لكي تُصبح مؤلفاً في الثقافة العربية الكلاسيكية، عليك أن تكون حجة، وتحظى بالإجماع على كونِك كذلك، وهو شرط يُتيح لمؤلفاتِك أن يُعترف بها كنصوص، في عالمٍ أو ثقافة لا تستسيغ وجود نص مجهول المؤلف، أو مؤلف نكرة. يقول عبد الفتاح كيليطو: «لا يكفي لقول ما ان يتوفر على (انتظام خاص) كي يعتبر نصا، ينبغي، فضلا عن ذلك، أن يصدر عن، أو يرقى به إلى قائل يقع الإجماع على انه حجة. حينئذ يكون النص كلاما مشروعا ينطوي على سلطة، وقولاً مشدوداً إلى مؤلف- حجة. وهكذا فقد كان المؤلف- النكرة أمرا متعذر التصور.
وبهذا المعنى يمكن للعبارة: (نص مجهول المؤلف) أن يعتبر من قبيل الجمع بين المتضادين»(1). ألا يعني هذا أن للمؤلف قيمةً أكبر من نتاجه، وأن النصوص تبقى ناقصة أو مُعلَّقة ما لم تُنسب إلى مؤلف ما؟، فلا يُصار إلى الاهتمام بها، إلا بعد أن تنسب، أي تحظى بأبوة أحدهم(2). إنها كالابن الضال، أو الأبناء المجهولي النسب، الذين يتعرضون إلى الاحتقار والإقصاء في ثقافة تُعلي من قيمة الانتساب البيولوجي (العضوي)، أو شرف الأرومة، وهذا ما يُفسر مثلاً تهميشَ ليالي شهرزاد وإقصاءها عن دائرة الاهتمام، لأنها من هذا المنظار بلا مؤلف، مجهولة النسب، فضلاً عن أسباب أخرى بالتأكيد أدَّت إلى ضآلة العناية الدراسية بها قديماً، يؤكد ذلك كيليطو بقوله: «العرب لم يعجبوا قط كبير الإعجاب بألف ليلة وليلة. . فليس هناك ما يزعج مثل تأليف لا يرقى به إلى مؤلف بعينه»(3). إنه أمرٌ انعكس أو تغلغل في الحساسية القرائية أو السماعية للمتلقين آنذاك، وينطبق إلى حد ما على المعاصرين، وكأنك بحاجة إلى أن تعرف من هو مؤلف النص الذي تقرأه، أو أن يكون لك تصورٌ عنه، يؤثر بشكل أو بآخر في إدراكك للنص، وحين لا تتوفر لديك مثل هذه المعرفة أو التصور، فإنك ستلجأ إلى افتراضها أو تركها شاغرة تنتظر الامتلاء. وكم سنشعر بنوع من الصدمة عندما نعلم أن هذا النص مزيف أو مسروق أو منتحل، حينها سيفقد النص ومؤلفه جزءاً كبيراً من قيمتهما(4).
لنتذكر، في سبيل التوضيح والتعزيز، أن صحة الحديث النبوي تتوقف على «الحكم بعدالة رواته»(5)، لذا انقسمت بنيتُه النصيّة إلى طبقتين، هما: (السند، المتن)، حيث الأول هو سلسلة رواة المتن التي تنتهي إلى النبي، والثاني هو ما قاله النبي نفسه، والعلاقة بينهما أن الأول يحدد مصداقية وصحة الثاني، فإن عُثر على خلل في إحدى حلقات هذه السلسلة من راوٍ أو ناقل غير ذي ثقة، فيُطرحُ الحديثُ جانباً ولا يؤخذ به، فضلاً عن أنه لا يمكن تصور أو قبول حديث بلا سند أصلاً. وقد أثَّرت، على ما يبدو لنا، طريقة تعامل الثقافة العربية الكلاسيكية مع الحديث النبوي كنص، في مفهوم النص بشكل عام، مع تباين وفارق القيمة الهيراركية (التراتبية) للحديث كنص له مكانته الخاصة، بخلاف النصوص الأخرى، ومنها المنتمية للحقل الأدبي. وخصوصية التأثير تكمن في معيارية الاعتراف بالنصوص وقبولها المشروط بإسنادها أو نسبتها إلى مؤلف ما، يجب أن يكون حجة أو علماً في مجاله، أو معترفاً به، أو معروفاً على أقل تقدير، إذ يتجلى لنا هنا مفهوم المؤلف في الثقافة العربية الكلاسيكية بشكل واضح نسبياً، لأنه ليس كافياً، وبحاجة إلى وضوح أدق.
