فجأة كما لو كانت عقارب الساعة توقفت عن الدوران .. وجدت نفسي قاعدا على كرسي خشبي.. أمامي استكانات خالية من الشاي.. وكما لو كنت مقذوفا من أحد القرون السحيقة أحمل سبحة في يدي.. وأشعل لفافة سجائر بين أصابعي.
أنا الذي كادت طيور الفرح تخرج من صدري وأنا أقرأ ما حملته الصحف من أخبارك الجميلة. لم تسعني الفرحة وأنا أشاهد صورتك في صدر الصفحة الأولى ساعتها فقط شعرت كما لو كانت خيوط تحملني إلى الأعلى.. وتقذف بي بعيدا إلى صدرك المكتنز.
أنا الذي تركت خلفي كل مدن العالم ، وشوارعها، كل المقاهي والحانات ، كلها رحلتها خلفي غير أسف على شيء، ضاع من بين يدي لا يهمني ولن اذرف دمعة واحدة لأجله .
راقبت كل الوجوه العابرة .. وهذه الأصوات التي تتعالى، أحاول جاهدا أن أجد لنفسي مكانا بينها وغالبا ما اعطي لنفسي فرصة أو فرصا أخرى، سوف يأتي اليوم الذي أركل فيه هذه الحقيبة الصغيرة التي احشر فيها ملابسي والتي رافقتني في أغلب رحلاتي نعم سوف أخلع عني عبء هذه السنين، ما دمت أنا هنا لا يهم أي شيء كل الأبواب سوف تفتح أمامي.. أنا الذي تدحرج اسمي وسبقني، سوف أجد من يرحب بي ولست مبالغا إن قلت سوف تنظم مهرجانات واحتفالات، ضحكت بقوة ، وكدت اسقط من الضحك ، تجمع الناس حولي حتى تساقطت الدموع من عيني.
أشعلت سجائر أخرى.. وعدت أراقب الناس من حولي، إهتراءات نعلي من الطرقات وصفقت كل الأبواب في وجهي، أنا الذي دخلت المدينة كالفاتح، أجد نفسي الآن ملقى.. مهملا على مقاعد هذا المقهى الخشبية الرابضة على هذا الشاطئ الجميل التي سلكنا دروبه ذات يوم .
وهذه السوق أرقبها يوميا ليس فيها الا صراخ ومشاحنات .. وهامات تتبختر كرؤوس مكورة ومؤخرات ببطء تتحرك ، مشدو اليها، الى هذه المدينة، رغم كل شيء، وهذا المقهى الذي شاخ الزمن عليه لا يزال يستقبل العديد، وهذه الجنبات الصماء المترامية الأطراف الصامتة حد الموت لا تزال واقفة شاهدة على عصر لا تأخذ منه إلا التعلق في أطراف جلبابه المهتريء، لا يزال يحمل روائح أولئك الصيادين الذين تتقاطع أوقاتهم ويلفظون سعالهم وأنفاسهم هنا على مقاعده الخشبية . أتذكر ذاك اليوم حيث جلسنا ننتظر طويلا قدوم الكولي ناصر الذي تأخر كثيرا على غير عادته هذا اليوم. ثار الشك في نفوس الجالسين وكأن بينهم والدي.. الذي كان القلق ينهش اوصاله ، انتظرناه طويلا ولكنه لم يأت أبدا.
لم نعرف سبب اختفائه إلا بعد سنوات عديدة ، لا ندري أين ذهب ، هل الى الجلالي بعدما تزعم إضراب الكولبه فوق رصيف الميناء. في هذه الأثناء اقترب عساكر كثيرة في المكان يحملون بنادق طويلة منكسة الى الأسفل وبحركة سريعة ضربوا الأرض بأحذيتهم المدببة ثم تفرقوا حول المكان .
