ترجمة:فتحي ساسي
شاعر تونسي
عاشق الفجر
كان قد بدأ حياته المهنيّة ببراعة في الصّحافة والأدب الرّوائي والمقالات، فقد أراد أن ينطلق في وقت مبكّر جدّا تجاه الشّعر. دخل في الكتابة الشّعرية مثل الآخرين في الدّين، مكتشفا سببا لوجوده، وهي أخلاق الحياة، حاملا منذ البداية الأشعار الحائزة على جائزة نوبل مثلا (خوان رامون خيمينيز)، متشبّعا من أعمال (رامبو) و(سيلان)، وقد كان عمله جزءا من دافع إنسانيّ عميق، بين تناوب الشّعر والفلسفة، من (روليكا) إلى (فيلو دليكسندري) و(هايدجر) أو (ماريا زامبرانو). فهو قارئ نهم للشّعر وقد نتذكّر أيضا (حدود الحقيقة) كتابه في المقالات. فهو مترجم بامتياز (أندريه بريتون) أو (جاك دراس). مهرب الشّعر وتحصّل على جائزة الكتّاب والمترجمين الإسبان.
منذ هذا الإصدار La voz de los poetas / أصدر (صوت الشّعراء) في عام 2002 وأنتج سلسلة رائعة من المجموعات. عاشق الفجر، ينشر كلمة شعرية أو يؤكد بحزم فكرة حرّة وتحرريّة على خلفية غنيّة من الذّكريات الثّقافية أو الكلاسيكيّة أو المعاصرة. وبانفجار اللّغة من خلال التّبادلات المضيئة مع العالم، يعتبر حقّا (ميغال فيرات) أحد أعظم الشّعراء الأسبان.
***
مَنْ يُتقِنُ الإيقَاعَ في الحَدِيقَةِ المشْتَعلَةِ في الحُلمِ،
ذَلكَ الّذِي يَرَى فَقَطْ مَا تَرغَبُ عُيونُهمْ في رؤيتِهِ.
الّتِي لاَ تَتسَلّلُ إلاَ خَاضِعَةً،
إلى مرَايَا عَميَاءَ أوْ إلى الهَذَيَانِ….
هيَ تَعلَمُ أنَّ الصَّلاَةَ لاَ تُزيلُ العَتَمَةَ،
الّتِي تَعرفُ فِعلَ المَوتِ…
مِثلَ نهَايَةِ الذَّاكرَةِ الخَالصَةِ،
حِينَ تَنطَفئُ، ولاَ تَخشَى الفَنَاءَ…
هُوَ ذَلكَ الرَّجُلُ الطَّاعنُ في السِّنِّ،
الحُرُّ، سَيّدُ ضيَائِهِ.
يَرقُصُ في نُقطَةِ ظُهورِ انحِدَارِ الشَّمسِ،
هُوَ مَنْ يَستَمِعُ للأموَاجِ المتَلاطِمَةِ،
أينَ يَحتَضِنُ الموتَى.
مُرتَجِفًا بَينَ أسمَاءِ الغيَابِ العَارِيةِ.
يَعكِسُ إيقَاعًا يُولدُ مِنَ الكَسَلِ.
تَرنيمَةً تُشَوّشُ الفَجرَ وَالحَقِيقَةَ…
مِنْ فَراغِ الضِّياءِ الّذِي يَركَبُ غُرُوبَ الشَّمسِ
ولا يكادُ يَحلُمُ بقَصِيدَةٍ حَقيقِيّةٍ في الهَوَاءِ،
مِنَ العَدَمِ الخَالصِ.
حَيثُ يَندُبُ الشَّاعرُ الأشيَاءَ المدفُونَةَ.
يُزعجُكَ اليَومُ هَذَا العَدُّوُ شَديدُ البُرودَةِ،
لمّا يُعلنُ زيَارَتَهُ،
في عُيُونِ طُفُولتِكَ المنعَزلَةِ.
مِثلَ فَألٍ يُحَذِّرُ مِنَ المفاجئِ الّذِي لاَ يَشبَعُ مِنَ الظِّلِّ.