لنعطي مسبقاً بعض الإشارات التوضيحية عن معنى مصطلح (مؤلف حجة). يقول كيليطو إننا بحاجة إلى دراسة تُبين لنا «كيف يتحول متكلم إلى مؤلف حجة»(6)، ومن يُطالع تراجمَ المؤلفين القديمة وكتب الطبقات ومصنفات الرجال يكتشف إنها لا ترفدنا بالكثير بشأن الكيفية التي يصبح فيها مؤلفاً ما حجة في مجال معين من العلوم والمعارف السائدة آنذاك، ومنها الأدب طبعاً، فهي تركز في الغالب على مرحلة لقاء المؤلف بشيوخه وأساتذته، فهم يمثلون المؤسسة التعليمية، وعلينا أن نستبعد تصور ما يطلق عليه البعض تسمية المؤلف العصامي، فهذا مما لا تتيحه لنا هذه التراجم عن المؤلفين الحجج، إذ يبدو أن مرحلة التلمذة واكتساب العلم والمعرفة من الشيوخ هي أهم مرحلة في حياة المؤلف، لكي يُمنح الصلاحية والإجازة في الكتابة(7)، ليُصبح واحداً منهم، وينتقل من دور الأخذ إلى دور العطاء، فحين يُصبح المؤلفُ حجةً يُطلب إليه في العادة أن يكتب كتاباً في اختصاصه، إما أن يكون وفقاً لطلبٍ «صريح تمليه ظروف خاصة (مثلاً المستظهري للغزالي) أو بناء على طلب ضمني توحي به بعض المشاكل المعلقة في الهواء (البخلاء للجاحظ)»(8)، وكأن الكتابة تتطلب «أمرا، أو، وهذا سيان، أُذنا»(9). هذا الأمر يُلقي ضوءاً يسيراً، لكن له أهميته، بشأن ظاهرة التأليف في الثقافة العربية الكلاسيكية، حيث يجب ألا يكون التأليف، كما يفهم من الكلام السابق، تحت دافع ذاتي داخلي، بل يُفضل أو هكذا هو الحال عليه عُرفاً أن يكون خارجياً، وهذا يدل أيضاً على إن الكتابة بشكل عام هي بمثابة اتفاق أو عقد بين الكاتب وصاحب الطلب أو الأذن، وهذا الأمر يبدو بشكل أوضح في الكتابات السردية، فالمتلقي «في أغلب الأحيان هو الذي يطلب السرد من الراوي»، وكأن هذا التعاقد الضمني بينهما هو تجسيد لقاعدة شبه عامة وهي أن «السرد يكون جوابا عن سؤال»(10)، وفقاً لذلك يقول كيليطو: «ندرك لماذا تعرض المؤلفات الكلاسيكية نفسها جوابا على سؤال، أو طلب، أو التماس عاجل. الكاتب يترصد باستمرار عروضا، أو عقدا تتمخض مقتضياته عن خطاب مطابق للطلب»(11)، فجلّ المؤلفين القدماء يذكرون في «افتتاحيات مصنفاتهم أن شخصا طلب منهم إنشاء كتاب في موضوع من المواضيع، لا يسمونه عادة، وقد يكون ذا نفوذ أو مجرد صديق»(12)، لنتذكر أن بعضهم كان يهدي كتابه إلى شخصية سياسية في الأغلب، إلى من كانوا يضعون أنفسهم حماة ورعاة للأدب وأربابه، بعد أن يذكر هؤلاء المؤلفون في مقدماتهم أن (س) سيناً أو فلاناً من هؤلاء طلب منه الخوض في هذا الأمر ومعالجته وبيان رأيه في كتاب، وكأن ثمة عقداً ضمنياً بينهم يقوم على تبادل المنافع، يقول كيليطو: «الكتابة تتم تنفيذا لطلب من سلطة، وسواء أكان هذا الطلب فعليا أم لا، فالمهم أن الكتاب يتوجه في النهاية إلى هذه السلطة على شكل إهداء. الكتاب يؤول في النهاية إلى مكتبة السلطة»(13). أو ربما كان الكتاب القدامى يرون في الكتابة أمراً جسيماً خطيراً، لذا فهم «بحاجة إلى الاحتماء وراء سلطة ما للشروع في التأليف»(14)، كما يُعلل كيليطو هذه الظاهرة. لكن لِمَ لا يكون في الأمر بعدٌ آخر يرتبط أو يتعلق بِكُنه مفهوم المؤلف نفسه؟. أنه ما زالت صورة الكاتب أو مفهومه تتلبّس مفهومَ المؤلف، أو تُلبسُها الثقافةُ إياه، ليبقى مكبلاً في إطار المعنى الأول للكاتب وهو «المدون أو الناسخ»(15)، أي بمعنى انه من يمتهن الكتابة للآخر، وهو المعنى نفسه الذي ساد أوروبا قبل القرن السادس عشر، كما يُشير إلى ذلك ليتيريه، في حين انه منذ القرن السابع الميلادي برز عربياً، مفهوم المؤلف، الذي يمكن أن نُطلقه على أول من صنّف كتاباً وكان في المثالب، وهو زياد بن أبيه (56هـ/675م)، وهو كتاب مفقود، لم يصل إلينا، لكن هذا المفهوم لم يتحرر كلياً من سيطرة مفهوم الكاتب الذي اكتسب معنى جديداً مع كتاب بن أبيه، وهو المُصنِّف، لتكون الكتابة، آنذاك، مهنةً تعني التدوين أو النسخ أو النقل أو التصنيف(16).