صمت المقهى ولم يحرك الجالسون الا عيونهم أخذوا يدورونها في اتجاهات مختلفة ، كان صوت بائع القهوة الوحيد منبعثا من بعيد.. لكنه سكت حين شاهد العسكر.. كانوا يتبعون رائحة سجائر نفذت اليهم .. أخذوا يدورون كالثيران الهائجة ثم انصرفوا يا إلهي كل هذه لرائحة سجائر كانوا كالكلاب يتشممون الأرض .
رفعوا البنادق الى السماء فتطاير الغبار من جوانبها، ثم انصرفوا مخلفين وراءهم صمتا مزعجا.
أعرف سمات وجوههم ، أرقبها جيدا وهذا الوجه الذي يتماوج أمامي كالطيف ، كأني رأيته ذات يوم عرفته من تجاعيده المتداخلة ، من لحيته الطويلة الناصعة البياض كما لو كان الحليب يقطر من شعيراتها المشذبة .
إحساس أخذ يتصاعد في داخلي، غريب أمر هذه الذاكرة التي قد تداهمك هكذا دون سابق إنذار.
كان يلف رأسه بشماغ أحمر.. ولما شعر ان الصمت يرمي عباءته حولنا اطلق صوته وبدأ يطلق تغرودة جميلة اشعلت البهجة في نفوسنا وانطلقت بنا السيارة الى مسكد.
يا إلهي ما أكثر هذه الوجوه المتداخلة : بعضها يستل ابتسامة صفراء من دواخله بقوة ، بعضها يتداخل صمتها مع ما يشبه الفرح المكنون داخل الصدور، أما السوق فهي الأخرى تداخل ألوان الطيف بها ، يقذف لها البحر اجناسا غريبة .
هذه الهامات التي تظهر في احشاء السوق لا نتبينها من شدة هزالها، إلا وسطها المحزومة بالخناجر والسيوف، ولكنهم يحثون الخطي مسرعين دافعين أجسادهم بقوة للامام .
كنت أرقب البحر والسوق ، والظلام الذي بدأ في الهبوط . علم ابي بالمصير الذي آل اليه ناصر الكولي وتلاشت صحته ، ولما علم باعتقال الكولي في الجلالي.. ظل صامتا لا يتكلم مع أحد.. إلى أن انسحب تماما من المدينة وذهب الى القرية .. الى الداخل . أطلقت أفواج كثيرة من الجلالي ولم يكن ناصر بينهم .. ذهب بعيدا الى ان انقطعت اخباره .
انسلت الحياة مسرعة الى الداخل مع حلول الظلام وكل شيء أغلق أبوابه وبدأ الحراس الليليون يتجولون يحملون بنادق وفوانيس يدفعون بها الظلام ، اطلقت المافع من رؤوس الجبال وأغلقت الأسوار بالسلاسل الحديدية وسكنت كل الأرجاء وهدأت الجوانب، لا تسمع إلا هسيس الاظلام .
كنت أتخيل كيف تصمت هذه المدينة الضاجة بالحركة والصراخ في النهار وتتحول الى موات في الليل . لا أدري أي قوة تقذف بها الى كهوف الصمت والنسيان.
طلبت "استكانة" شاي.. ظل النادل الهندي واقفا أمامي لا ينبس بكلمة متعجبا، لمست من صمته عدم فهمه لما قلت له .. كررت مرة ثانية ولم يتحرك اشرت الى الاستكانة المليئة بالشاي البارد أمامي.. حرك رأسه وذهب مسرعا وبعد قليل عاد باستكانة الشاي. استطعت التقاط بعض الحروف المتناثرة من أفواههم ، كانت عصيهم تحرك على وقع حركاتهم ، كانوا يتحلقون حول رجل طويل القامة ، أبيض الوجه ، واسع العينين، لحيته يتداخل بياضها بالسواد. كنا نأوي في المساء الى بيت صفير يقع خلف الجبال، كنا مجموعة تتخالف أوقاتنا لا نتجمع إلا في أوقات الغداء.