كَانَ يَجعَلُ الأصوَاتَ تَندَمِجُ
مُثيرَةً زَوَابعَ الجُذُورِ، مَدفُونَةً عَلَى جَبينِكَ.
تَصرُخُ بعُنفٍ في زَوَايَا الموْتَى.
انتَهكَتهَا قَبلَ تِلكَ الكَرَاهيَّةِ،
ضِدَّ السِّرِّ الّذِي بَيّضَتهُ بنَاصِعِ الصَّدَعِ
هُنَاكَ أكوَامٌ مِنَ الحجَارَةِ القَدِيمَةِ،
الّتي تَدَّعِي اسمًا في الذَّاكِرَةِ،
وَ(أنتِيجُونْ)1 مَعزُولَةً خَلعَتْ مَلابِسَهَا.
طِفلَةً مِسكِينَةً في جَدَاولَ سَودَاءَ بَينَ العَبَاءاتِ وَالفَسَاتِينِ.
دَعوَةٌ
إلى”زُوسِيم دُو بنَابولِيسْ” 2
يُعلنُ الفَنُّ،
أنَّ الإنسَانَ الكَامِلَ
يَكونُ للرُّوحِ فَضَاءً…
في هَذَا الكَونِ
إرَادَةٌ غَيرُ وَاعِيَةٍ
للرُّوحِ المقَدَّسَةِ.
الأمُّ وَالشَّهوَةُ
بَيضَةٌ مُجَنَّحَةٌ عَلَى ذَيلِ الشَّمسِ،
نَحوَ ريحٍ مُمَيّزَةٍ وَلاَمعَةٍ،
صَارَتْ نَشِيدًا طَارئًا ويَائسًا،
لاَ نهَايَةَ لَهُ…
في شَفَقِ الكَائِنِ
الّذِي يَهتَزُّ…
وَينطِقُ سُوءًا خَارجَ الخَيرِ وَالشَرِّ،
ليَلدَ الضِّيَاءَ مِنْ جَدِيدٍ.
قَدَمُ الضّيَاءِ فِي الرَّمادِ
دُونَ حَرَاكٍ يَطيرُ الرَّمَادُ،
فَيندَلعُ الضّيَاءُ.
هيَ هُنَاكَ تَتذَوّقُ النَّارَ، أعُودُ إليكَ.
أوهٍ… وَأنتَ قَريبٌ جِدًّا.
في قَلبِ الجُذُورِ
الأفضَلُ أنْ لاَ نُولـَد؟
وحِيدِينَ، وَحِيدِينَ، أيُّ ألَمٍ هَذَا
أليسَ مِنَ الضَّرُورِيِّ
أنْ يَمُوتَ الإلَهُ مِنَ الآنَ فصَاعِدًا؟
الّذِي يُمكِنُه احتِوَاءُ قَلبِ رَجَلٍ
في تلك الشُّعلَةُ البَعيدَةُ الّتي أخفِيهَا عَنِ السَّمَاءِ
أنَا الآَنَ أطِيرُ إلى الأعمَاقِ.
أستَيقِظُ الآنَ،
الظَّلاَمُ أمٌّ تَسكُنُ الهَاويَةَ،
هُنَاكَ حَيثُ كَانَتْ تَطيرُ.
عَلَى الهَالةِ دُونَ أنْ تَحتَرقَ،
دَقَّقتِ فيَّ أخِيرًا تُؤكِّدِينَ حَيَاتِي،
أثَرِي مَا زَالَ يَمكُثُ أيضًا عَلَى هَذِهِ الحَافَّةِ.
العَالمُ سَيقِيسُ في عُلبَتهِ الجَمِيلَةِ
المعنَى المؤلَّهَ لذَاكرَتِي،
كنْ مِضيَافًا وَتقِيًّا
لأنَّ الموتَى صَالحُون فَقَطْ عندَمَا يُحِبُّونَ،
حِينَ يُلْقُونَ الرّيشَةَ تَحتَ الطَّاولةِ….
