سعيد يقطين*
1. تنافر الأضداد:
لا يمكنني أبدا نسيان ضحى ذلك اليوم الربيعي من سنة 1994. جلست فيه مع سيف الرحبي في مقهى قريب من مطعم الوزاني بأكَدال بالرباط. كنت أحس به قلقا وشبه متوتر. قلق الشاعر لا يمكن أن يخفى من أول إطلالة. وسيف من الشعراء الكبار الذين لا يفارقهم القلق الإبداعي والوجودي. تحس بذلك في بسمته الساخرة المدوية والقصيرة، وتستشعره في تعليقاته الوجيزة والذكية. كان كمن يحمل هما ثقيلا، وهو المهموم أبدا، ويريد أن يطلعني على سر يقض مضجعه. كان بين الإقبال والإحجام. إقبال محجم، وإحجام مقبل. إنه تنافر الأضداد الأبي تمَّامي. قال: سأرجع إلى البلد، وكلفت بإصدار مجلة ثقافية. لعله كان يتوقع مني معارضة ما. ولكني كنت أسرع في تهنئته، والفرح برجوعه إلى وطنه، وهو الذي عاش موزعا بين أقطار عربية وغربية شأن العديد من الشعراء الجوالين من المعاصرين.
كنت أرى الكثير من المثقفين والشعراء العرب في المغرب يبحثون عن مرساة إبداعية ووجودية. ولم يكن لبعضهم سوى التيهان والتسكع. إنها الفوضى التي تعذب العقل والوجدان وإن كانت تجود بشذرات شعرية رهيفة لا تلبث أن تنسى مع الزمن. شجعته على إنهاء الاغتراب في الخارج، ما دامت ثمة إمكانية لعيش الاغتراب في الداخل. إننا جميعا مغتربون سواء كنا داخل أوطاننا أو خارجها، شئنا أو أبينا، طوعا أو كرها. بل إن غربتنا الخارجية تجعلنا أكثر اقترابا من داخل أوطاننا. في حين قد تجعلنا الغربة الداخلية قادرين على التحليق خارجها. وإصدار مجلة ثقافية في سلطنة عمان، ويرأس تحريرها سيف الرحبي قيمة نوعية مضافة للثقافة العربية مقاومة للغربة الخارجية، ودعوة لانفتاح الغربة الداخلية على الخارج.
لم تمض سوى بضعة شهور حتى راسلني سيف يطلب مني مادة لمجلة نزوى. كان فرحي بها شديدا، ولم أتردد في أي مناسبة أو سانحة من المشاركة في نزوى التاريخ وقد صارت واقعا ثقافيا لا يمكن تجاوزه في الوقت الذي باتت الثقافة فيه محط اهتمام يتوارى خلف التوجس تارة، وعدم المبالاة أخرى. ما أكثر المتنافرات في واقعنا المتضاد!
2. ثقافة المجلة، ومجلة الثقافة:
تربى جيلي الذي ولد في الخمسينيات على المجلة العربية حين كانت الأداة الأساسية للتواصل مع العالم الخارجي والتثقيف الذاتي. كانت بخسة الثمن لكنها ثرية المادة. لا يمكن أن تقفز على مادة إلى غيرها. من كلمة رئيس التحرير إلى قراءة العدد الماضي. أسماء لامعة في موضوعات براقة. هل أذكر الأديب، والآداب، والرسالة والثقافة، والهلال والعربي… كنا نتنافس في البحث عن الأعداد القديمة من باعة المتلاشيات والخردوات. ونستجمعها باحثين عما ينقصنا منها في الوقت الذي كان بعضنا الآخر يجمع طوابع البريد، أو صور اللقطات الرياضية التي لا تنسى.
كانت المجلات الثقافية العربية أدبية بالدرجة الأولى. وبذلك كان للأدب موقع متميز في الثقافة العربية. من هنا تشكل الوعي الأدبي والثقافي والاجتماعي لدى جيلنا، وفي كل الوطن العربي. كانت قراءاتنا مشتركة، وكانت ثقافة المجلة بسبب تنوعها تفتح لنا منافذ على الأدب والمجتمع والسياسة والاقتصاد والتاريخ، وفي الوقت نفسه على الحلم بالمستقبل. في هذا المناخ تشكل وعي سيف الرحبي، ومنه صدرت (نزوى) حاملة أحلام أجيال تربت على حب الكلمة الصادقة، والجمال، والحلم الجميل. ومنذ أعدادها الأولى كانت تحذوها رغبة في استكمال مسيرة تاريخية للمجلات العربية التي وسمت ذاكرتنا، ووشمتها بتقدير الجميل والجليل. كانت، وما زالت، تحمل هم مجلة الثقافة، في زمن بدأت تتلاشى فيه ثقافة المجلة، لأن الثقافة صارت موزعة على وسائط متعددة، وكل منها يتنافس على تقديم ما يتصل به لبسط هيمنته، وفرض وجوده على حساب غيره. ومع ذلك فهي تدور.