أغلبنا كولية وصيادين، البعض يتفاخر بانتمائه لجيش الإمام في السابق .. حارب الانجليز، وخرج برصاصة في رجله اقعدته مدة طويلة طريح الفراش .
من الجيش إلى أرصفة الميناء
مرة أخرى ظهر العسكر حيث انتشرت الضوضاء في السوق، هذه المرة كانوا يطاردون واحدا من الذين تدور حولهم الشائعات، وفي هذه الأثناء مر رجل راكضا وبسرعة لمحوه وركضوا خلفه.. استمروا هكذا حتى اقتربوا من سور اللواتيا ثم اختفوا عن الأنظار وتراجع الناس داخل السوق .
جلسنا ننتظر قدوم بنات البانيان وهن قادمات بملابسهن الشفافة كاشفات عن بياض اثدائهن وبطون صغيرة ضامرة وشعر يلامس مؤخراتهن .
تفرقن جميعا وتناثرن في انحاء المدينة .. ذهب أغلبهن الى حانة البحار الصيني يقضين ليلهن هناك وعند خروجهن ثملين تماما يطلقن صيحات وصراخ وضحكات.
يبدو أن اقامتي هنا سوف تطول على هذه المقاعد . . عبثا أحاول انتظار شيء، قد يأتي ولا يأتي كلهم ذهبوا لا أحد هنا . . غير هذه الجبال الصماء التي توحي بالعزلة والانقباض .
يتمدد الزمن بطيئا هنا، نحس به يلف حولنا أذرعته الطويلة ولكننا لا نستطيع الوقوف في وجهه .
وهؤلاء الراكضون في اتجاهات مختلفة يمخرون السوق ذهابا وإيابا نسمع وقع أحذ يتهم تحت أقدامهم .
هكذا سائرون . . يبدو أن حفرا كثيرة تنتظرهم ، افكر في هذا المقهى، كم أناس تعاقبوا عليها منذ تشييدها على يد (سالم العود) الذي توقفت رحلاته هنا ، بعدما جال شواطئ البصرة والهند وزنجبار، بالتأكيد هو ليس من هنا بل من إحدى ولايات الباطنة .
لا أدري من يمتلكها اليوم . . أنا شخص لا أستطيع تبيان ذلك ، أعتقد بأن هذا لا يهمني، يقال بأن الكتاب يقرأ من عنوانه وهذا المقهى نعرفه من قسمات الوجوه وأثاثه الذي ركل كل شيء جميل . لماذا يحاولون استبدال ذلك الماضي الجميل هكذا بسرعة . في تلك الليلة انتشر بين الناس خبر الأفعى التي تقترب لتلتهم القمر. تحرك الخبر بسرعة في الأرجاء.
تعالت أصوات طحانات البن وتوحدت كلها كأنها جوق موسيقى يعزف دون انتظام.
وكانوا مجموعة من الأطفال يقطعون الطرق والشوارع في هتاف وصياح . . وتحولت البيوت والمساجد الى أدعية وابتهالات وتعالت في منارات المساجد . . الله أكبر. . الله أكبر وتزاحم الناس على سطوح البيوت يدعون السماء لتخليص قمرهم من بين فكي الأفعى. أشعلت لفافة سجائر أخرى. . لا خوف الآن هنا . . لا عساكر. . لا رقيب . . تخيل بأنك تستطيع أن تحقق رغبة ذلك هو الاهم .
بدأت السجائر تشتعل . . ودخانها يتداخل مع الانفاس والأجواء . . أشعر بأن تلك الحزمة الجميلة من الأحلام التي تتقاذفها أفواهنا منذ بعيد هنا ، الآن ، كدخان السجائر، تأخذ خط سيرها الى أن تتلاشى بعيدا في الفضاء.