اسمُكِ “ايرُوسْ”
قَالَ “دُيُوتيمَا”3: اسمِي”ايرُوسْ”4
تَحَرّكّي،
سَيَكونُ اسمِي هُنَا،َ
إلى نهَايَةِ الرُّعبِ.
دَاخلكِ أتحَرّكُ،
عَليكِ أطِيرُ وَأجدُهُ صُدفَةً.
أصرُخُ،
في المرآةِ الّتي تَجعَلنِي لَهَبًا،
يَحتَرقُ الطِّينُ.
وَيجعَلُ مِنْ اسمِكَ نَمُوذَجًا
لتَرَاتِيلَ حَقيقِيّةٍ،
في دوَّامَةٍ حَتَّى الموتِ.
تَحليقُ شَاعرٍ مَيّتٍ
(رايلكه5 مَوتُ الشَّاعِر)
أدُورُ مِنْ حَولكَ
مِثلَ جَبَلٍ شَدِيدِ الانحِدَارِ،
حَيثُ كَانَ مِنَ الممكِنِ بالنّسبَةِ إليَّ،
أنْ أشعُرَ أنَّني نَسرٌ،
أوْ عَاصفَةٌ رَعدِيَّةٌ،
تَحتَ غُيُومِ الكَلامِ…
حَيَاتي تَذهَبُ في نَشِيدٍ مِنْ تَجرِبَتِها.
صَابرَةً تَحتَضِنُ الشَّجَرَةَ والأرضَ،
وَكلَّ مَسَافَةٍ بَعيدَةٍ،
تَحتَوِي الآنَ وَجهِيَ
الممَدَّدَ في كَهفٍ مِنَ الجُذُورِ،
مِن كيَاني المتجدِّدِ…
مَنسُوجٌ مِنْ ضبَابٍ مُهترئٍ
في حِكمَةٍ مُقلقَةٍ
حَسبَ الحَصَادِ وَالموسِمِ،
تَكتَشفُ الأشكَالَ الّتي تَرُوقُ لي،
ومَاذَا كَانَتِ الرّيَاحُ وَالسَّمَاءُ وَالماءُ…
الآنَ مُجرَّدُ قنَاعٍ بَطيءٍ وَمترَاجِعٍ فَجْأةً…
الهوامش
1 – أنتيجون: ابنة أوديب الّتي لا تسمح لجسد أخيها بالتّعفّن وسط الطبيعة.
(لقد كتب صوفكول مسرحية أنتيجون أثناء الاحتلال، وتحت الانصياع للقوانين الجائرة. قصّة عمرها أكثر من 2000 سنة أضحت خالدة).
2 – زوسيم دو بنابوليس: لقد وضع«زوسيم» أسسًا لما سيشكّل كيمياء اللّغة العربيّة، وكيمياء اللّغات الأوروبيّة في العصور الوسطى لما يقارب الخمسة عشر قرنًا وفقًا لعقيدته. فقد كانت جميع المواد مكوّنة من جسد ونَفَس. تتكوّن العمليّة الكيميائيّة الأساسيّة من فصل الرّوح عن الجسد بالنّار، ولا سيّما من خلال التّقطير والتّسامي.
3 – دُيُوتيمَا:كاهنة ونبيّة تلعب دورا مهمّا في مآدب أفلاطون.
4 – ايرُوسْ: إحدى الكلمات اليونانية للحبّ، وهي فكرة فلسفيّة في حدّ ذاتها.
5 – الشّهير بـرينيه كارل فيلهلم يوهان يوزيف ماريا رايلكه : شاعر نمساويّ *راينر ماريا رايلكه:
رومانسيّ بوهيميّ وحداثيّ. ولد في 4 ديسمبر 1875 هو أكثر شعراء اللّغة الألمانيّة تميّزا. ركّز في شعره على صعوبة التّواصل في عصر الكفر والعزلة والقلق العميق، وهي المواضيع الّتي وضعته كشخصيّة انتقاليّة بين الشّعر التّقليدي والحداثة. أشهر أعماله الشعريّة «مرثيات دوينو». أمّا أشهر أعماله النثريّة «رسائل إلى شاعر شاب». كتب أكثر من 400 قصيدة.