سليم الحاج قاسم
شاعر تونسي
-1-
صامتٌ هذا العالمُ يا صديقتي،
أكثر ممّا سمعنا،
ممّا أردنا،
وممّا يشاء لنا شوكُ الطّريقُ…
ساكتٌ،
لكنّ ظلامه ثرثارٌ
بمليارٍ
من الإمكانات.
-2-
لو وضعت يدي على المرآة الآن،
حتى لو وضعت يدي الآن على المرآة…
ستستيقظ رائحة الوردِ
ويكون الكنهُ ملموسًا للنّوازلِ البعيدة
أما القليل منّا،
فنحن مثله تماما…
ربّما كنا معا…
ربّما،
كان بيننا سرّ
يسهرُ التـوّ في دوائر الشّمس.
-3-
خذي الزّاوية الأولى على الصّورة،
كأنكِ خطأ لغويّ
يتلعثمُ بين شفتين…
أمسكيني من يدي قليلا،
لثانيتين،
احضنيني،
حين تكونين بداخلي،
أشعر أنّني وحدي.
-4-
أقسمُ،
تحرّك في عينيكِ شيء،
شعوبٌ قديمة تهاجرُ نحو الشّرقِ
وأخرى تتوه في دروب السّماء،
أشلاء، جثثٌ، خرقٌ تبلى
أطفالُ تفسّخت ملامحهم من شدّة الثلجِ،
ونسوة يصنعن الخبز بحليب أثدائهنّ.
أقسمُ،
قد رأيتُني أمشي
ورأسي بين يديّْ.
-5-
قد يخذلنا الضّوءُ،
تخذلنا الأيّامُ حين ترتّبُ دحرجة الوقتِ،
تخذلنا الرّيحُ في انهزامها تحت وطأة الصّخرِ،
أو ربما نتصوّف لبرهةٍ،
إذا عانق كلٌّ منّا الآخرَ
على حين غرّةٍ
هكذا…
دون كلام.
-6-
تُرعدُ في الخارج،
حتّى إذا وُلِد العِجلُ الصّغيرُ أمطرتْ،
تعاليْ نذهبْ من هنا الآن
أخشى أن يسطع البرقُ،
فتزدادي قمرًا آخر.
-7-
قلتِ: تقدّم! عينايَ دليلك في الظّلمةِ
وموعدنا الفجرُ من كلّ يومْ.
قلتِ تقدّم،
أنتَ مشدودٌ إليّ بخيطٍ أزرق من الرّوح
عمركَ أنشودةٌ لحياتي…
نمشي،
ليمونٌ يتكاثرُ بين قلبينا
ويوصِد وجه الفراغ.
-8-
سلامًا
لوقتِنا الصّغير هذا،
لثوانينا ودقائقنا
للحظاتنا النديّة واحدة واحدة…
سلامًا لموسيقى انبعثت فينا
حتّى نشبتْ كلماتُنا بالموجِ
كم مرّ علينا
ونحنُ هنا؟
من أجلي… عذرًا،
هل تعرفين، من أجلي،
إلى أينَ أسدّد دقّات القلبِ
لكي لا أموت؟
-9-
فتحةٌ في السّقفِ؟
عبثا نحاولُ أنفُسَنا،
نحنُ غيرُنا تماما في هذا الزّحام.
ما أجمل أن تبتسمي في العتمةِ،
ما أجمل أن أقول ” اقتربي” ولا تسمعي،
اِمنحيني فرصة لأفسخ ما قلتُ…
لم أشتق إليكِ البتّة…
نام على حجري فِزرٌ مريضٌ،
ذكّرني بكِ،
حين رأيته يفكّر.
-10-
تصاعدي بمفردك أو انبثقي في الجدارْ
أنتِ سجني المنقولُ إليّ
أنتِ من زُجّ بهِ في داخلي
أنتِ خروجي ممّا أراه
بين البحر وبيني،
ترجمي لمسة الماء على كتفيكِ
رعشةَ البرودة ورقّتَها،
ترجمي بعد وقتٍ:
كيف يمكننا الانغماس في الضّوء
إذا لم نكن غير ماء يسري
بين خدوش السّحاب؟
-11-
قرأنا الكتابة ولم نُثمرْ
غزونا الأرض ولم نغنمْ،
أعتقنا الرّقاب ولم ندخل ملكوت السّماء،
فلننادي:
يا أطفال الكون تعالوْا،
علّنا نعصب أعيننا ونلعب.
-12-
توقّف الدّرب بنا في رقصةٍ
رقصنا،
غير أننا خائفان.
فابتعدي عنّي،
قدر ما تشائين،
في حدود جسدي.
-13-
رسمَتْنا اللغةُ في الأبجديّة
عودي إلى المنجد- أخبرينا:
كيف نقول الحبّ
بالعربيّة؟
-14-
الشرفةُ انتحرتْ،
هل نحن أحياء في بعضنا البعض؟
-15-
اِعترافٌ أولٌ:
الباب الذي وجدتِه البارحة محطّما…
نعم، كانت فِعلتي،
لا أريد لشجرة أن تفصل بيننا…
اِعترافٌ ثانٍ:
أنا الذي قتلتُ النجّارَ الذي صنعه.
-16-
لم يعد توسُّد العطرِ ممكنا،
شفّ علينا الدّرَج العميق– ضعنا،
وأضعنا هنا أشياءنا…
لو رآنا أحدهم
لظنّ أنّنا عاشقان!