وهذا التحول في المسيرة الحياتية للمؤلف الحجة ينعكس حتى على اسمه، كما يلاحظ كيليطو، فيُبدَّل باسم آخر، فمَن هو مثلاً: «أبو محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان؟. إنه الحريري. . فكأن المؤلف عندما يصبح حجة، يولد من جديد ويطلق عليه اسم جديد»(17)، وهو أمر ينطبق على الغالبية العظمى من المؤلفين القدامى، وعادة ما يطلق عليهم معاصروهم ألقاباً وكنى ومسميات جديدة، يجب أخذها بنظر الاعتبار، لأنها برأي كيليطو «تملي الموقف الذي ينبغي التزامه تجاههم»(18).
لنعُد إلى مسألة النسب، إلى الارتباط المشيمي للنص بمؤلفه، حيث كان الأخير مركزَ المعنى أو محورَه، بخلاف صورته التي انقلبت الآن رأساً على عقب، حين أُعلن عن موته، وقُطع الحبل السري أو المشيمي عن نصه، الذي أَعلن عقوقَه أو استقلالَه عنه، في زمن لم يكن يجرؤ حتى على المساواة مع منتجه (مؤلفه)، فما بالك بالاستغناء عنه والارتفاع عليه، حين كان في الحقبة الكلاسيكية للثقافة العربية يتشبث بالأبوة وسيلةً للاعتراف به في عالم النصوص، بل ان حظوظه ومكانته في هذا العالم تزداد بإرتباطه بمؤلف دون غيره، ولاسيما إذا ناسبَت طبيعة النص مؤلفاً حجة في اختصاصه، فلو انك ولّدت كلاماً في الزهد وموعظة الناس، كما يقول الجاحظ (255هـ/868م): «ثم قلت: هذا من كلام بكر بن عبد الله المزني وعامر بن عبد قيس العنبري ومؤرق العجلي ويزيد الرقاشي، لتضاعف حسنه ولأحدث له ذلك النسب نضارة ورفعة لم تكن له، ولو قلت: قالها أبو بكر الصوفي أو عبد المؤمن أو أبو نؤاس الشاعر أو حسين الخليع، لما كان لها الا مالها في نفسها، وبالحرى ان تغلط في مقدارها فتبخس من حقها»(19). فانتساب الكلام أو النص الى مؤلف شهير تكسبه بعداً جمالياً، ما هو إلا وقعٌ نفسي طيب لدى متلقيه، أي أنه أثر نفسي، يُعلي من شأن القول ويرفعه أو يساويه مع مرتبة قائله الشهير لو نُسب اليه، أو كان هو قائله حقاً وليس مجازاً، ويسقط من هذه المرتبة أو المكانة لو نُسب الى غيره ممن إشتهر بخلاف طبيعته، فيُستهجن ويُستنكر منه ذلك، سواء صدر منه أو افترضت نسبته اليه. فمن اللازم إذن «اختيار الاسم الذي سيتبنى الكلام، والذي سيحدد موقف المتلقي ازاءه»(20)، لأن إسم المؤلف «وأصله والأرض التي أنبتته، وتفاصيل ترجمته، إمارات وعلامات تُثبت هوية النص، وتُحدد موقعه في خريطة المعنى»(21). وكل نوع أدبي كلاسيكي، كما يستنتج كيليطو، تحفُّه أسماءُ عديدة لمؤلفين ينبغي أن تنسب لها أفضل النصوص، أعلام هي وحدها القادرة على أن تجعل «الكلام مقبولا، ما دامت تتمتع بخلفية نصية معترف بها»، يمكن «لأحدها أن يحل محل الآخر»(22)، بمعنى أنه لن يشكل فرقاً كبيراً لو أنك نسبت نصاً ما الى أحدهم ثم نسبته الى غيره ضمن النوع نفسه، ذلك أنهم يشتركون بخصائص أسلوبية متقاربة جداً، تكاد لا تبين علاماتها الفارقة بينهم، لأنهم يمتثلون لقواعد وأعراف التأليف للنوع الذي يكتبون فيه، فيعيدون إنتاجها وتثبيت خصائصها الأسلوبية التي ترجع الى النوع أكثر من رجوعها الى أساليبهم الفردية الخاصة، وهذا سَهَّل آنذاك عملية الإنتحال والنسب المزيف وكوّن منها ظاهرة بارزة، يرى فيها كيليطو نوعاً من التمجيد لـ«ماضٍ حافلٍ بالمؤلفين المشهورين الذين ينبغي اقتفاء عبرتهم أي كلامهم»(23)، في ثقافة بلغ فيها هذا التمجيدُ مبلغاً يُستهجنُ فيه الحديث والجديد