانه رغما عنه تطاول على ما كان يوصيه به طوال حياته ، على ذكرى الجدوا على ضميره ووصاياه ، وانه اقدم على ذلك من أجل ابنته المنحوسة ومن أجله هو حفيده ).(18)
نزيف الحجر: (ولكن الاب تغير منذ ان انتحر ذلك الردان المكابر بين يديا. اصبح مهموما واجما كئيبا يكثر من ترديد المواويل الوجدانية الحزينة ، ويغفل عن مخاطبته عندما يتحدث معه او يتوجه اليه بسؤال ).(19)
(ان حزن الاب لا يعدو ان يكون ألما مبعثه ان الحياة القاسية تجبره
على أن يصطاد الودان وهو لا يريد ان يصطاد الودان )(20)
وفي الروايتين يتوحد الحيوان المقدس بصورة الأب والجد (الاسلاف ).
السفينة البيضاء: (وأجبر جده على أن ينقلب على جنبه وانتفض عندما تحول الى فاحيته وجه العجوز المخمور الملوث بالوحل والتراب بلحية صغيرة بائسة ملبدة ، وتراءى للصبي في تلك اللحظة وأس المارال الام البيضاء).
(21) نزيف الحجر:] رأى أباه في عيني الودان الصبور العظيم رأى عيني الوالد الحزينتين الطيبتين ].(22)
تلك كانت الملاح الرئيسية لاسطورة الغزالة الام . اوردناها ليس بحثا عن تناص ، بقدر ما هي محاولة لتبين مؤثرات مشتركة ، تواردت بين الروايتين ، بشكل او بآخر ، وكأنها مرثية واحدة ، لعالم طبيعي تزحف المدينة تهدد وجوده ، او كأنها نقش لتراث مهدد بالزوال .
ترسى الروايتان على اساس مشترك في عدد من الابعاد منها ، كونهما روايتين قصيرتين ، يقطع بدور البطل فيهما ضمير أخلاقي هو ضمير الاسلاف الاقل تلوثا، وبتراث انساني يستمد أصوله من تفاعل تاريخي مع البيئة والكائنات ، يتعرض لخطر انقراض مؤكد، تواجه فيا الطبيعة العزلاء مدينة مدججة بأدوات الخراب ، وينخرط فيه عقد الحياة (التابو) بانهيار التوازن الطبيعي ، بفعل الاخلال بالعهد المقدسي.
* رواية "نزيف الحجر" احدى اهم رواياتا لكاتب «ابراهيم الكوني» الروائي الليبي.
* رواية السفينة البيضاء للكاتب جانكيز آيتماتوف روائي من قزقيزيا وهي جمهورية ذات حكم محلي في روسيا.
* امارة الى مجتمعات ماطريريكية .
المواجع
ا-المعجم الفلسفي ص 79.
2- رفعت سلام"ظاهرة ليبية اسمها الكوني " الفصول الاربعة(طرابلس) عدد78 ابريل 94 م، ص 150.
3-جنكيز ايتماتوف ، السفينة البيضاء (موسكو: دار التقدم،1981م)،ص 7
4- نفس المرجع السابق
5- ابراهيم الكوني، نزيف الحجر( لندن: دار الريس للكتاب والنشر،
1990)، ص 13.
6- ايتماتوف، السفينة البيضاءص 53.
7- نفس المرجع السابق.
8- الكوني نزيف الحجرص 114.
9- نفس المرجع السابق.
10-نفس المرجع السابق.
11- ايتماتوف" السفينة البيضاء" ص56.
12- نفس المرجع السابق.
13- الكوني" نزيف الحجر"ص114.
14- نفس المرجع السابق .
15- ايتماتوف " السفينة البيضاء" ص69.
16- نفس المرجع السابق ص 50.
17- الكوني"نزيف الحجر"ص114.
18- ايتماتوف " السفينة البيضاء"ص146.
19- الكوني "نزيف الحجر" ص49.
20- نفس المرجع السابق ص50.
21- ايتماتوف" السفينة البيضاء"ص 141.
22- الكوني" نزيف الحجر" ص 75.
محمد الطاهر امحمد (كاتب من ليبيا)