3. المجلة والشخصية:
حين أخبرني سيف عن المجلة التي سيترأس تحريرها قفزت إلى ذهني علاقة نجاح المجلة بالشخصية الثقافية التي تتحمل مسؤوليتها. فلم يكن أمامي سوى توقع تميزها واستمرارها، وإمكان فرض وجودها في الفضاء الثقافي، ليس العماني فقط، بل العربي أيضا. وما احتفالها اليوم بالعدد المائة، ومرور ربع قرن على صدروها سوى دليل على ذلك، في الوقت الذي توقفت فيه مجلات عربية كثيرة، ومن كل البلاد العربية، رصدت لها اعتمادات وقدمت لها مساعدات جمة. أن تستمر مجلة ثقافية عربية في زمن طفقت تتلاشى فيها ثقافة المجلة تعبير على أن البدايات كانت ذات أساس، وأن الرؤية ظلت واضحة، وأن الهواجس كانت سليمة، وأن الشخصية التي حملت الأمانة كانت في المستوى.
لا يخامرني شك في أن سيف كانت من بين هواجسه، وهو يقبل ويحجم قبل أن يستقر على قرار، الجواب عن سؤال: هل يمكنه في زمن آخر تبدلت فيه الرهانات، وسقطت أحلام وتبخرت آمال، أن يستعيد أمجاد المجلة الثقافية العربية المتميزة التي هيمنت منذ الخمسينيات إلى أواخر الثمانينيات؟ وهل يمكنه أن يجعل «نزوى» التي ستصدر من مسقط، سنة 1994، في مستوى مجلات صدرت من بيروت، أو مصر، أو باريس، أو المحمدية، أو المنامة (،،،)؟ وهل لها أن تحتل موقع «الآداب (1953)»، أو «شعر (1957)»، أو «مواقف (1969)، أو «الثقافة الجديدة (1974)»، أو «كلمات (1987)»؟ وهل له أن يضطلع بما قام به سهيل إدريس، أو يوسف الخال، أو أدونيس أو محمد بنيس أو قاسم حداد؟ كل المجلات التي ذكرت، وهناك غيرها، ارتبطت بشخصيات ثقافية تمارس الإبداع، وتحلم بثقافة أخرى جديدة ومتطورة، ولها رمزيتها الخاصة. وكل منها ساهم وفق الظروف والملابسات في وسم الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة بسمات خاصة، وما تزال آثارها سارية إلى اليوم، وستظل إلى ما بعده.
بين تاريخ صدور مجلة الآداب ونزوى حوالي أربعين سنة. وبين صدور كلمات ونزوى سبع سنوات. تبدل الزمان والرجال، وجرت تحت النهر مياه جديدة لكنها ركدت وباتت ملوثة وآسنة إلى حد كبير. أنى لسيف الرحبي الذي حين يذكر اسمه يذهب الذهن إلى أقصى منطقة في الوطن العربي، أن يجعل من نزوى منارة ثقافية تطل من بحر العرب ليصل نورها إلى الأقصى الآخر في حوض المتوسط، وأن تكون علامة دالة على وجود شيء اسمه الثقافة العربية في عصر العولمة والثقافة الرقمية؟ كان هذا الرهان هو الذي اضطلع به سيف الرحبي. ولعل إرث المجلات الثقافية العربية الفاعلة في العصر العربي كان يملأ مخيلته، كان أن صور مجلات أخرى تصدر من الخليج العربي مثل العربي والدوحة، على سبيل التمثيل، والتي نجحت في فرض وجودها، كان يجعله يرى ضرورة التميز عن التجربتين معا بالجمع بينهما، ويدفعه ذلك بالتالي إلى إثبات أنه من نزوى يمكن إشعال شمعة بدل الاكتفاء بلعن ظلام الزمن المتحول.
4. (نزوى) مشروع رؤية ثقافية:
صدر العدد الأول من نزوى في نوفمبر 1994. كان حدثا أن تظهر من عمان مجلة ثقافية بهذه الجدة والتميز ووضوح الرؤية. وكانت كلمة سيف الرحبي ذات قيمة خاصة. لقد شخصت الوضع في عمان، من جهة، وفي الوطن العربي، من جهة أخرى على المستوى الثقافي. كان الإحساس عميقا بأنها تأتي في سياق متحول، وهو في منحاه العام لا يتصل بالثقافة بهمومها. إنها السباحة ضد التيار. يكتب سيف: «صدور مجلة ثقافية ضمن زمن غير ثقافي ومحيط أقرب إلى الانصراف عن الأدب والثقافة إن لم أقل الارتياب». بين الزمن غير الثقافي، والارتياب، «تأتي مجلة (نزوى) كمتطلب ثقافي ضروري في مسار الثقافة العمانية ومحاولة بلورة خصوصيتها وأصواتها وروافدها المتعددة». إنه الطموح لقول كلمة أخرى مختلفة، والسعي إلى تقديم فعل مختلف عسى أن يتم استرجاع الزمن الثقافي، ومواجهة اليقين ضدا على الارتياب.