ويُستصغرُ، ويُشتد الصراع معه، الى أن يُثبت حضوره، ويزيح عن كاهله أو ينفض عن جسده المثخن بجراح النزاع سهامَ الإتهامات، من بدعة أو سرقة أو طعن، وغيرها، وكان بعضُ أكابر الكتاب وأشهرهم يلجؤون في بادئ أمرهم وحديث عهدهم بالتأليف الى نسبة كتاب لهم الى مؤلف قديم بَلغت شهرتُه الآفاقَ وحفّه الزمنُ بالمجد والشرف والرفعة، وقد نُفاجأ الآن بإعتراف أشهرهم، بقوله: «وربما ألفت الكتاب الذي هو دونه في معانيه وألفاظه، فاترجمه باسم غيري، وأحيله على من تقدمني عصره مثل ابن المقفع والخليل، وسلم صاحب بيت الحكمة، ويحيى بن خالد، والعتابي، ومن أشبه هؤلاء من مؤلفي الكتب، فيأتيني القوم بأعيانهم الطاعنون على الكتاب الذي كان أحكم من هذا الكتاب، لاستنساخ هذا الكتاب وقراءته عليّ، ويكتبونه بخطوطهم، ويصيّرونه إماما يقتدون به، ويتدارسونه بينهم، ويتأدبون به، ويستعملون ألفاظه ومعانيه في كتبهم وخطاباتهم، ويروونه عني لغيرهم من طلاب ذلك الجنس فتثبت لهم به رياسة، ويأتم بهم قوم فيه، لأنه لم يترجم باسمي، ولم ينسب الى تأليفي»، يالها من خطة أو حيلة يلجأ اليها هذا الكاتب ليمنح أحدَ كتبِه شهرةً ومكانة في عالم يبدو حكراً على أعلامِ الماضي من المؤلفين الأموات، ويكشف لنا في اعترافه عن مدى الصعوبة والمعاناة التي يلقاه المؤلفون المعاصرون في الإعتراف بهم، وانتزاعه بعد جُهد جَهيد، والأمر، على ما يبدو هنا، لا يتعلق بكون المؤلف القديم حجة لأنه فقط قديم، إنما لكون النص أو الكتاب الجديد المنسوب اليه سيُتيح لطلبة العلم وأهله فرصة لنسخه وتدريسه ونشره والتأديب به، أي أنه يتحول الى مادة جديدة لوظيفتهم كنساخ وأساتذة أو شيوخ علم ومتأدبين. إننا بازاء مناخ خاص بشأن إشكالية التأليف والنشر في الثقافة العربية الكلاسيكية، ولن نتوقع أن يكون هذا الكاتب هو الجاحظ(24)، وهو يعترف في إحدى رسائله بسلوكه هذا، وسينكر بعضنا بالتأكيد مشككاً في بعض هذه الرسائل من صحة نسبتها اليه، ومن ثَمَّ عودة هذا الإعتراف له، لما يحظى به الجاحظ من مكانة رفيعة المقام في تاريخ الأدب العربي، تدفع الى الاستغراب من قول كهذا يمكن أن يصدر عنه، فإن أيّدنا هذا الإنكار وجزمنا به، فإنه لن يُسقط صحةَ ما ورد في هذا الاعتراف الذي يكشف لنا كيف كان «المؤلف في أعين المعاصرين له، منافسا ينبغي التنقيص من قيمته»(25)، إن لم يُعرِّضه لحسدهم، يُفضَّل عليه مؤلِفاً قديماً حجة يحظى بحسن التقدير، فيدفعه ذلك، إما اتقاء لشر الحسد أو تفادي الإقصاء والتهميش والتعرض للطعن أو السرقة أو الإتهام بالبدعة، أو لرغبة منه في الاحتيال على معاصريه، وليحظى كتابه بالشهرة أيضاً، أن يفعل مثل ما فعل الجاحظ أو من هو دونه أو أقل منه شأناً، إن لم نقتنع بعائدية هذا القول الى الجاحظ، لتشكيكنا بنسبة الرسائل أو بعضها اليه(26)، لكن أمر نسبتها اليه تبقى مؤشراً نافعاً لتأييد هذا الإعتراف، برأينا، فقد تعودُ هذه الرسائل أو بعضها لأحد المؤلفين المتأخرين بعد الجاحظ، دفعته إحدى الأسباب الآنفة الى نسبة تأليفه الى الجاحظ، وهذه إحدى الإحتمالات في تفسير النسبة، أو انها تعودُ الى مؤلف مجهول لم يُذكر اسمُه على متونها، لكن خصائصها الأسلوبية شديدة الشبه بخصائص الجاحظ، وهذا ما رجَّح احتمالية نسبتها اليه، وهذه تُعيدنا الى علاقة المؤلف بالنوع الذي يكتب فيه، وتصلح مثالاً على هيمنة السمات