كنت ذاهبا متأخرا الى البيت وكان الظلام يسد كل الطرقات ، التقطت أذني أصوات متداخلة لم أستطع تبيانها ، وعندما أخذت اقترب أكثر من مصدرها ، أصوات كثيرة تختلط مع أنين فاتر اللذة في أوجهها . شخصان يحاول أحدهما ربط إزاره بسرعة والآخر يرتدي دشداشته دون أن يشعرا بوجودي اختفيا .
اقتربت من بيت العمة . . تذكرت ذلك اليوم الذي أخذت فيه تحمل التراب وترميه على وجهها .. وهي تصرخ وتمزق ملابسها. لا يمكن أن أنسى مشهد ذلك اليوم الذي تلقت فيه خبر غرق ابنها علي في (طبعت) غبة سلامة .. لم يتبق من بيتها إلا أطلال خربة تعوي فيها الرياح ، ولكن الناس هنا لا يعون من هذه الشاهدة إلا القليل . توقفت للحظة عند بقايا المنزل واتكأت على بابه الخشبي المهشم . انحبست دمعة في عيني وغمرني حزن موجع ، ظللت اتساءل مع نفسي أين الآن هي أي الدروب يمكن أن تصلني اليها وأي دليل سأسترشد به ، يبدو كأني أحاول جمع الريح الاجدي لي أن أتحرك.
هنا بالضبط كان يتجمع الربع في المساء.. كان والدي أحدهم .. تتعالى ضحكاتهم إذا ما كسب أحدهم الرهان ، ثم يهمدون ويتداخل صمتهم ، عندما يبدأون لعب الحواليس.
كانت السوق عبارة عن مجموعة من الحوانيت المتراصة بعضها البعض تكاد تكون خالية أغلب الأوقات الا دكان البانيان ، الذي يكون مزدحما في كثير من الأوقات حيث يسود اعتقاد بأن جدهم الأكبر جلب لهم خرقة صغيرة من الهند ، جعلها تتدلى من الباب وهي سبب ثرائهم.
ها قد أفرغت استكانات الشاي في جوفي، وأطفأت كل السجائر أمامي أشعر بأن هذه المدينة قد شاحت بوجهها عني. وهذه الوجوه التي تتلاطم أمامي، أرقب سحناتها جيدا علها تحمل ملامحهم رغم السنين الفاصلة .
أحاول جاهدا تركيب ملامح الكثير منها، ولكن في النهاية أفشل . سوف لن تستمر اقامتي هنا سوف أبحث عنها مرة أخرى، حتما سأرحل ما دامت هكذا المدينة .
لا زالت لفافة السجائر تشتعل بين أصابعي، أشعر بحرار تها وهي تتلاشى، سئمت كل شيء هنا ، أرقب مشاهدا وجوها تتلاطم في السوق ، صامتة مرهقة تبدو بلا هدف.
حاولت جاهدا، أن أفك طلاسمه ، ولكني لا أستطيع تذكر أي شيء هنا. أكاد أختنق ، أشعر بحرارة حلقي ودوار رأسي، ارهقتني هذه المدينة ، أحنت ظهري.. آه.. آه.
مرة قرأت بأن المدن كالنساء.. لا تشتهيها إلا إذا ابتعدت عنها ولكني أشك في هذا، أو لعل قدمي لم تطأ بعد مدينة بهذه الصفات والشهية ، هذه ليست مدينة للشوق أو الاشتهاء.
تراخت نظراتي وأظلم المكان في وجهي، لا شيء إلا استكانات الشاي المتناثرة فوق سطوح الطاولة الخشبية التي أمامي.
عندها هممت بالنهوض استعدادا للرحيل ، التفت خلفي.. كان سوق الظلام تشتعل فيه النيران ، صراخ وإستغاثة وهرج في كل الأرجاء. تركت خلفي.. السوق .. والنار.. والوجوه الكئيبة وذهبت بعيدا أكنس الشارع بخطواتي المتعثرة .