سعيد الحاتمي
1
على الشارع العام هناك أرض جرداء يحيط بها سياجٌ شبكي من جميع الجهات، كان صاحبها يحلم حين قرر شراءها بأن يحولها إلى مزرعة مليئة بالأشجار والمواشي والطيور، لكنه اكتشف بعد أن ملأها بالثقوب -ولم يعثر على قطرة ماء واحدة – أنه لا أمل لديه بأن يصبح صاحب مزرعة ، لذلك ظلت أرضا جرداء يحيط بها سياج شبكي على الشارع العام،
الحكاية ليست هنا…
الحكاية أن ميزان اقترح على كفيله أن يقيما مشروعا تجاريا على هذه الأرض، فهي على الشارع العام وفي منتصف خط طويل من المزارع والبيوت، مما يكفل لهما نجاحا مميزا في مشروعهما.
ما المشروع يا ميزان؟
استأجر ميزان -بأموال كفيله بالطبع- الجزء المواجه للشارع، بنى فيه غرفة صغيرة له ملاصقة لما يشبه قاعة مستطيلة. وفي الأمام نصب مظلة وبنى تحتها مغسلة وطاولة إسمنتية غطاهما بالسيراميك. بنى جدران مشروعه بالطابوق وغطاها بالصفيح. لقد قرر ميزان أن يؤسس بأموال كفيله بالطبع مشروعا لبيع وذبح الدواجن الحية. حين أصبح جاهزا أحضر لوحة مربعة مرسوما عليها ديكٌ أحمر، ووضع رقمه في الأسفل وسهما يشير إلى جهة اليمين، ثم غرسها على رصيف الشارع. يشتري كل أسبوع صيصان الدجاج من شركة كبيرة للتفقيس في بركاء ثم يقوم بإطعامها ليل نهار حتى تكبر. بعد أقل من شهر يبيعها مذبوحة بهامش ربح جيد يتقاسمه مع كفيله.
الحكاية ليست هنا ..
في آخر دفعة من الصيصان كان صوص هزيل يجلس منزويا عن المجموعة ولا يتحرك إلا نادرا، وحين تتحلق المجموعة حول الصحن المخروطي كان يبتعد إلا فيما ندر، ومع ذلك كبر حجمه حتى أصبح دجاجة هزيلة. منذ أن كانت صوصا أخذت تلاحظ دخول ميزان المتكرر للحظيرة . يختار مجموعة من الدجاج ويأخذها للخارج، ثم لا تعود، كانت تسمع الدجاجات التي يخرجها ميزان وهي تبقبق بهلع ثم يهمد صوتها فجأة. إلى أين تذهب؟
قررت هذه الدجاجة أن تكتشف الحكاية، تحركت ببطء وجلست على حافة الباب. حين خرج ميزان حاملا دجاجتين لأحد الزبائن، لم يغلق الباب جيدا. شاهدته وهو يثني رقبة إحدى الدجاجتين للخلف ثم يمرر شفرته الحادة على وريدها وهو يكبِّر. رأت نافورة صغيرة من الدم تثعب من الرقبة. ألقاها على الطاولة ثم تناول الأخرى. بعد قليل عاد ميزان إلى قن الدجاج الواسع، وجدها منكمشة فأمسكها بسهولة، لكن الرجل الواقف على الباب رفضها فأفلتتها اليد التي تقبض على جناحيها. حين خرج ترك الباب مفتوحا. لم تنتظر. خرجت من الباب ولبدت تحت شوالين للحبوب على يسار الباب.
الدجاجة قررت أن لا تموت..
لم ينتبه لها ميزان وهو يغلق الباب بقفل حديدي ثم يربط الشوالين المفتوحين ويذهب إلى غرفته. حين اطمأنت إلى خلو المكان خرجت باتجاه الشارع العام..
ليست هذه هي الحكاية…
الحكاية أن رجلا تعود أن يتريض كل صباح على دراجته الهوائية عثر في أحد الأيام على دجاجة بيضاء تناثر ريشها على الرصيف بعد أن دهستها سيارة مسرعة..
ملاحظة وحيدة على الحكاية..
الدجاجة كانت قد قررت أن لا تموت.. الشارع لم يكن مضاء هذه الليلة فلم يلحظها سائق السيارة . الدرَّاج الذي شاهد الدجاجة على الرصيف كان يرتدي قميص منتخب الأرجنتين لكرة القدم..