الأسلوبية عبر الأعراف النوعية على التأليف، التي تخلق أو تفرض بدورها صورة خاصة بالمؤلف، أو بمعنى أدق بمؤلفها الضمني، فتنشأ مسافة توتر بين المؤلف الحقيقي والمؤلف الضمني، قد يكون فيها الأخير صورة مخالفة للأول، وغالباً ما لا يعكس حقيقته، ولا يكون ظلاً له، ولا يُمثل تجسيداً أو تعبيراً عن تجاربه الذاتية. وفي حين يُشكل الأول محوراً مركزياً لتحديد قيمة النص، يُمثل مفهومه التاريخي والعياني بنيةً قارة في سُلّم القيم التراتبية في الثقافة التي ينتمي اليها، يبدو الأخير مفهوماً نسبياً يفتقر الى التحديد المنضبط، يصفه كيليطو بالاعتباطي، مقابل مفهوم النوع الذي يغدو محدداً أشد التحديد، ويدفعنا الى عدِّ مفهوم المؤلف الضمني وليدَ النوع، وفي هذا تبطينٌ لفكرة موت المؤلف الحديثة بصيغة أو صورة أخرى، كما نرى من جانب كيليطو، حين تُقصي سلطة المؤلف من محورية أو مركزية إنتاج المعنى، لتُثبت بدلاً عنها سلطة أخرى هي النوع في النصوص الكلاسيكية قديماً، وتُحيلها الى سلطة القارئ في النصوص المعاصرة حديثاً. لكن إذا كان النص في العصور الغابرة لا يُعترف به إن لم يُتنسب لمؤلف ما ليحدد قيمته ومعناه، فإن للنوع هنا دوراً ثانوياً، وفي هذا تناقض واضح في الرأي السابق، فكيف تُبدّدُ حيرة الاستفهام هنا؟. لنتذكر توضيح كيليطو بشأن أن لكل نوع أعلامُه من المؤلفين، وإن نحن قد جرّدنا هذه الأعلام من الخصائص الأسلوبية الفردية وإرتقينا بها لتصبح خصائص أسلوبية للنوع، فهذا يعني أننا قُمنا بعملية تماهي ومطابقة بينهم وبين النوع، وهذه العملية تخلق نوعاً من التوحيد بينهم في الجانب الإبداعي أو الكتابي فقط، وليس في الجانب العياني والشخصي للمؤلف، ولنفترض أن للمؤلف صورتين، نسمي الأولى الشخصية أو الأصلية، وهي التي تدلّ عليه كشخص له سيرته وحياته الخاصة خارج ما كتبه، حيث يمكن أن يُطلق عليه وفقاً لذلك بـ«المؤلف الأصلي»، ونسمي الثانية الصورية أو المفترضة أو الخيالية، وهي التي تدل عليه أو على ذاتٍ متجسدة في كتاباته، بالإمكان أن يطلق عليه تبعاً لذلك بـ«المؤلف الضمني» أو الصوري كما هو شائع الآن في الدراسات النقدية الحديثة(27)، أو من الجائز لنا تسميته بالمؤلف الكتابي أو النصي، تقريباً الى خصوصية الموضوع من المصطلحات السابقة. على أية حال فإن عملية التوحيد الضمنية بين النوع والمؤلف الأخير، التي لم يصرح بها أو يوضحها كيليطو، تجعل منهما مركزاً واحداً تقريباً لتحديد المعنى والقيمة، حين يُنسب نص ما لمؤلف معروف في نوع أو نمط بعينه من الكتابة، فنسبة مجموعة من الرسائل الى الجاحظ، هي نسبة الى ذاته أو صورته الكتابية أو النصية (كمؤلف ضمني) وليس الى شخصه، أو بالأحرى هي نسبة الى مجموع ما كتبه، الى الذات المتكونة والمتبلورة في كتاباته، أو كما سيقول الكثير منا ببساطة الى أسلوبه، إذ سيكون ما يشبه النقص حين تُنسب نصاً الى نوع فقط دون أن تنسبه الى أحد أعلامه، بل يكاد الأمر يبقى غير مستساغ أن يظل النص في ربقة نوع فقط دون أن يرقى به الى مؤلف حجة، وما يُسهل هذا الأمر هو نبوغ أعلام في نوع أدبي ما، يجسدون أو يمثلون هذا النوع بجدارة كبيرة، وكأنهم، بذواتهم النصية طبعاً، علاماته الأسلوبية الخاصة. لكننا ألَم نُساوي هنا بين سلطة النوع وسلطة المؤلف في تحديد المعنى والقيمة؟. يبدو هذا حاصلاً بشكل ما. كيف إذن نتفق مع كيليطو على ان مفهوم المؤلف إعتباطي مقابل مفهوم النوع الواضح والثابت؟