-17-
تمزحين؟
أحقّا شاهدتِهم قادمين نحونا؟
معشرَ الملوك القدامى،
أم أنهم تاهوا
قبل الوصول إلى التّابوت…
رأيتهم؟
أم أنّ شبهةً في خطّ السّيرِ
قد خدعتْ حُلمكِ الأسير؟!
-18-
ضاقت بنا الدّنيا واتّسعت
فمرّري إصبعك في جيبي
يخرج أبيض من غير سوء.
-19-
على نارٍ مضيتُ إليكِ
على جمرٍ مشيتُ،
الفكرُ مسرح في راحتيكِ
والشِّعرُ بيتُ.
-20-
عندما نفترق،
سنكتشف أنّنا لم نكن مجتمعين.
عاد أوليس إلى مدينته،
هل كنت أنتِ المدينة؟
-21-
هنا، كلّ الزّوايا قائمة،
لا تمرّ فوتونات الضّوء
سوى من عينيكِ.
-22-
نرى الصّلابة عنوةً
لن يتكسّر الوجود لو التقينا،
الحبّ لا يعرفُ وقتا…
لكنّه يعرفُ الأمكنة جيّدا.
-23-
حينَ مشيتُ إلى شفافيّةِ عمقِك،
على ش
ظ ا
يا الزّجاجِ
وأغريتُكِ بي …
تحوّلتِ إلى قارورةٍ بلوريّةٍ
نصــ/ فُها خلّ
ونصــ /فُها ماءْ …
عندها،
علمتُ أنّ حليبَ الحياةِ
لا يشربُهُ سوى الأنبِياءْ.
-24-
تكوّنتُ.
سوائلُ تمتصّ صوتي وصورتي …
بوادرُ الحربِ على كفّي
والسّيفُ، والمشنقة.
جمعتُ ستّةً وسبعينَ سرّا في يدي
كشفَ ليَ الحلمُ عشرينَ
علّمتني الحياةُ سبعًا
وأعطتني قارئةُ الفنجانِ سرّها الأخير:
اِكتملَ الطلسمُ
104 (1)
حتّى خُلقنا…
وكتبنا القصيدة.
-25-
تجتاحني الآن رغبةٌ في الاِنقضاض عليهِ،
في تهشيمِه، في تفتيتهِ،
وفي تكسيره إلى قطعٍ لا التِئام لها…
تجتاحني الآن رغبةٌ في دهسهِ،
في القفزِ على بقاياه،
رغبةٌ في تفجيرهِ،
في حرقهِ، في تحويلهِ إلى مدفأةٍ أو تنّورٍ
تجتاحني رغبةٌ -يا صديقتي- في رؤيتهِ يحترق،
ذلك البابُ الذي…
يفصِلُ ما بيننا الآن.
-26-
ما الذي سوف أقولهُ عن المدى؟
كلّ رياحٍ لم تواتها السفنُ
وكلّ سفينةٍ لم تواتها الرّياحُ …
أنا.
مثلما أشمّ عطركِ بين أنفاسِ المارةِ من هنا
مثلما أترجمُ أشواقي ببضعِ نظراتٍ لا موضوع لها
مثلما يخاطبني الأصدقاء
وأجيبهم بالصمتِ حين أتفكّر في غيابكِ
مثلما أحبّكِ في العنوة والخفاءْ
هذي السّماءْ.
لا شريك لليلنا…
وهذا الهدوء القاتمُ يعرّي أمشاج الظلمةِ
ويغرينا بالكتابهْ…
هل نكتبُ عن الموتِ الأسودِ بين نهاياتِ النّجوم…
هل نكتبُ الآن عن تاريخ الكآبهْ ؟
ماء يسري تحت مضاجِعنا…
مطرٌ ينداحُ سكرانَ قرب مدامعنا النديّةِ…
لا تمدّي يُسراكِ ناحية هذا الجدارْ…
في القلبِ ما يشبه النبض
وما هو بالنبضِ…
في القلب ما يشبه النّارْ.
-27-
أنتِ، يا من فضّت جبالَكِ الأوديةُ الرّاكدة،
واستقرّ بَحري يطرق الباب مهزوما
حتى تفتحي من بين الصخور
فجوة واحدة.
يا من سويّتُ دمي بلحمِها
وانتهيتُ إليها في الجحيم القديمِ …
تماما كمثل معبرٍ جديد.
هل أورقت فوق يديكِ الرّماحُ؟
حتّى تتالت هزائمي
واستحالت سيوفي على ربوة النار
كومةً من جليد
أنتِ، يا من زُفّتْ اِليكِ النوارسُ عن كَثب:
عذارى إلى آخر قطرة
بيضاء إلى آخر الهشيم
وعنقاء
إلى آخر اللهبْ…
أنتِ، يا من لن أناديك بعد الآن باسمكِ،
لا اسم يليق بك،
لا هويّة ولا رسمٌ،
بدءا من الآن،
سأسمّيكِ:
“مرثيّةَ السّرابيوم الأخير(2)”.
الهوامش
1) في رمزيةِ الأعداد، 104 هو العددُ الكلّي للنّصوصِ الإلهية التي أنزِلت إلى الأنبياء، ولم يبق منها سوى أربع: التوراة، الزبور، الإنجيل، والقرآن . انظر كتاب «الأعداد: الرمزية والخاصيات لـ» ستيف داسروسيي».
(2) السرابيوم: صندوق من مادة الجرانيت، تم العثور عليه في موقع سقّارة الفرعوني، يوضع فيه العِجل المقدّس الذي يُسمّى «أبيس».