2
على السياج بين الشارعين ثمة طائر ملون.. يقول عمود الإنارة الضجر لنفسه: هذا طائر مهاجر بالتأكيد فمن أين بطائر ملون في هذا القفر.. عينا الطائر مصوبتان على سرب صغير من الجراد يتقافز على العشب المصفر بجانب الرصيف. الجراد الصغير جائع لذلك لم ينتبه لعيني الخطاف المصوبتين عليه. ولأن الحياة في جلها قائمة على المصادفات، فقد وصل في تلك اللحظة قط بري لرصيف الشارع المعاكس. الطائر جائع أيضا لذلك لم يشعر بما يحدث خلفه. عيناه على الجراد وقفاه للقط الجائع. المصباح الذي كان ضجرا قبل قليل أخذ يراقب كرنفال التربص من علٍ ،لا يشعر المصباح بالجوع، لذلك لن يفهم أبدا ما يحدث في الأسفل.
في اللحظة التي اختارت فيها عينا الطائر جرادة قليلة الحركة قرر فيها القط المتحفز أن ينقض. أرخى الطائر مخالبه الصغيرة عن حد السياج، وأمال القط عجيزته للوراء .أفرد الطائر جناحيه وانقبضت عضلات أرجل القط بقوة. انقض الطائر وانطلق القط..
لقد كانا جائعين، جائعين جدا، والمصباح في الأعلى سيضيء بعد قليل، حيث شمس النهار ستغرب في غضون دقائق. وسيحل بعدها ظلام طويل تضجر في نهايته المصابيح حين تتوقف حركة السيارات على الشارع. في الصباح سيعبر المكان سائق دراجة يرتدي قميص منتخب الأرجنتين ،وسيحزن قليلا حين يجد خطافا جميلا متهشما على الرصيف ، سوف يتناول هاتفه ليصوره وسط الجراد النافق .قد يضع الصورة في حسابه على الفيس بوك وسيكتب تحتها: ضحايا الجوع والضوء. حين ينتهي سيواصل تريضه ولن يلحظ أبدا قطا بريا مدهوسا في الشارع المعاكس..
3
في شارع داخلي خلف مدرسة السليف زوجان مسنان يمشيان ببطء. يضع الزوج راحته اليمنى عند آخر فقرة في ظهر زوجته و كأنه يساعدها على التقدم. هي بالكاد ترفع خطوتها عن الأرض ، في حين يظهر هو أكثر صحة. فجأة توقفت الزوجة وكأنها تذكرت شيئا ما. التفتت إلى الرجل، أمسكت بخنصره وأخذت تحكي له بحماس وهو يكاد أن يلتهم وجهها من شدة تركيزه..
حين عبر بجانبهما دراج يرتدي قميص منتخب الأرجنتين ضحك الرجل ووضع يده خلف كتف زوجته وواصلا سيرهما البطيء.
تذييل مهم
الدراج قضى بقية نهاره يفكر في الحكاية التي ظلت تلك المسنة تخبئها لسنوات طويلة قبل أن تفرج عنها صباح اليوم وتجعل عيني زوجها تبرقان كأنهما في وجه صبي.
4
هناك حانة وحيدة في هذه المدينة، في الحقيقة لا يمكن اعتبارها في المدينة أصلا.. فهي تقع على حافة الصحراء وعند بداية طريق دولي طويل، وبذلك تكون هي أول من يستقبلك وآخر من يودعك. النادل السيلاني تعود على عدد قليل من الرواد ، حيث السكارى هنا يفضلون الأودية البعيدة والشقق المستأجرة عوضا عن هذه الحانة.
دخل شاب أسمر ونحيل وانزوى في ركن معتم على يسار الباب. وضع باقة ورد صغيرة كان يحملها على الطاولة أمامه وبدأ يمسح المكان بعينين منهكتين. عندما بدأ يقلق أشار إلى النادل الذي كان في تلك اللحظة يخلط المشروب لأحد الزبائن القليلين في الحانة. اقترب منه النادل وتهامسا لدقيقة واحدة ثم ابتعد عنه، عاد إلى مكانه وكأن عمرا مضاعفا أضيف إلى عمره، سحب كثيفة من الحزن هبطت دفعة واحدة على قلبه . حين هم أن ينشج تحامل على نفسه وغادر المكان.
**
في الصباح وجد شاب يقود دراجته قريبا من فندق واحة الصحراء باقة ورد صغيرة مرمية بجانب الطريق،
كانت لا تزال ندية ويانعة.