، وقد فسّرنا حديثه بإنه يتكلم عن المؤلف الضمني، وقد تبين لنا ان مفهوم الأخير متماه وشبه متطابق مع مفهوم النوع، إذن إما انه لا يتحدث هنا عن المؤلف الضمني إنما عن الحقيقي، أو ان علاقة الضمني بالنوع لديه غير واضحة. الاحتمال الثاني نستبعده لأن كيليطو يؤكد أن النوع هو من يخلق المؤلف الضمني، وهذا أمر توضح لدينا آنفاً، بقي الاحتمال الأول الذي يقودنا الى المؤلف الحقيقي، هل هو فعلاً مفهوم إعتباطي أي غير محدد؟. لقد أدركنا في معرض السعي لتبديد حيرة الالتباس في مركزية تحديد المعنى والقيمة للنصوص بين المؤلف والنوع في الثقافة العربية الكلاسيكية، أن مفهومي النوع والمؤلف الضمني أشدّ وضوحاً وتقارباً من مفهوم المؤلف الحقيقي، وأن الأخير يرتبط بالنوع من خلال ذاته الأخرى النصية وليست الشخصية، فيتبدى في وضوح أقل كمفهوم نصي، مقارنة بالنوع أو بالمؤلف الضمني. هذا يعني أن كيليطو كان يتحدث عن المؤلف الحقيقي وليس الضمني، وهو ما يقتضي منا تصحيح التوضيح السابق. بيد انه لإزالة ما يتمخض من لبس في علاقة النوع بالمؤلف الضمني يجب التنويه الى ان للنوع سلطته في تحديد معنى وقيمة النص الكلاسيكي، بشكل بارز، في الأنواع التي لا تسمح بفضاء أوسع من التعبير الذاتي، وهذا ما نعثر عليه في النصوص الشعرية، حيث هيمنة الأعراف النوعية عليها كبيرة جداً، وقد رأينا بشار بن برد الضخم الجثة (كمؤلف حقيقي)، تعكسه مرآةُ قصيدة الغزل التي يكتبها في صورةٍ متناقضةٍ فيطلُ علينا هزيلاً نحيلاً (كمؤلف ضمني)، وكذلك كان الحال بالنسبة لمعظم الشعراء الذين أُجبروا على الالتزام بإحتذاء نموذج القصيدة الجاهلية، وهي من المفارقات في أنماطٍ خطابيةٍ تُوصفُ بأنها بَوحية وذات مساحة أكبر للتعبير الذاتي، لكنها في الثقافة الكلاسيكية تجنح لرسم صورة نمطية أو نموذجية لذات المؤلف النصية يجب إعادة إنتاجها، في حين أن النصوص النثرية كانت تمتلك قدراً أوسع نسبياً من الحرية، لتباين قوة الأعراف النوعية التي تنتمي اليها، ولكونها تتحدث عن مواضيعَ أبعد عن الذاتية بشكل ما.
ربما توغلنا بإطناب، في علاقة المؤلف، بذاتيهِ الحقيقية والنصية، بالنوع، فلنَعد أدراجنا قليلاً الى الجاحظ، فثمة ما يمكنه أن يعيننا في تفهم المناخ الثقافي لعصره فيما يخص إشكالية التأليف فيه، والظاهرة التي لمسناها في نسبة النصوص الى مؤلفين أموات كانوا أعلامَ زمانهم، هو أن فكرة التأليف لم تتكون كما فهمها الأدباء القدامى إلا بعد أن استقرت «سنة تسطير الكتب» في نهاية القرن الثاني للهجرة، أي في النشاط المكثف لما سُمي بعصر التدوين، في حين انه قبل هذا العصر، يمكن القول انه «لم تعلق أهمية لفكرة انتساب التأليف لمؤلف معين»(28) كما يؤكد المستشرق هـ. ا. جب (1965)، موضحاً أن مفهوم المؤلف كان عبارة عن «الأديب الذي ينظم مادة الكتاب أو ينظم محتوياتها، وهذه المواد كانت تتداولها تلامذةُ المؤلف شفوياً ولا تدون في صورة مقرر كامل إلا بعد وفاته بعدة سنوات»(29)، وإستمر هذا الحال حتى النصف الثاني من القرن الثاني، وهذا يكشف لنا أن الظاهرة السابقة ابتدأت بعد التاريخ الأخير، ومن الخطأ تعميمها كظاهرة تغطي مجمل التاريخ الأدبي العربي القديم، وهو أمر لم يتحره كيليطو بدقة، فسقط في شِراك الإستقراء الناقص والتعميم المجانب للصواب.