لم يدخل المدخل إلى ذلك سوى الانطلاق من الأرض التي يتم الوقوف عليها. حددها سيف في نزوى. أنى لعمان ذات التاريخ التليد ألا يكون لها حضور فاعل في الزمن الثقافي العربي الحديث. من الخاص والمحلي يمكن الربط بالعام العربي، والإنساني الأعم. والتراث هو الأساس الذي يمكن الانطلاق منه. لذلك كان التشديد على أهميته. إن «نشر القديم المضيء في التراث العماني والعربي، والحديث الجدي الباحث عن صورته وملامحه وسط تراكمات الوعي والملابسات والتعبيرات المختلفة التي يمور بها عالمنا المعاصر». ولما كان التراث العماني في أصالته وخصوصيته جزءا من التراث العربي، فإن على نزوى أن تعمل على التعريف به، والانطلاق منه وفي الوقت نفسه وضعه في سياق التراث العربي: « إذا كانت مجلة نزوى في نزوعها إلى أن تكون مجلة عربية بشمولية هذه الكلمة المأساوية واتساعها، فذلك لا يأتي إلا عبر تقديم هذه الخصوصية العمانية بالدرجة الأولى، وعبرها بالمعنى الإبداعي للكلمة، تكون مدى مساهمتنا في ثقافتنا العربية الشاملة». ويتجسد هذا الربط بين الخاص والعام والأعم في مشروع ثقافي يراهن على الفعل الثقافي الذي يمكن أن يتحول لفائدة الإنسان: «تطمح مجلة نزوى أن تشكل حالة ثقافية خارج المنشور والمطبوع بين دفتيها، أي أن تكون نواة لفعالية ثقافية وإبداعية، تستقطب القدرات والمواهب الواعدة والمتحققة على مستوى السلطنة وعبر مد الجسور الثقافية على المستويين العربي والعالمي».
الاعتناء بالخصوصية العمانية، وربطها بشمولية الثقافة العربية، في بعدها الإنساني عبر الوقوف على تفاعلها مع الثقافة الإنسانية لا يمكن أن تتحقق إلا بالارتكاز على القيمة الجمالية والفنية، والرقي الفكري، والعمل على استقطاب الطاقات المهمشة والمبدعة، عبر تجاوز صراع الأجيال.
هذه هي المحاور الكبرى التي استندت إليها (نزوى) في مشروعها الثقافي. ومنذ العدد الأول نجد احتفاء المثقفين العرب الذين كان لهم حضور فاعل في الساحة. لكن المسيرة بينت أن نزوى نجحت فعلا في إقامة الجسور بين العماني، والعربي، والعالمي. فكان غنى المواد وتنوعها، وتعدد المشاركين في إثرائها من مختلف الثقافات تأكيدا لمشروعها الثقافي المتواصل. ويمكن لأي متصفح للمجلة في مختلف مراحل تطورها أن يلمس بجلاء أن لوحة التحكم التي قدمت في العدد الأول تزداد ثراء وغنى مع الزمن.
أبواب المجلة، وملفاتها، ومحاورها، وحواراتها، كلها دالة على الانفتاح على مختلف القضايا الثقافية والمعرفية التي تهم القارئ العربي. لقد نجحت المجلة في تحقيق جزء كبير من حلمها، وهو تقديم عمان ومثقفيها ومبدعيها، وفضائها الثقافي القديم والحديث إلى القارئ العربي والأجنبي. كما أن أفلحت في الوقت نفسه في جعل القارئ العماني يتعرف على ما يجري خارج فضائه الخاص. (نزوى) ظلت جسرا للتواصل والحوار بين الثقافات والاتجاهات والأجيال. وبانتقالها إلى الفضاء الشبكي صار أرشيفها المعرفي مرجعا من المراجع التي لا يمكن للباحثين الاستغناء عنها.
ربع قرن راكمت فيها (نزوى) مادة مهمة. كلمات رئيس التحرير لم تكن فقط تقديما لعدد، ولكنها كانت دراسات تزدوج فيها رهافة الشعر، مع عمق الفكر. وهي في كل تاريخها ظلت تتقدم في ترجمة المشروع الثقافي الذي نذرت له نفسها. لقد نجحت نزوى في تقديري في إنجاز ما وعدت به.
أقترح من أجل المستقبل نقطتين اثنتين:
1. جمع ما تفرق من ملفات ودراسات ذات طبيعة مشتركة في كتب تماما كما تفعل الموسوعات العالمية الكبرى حين تنتقي موضوعات تتصل بقضايا محددة، وتصدرها في كتب تكون في متناول القراء باستمرار.
2. إنجاز قراءات عميقة واستقصائية للمجلة في مؤتمر يشارك فيه القراء والباحثون ولا يكون الاكتفاء بشهادات، ولكن بدراسات تقف على ما تحقق وعلى ما هو ممكن التحقيق، وذلك بهدف التخطيط لزمن ثقافي آخر، هو الزمن القادم: الزمن الرقمي. إنه رهان المستقبل الذي تعانق فيه المجلة رؤى أخرى مفتوحة على مستقبل أبعد.