ولو خلصنا الى إستنتاج مركزي لما تقدم، فإننا سنحصره في إطار قيمة المؤلف في الأدب العربي القديم، حيث يمكن القول أن هذا الأدب يقوم على فكرة (المؤلف- الأصل)، كما يسميه كيليطو، فلا يصير ملفوظٌ ما نصاً أدبياً إلا «حين يصدرُ عن سندٍ معترفٍ به»(30)، لكن ظواهر مثل الانتحال والتزييف والغش للنصوص كانت أمراً شائعاً في الثقافة العربية الكلاسيكية، فكيف يمكن للأدب أن يركن الى فكرة المؤلف- الأصل فقط؟. يجيب عن ذلك كيليطو: «هذا لا يغير من واقع أن ملفوظاً ما، صحيحاً كان أو منتحلاً، هو بحاجة الى مؤلفٍ ضامنٍ لصحته كي يصير نصا»(31)، وهذا صحيح لأن النسبة الزائفة أو الخاطئة، بوجودها ذاته، تؤكد أن النص كان «لا يستطيع أن يفرض نفسه دون إسم مؤلف يكفله ويثبت صدقه»(32). إنه إهتمامٌ بالغٌ بالمؤلف، بأبوة النص على حساب النص نفسه، هذا أمرٌ يعود، على ما يبدو، الى النزعة العربية في معرفة أصل الأشياء، وتحديد نسبها، يعدّها بلاشير (1973) إحدى خصائص العقلية البدوية(33).
الهوامش
1- الكتابة والتناسخ، مفهوم المؤلف في الثقافة العربية الكلاسيكية. ترجمة: عبد السلام بنعبد العالي، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1985، ص: 13-14.
2- على خلاف ما يحصل اليوم في الدراسات النقدية، فالاتجاهات الحديثة لاسيما التفكيكية ونظرية التلقي ترى أن «النص محكوم دائما بالتوالد، وان الكتابة تكتب الكتابة، مما يجعلها تقضي على اي صوت خارجها يدعي أبوة النص». انظر: (التفاعل النصي، التناصية، النظرية والمنهج. نهلة فيصل الاحمد، كتاب الرياض (104)، عن مؤسسة اليمامة الصحفية، الرياض، 1423هـ، ص: 89).
3 – الكتابة والتناسخ: 59.
4- ينظر: م. ن: 60.
5- م. ن: 48.
6- الأدب والغرابة، دراسات بنيوية في الأدب العربي. عبد الفتاح كيليطو، دار الطليعة، بيروت، ط3/ 1997، ص: 15.
7- يقول كيليطو: «ضمانة اكتساب المعرفة تتميز بالحصول على الإجازة، اي الإذن برواية نص، أو نصوص، يمنحه الأستاذ لتلميذه» (المقامات، السرد والانساق الثقافية. عبد الفتاح كيليطو، ترجمة: عبد الكبير الشرقاوي. دار توبقال، الدار البيضاء، المغرب. ط1/ 1993، ص: 147).
8- الأدب والغرابة: 78.
9- المقامات: 149.
10- الغائب، دراسة في مقامة للحريري. عبد الفتاح كيليطو، دار توبقال، الدار البيضاء، المغرب، ط1/1987، ط2/1997، ص: 49.
11- المقامات: 149. وكأن المرء لن يكون مؤلفاً إلا حين «يسير في اتجاه طلب الجماعة»، كما يقول كيليطو: (ينظر: م. ن: 148).
12- لن تتكلم لغتي. عبد الفتاح كيليطو، دار الطليعة، بيروت، ط1/ 2002، ص: 86.
13- الحكاية والتأويل، دراسات في السرد العربي. عبد الفتاح كيليطو، دار توبقال، المغرب، ط2/1999، ص: 74.
14- لن تتكلم لغتي: 86. هذا الأمر يبدو بشكل أكثر جلاءً بالنسبة للشعراء، فمن المعلوم أن الشاعر «في المجتمع الإسلامي التقليدي كان يعيش في كنف سلطان أو أمير أو ثري تربطه وإياه علاقات متقلبة تتطور وفقا للظروف الاجتماعية والسياسية». ينظر: (في الكتابة والتجربة. د. عبد الكبير الخطيبي، ترجمة: د. محمد بردة، دار العودة، بيروت، ط1/1980، ص: 38).
15- الثابت والمتحول، بحث في الإتباع والإبداع عند العرب. ج3: صدمة الحداثة، ادونيس، دار العودة، بيروت، ط4/1983، ج3، ص: 23.
16- ينظر: م. ن: 24. وأدونيس يستند في الإشارة إلى كتاب بن أبيه الى كتاب بروكلمان «تاريخ الأدب العربي، ج1، ص: 250-251»، ولم يشر الى الطبعة وتاريخها.
17- الغائب: 16.
18- المقامات: 142.
19- إقتبسه كيليطو من «البخلاء. تحقيق: طه الحاجري. القاهرة، دار المعارف، 1971، ص: 7-8»، في الكتابة والتناسخ: 74.
20- الكتابة والتناسخ: 74.
21- الغائب: 62-63.
22- الكتابة والتناسخ: 75.
23- م. ن: 77. في حين يرى د. عبد الله إبراهيم ان هذه الظاهرة جاءت نتيجة ان «الثقافات الشفاهية لم توفر ظروفا تساعد على حماية نصوصها الأدبية، وهي في واقع الحال لا تستطيع ذلك، لأن تلك النصوص رهينة التداول الشفاهي الذي يتعرض لاكراهات، وانزياحات، واقصاءات كثيرة»، فغالباً ما كانت «تدمج الشذرات، والنبذ المتبقية من نصوص متماثلة في الموضوع والاسلوب، فتظهر من تلك الامشاج نصوص جديدة تسهل نسبتها الى هذا او ذاك، وتخضع لروح العصر الذي تعرف فيه» (التلقي والسياقات الثقافية. د. عبد الله ابراهيم، دار الكتاب الجديد، بيروت، ط1/2000، ص: 101).
24- الإقتباس السابق من إحدى رسائل الجاحظ المعنونة «كتاب فصل ما بين العداوة والحسد. المجلد الاول، تحقيق: محمد عبد السلام هارون. القاهرة، 1964، ص: 351»، أورده كيليطو في الكتابة والتناسخ: 80-81.
25- م. ن: 81.
26- يقول كيليطو: «تتغير الازمان ةتتغير ميادين المعرفة، ولكن التطلع الى تحديد نسب النصوص لا يتغير، وان اتخذ مظهرا آخر. فمثلا تبذل اليوم مجهودات ضخمة للتنقيب عن آيديولوجية المؤلفين وسبر اغوار لا وعيهم» (الغائب: 65).
27- يقول والكر جبسون: «من السائد، الآن، في قاعات الدراسة وفي النقد ايضا، التمييز، بدقة، بين مؤلف الفن الأدبي والمتكلم المتخيل ضمن عمل الفن»، منبهاً الى أن الأخير هو الأكثر فائدة لدراسة الأدب، لأن «المتكلم (يقصد المؤلف الضمني) يكون اللغة وحده، وإن ذاته الكاملة تتوقف على الصفحة التي امامنا على نحو جلي»، على خلاف المؤلف الحقيقي الذي يبدو «مكتنفا بالاسرار، ومفقودا في التاريخ»، اي لا نعرف عنه سوى اشياء قليلة ان لم تكن نادرة لبعضهم. ينظر: المؤلفون والمتكلمون والقراء الصوريون. والكر جبسون، من كتاب: نقد استجابة القاريء، من الشكلانية الى ما بعد البنيوية، تحرير: جين ب. تومبكنز، ترجمة: حسن ناظم، علي حاكم، مراجعة وتقديم: د. محمد جواد حسن الموسوي، المجلس الأعلى للثقافة، مصر، 1999، ص: 43.
28- دراسات في حضارة الاسلام. هاملتون جب، تحرير: ستانفورد شو، وليم بولك. ترجمة: د. احسان عباس، د. محمد يوسف نجم، د. محمود زايد. دار العلم للملايين، بيروت، بدون تاريخ، ص: 301.
29- م. ن: 301.
30- المقامات: 60.
31- م. ن: 60.
32- م. ن: 60.
33- ينظر: تاريخ الأدب العربي، منذ نشوئه حتى أواخر القرن الخامس عشر الميلادي (التاسع للهجرة). ريجيس بلاشير، ترجمة: د. ابراهيم الكيلاني، مطبعة الجامعة السورية، دمشق، 1956، ج1، ص: 165.
عبدالستـــار جبــــر
ناقد وأكاديمي من العراق